السعادة الأبديّة

شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

السعادة الأبديّة 12069
مشاهدة المتن

المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسم القرآن والحديث والدعاء

/۱۷۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

1

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

2
  •  

  • هو العليم

  •  

  • السعادة الأبديّة

  •  

  • شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة

  • أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام

  • في حاضرين

  •  

  • تأليف:

  • السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدّس سرّه

  •  

  • ملاحظة من إدارة الموقع: هذه نسخة أولية لم تطبع بعد، ولكنها نشرت لاستفادة المؤمنين وطلاب الحق و الحقيقة

  •  

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

3
  •  

  •  

  • المقدّمة

  •  

  •  

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

4
  •  

  •  

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  •  

  •  

  • الحمدُ والثناء اللامُتناهي لذات الذي لا يزال كما يليق به، الذي جعل الشرع المبين على أساس الحكمة البالغة للتكوين هاديًا ومُرشدًا لأبناء البشر، من أجل أن يَفِدوا من مأزق الإجمال والاستعداد إلى منزلة الفعليّة والشهود، ففي هذا السير، يُرشد الواصلون إلى منزل المحبوب والذين ذاقوا زلال المعشوق، التائهين في وادي الحيّرة، والعطاشى المتوغّلين في الكثرة إلى المنزل المعهود، فيُساعدونهم على الوصول إلى مرتبة المعرفة والتجرّد عبر الموازين الرصينة والقوانين المتينة والفطرة النقيّة والضمير الطاهر الإلهي والعقل المستنير بالأنوار الساطعة للنشأة الربوبيّة. وكما يقول مولى المتقّين:

  • «فَبَعَثَ فيهم رُسُلَه، ووَاترَ إليهم أنبِيائَه، لِيَستَأدوهم ميثاقَ فِطرَتِه [التي أودعها فيهم فيما يتعلّق بالتوحيد والإقرار بربوبيّة الحقّ وعبوديّتهم له]، ويُذَكَّروهم مَنسِيَّ نِعمَتِه [من الاتصال بالمبدأ الربوبي]، ويَحتَجّوا عليهم [من خلال الحجّة والبرهان] بِالتَّبليغِ [للمباني ولأصول المعرفة]، ويُثيروا لهم دَفائِنَ العُقولِ [حتّى تنكشف لهم حقائق عالم الوجود، ويتّصلوا بمرتبة العقل الفعّال ويحصلوا على دولة المعرفة] ...»۱

  • وكذلك أفضل الصلاة على الروح الطاهرة المطهرة لحامل لواء ساحة التوحيد، الراكب الفريد في وادي التجريد، وخلاصة جوهرة الوجود، وثمرة تكوين الربّ الودود، وخاتم السفراء المقرّبين، وغاية تشريع الأنبياء والمرسلين، محمّد بن عبد الله وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذين فتحوا طريق السير إلى الله والتمكّن في ذات الأحديّة لأولئك الذين يبحثون عنها من خلال بيان الحقائق ورقائق الدقائق، فأضحت الكلمات العرشيّة لهؤلاء العظماء كالشمس الزاهرة ومحت ظلمات وادي الحيرة ومحقت سواد مهالك الجهالة، وأشعلت نور الأمل في قلوب الضائعين والحيارى من أبناء البشر، وبشّرت القلوبَ الوالهة والضائعة في الكثرات الدنيويّة الدنيّة بتلألؤ البوارقُ القدسيّة النابعة من مبدأ الأنوار الربوبيّة.

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ۱٣.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

5
  • ﴿قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبين ، يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ﴾.۱

  • الحمد والشكر لله المتعال الذي جعل من نصيب هذا الحقير التوفيق لترجمة أحد أهم آثار أهل بيت العصمة عليهم السلام ونشره، يعني: وصيّة الإمام عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام في حاضرين؛ وجعلني فخورًا بتحقيق أمنيتي لعقودٍ في نشر هذا البيان المُعجز الذي نشأ قطعًا وتحقيقًا من مصدر الوحي، فعلى الرغم من أنَّ أمنية الحقير ونيّته كانت في أن يُدوّن شرحًا عليها وفقًا لفهمي القاصر وعقلي الفاتر، إلا أنَّ كثرة المشاغل وتراكم الشواغل كانت مانعًا من حصول مثل هذا التوفيق، لذا اكتفيت بهذا المختصر، مُقدّمًا إياه لعُشّاق المدرسة العلويّة وللمأسورين بالجمال السرمديّ مصحوبًا ببعض التوضيحات والتعليقات.

  • وبعد عودة والدنا المرحوم العلّامة الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني ـ قدّس الله سرّه ـ من النجف الأشرف قام بشرح هذه الوصيّة وتوضيحها للرفقاء في أيّام الجمعة، وقد اهتمّ بشدّةٍ بمضامينها وحقائقها ووصى بها، وشوّق الجميع لقراءتها والتدبّر في عباراتها والتعمق في دساتيرها، وكان يرى الاهتمام بالعمل بها، تكليفًا شرعيّاً وأصلًا وأساسًا لحركة السالك نحو الله، وقد قال في وصيّته ما يلي:

  • لقد كنت أريد كتابة وصيّةٍ مفصّلةٍ تحتوي على مجموعةٍ من المسائل الأخلاقيّة المهمّة، إلّا أنّني رأيت أنّه مع وجود تلك المطالب العالية والحقائق السامية التي كتبها أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بحاضرين، والموجودة في نهج البلاغة، فإنّ الحديث عن الآداب ومكارم الأخلاق سيكون باعثًا على الخجل.٢

  • بيان كافة جوانب الحياة السعيدة ومستلزماتها في كلام أمير المؤمنين عليه السلام

  • لقد اهتمّ أمير المؤمنين في هذه الوصيّة ـ التي يصحّ تسميتها سبيل الفلاح أيضًا ـ ببيان كافّة جوانب الحياة السعيدة الموفّقة ومستلزماتها في جنبتيها الدنيويّة والأخرويّة والشخصيّة والإجتماعيّة من أجل الوصول إلى نقطة الكمال؛ وقد وضع دستورًا عمليّاً وبرنامجًا مدوّنًا ومبوّبًا في مجال الأمن والاعتدال الاجتماعي بنحوٍ واضحٍ وجليّ، 

    1. سورة المائدة (٥)، ذيل الآية ۱٥ وصدر الآیة ۱٦.
    2. مطلع أنوار (فارسي)، ج ۱، ص ۱۱۱.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

6
  • وذلك من خلال إشرافه الكامل والولائي على سرائر النفوس البشريّة وأسرار الحياة الطيبة الإجتماعيّة، وعلى رموز السير في مراتب الفعليّات الإنسانيّة وتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة بالنحو الأتمّ. وكأنّما هذه الشخصيّة المتميزة في عالم الوجود كانت ترافق كلّ فردٍ من أفراد البشر منذ بدء خلقة الأفلاك والأرض والزمان ومنذ نشأة بني آدم، فكان مطّلعًا على سرّ كلّ فردٍ منهم، وكان له حضورٌ عينيٌّ وشهوديٌّ في كافّة الأحوال وتبدّل الأحداث، فيضع ثمرة ونتيجة هذه التجربة النادرة بين يدي أهل المستقبل، وعطاشى سبل السّلام، وحتّى بين يدي الباحثين عن طريق الأمن والصلاح الدنيوي، وعلى الأخص في الزمن الحاضر؛ فلا يقتصر وجوب اتّباع منهج الإمام والانصياع له ولدستوره بشكلٍ دقيقٍ ومتطابقٍ مئةٍ بالمئة على الذين نظموا مسير حياتهم الطيبة بناءً على محور تعاليم الأولياء الإلهيّين والحقائق الوحيانيّة والذين لم يضعوا غايةً لهم أو مرامًا سوى لقاء الحقّ ورفع حجب ما سوى الله وتحقّق حقيقة العبودية المحضة، بل حتّى غير الملتزمين بمباني الشرع من سائر المذاهب والملل والمنكرين لأصل الدين والتشريع ووجود الصانع والخالق أيضًا فحتّى هؤلاء إذا أرادوا أن يعيشوا بأسلوب عقلائي ومنطقي وفي أمنٍ وطمأنينةٍ تامّةٍ، وإذا أرادوا تحصيل الأمور المشروعة والمنطقيّة الإنسانيّة وحقوق المواطنة بالنحو المطلوب بعيدًا عن القلق الإجتماعي والمتاعب الفرديّة، ينبغي لهم العمل بهذه الوصيّة والمسائل الذهبيّة التي تحويها.

  • التمدن المنقطع النظير وجاذبيّة الغرب الساحرة لا ثمرة له سوى اضمحلال وانهيار مبادئ الحضارة

  • وقد تمّ الإقرار بهذه النقطة في المجتمعات الغربيّة في أيّامنا هذه، وهي أنّ المسير الذي تمّ طيّه في العلاقات الاجتماعيّة في الغرب، هو مسيرٌ منحطٌّ ومُنحرفٌ عن الحاجات الإنسانيّة وأهدافه العالية، إذ لم يكن للحضارة المنقطعة النظير والجاذبيّة الغربيّة الساحرة من ثمرةٍ سوى اضمحلال وانهيار العلاقات الأسريّة ومبادئ الحضارة المتعالية، ولم يكن له نتيجة سوى الذوبان في الماديّات ونسيان مقاصد الحياة.

  • يقول ألكسيس کاريل۱ حول هذا الأمر:

  • ليت أنّ حضارة الغربيّة عملت على تربيّة الصفات الباطنيّة وإحيائها، وليتها اهتمّت بتقوية جنبتها المعنويّة الوجوديّة، بدلًا من الاهتمام بالتطوّر التكنولوجي والوصول إلى رموز الحياة الظاهريّة، كي لا تخسر هذه الخسائر المعنويّة، ولا تبتعد كلّ هذا البعد عن المراتب العليا من القِيم.٢

    1. Alexis carrel.‌
    2.  انسان موجود ناشناخته [الإنسان ذلك المجهول]، مقدّمه.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

7
  • بالطبع يجب أن لا تغفلوا عن هذه النقطة، وهي أنّ العلّة المهمّة والرئيسيّة لميل الغرب نحو الجنبة الظاهريّة من الحياة والمسارعة بهذا النحو الساحر نحو المراتب العالية من التكنولوجيا والتقنيّة نابعٌ من الإحباط واليأس من الامتثال للتعاليم المسيحيّة وأسلوب التبليغ المتبع من سلطة الكنيسة التي لا مُنافس لها، فأدّت هذه المسألة إلى ظهور منهج التفكّر كما برزت الحاجة إلى النهضة وتجديد الرأيّ في معتقداتهم.

  • ومن وجهة نظر الحقير، رغم أنَّ الابتعاد عن جوّ الكنيسة وعن الارتباط برجال الدين المسيحيّين أدّى إلى جذبهم ناحية منهج اللاأباليّة والحريّة الجامحة وساقهم بعيدًا عن الشأن والمقام الإنسانيّ، إلّا أنَّ نفس قطع التعلّق والارتباط بجوّ المسيحيّة الكاذبة المليئة بالذهب والزور والتزوير كان طليعةً مباركةً للحركة نحو العقلانيّة والارتباط بالموازين الفطريّة والأصول القيّمة لبقاء النوع البشري.

  • مخاطر ظاهرة ترك الدين المدمرّة وغير المباركة

  • لا يُمكن لنا مقارنة ظاهرة ترك الدين غير المباركة والتي تُمثّل آفةً مدمّرةً، ولا يُمكن وضعها في كفّة الميزان ومقارنتها بأيّ خطرٍ من الأخطار والآفات والعقبات التي تعترض طريق حياة الإنسان الآمنة.

  • إنّ الفطرة الواعية والعقل المتّصل كوديعة إلهيّةٍ في نفوس البشر لا يُمكن جعلهما في خدمة الميول والرغبات الحيوانيّة والمضادّة للإنسانيّة والمضادّة للقيم المعنويّة بأية حيلةٍ أو وسيلةٍ كانت. بل لا يُمكن وضع ستار على نضج تلك الفطرة وخلّاقيّتها في إبداء مسير الرشد والصلاح إلّا من خلال تزيين المقاصد الخاطئة والمخالفة للصواب، ليُواصل الإنسان طريق المعصية. وحتّى في أكْرهِ صور الجناية والقسوة وأكثرها بشاعةً تستمرّ الفطرة والعقل المودعتان لدى المرتكبين، فتبديان لهم الصورة الكريهة والقبيحة للظلم والفساد، فلا تتبرآن من أداء مسؤوليّةِ إبداء الحقّ من جانب الله ولا تجلسان جانبًا.

  • ولكن حينما تستغلّ الرغبات الحيوانيّة الدنيّة والشهوات والميول الشيطانيّة الوقحة والكثرات، وحينما تستغل أدوات الدين من أجل الوصول إلى الأهداف [الدنيويّة]، وحينما تُخفى النوايا القبيحة في طيّات التعاليم الدينيّة والمبادئ الاعتقاديّة، عندها يُمكن لهذه المسألة أن تتحوّل إلى تهديدٍ للأسر وأن تُحرق الدين والدنيا بالنسبة لعموم الأفراد الذين علمهم قليلٌ واطلاعهم على مباني الشرع محدودٌ وعقائدهم معرّضةٌ للخدش؛ فتنمحي وتضمحلّ فطرتهم وعقولهم الناقصة في مستنقع مطامعهم القذرة، أو تسخّرها لخدمتهم. 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

8
  • ورغم أنّه يُمكن أن نُشاهد هذه الفاجعة بشكلٍ أو بآخر خلال عصر نبوّة الأنبياء الإلهيّين، حيث كان تدخل أرباب الكنائس والمعابد في الشؤون الإجتماعيّة للناس عبر استخدام التعاليم الدينيّة واستغلال معتقدات الناس أمرًا ملحوظًا وملموسًا، ولكنّه كان بصورةٍ صارخةٍ وصريحةٍ وواضحةٍ ودون أيّ تخفٍ أو تستّرٍ بعد ارتحال نبيّ الإسلام عن طريق غصب الخلافة من صاحبها الأصلي والهجوم على بيت ابنة رسول الله وحرق باب منزلها وتخريبه بحجّة البيعة لخليفة المسلمين وقتل ابنة رسول الله وإسقاط جنينها وإخراج الأفراد المتحصّنين في البيت ومن جملتهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وجرّه إلى المسجد وإلزامه بالبيعة بالإجبار والإكراه، فكشفوا عن أوجههم الكريهة المشؤومة.

  • المضارّ الناتجة عن استغلال عقائد النّاس الدينيّة

  • إنَّ إساءة استغلال عقائد النّاس الدينيّة لعدم اطلاعهم الكافي على محتوى الدين واستعمال الأدلّة والحُجج التي يقبل بها العوام، مثل: مخالفة إجماع المسلمين، وإيجاد التفرقة والصدع بين صفوف الناس المُتحدة، وإيجاد الخلل في نظام وأمن المجتمع، وأنّ إهانة حاكم الإسلام وخليفة المسلمين المنتخب من قبلهم وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هي محاربةٌ لله ورسوله، والارتداد عن نهج الإسلام ومسلكه، وإيجاد الشكّ والشبهة في المعتقدات الدينيّة وعقائد النّاس، وإضعاف أسس النظام الإسلامي، والتأسيس لتدخّل الأجانب في الأمور السياسيّة والداخليّة للدولة الإسلاميّة، والارتباط بالأعداء خارج حدود وثغور البلاد الإسلاميّة، والتواطؤ وتهيئة الظروف لتغيير الحكومة الإسلاميّة، فهذه كلّها من ضمن الحُجج والدسائس التي كان يستسيغها الحكّام الغاصبون والمنحرفون والمُحرّفون بالنسبة لآل الوحي وأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله، فكانوا يجنون عليهم كلّ جنايةٍ يُمكن تصوّرها.

  • جواب أمير المؤمنين على قسم من رسالة معاوية القبيحة والمشؤومة

  • كتب معاوية بن أبي سفيان في رسالته لأمير المؤمنين في مقام لوم شخص حضرة أمير المؤمنين وإهانته:

  • «كنتَ تُقادُ، كما يُقادُ الجَمَلُ المَخشوشُ۱».٢

  • أي: كُنت تُقاد مثل الجمل الذي ربطوه من أنفه وجرّوه ليروّضوه، فأخذوك إلى المسجد من أجل البيعة.

  • وقال أمير المؤمنين في جوابه عليه:

    1. خششتُ البعير، جعلتُ الخشاش في أنفه، والخشاش: عودٌ أو حبلٌ يُوضع في عظم أنف البعير، راجع: لسان العرب، ج٦، ص ٢٩٦. (م)
    2. بحار الأنوار، ج ٢۸، ص ٣٦۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

9
  • «وقُلتَ أنّي كنتُ أُقادُ كما يُقادُ الجَمَلُ المَخشوشُ حتّى أُبايِعَ، ولَعَمرُ اللهِ لقد أرَدتَ أن تَذُمَّ فمَدَحتَ، وأن تَفضَحَ فافتَضَحتَ؛ وما علَی المُسلمِ مِن غَضاضَةٍ في أن يكون مظلومًا، ما لم يكن شاكّاً في دينِه ولا مُرتابًا بِيَقينِه».۱

  • أي: يا مُعاوية! لقد شبّهتني بالجمل الذي ربط الحبل في أنفه، فجرّوني إلى البيعة، أقسم بالله! إنّك أردتَ إهانتي، ولكنّك من خلال هذا التشبيه مدحتني وأثنيتَ عليّ، وأردتَ أن تفضحني لكنّك فضحتَ نفسك؛ إذ ليس عيبًا ولا نقصًا للمسلم إذا تعرض للظلم وتمّ التعدّي عليه (بل النقص والخزي والعار للظالم والمتعدّي،‌ وليس على من ظُلم)، وطالما أنّه لا يوجد شكٌّ في دينه ولا يزال ثابتًا على معتقداته، ولم يتحوّل عن يقينه بسبب الحدس والشبهة.

  • ويُمكن لنا أن ندرك من خلال هذه الرسالة عمق الفاجعة التي حلّت في تاريخ الإسلام بعد ارتحال مؤسّسه؛ فاجعةٌ كانت ولا تزال تحافظ على انحراف مسير الإسلام حتّى بعد ألفٍ وأربعمئة عامٍ، وجعلت مئات ملايين البشر من المسلمين فريسةً لآفاتها.

  • ويُمكن الادعاء بوضوح في هذا الصدد أنّ جميع جرائم الحكام وأهل الجور في تاريخ الإسلام إنّما ارتكبت بسبب هذا الآفة المُدمّرة، يعني: ضرب الدين واستغفال النّاس عبر استغلال الأدوات والوسائل الدينيّة.

  • استغلال الشرع والدين لتحقيق الأهداف الدنيويّة هي الأداة الأكثر تأثيرًا لعلماء السوء

  • وقد لوّث علماء العامّة وفقهاؤهم أيديهم بدماء آلاف المسلمين الأبرياء بجرم التشيّع، وذلك من خلال إساءة استغلال نفس هذه الأدوات، وكتبوا صفحةٍ من الخزيّ في تاريخ الإسلام، في الوقت الذي نجد أنّ صاحب زمام خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفته علي بن أبي طالب عليه السلام قال عند لقائه مع علماء اليهود بهذه العبارة: «يا أخا اليهود» (أي: أيّها الأخ اليهودي) وذلك حينما كان يُناقشهم ويناظرهم، نرى أنّهم أصدروا فتوى بجواز وإباحة قتل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام والتجاوز عليهم بحجّة الاختلاف والافتراق في الدين،‌ وكم هي الجنايات والفجائع التي ارتكبت بسببها! وكم هي دماءُ الأبرياء والأطفال المعصومين التي أريقت على الأرض! ومازال هذا الطريق المنحرف المخيف مستمرًا حتّى الآن.

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ٣۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

10
  • طبعًا ينبغي الالتفات إلى أنّ آفة ضرب الدين وسوء استغلال الشرع في الترويج للأهداف الدنيوية لا يختصّ بمدرسة العامّة وعلماء أهل التسنّن، بل يُمكن رؤية مثل هذه الحالات الشاذة وهذه الانحرافات في تاريخ الشيعة أيضًا،

  • فإذا تمّ تسليم العلماء العظماء، والأعاظم من ذوي الأسماء الكبيرة من قبيل: الشهيد الأوّل والشهيد الثاني والقاضي نور الله الشوشتري بفتاوى الفقهاء السُنة الفاسدين والفاسقين إلى يد الحديد والحطب، فإنّ نجد أنّ الروحاني الكبير والعالم الجليل المرحوم الشيخ فضل الله النوري قد أعدم بواسطة نفس علماء الشيعة وبفتواهم علّق على المشنقة.

  • ثمّ بفتوى من ارتقى العلّامة المكرّم والعارف بالله والفقيه النزيه المرحوم السلطان محمّد الجنابذي رضوان الله عليه؟!‌ وبواسطة أيّ أشخاصٍ رفرفت روحه إلى الملأ الأعلى؟!

  • وبواسطة أيّ فئةٍ وجماعةٍ تحقّق قتل كبار العرفاء وإعدامهم بحجّة التصوّف؟!

  • وبإيعازٍ ممّن؟! وبإذنِ أي الأفراد هتكت حرمة العارف بالله وبأمر الله آية الله العظمى السيّد علي القاضي الطباطبائي وتمّت إهانته؟! وبإشارةٍ ممّن ضُيّق عليه كلّ أنواع التضييقات في النجف الأشرف؟!

  • وبواسطة أيّ مرجعٍ دينيٍّ تحقّق إبعاد وتهجير العلّامة الفقيه والفيلسوف العَلَم، سماحة آية الله السيّد حسن المسقطي من النجف الأشرف؟!

  • وبواسطة أيّ مرجعٍ غير مؤدّبٍ حصلت تلك الإهانة وذلك الهتك الهتّاك الخالي من الحياء تجاه فخر عالم الإسلام سماحة العلّامة الوالد الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني ـ أعلى الله مقامه ـ في الكتب الأخلاقيّة وتهذيب النفس؟!

  • وبواسطة أيّ مجوعةٍ من الأشخاص حصل التكفير والتفسيق والحكم بارتداد العلماء العظام أمثال: المرحوم آية الله الأنصاري وآية الله دستغيب الشيرازي، ونابغة الدهر والعلّامة على الإطلاق المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمداني _ رضوان الله عليهم أجمعين؟!

  • وبواسطة أيّ الأشخاص حدثتْ أعمال الظلم والجناية على آحاد أفراد الرعيّة بحجّة عدم المقبوليّة والاتجاه نحو نهجٍ ومسلكٍ خاص؟!

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

11
  • مركزيّة النفس والأنانيّة والفرعونيّة هي النقطة الأساسيّة والأصليّة في الحوادث والنوائب

  • إنَّ المحور لكافة هذه الفجائع والحوادث والنوائب، سواءً كانت في قالب اليهوديّة أم النصرانيّة أم التسنّن والتشيّع هو أمرٌ واحدٌ فقط؛ وهو محوريّة النفس والأنانيّة والفرعونيّة وفقط، سواءً ظهرت خصلة الشؤم والشيطنة هذه في لباس علماء اليهود والنصارى وزيّهم أم في كسوة علماء التسنّن والتشيّع وفقهائهم، فجميعهم سواءٌ ولا فرق في البين.

  • ففي ذلك اليوم وبجرم إرادة الحقّ والمطالبة بالحقّ، أحرقوا باب بيت ابنة رسول الله وأسقطوا جنينها وحرموها من الوجود ودوام الحياة؛ واليوم بنفس ذلك الجرم يسيلون دماء الأبرياء بسخاوة في معارض المزاد؛ كلاهما واحدٌ!

  • مدرسة التشيع هي مدرسة الحقّ والعدالة والحريّة

  • مدرسة التشيّع هي مدرسةٌ علويّةٌ ومدرسة الحقّ والعدالة والحريّة، ومدرسة الرفض والابتعاد عن كلّ دناءةٍ وانحطاطٍ ونفاقٍ ومكرٍ وثنائية الوجه والسعي وراء المصلحة والانغماس في الشهوات والكثرات، ومدرسة تعالي الروح وتجريد النفس والمعرفة والتوحيد والوصول إلى أعلى مرتبة قابلة للتصوّر من الفعليّة والحصول، والخطّ الأحمر الوحيد في هذه المدرسة هو السخط الإلهي والقيام بما هو خلاف لرضا الله وحسب.

  • ففي هذه المدرسة تتحقّق الحركة نحو التعالي والرقيّ في ظلّ الأمن والعدالة والمراعاة وفي ظلّ أداء الحقوق واستيفاء الحظوظ بالنحو الأكمل والأوفى، وكلّ من يكون تحت ظلّ هذه الموقعيّة الذهبيّة سيصل إلى ما يوجبه له قلم التقدير وتوجبه كفايته.

  • وقد تمّ حساب وتقييم مراعاة الصلاح الدنيوي والسعادة الأخرويّة كعنصرين لا ينفكّان في الحياة البشريّة، ولا يغلب أحدهما على الآخر ولا يحكم أحدهما على الآخر.

  • ويتشكّل برنامج الحياة في هذه المدرسة على أساس الإشراف الدقيق على مقتضيات النفس البشريّة وعلى أساس الاطلاع على كُنه الفطرة الإنسانيّة وضميره وسرّه وعلى أساس الإدراك الكامل للخصال والصفات ومَلَكات الإنسان الحسنة ورذائله، والالتزام بهذا البرنامج، وهي تسوق الإنسان نحو فضاء القدس وتحصيل سلطان المعرفة في ظل الأمان والسلامة الروحيّة والنفسيّة في الحياة الدنيويّة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

12
  • والأحكام والتكاليف في هذه المدرسة إنّما تُلقّيت على أساس الشهود واللمس وعلى أساس مسّ الواقع، ومدوِّنها هو خالق الإنسان الذات الإلهيّة المقدّسة، وتمّ تبليغها بواسطة عباده المنتجبين إلى باقي الناس، [قال تعالى:]

  • ﴿قُلْ هذِهِ سَبيلي‌ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى‌ بَصيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَني‌﴾.۱

  • يعني: «قُل أيّها الرسول! هذه سبيلي وطريقي التي أدعو الناس لسلوكها إلى الله وأنا إنّما أدعوهم لها عن بصيرةٍ، وكذلك أتباعي يدعون الناس إلى الله عبر هذه الطريق».

  • إنّ وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام تقع في سبيل تحقّق هذا الهدف وفعليّة هذا المقصد وهذه الغاية، فقد اهتمّت هذه الوصيّة والتفتت إلى كافة زوايا حياة البشر في جوانبها المختلفة وإلى جميع أفراد البشر وجميع آحاد بني آدم من أي أمّةٍ ومذهبٍ، ومِن أيّ طبقةٍ وصنفٍ، العالم منهم والجاهل، وذلك من أجل سعادة الدنيا وفلاح الآخرة؛ ولا يستطيع أيّ شخصٍ أن يعتبر نفسه مستثنًى من الالتزام بها؛ على الخصوص الأشخاص ذوي المكانة والشهرة من الناحيّة الاجتماعيّة ـ مثل: أرباب السياسة والفقهاء والمراجع ـ فيجب عليهم مطالعتها مرّةً في الشهر على الأقل، ويجعلوا كلّ عبارةٍ عبارةٍ منها كحلقةٍ في آذانهم،‌ ويجعلوها أسوةً لهم في أفعالهم وأعمالهم.

  • وكم هو مناسبٌ وجيّدٌ أن توضع عباراتها والمقاطع المختلفة مع ترجمةٍ جميلةٍ وسلسةٍ [لغير الناطقين بالعربيّة] في ألواحٍ وبراويز جذّابةٍ وبتصاميم متنوّعةٍ وجذّابة، ثمّ تُعلّق في المنازل والمكاتب وأماكن تردّد العموم بحيث تقع في مرأى ومنظر الأفراد والأشخاص.

  • العصمة تساوي الأبديّة والأبديّة خالدة ومستمرة

  • إنَّ كلام المعصوم عليه السلام معصومٌ، ويختلف عن سائر الكلمات والتعابير ولو أنَّها كانت ملفتةً ومهمّة؛ لأنَّ العصمة تساوي الأبديّة، والأبديّة سوف تبقى خالدةً ومستمرةً وثابتةً ومستقرّةً، ولذا يجب أن توضع كلمات أهل بيت العصمة عليهم السّلام وتعابيرهم على مرأى الأفراد دومًا، ومنحها جنبة الكلام الرحماني الملقى من الوحي، وتمييزه عن باقي الجمل والتعابير.

    1. سوره يوسف (۱٢)، صدر الآیة ۱۰۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

13
  • إنّ مجتمعنا يحتاج في هذه الأيّام أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى العودة والنظر في الآثار والأحاديث المأثورة عن موالينا الأئمّة المعصومين عليهم السلام، ويجب الاهتمام بهذه النقطة الحياتيّة اهتمامًا لا مثيل له، وأن نتلافى غفلتنا عن المنهج المتين والمستقر ونقوّم أفعالنا ونصحّحها من خلال المضامين والكلمات الواردة عن أئمّتنا وسادتنا؛ وعلينا أن نضع الدساتير والمتون الأخلاقيّة والأحكام الصادرة عن هؤلاء العظماء نصب أعيننا واحدةً واحدةً، إنّ اتّباع الأوامر والبيانات النورانيّة لأهل بيت العصمة عليهم السّلام، هو السبيل الوحيد لا غير للنجاة من الفتن والمصائب وموارد الحيرة ومن العجز والانغماس في الكثرات، ومن البحث والتفتيش بسبب الحيرة والتيهان، ومن الحركة في وادي الظلمات، ومن التعصّب والتمركز حول الذات والجهل.

  • ولا ينبغي علينا أنّ نُفكّر في هذه المسألة، وهي أنّه لماذا لا يعتني الآخرون ولا يهتمّون بهذه المسائل؟ وأنّه ما الأثر الذي قد يترتّب على التزامنا بهذه الأصول؟ ما يجب علينا التفكير فيه هو أنّ هذه الوصيّة ترياقٌ فيه دواءٌ لجميع الآلام، وعلاجٌ لكافّة المصائب، وأنّها إكسيرُ حياتنا الأبديّة وإكسيرُ السعادة الأبديّة. فما شأننا بالآخرين؟! وماذا سينفعنا أو يضرّنا إعراضهم؟!

  • ومع كامل الأسف والحسرة يجب الاعتراف والإقرار بأنّه لو عمل كبارنا والمسؤولين والقيّمين عندنا بهذه الوصيّة والتزموا بها، لمَا وجدت في عصرنا الحالي هذه الابتلاءات المُؤلمة والحوادث المُفجعة والأمور البعيدة عن الشأن الإنساني وعن المرتبة الإنسانيّة التي أحاطت بالمجتمع.

  • آفات النظرة الانتقائيّة إلى بيانات المعصومين عليهم السّلام واستخدامها كأدوات

  • إنَّ النظرة الانتقائيّة لبيانات المعصومين عليهم السّلام واستعمالها كأدوات وقبول ما ينسجم مع السليقة الشخصيّة ويتطابق معها، وردّ ما يُخالف الفكر والسليقة الشخصيّة، لن تجلب سوى سبيل النكبة وسوء الحظّ والضلال والضياع والحيرة والزوال للفرد والمجتمع.

  • أذكر أنَّه بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، كان أحد الفضلاء المحترمين ينشر هذه الوصيّة مصحوبةً بترجمةٍ سلسةٍ [إلى الفارسيّة] في إحدى جرائد البلد، ولكن للأسف عندما وصل هذا الفرد إلى عبارات الإمام عليه السّلام حول شؤون النساء وكيفيّة تعامل الفرد والمجتمع مع هذه الشريحة، حذف هذه الكلمات والجمل تمامًا ولم يأتي على ذكرٍ لها لا في النصّ العربي ولا في ترجمته!

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

14
  • وا عجبًا! فما النقص والمنقصة التي لحظها في كلام المعصوم عليه السّلام بحيث أَقدَم بنحوٍ سليقيٍّ ومن عنده على تحريف أوامر الإمام عليه السّلام وأجرى مقصّ الرقابة عليها؟!

  • أليس هذا العمل مصداقٌ صريحٌ وواضحٌ لقول الله عزّ وجلّ: ﴿نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‌﴾۱؟! وهل هذه المضامين مُختصّة بزمان صدورها ولا تشمل زماننا والأزمنة اللاحقة؟! وهل اختلفت الطبيعة الإنسانيّة عمّا هي لدى الأمم السابقة؟! وهل تغيرت الرؤيّة حول المسائل المرتبطة بالمرأة والرجل عما كانت عليه في الماضي؟!

  • رأي بعض المحقّقين الغربيّين حول حجاب النساء وكيفيّة تفاعلهم معه

  • تقول «آني رورد»٢ الكاتبة الإنجليزيّة الشهيرة:

  • «ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين، حيث الحشمة والعفاف... والطهارة حيث يتنعمن بأرغد عيش. نعم، إنّه عارٌ على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل، لكثرة مخالطة الرجال.

  • فما لنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعيّة من ملازمة البيت [وتربية الأبناء] وترك أعمال الرجال للرجال سلامةً لشرفها!!٣

  • وتقول السيّدة «كليف داليسون» وهي متخصّصة معروفة في علم النفس:

  • تشير التحقيقات إلى أنَّ النساء ترغب بالعمل بإمرة شخصٍ آخر، وبتعبيرٍ آخر: إنّهنّ يُفضلن أن يُصبحن مرؤوساتٍ بإشراف رئيس. إنّ النساء يجرين وراء المشاعر، والرجال يجرون وراء العقل، وكثيرًا ما لوحظ أنّ السيّدات في مجال الذكاء لا يُوازين الرجال فحسب بل يفضلنهم أحيانًا، ونقطة ضعف السيّدات تكمن فقط في إحساساتهنّ المرهفة.

    1. سورة النساء (٤)، قسمٌ من الآية ۱٥۰.
    2. Annie Roord.
    3. المرأة في ظلّ الإسلام، تأليف مريم نور الدين فضل الله، ص ٤۱، [نقلتها عن كتاب نظرات في السفور والحجاب للشيخ مصطفى الغلاييني،‌ الذي نقلها عن مجلة (شجرة الدر) في الجزء السادس من السنة الأولى نقلاً عن جريدة (الإيسترن ميل)].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

15
  • الرجال يُفكّرون دائمًا بشكلٍ عمليٍّ أكثر كما أنّهم يحكمون أحسن، ويُنظّمون أحسن ويُوجّهون بشكلٍ أفضل، إذن ففضل الرجال روحيًا على النساء أمرٌ صمّمه الله تعالى، ومهما حاولت السيّدات أن يدفعن هذه الحقيقة فلن يجديهنّ ذلك نفعًا، وبما أنّهنّ أكثرة حساسيّةً من الرجال، فقد وجب عليهنّ إذن أن يتقبّلن حقيقة حاجتهن إلى إشراف الرجل عليهنّ في الحياة، والأعمال التي تحتاج إلى التفكير الدائم تُتعب المرأة وتضجرها.

  • والهدف الأعلى للسيّدات في الحياة هو «الأمن» فإذا نلن هذا الهدف، تركن العمل والنشاط.۱

  • تحريف كلام المعصومين عليهم السّلام هو عدم احترام لساحة القيم الإنسانيّة العالية

  • فإذا قام مولى المتقين وفي ظروف ذلك الزمان ومع كافة الحدود في العلاقات بين الرجل والمرأة ومراعاة العفاف في تلك الحدود، وأوصى بهذه الوصيّة لأولاده وأهل ذلك الزمان، فإذن يجب الإعلان والاعتراف بالقطع واليقين بأنّه مع ظهور تقنيات عصرنا والتكنولوجيا الحاكمة على قرننا وسهولة الوصول إليها من قبل كافة أفراد المجتمع، أنَّنا على مشارف وقوع فاجعة زوال كيان الأسرة واضمحلال أساسها وبروز الهرج والمرج في العلاقات بين الرجل والمرأة بأقبح وأشنع وجهٍ ممكن.

  • ألا يعلم المترجم المحترم الذي عندما وصل إلى هذه الفقرات العميقة والمضامين الإعجازيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام المرتبطة بالعلاقات بين المرأة والرجل قام بحذفها وتحريفها، بحجّة أنَّ المجتمع المعاصر يأبى تقبّل مثل هذه المضامين، ولذا لا ينبغي طرح مثل هذه العبارات عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام؛ لأنّها توجب الوهن والإهانة لساحتهم المقدّسة، ألا يعلم أنّه بعمله هذا كم استهان بالحرمات وأهان ساحة القيّم الإنسانيّة العاليّة والعفاف والأمان الإجتماعي وطهارة النفس الآدميّة؟! إنّه لا يعلم أنَّ هذه العبارات أوجب لهذا الزمان وأكثر حيويّةً لهذا المقطع الزمنيّ الذي نعاصره، من أيّ زمانٍ أو بُرهةٍ مضت!

    1. نظام حقوق زن در اسلام، ص ۱۸٥. [نظام حقوق المرأة في الإسلام، ص٢۰٦ (تحت عنوان: نظريّة عالم نفسانيّة)].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

16
  • دور التطوّر الملحوظ لأساليب التواصل في هدم العلاقات الأسريّة

  • مع التطور الملحوظ في أيّامنا هذه فيما يتعلّق بأساليب التواصل كالإنترنت وصناعة الهواتف والجوّالات، فلا يعلم إلّا الله كم هو حجم الضربة التي وُجهت إلى جسم العلاقات الزوجيّة. وأنا أعترف وفق محدوديّة علاقاتي واطلاعي على بعض الأشخاص أنَّني كنتُ شاهدًا على انهدام العشرات من العلاقات الأسريّة بسبب هذه الظاهرة غير المباركة في نطاق العلاقات الإجتماعيّة.

  • واليوم يجب أن يُصدح بصوتٍ عالٍ وواضح بالعبارة الإعجازيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام التي وردت في هذه الوصيّة والتي يقول فيها:

  • «وإنِ استَطَعتَ أن لا يَعرِفنَ غَيرَك، فافعَل».۱

  • يعني: إذا استطعت أن تنتهج أسلوبًا وطريقةً في تعاملك مع نسائك بحيث لا يعرفنَ شخصًا غيرك، فحتمًا لا تُقصّر في فعل ذلك. وهذا الكلام يُعتبر معجزةً علويّةً في مجال العلاقات الاجتماعيّة والمسائل الأخلاقيّة والعائليّة.

  • فإنَّ المسائل التي تطرق آذاننا عن الشذوذ الأخلاقي في العلاقات الأسريّة والزوجيّة بسبب ظاهرة الإنترنت والجوالات، مروعةٌ وغير إنسانيّةٍ جدًا بحيث تبهت العقل البشريّ، وتشير هذه المسألة إلى أنَّه لا فرق في الأثر بين أفراد البشر الذين عاشوا في الأزمنة الماضيّة وبين من يعيش في زماننا الحاضر فيما يتعلّق بمراعاة الضوابط الأخلاقيّة والمباني الإنسانيّة والتكاليف الشرعيّة أو عدم مراعاتها؛ وإذا كان تدوين هذه الوصيّة قبل ألف وأربعمئة عام يحوز على درجةٍ من الاهتمام والإلزام لأفراد ذلك الزمان، فإنّ التأكيد على هذه النقطة يزيد في عصرنا الحالي بمئات بل بآلاف المرّات.٢

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ٦۱.
    2. أخيرًا في واحدةٍ من الرحلات الكشفيّة الصيفيّة التي نُظّمت في دولة ألمانيا لما يُقارب المئة والسبعين شابًا ومراهقًا أعمارهم بين الثالثة عشر والعشرين، تمّ التحرّش الجنسي بمعظم الفتيات الصغيرات من الشباب المتواجدين في الرحلة، وتمّ متابعة هذه الفضيحة بعد شكوى آبائهنّ.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

17
  • موقف السيّدة الزهراء عليها السّلام ورأيها في كيفيّة العلاقة بين المرأة والرجل الأجنبيّ

  • إنّنا نواجه اليوم التعاليم الوحيانيّة لأهل بيت العصمة عليهم السّلام، فإنّ الصديّقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السّلام تقول في أحد المواطن فيما يتعلّق بالعلاقة بين المرأة والرجل الأجنبيّ:

  • «خير النساء التي لا ترى الرجال ولا يراها الرجال».۱

  • يقولون: إنَّ مراعاة هذه المسائل في عصرنا الحاليّ صعبٌ بل ممتنعٌ، وأنّه بناءً للظروف الاجتماعيّة في عصرنا الحالي أصبحت العلاقة بين المرأة والرجل وتبادل الأحاديث والمزاح، أمرًا لا يمكن تجنّبه. وا عجبًا! هل سقطت الظروف الإجتماعيّة علينا من السماء، أم أنّها صعدت من قعر بئرٍ وأمسكت بتلابيبنا؟! أم أنّنا نحن من صنعها وأوجدها؟! فما الفرق إذن بين ذلك المجتمع الذي يُمضي على كلّ ما يُلقى إليه مرغمًا، وينحني لكلّ ظاهرةٍ تُحمَّل عليه وبين الحيوانات التي تمشي على أربع أو بينه وبين الوحوش؟!

  • في عصرنا الحاضر، هناك بعض الدول الإسلاميّة التي يُوجد فيها جامعاتٌ ومراكز علميّة كوادرها نسائيّةٌ بأجمعها من الفرّاش إلى رئيسة الجامعة، جميعهن من السيّدات ولا يوجد بينهنّ حتّى موظّفٌ واحدٌ، وهي تعتبر من جملة المراكز العلميّة النموذجيّة على مستوى العالم من حيث الرتبة العلميّة وقبول الرتبة الأكاديميّة؟!٢

  • وأذكر أيضًا، أنَّ مثل هذه المسألة تمّ تأديتها بأتمّ وجهٍ في مستشفى الإمام الرضا عليه السّلام في مدينة مشهد المقدّسة الرضويّة لمدّة ستّة أشهر، ولكن وبسبب ظهور بعض الأذواق المنحرفة، لم تدم وعادت إلى سابق عهدها للأسف.

  • ينبغي أن لا يكون المتصدّين لمباني الشرع ملكّيّن أكثر من الملك

  • إنَّ المسألة التي تستحق الاهتمام والالتفات هنا بالنسبة للمتصدّين لتعليم مباني الشرع ولمبلغي دين الإسلام ومروجي أحكام سيّد الأنام، هل ينبغي أن يُصبح هؤلاء ملكّين أكثر من الملك؟! وهل تُصبح الداية أشفق من الأمّ على ولدها؟! أم أنَّ وظيفتهم وتكليفهم ينحصر إبلاغ تلك الأحكام وإلقاء تلك التكاليف التي تم تدوينها وتنظيمها من قبل الله ومن قبل الشارع، دون زيادة كلمةٍ أو نقصانها.

    1. كشف الغمّة، ج ۱، ص ٤٦٦؛ بحار الأنوار، ج ۱۰، ص ٢٣۸. [مع أدنى تفاوت]
    2. المملكة العربيّة السعوديّة، جدّة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

18
  • فهل نصَّبَنا الله أولياء على الشريعة ووضع بأيدينا الاختيار في التدخّل والتصرّف بذلك القرار بحيث أضيفُ أو أحذف ما أراه من الصلاح بحسب ميلي وذوقي؟! لم نمنح مثل هذا الاختيار أبدًا ولن يُمنح لنا أبدًا.

  • فإنَّ المتولّي وصاحب الاختيار في الشريعة وفي الأحكام هو شخصٌ واحدٌ فقط، وهو الوجود المقدّس والمطهرّ لصاحب الولاية الكبرى مهديّ آل محمّد، حضرت الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا لتراب مقدمه الفداء؛ أمّا الباقون فمهما كانوا فهم مُبلّغون فقط وفقط ودُعاة وهداة نحو هذه العتبة المقدّسة لا أكثر من ذلك؛ ولا يحق لأيّ شخصٍ أن يزيد أو يُنقص أيّ كلمةٍ من عنده، وإلّا فسوف يُحاسب على ذلك.

  • الآيات الإلهيّة تذم وتحقّر الأفراد الذين يستعملون الأحكام الإلهيّة بانتقائيّة

  • ويقول في سورة البقرة(٢) الآية خمسة وسبعون:

  • ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَريقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون‌﴾.

  • يعني: «هل تطمعون أن يُؤمنوا بكم وبمسلككم بدينكم، مع أنّ مجموعةً منهم كانت تستمع إلى كلام الله ويُدركون محتواه، ثمّ يُحاولون تحريفه وتبديله، مع أنّهم يعرفون جيدًا وبوضوح أنّ هذه الكلمات والمفاهيم كلّها من عند الله تعالى وأنّه ليس ليد الإنسان أيّ تدخّلٍ فيها».

  • ويقول أيضًا في الآيتين: المئة وخمسين والمئة والواحد والخمسين من سورة النساء (٤):

  • ﴿إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُريدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُريدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبيلًا ، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرينَ عَذاباً مُهينًا﴾.

  • يعني: «إنّ الذين كفروا بالله وبرُسله، ويريدون أن يجعلوا فرقًا بين الله وبين رسله ويقولون: إنّنا نُؤمن ببعض الآيات التي تتوافق مع ميولنا وسليقتنا ومصالحنا الشخصيّة والاجتماعيّة، ونكفر بذلك البعض من الآيات الذي يُعارض مصالحنا، يريد هذا النوع من الأشخاص أن يبتدعوا طريقًا من عندهم في هذه الحالة ولا علاقة لهم بالتعاليم الوحيانيّة، هؤلاء هم الكافرون حقّاً، وقد هيأنا للكافرين عذابًا مُهينًا».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

19
  • إنّ الله تعالى يُصرّح في هذه الآيات بذمّ واحتقار الذين يعملون على تحريف الأحكام والآيات الإلهيّة والتعامل معها بشكل انتقائي، ويصدح بنداء اللعن والإبعاد عن رحمته ولطفه. وللأسف ولسوء الحظ إنَّ هذه الآفة والبليّة قد استحوذتْ على جسد تاريخ الإسلام وتأليف المؤلفين والمُؤرّخين، وحطّت من درجة اعتبار المتون الإسلاميّة ووثاقتها.۱

  • ومن ضمن المواطن التي لم تسلم ـ للأسف ـ من هذه المصيبة والآفة، هي هذه الفقرات التي وردت في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام هذه، والتي ترتبط بمسألة العلاقات بين المرأة والرجل وبعض الأحكام والمسائل التي ذكرها فيما يتعلّق بالمرأة.

  • التعاطي الجبان وغير المنصف مع كلام أمير المؤمنين عليه السّلام

  • طبعًا لا يخفى أنَّ الإمام عليه السّلام ذكر في خطبٍ أخرى من نهج البلاغة مسائل حول هذا الموضوع أيضًا، كخطبته بعد معركة الجمل فيما يتعلّق بعائشة زوجة رسول الله، وفيها إشاراتٌ حول نقصان عقول النساء وضعفهن في التدبير، ومع الأسف ينبغي القول: إنَّ الأفراد الذين تعاملوا مع هذه الفقرات إمّا أنّهم أنكروها بالكليّة ونحَّوْها جانبًا عن زمرة تعاليم أمير المؤمنين عليه السّلام، وإمّا حرّفوها بتأويلاتٍ مثيرة للسخرية ووجهوها بنحوٍ مخالفٍ لمراد صاحب الكلام ومقصوده، وربما شاءوا إخلاء مسؤوليتهم من البلاغ والإبلاغ من خلال استعمالهم لتعابير من قبيل: «نحن لا نفهم» أو «لا اطلاع لنا على مثل هذه المواضيع» أو «ربما تمّ إضافة هذه العبارات إلى الخطبة في وقتٍ لاحقٍ».

  • ولا عجب أنَّ كبارنا قد تعاملوا مع الكلام الإعجازي لأمير المؤمنين عليه السّلام بهذا الأسلوب غير المنصف، إذ شُوهد عن البعض الآخر ما يُشابه هذا التعامل والتعاطي مع الآيات القرآنيّة وبهذا النحو من الاستهتار بحرمتها!

  • نقل لنا أستاذنا المرحوم آية الله الغروي التبريزي رحمة الله علیه ما يلي:

  • في السفر الذي كنتُ قد سافرته إلى هامبورغ للعلاج، وفي إحدى الليالي كنتُ في منزل أخي، وحضر عددٌ من الأطباء والمهندسين الإيرانيّين المقيمين في هامبورغ وكان الحديث حول علاج بعض المسائل الاعتقاديّة والأخلاقيّة. وفي هذه الأثناء، قال أحد الحاضرين: كان هناك عالمٌ وكان متصدّيًا في زمنٍ من الأزمان لمسائل مسجد هامبورغ، وكان لدينا محاضرة وطرح مسائل اعتقاديّة بعد صلاة العشاء، فسأله شخصٌ: ما هو رأيك حول هذه الآية الشريفة؟ 

    1. لقد وضّح الحقير هذه المسألة أكثر في المجلّد الأوّل من كتاب أسرار الملكوت.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

20
  • ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‌ بَعْض‌…﴾.۱

  • يعني: «لقد جعل الله للرجال أفضليّة على النساء، وبسبب هذه الأفضليّة، جعل زمام أمور المرأة مُلقاةً على عهدة الرجال، ولذا ستستقر قيمومة الرجال على النساء في أمور المنزل والمسائل الاجتماعيّة».

  • فقال ذلك الشخص العالم: على حد علمي، إنَّ الإسلام دين التساوي بين المرأة والرجل!

  • وبالطبع من الذي لا يعلم أنَّ معنى ومفهوم هذه العبارة هو حذفٌ وتحريفٌ للقرآن، وإنكارٌ لآيات الوحي ببيانٍ تلويحيٍّ وعباراتٍ تلميحيّةٍ؟!

  • وقد قال نفس هذا الشخص حول هذه الفقرات من نهج البلاغة: «نحن لا نفهم هذه الكلمات!»، ومن الطبيعي أن لا يفهم أمثال هؤلاء الأفراد هذه العبارات، ولا يجب أن يفهموها، ولن يفهموها أبدًا؛ لأنّ فهمهم للإسلام يتعارض مئة وثمانين درجة مع نصوص القرآن والتعاليم والوحيانيّة ومع الشريعة النبويّة. والإسلام الذي في مخيّلتهم هو إسلام مصطنع ومزيّف وسليقي ومن وضع وصناعة ذهنٍ مشوّشٍ ونفسٍ مريضةٍ؛ وكما يقول سماحة الشيخ محمود شبستري أعلى الله مقامه:

  • رمد دارد دو چشم اهل ظاهرون***که از ظاهر نبیند جز مظاهر.٢ 
  • [يقول: إنّ عيون أهل الظاهر مصابة بالرمد، فإنّهم لا يرون سوى المظاهر]

  • إنَّ عيون هؤلاء الأفراد عمياء عن رؤية الحقائق الوحيانيّة النورانيّة، ولا قدرة لها على إدراك تلك الحقائق؛ فيُقعون أنفسهم والآخرين في الضلالة والخراب وزوال الاستعدادات وهدر العمر الذي لا يُعوّض وتضييع الفرص.

  • ولكن إلى متى؟ أليس هناك من يقول لهم: وهل أنتم قيّمون على الدين ومتوّلون للشريعة كي تُقدموا من عندكم على تحريف المباني وتزييفها؟ وكي تضعوا بين أيادي النّاس دينَ الله ورسوله ناقصًا ومُحرّفًا بلا فائدة ولا نتيجة؟

  • ألا يعلم هؤلاء أي عاقبةٍ سيئةٍ ستنجم عن عدم الالتفات إلى هذه الفقرة من التعاليم الوحيانيّة، وما هو حجم الضرر الذي سيلحق بالنّاس الذين ليس لديهم اطلاع؟!

    1. سورة النّساء (٤)، صدر الآية ٣٤.
    2. گلشن راز، القسم ٥، تمثيلٌ في بيان سرّ اختفاء الحقّ في عين ظهوره.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

21
  • ولو كان لأمير المؤمنين عليه السّلام حياةً ظاهريّةً، فهل كان سيمحو هذه الفقرات من خطبه ويحذفها؟! وهل كان سيقول: إنَّ هذه العبارات تتعلّق بألف وأربعمئة عامٍ سابقة، ولا علاقة لها أبدًا بالمجتمع المعاصر والمجتمع المنوّر وبالفكر الحاليّ وبالأذهان المنفتحة والمثقّفة في عصرنا الحاضر؛ ويجب أن تعزل وتطرح جانبًا؟! هیهات! هیهات!

  • إنَّ مشكلة هذه الفئة أنَّها تتصوّر نفسها قيّمةً على الدين، وأنّهم يعدّون أنفسهم مسؤولين في قبال الأسئلة والإبهامات، ويمدّون أقدامهم خارج بساطهم، ويُعيّنون أنفسهم نوّابًا عن الشريعة ويعتبرون أنفسهم ملجأً للنّاس لهم كلّ الاختيار، ويرون أنّ ماء وجههم هو ماء وجه الدين، وأنّ فشلهم يُمثّل فضيحةً وزوالًا لماء وجه الدين؛ والخلاصة: إنَّهم يعتبرن أنفسهم ممثّلين لله على الأرض وأنّهم رُسله إلى الخلق ولكن ليس مثل الأنبياء والرسل بل برتبةٍ أدنى.

  • لا يجب أن يرتدي المبلغين كسوة التولّي والقواميّة على الدين

  • إذا استطعنا أن نُحقّق موقعنا التبليغي بحيث لا يكون على سبيل التولّي بل على سبيل الآليّة والوساطة فلن نقلق عندئذٍ من استحسان الناس أو انزعاجهم؛ ولن يُؤثّر علينا إقبال النّاس وإدبارهم، ولن ينتج أيّ أثرٍ بسبب تشجيع النّاس ولا بسبب تعيير المعيّرين، ولن تتبدّل أحوالنا أو تتغيّر أفكارنا. لقد وقعت جميع هذه المصائب فقط لأنّنا غيّرنا موقعنا، ووضعنا أنفسنا في منزلة إمام الزمان ومرتبته، ولأنّنا أجلسنا أنفسنا على مسنده ومتكئه.

  • وقد خطرت في خاطري قصّةٌ مثيرةٌ للإعجاب وحكايةٌ ذات عبرةٍ، وأرى أنَّه من الحيف أن لا أذكرها هنا.

  • لقد انتشر في الآونة الأخيرة عن أحد الأعلام، كتاب مذكرات ومسائل مهمّة.۱ وقد ورد في ذلك الكتاب ما يلي:

  • لقد تمّ إبعاده في زمان النظام البهلوي إلى إحدى بلاد كردستان، فبقي في تلك المدينة مدّةً من الزمان، وأصبح لديه علاقة وارتباط مع أهل وسُكّان تلك المنطقة، ومن المفارقات أنّه في أحد الفصول التي كانت هناك حاجةٌ ملّحةٌ لنزول المطر، لم ينزل المطر فاستولى الاضطراب والتشويش على أهالي تلك المنطقة، وكان الناس يعيشون في خوف من تدمير الزراعة ومحصول الأشجار، في هذه الظروف طلب منه بعض الناس صلاة الاستسقاء حتى تتمكّن مجموعةٌ من السكّان الشيعة من أداء صلاة الاستسقاء بإمامته، فلم يقبل، ومهما أصرّ الناس عليه لم يقبل.

  • ثمّ ذكر لاحقًا لأحد الأصدقاء سبب عدم موافقته، فقال ما يلي:

    1. المرحوم آیة الله مُنتظري، رحمة الله علیه.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

22
  • رأيتُ أنّني إذا أقدمتُ على صلاة الاستسقاء ثمّ لم ينزل المطر، فبما أنّ معظم سُكّان تلك المدينة كانوا من أهل السنّة، فإنّ ذلك سيتسبب في توهين وإضعاف المذهب الشيعي، ولذلك رجّحتُ الامتناع عن أداء صلاة الاستسقاء.

  • إنّ هذه القصّة مليئةٌ بالعبر، وجديرةٌ بالملاحظة، وتُثبت صحّة مدعانا.

  • ومن جملة المواطن التي تستحقّ التأمّل ما يلي: إنّنا نُقيِّم الأحكام والتكاليف بناءً للمصالح والأذواق الشخصيّة، لا على أساس حاقّ الواقع ومعيار التشريع والتدوين، وحيثما حكم الذوق الشخصيّ بالإقدام على ذلك العمل، فإنّنا نُقدم على القيام به، وحيثما خالف أداءه فإنّنا نستنكف عن الإقدام عليه.

  • وكذلك ما يلي: عند التأمل والتعمق النفساني، نُلاحظ أنَّ المراد من ماء وجه الإسلام والتشيّع هو ماء وجهنا نحن، ونزول شخصيّتنا وشؤونّنا الإجتماعيّة نحن، لا ماء وجه الدين والشريعة؛ إذ للشريعة والدين متولّيًا وصاحبًا هو الله تعالى وعبده الخالص الوليّ الحيّ والممسك بزمام عالم الوجود، إمام العصر أرواحنا فداه؛ فمن نحن لنتدخل في ساحة ولايته وحريم قيادته، ونُجلِس أنفسنا على مسنده ومقامه؛ وما شأننا إذا تمّ توهين دينه أو أصبح متعاليًا؟!

  • حبّذا لو يأتي محكّ التجربة

  • ومن هنا يمكن إدراك العديد من المسائل ويتّضح الهدف والمحرك للعديد من الظواهر والنوايا المختبئة خلف الستار، ومن العبارات التي تُستعمل في هذه المجال، والتبريرات التي تُعطى للنّاس بالنسبة لتصرّفاتهم وأقوالهم.

  • حبّذا لو يأتي محكّ التجربة

  • خوش بود گر محک تجربه أید به میان***تا سیه روی شود هرکه در او غشّ باشد۱
  • [يقول: حبّذا لو يأتي محكّ التجربة، لكي يسوَدَّ وجه كلّ كاذبٍ منافقٍ غشّاشٍ].

  • سيأتي يومٌ ـ سواءً في هذه الدنيا أم في الآخرة ـ وسيُكشف النقاب عن نوايانا وأهدافنا وميولنا وأعمالنا الخفيّة؛ وسيظهر جليًا كالشمس الساطعة ويتبيّن للجميع ماذا يوجد خلف الكلمات العذبة والتعابير الخادعة والابتسامات والملاطفات وخلف حركات العوام المُحبّبة، وما هي النوايا السيئة وكم كان هناك من أنانيّة والازدواجيّة وكم هي السِير والأحداث المنافقة.

    1. ديوان حافظ.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

23
  • فما الذي حدث بحيث جعلنا لا نُريد أن ننقل للنّاس كلّ ما وصلنا من ناحية الله على لسان الرسول والمعصومين وأن لا ننقله كما هو وكما تمّ بيانه بدون زيادة أو نقيصة، وبدون تفسيرٍ أو تأويلٍ أو تغييرٍ أو تبديلٍ؟ ألم يحن الوقت لأن نعود إلى أنفسنا وأن لا نسلك الطريق التي سلكها إخواننا من أهل العامّة حيث أمضوا السنوات والسنوات حائرين ضائعين منغمسين في الخراب والضلالة؟! فهل نحن بحاجةٍ إلى تجربتهم المريرة والمؤلمة والموبقة، لنواجه مصيرهم؟!

  • فذلك العالم الديني رغم أنّ يعلم بالرجحان المؤّكد وبرضا الشارع بالتفريق بين الصلوات اليوميّة، إلّا أنّه يحكم من أجل مخالفة العامّة برجحان الجمع بين الصلوات كي يتحقّق بذلك التمايُز بين الشيعة وأهل السنّة، فما الإجابة التي يمتلكها ليُقدمها لصاحب الشريعة وإمام الزمان؟!

  • فلو سأل إمام الزمان: هل أنت صاحب الاختيار في الشرع؟ وهل أنتَ مبسوط الإرادة في التدخّل والتصرّف فيه، كي تغير حكم الله على خلاف السنّة النبويّة وسيرة الأئّمة المعصومين عليهم السّلام فقط من أجل مخالفة العامة؟ فما الجواب الذي يستطيع أن يقدّمه له؟!

  • وإذا سأله الإمام: ألا تعتقد أنّك بفتواك المخالفة للسنّة تكون قد هيأتَ موجبات توهين مدرسة التشيّع مقابل مذهب العامّة مما أدّى إلى سخريتهم وانتقادهم، وسلّمتَ ذريعة بيد أعداء أهل البيت عليهم السّلام؟! فهل هذا هو المعنى والمراد من حراسة مدرسة أهل البيت عليهم السّلام؟! وألا تُهيّء هذه الفتوى مقدمات البُعد بين الطرفين، ونشوء الأفكار المخالفة وسوء الظنّ بالتشيّع بين العامّة؟!

  • الوظيفة الأساسيّة لكافة الأمّة الإسلاميّة وخصوصًا الزعماء والمتصدّين هي التبليغ

  • بناءً على ذلك، فإنَّ الوظيفة الأساسيّة لكافة الأمّة الإسلاميّة وعلى الخصوص للزعماء والمتصدّين لتبيين مباني الشرع، هي الرعاية الدقيقة والعناية الوسواسيّة في إجراء التكاليف والقوانين المدنيّة والإجتماعيّة والشخصيّة من جانب حاملي لواء مدرسة الحقّ، كي لا يَحرموا في هذا المقام الأشخاص المستعدّين لتقبّل التعاليم الدينيّة والأخلاقيّة، فيبوا عن اتّباع مباني الشرع والأوامر الإلهيّة؛ وكي لا نندم ولا نكون مسؤولين في تلك الدنيا في محضر العدل الإلهيّ بأنّه لماذا حرمتمونا من فهم هذه المسائل ومعرفتها، ولم تبيّنوا لنا ما يُشكّل حاقّ الدساتير وواقع مباني الوحيّ ولماذا حرمتمونا من الوصول إلى الفعليّة الغائيّة من الخلقة؟

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

24
  • ينبغي أن تكون رؤية مبلغي الدين ونظرهم مبنيّةً فقط على أساس التوحيد وأداء التكليف الإلهي وحسب؛ وأن لا يدعوا مجالًا للافتراء والانتقاد وسخرية الآخرين منهم، وعليهم أن يضعوا الآية الشريفة: ﴿وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِم‌﴾۱ نصب أعينهم في جميع تصرّفاتهم وحركاتهم وسكناتهم دومًا، وأن يُوكلوا مسؤوليّة قوّاميّة الشرع والدين لصاحبها الأصليّ، الإمام الحيّ المعصوم عجّل الله فرجه الشريف، ولا يُجلسوا أنفسهم مكانه وعلى مسنده، فلا يكون ذلك سببًا لخجلهم وحيائهم في الدنيا وعقوبةً في الآخرة.

  • أمير المؤمنين: صلاح أمور المجتمع، في الابتعاد عن الاختلاط بين الرجال والنساء

  • يرى أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته هذه أنَّ صلاح أمور المجتمع تكمن في البعد عن الاختلاط بين الرجال والنساء؛ ويرى أنّ أمان المجتمع قائمٌ على رعاية هذا الأصل الأساسي، ويعتقد أنّ تربية النفس وتزكية الروح يحصلان في ظلّ الأمان الأخلاقيّ ورعاية العفاف والحجاب، ويعتقد أنَّ راحة البال وسكينة الخيال وراحة الضمير تحصل في البعد عن مظاهر الشهوة والتهيّج وفي الابتعاد عن العلاقات المُدمّرة للجوّ الروحاني والنوراني للأشخاص وللمحيط.

  • فالنفوس إنّما تتمكّن من الوصول إلى مراتب الفعليّة وارتقاء مراحل الغيب والمعرفة في هذه الأجواء والظروف، فإنّ تحصيل مراتب المعرفة ونيل الكمالات المعنويّة في الظروف غير المناسبة وغير الملائمة أمرٌ صعبٌ جدًا أو ممتنع.

  • شُبهة عالقة في بال البعض فيما يتعلّق بالعلاقات غير الصحيحة

  • قد يعتقد البعض أنَّ الاختلاط في العلاقات بين المرأة الرجل والتعامل بينهما في حدود الكلام والعشرة لن يتسبّب بأي مشكلةٍ في تفكيرهم أو تصرّفاتهم، ولن يتشكّل أيّ تصورٍ خاصٍّ في ذهنهم وضميرهم، ولن يجلب أي شعورٍ غير اعتيادي إلى مشاعرهم، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل هم ملتزمون بأمورهم اليوميّة من قبيل العبادات والمسائل المعنويّة حيث يقومون بها في موطنها،‌ وليس لديهم أي شعور بالكدورة في مثل هذه العلاقات، ولذا ينخرطون بالحديث والمزاح في المجالس المختلطة، ويجلسون سويةً على سفرة الطعام ويقومون بتبادل السؤال عن أحوال بعضهم وبيان القضايا والشؤون العاديّة في محادثاتهم الهاتفيّة، وفي نفس الوقت لا يصدر عنهم أي مسألة خارجة عن العرف ولا أيّ حادثةٍ بعيدة عن الشؤون الأخلاقيّة؛ وبالتالي كيف جاء الأمر في هذه الوصيّة بالاحتراز عن التعامل وتبادل أطراف الحديث والعلاقات العاديّة؟!

    1. سورة المائدة (٥)، مقطعٌ من الآية ٥٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

25
  • الإجابات الثلاث على هذه الشبهة

  • ينبغي أن نقول في الإجابة ما يلي: إنَّ خلقة الإنسان والغرائز الكامنة فيه تسعى بذاتها ومن تلقاء نفسها للارتباط والتعلّق والاتجاه نحو الجنس الآخر، ولا فرق في هذه المسألة بين المرأة والرجل، رغم أنّه في بعض المواطن تكون هذه الميول أقوى عند الرجل بسبب بعض الأولوليّات والمُرجّحات، كما أنّها تكون في بعض المواطن بالعكس أيضًا، ولا يمكن لأحدٍ أن يُنكر هذا الأمر؛ لأنّ وجود هذه المسألة من البديهيّات والضروريّات الثابتة في نظام الخلقة.

  • ذرّه ذرّه کاندر این ارض و سماست***جنس خود را هچو کاه و کهرباست۱ 
  • [يقول: كلّ ذرّة في الأرض والسماء تجذب نظائرها كما تجتذب الكهرباء القشّ].

  • وينبغي أن نُضيف إلى هذه النقطة أنَّ الحالات الشخصيّة للأفراد واقتضاء المُقتضيات الجسميّة والروحيّة للشخص ليست واحدةً في كافّة الأوقات والأماكن والظروف وليست بنحوٍ واحدٍ وعلى منوالٍ واحد وباتجاهٍ واحدٍ، وكثيرًا ما يحصل أن لا يملك الإنسان في ظروفٍ خاصّةٍ الجهوزيّة الروحيّة اللازمة للتعامل مع الجنس الآخر، ولا يرى في نفسه ميلًا لتبادل الحديث أو التواصل، ولكن نفس هذا الشخص قد يكون في ظروفٍ أخرى متشوّقًا وراغبًا في هذا الموضوع، وعلى هذا الأساس، فإنَّ الإجابة على الإشكال سيتضح بنفسه؛ لأنّه:

  • أولًا: مع وجود الغرائز الكامنة والميول المخفيّة، من الممكن جدًا أن يفتح هذا الارتباط نافذةً في الذهن والنفس لدى الطرفين أو لدى أحد الطرفين رويدًا رويدًا وبصورةٍ غير واضحةٍ وغير معلنةٍ نحو دخول الخواطر والتصوّرات والتخيّلات غير المناسبة، وبعد مُضيّ زمانٍ تُسيطر هذه التخيّلات والتصوّرات بصورةٍ ثابتةٍ وراسخةٍ على فضاء القلب والذهن؛ فتستولي على قلب الشخص بالإكراه وتُصبح هي صاحب الدار ثمّ تطرد الجوّ الروحاني وسكينة الخيال والراحة من المتاعب من داخل هذا الفضاء؛ وهنا يكون السيف قد سبق العذل، إذ يُصبح الشخص بكافّة ميله ورغبته وفكره واعتقاداته العقلانيّة والشرعيّة والإجتماعيّة والفطريّة تحت تسخير وسيطرة هذه القوى وصاحب الدار الجديد.

    1. المثنوي المعنوي، الدفتر السادس.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

26
  • وقد صادفتُ بنفسي العديد من الحالات التي من هذا القبيل، وذلك في أفرادٍ مختلفين وأصناف متنوّعة، وينبغي الإذعان أنَّه لا فرق في هذه المسألة بين العامّي والعالم، ولا بين الأمّي والمتعلّم وغيرهم؛ لأنَّ الظروف والغرائز والصفات الباطنيّة والميول الكامنة ليست بيد الشخص، وسيكون محكومًا باتّباعها واقتفاء أثرها في هذه الحالة.

  • ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

  • «النَّظرَةُ سَهمٌ مِن سِهامِ إبلیسَ».۱

  • يعني: «النظر إلى وجه المرأة، مثل سهمٍ من سهام الشيطان التي تُصيب قلب الآدمي، فيوقفه عن العمل ويُدمّره».

  • في أحد الأيام أتى شابٌّ إلى محضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال:

  • يا رسول الله! ما الذي يحدث لنا بحيث عندما نكون في محضرك ونستمع إلى كلماتك ونصائحك وإلى بيان معارفك، فإنّنا نشعر بحالة الجذبة والروحانية ونشعر في أنفسنا وكأنّنا نطير في السماء وليس لدينا أيّ تعلّقٍ بالأرض وبأهلها، ونُشاهد أنفسنا في فضاءٍ خاصٍّ من الروح والريحان والمعنويّة، ولا نرغب في الخروج من هذا الجوّ والفضاء أبدًا، ونريد باستمرار أن نبقى في هذه الجذبة الروحانيّة والنفحة الرحمانيّة؛ ولكن بمُجرّد أن نترك محضرك وندخل إلى الطرق والمناظر العامّة، وتقع أعيننا على امرأةٍ، فإنّنا نخسر تلك الحالة والرغبة والنشاط وتلك الروحانيّة التي اكتسبناها، وفجأةً تزول ثمّ نُعاود الانغماس في هذه الدنيا، ونتنزّل من هذه المرتبة ومن تلك المنزلة إلى حضيض الكثرات والشهوات والنفسانيّات؟!

    1. من لا يحضره الفقيه، ج ٤، ص ۱۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

27
  • فقال النبيّ: لو أنّكم تثبتون على هذه الحالة مدّةً، لرأيتم ما أرى! ولسمعتم ما أسمع!۱

  • ثانيًا: على فرض أنّ الإنسان يستطيع السيطرة على نفسه، وعلى ميوله، ولن تكون لهذه العلاقات أيّ تأثيرٍ على أفكاره وخيالاته، وأنّه يستطيع أن يُكمل سيره التكامليّ وحركته الصعوديّة وهو في هذه الحالة وفي وضعه الثابت المستقرّ، ولكن هل يستطيع أن يدفع آثار هذا النحو من الارتباط عن الطرف المقابل أيضًا؟

  • ولذلك في المواطن التي يؤدّي فيها عمل الإنسان إلى وقوع شخصٍ آخر في المعصيّة فيرتكب فعلًا حرامًا، فإنّ ذلك الفعل يكون حرامًا على الإنسان نفسه أيضًا.

  • على سبيل المثال، يقولون: إنَّ ستر البدن بتمامه غير لازم للرجل ويجب تغطية مواضع الحرمة فقط، ويستطيع الإنسان أن يظهر في الشوارع وخارج المنزل حتّى بدون أن يستر كافّة بدنه. وهذه المسألة غير تامّة، بل تصحّ في حال لم يقع نظر المرأة غير المَحرَم على بدن الرجل؛ وفي غير هذه الحالة يجب على الرجل أن يستر بدنه؛ لأنَّ المرأة وبسبب النظر إلى بدن الرجل سترتكب فعلًا حرامًا؛ وكان سبب ذلك هو عدم مراعاة الرجل للحشمة.

    1. الكافي، ج ٢، ص ٤٢٣:
      «عَلِيٌّ بنُ إِبراهيمَ، عَن أَبيهِ وعِدَّةٌ مِن أَصحابِنا، عَن سَهلِ بنِ زيادٍ ومُحَمَّدُ بنُ يَحَيى، عَن أَحمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ جَميعًا، عَنِ ابنِ مَحبوبٍ، عَن مُحَمَّدِ بنِ النُّعمانِ الأَحوَلِ عَن سَلّامِ بنِ المُستَنيرِ، قالَ: كُنتُ عِندَ أَبي جَعفَرٍ علیه السّلام فَدَخَلَ عَلَیهِ حُمرانُ بنُ أَعيَنَ وسَأَلَهُ عَن أَشيَاءَ فَلَمّا هَمَّ حُمرانُ بِالقيامِ قالَ لِأَبي جَعفَرٍ علیه السّلام: «أُخبِرُكَ أَطالَ اللَّهُ بَقاءَك لَنا وأَمتَعَنا بِكَ أَنّا نَأْتيكَ فَما نَخرُجُ مِن عِندِكَ حَتَّى تَرِقَّ قُلوبُنا وتَسلُوَ أَنفُسُنا عَنِ الدُّنْيا ويَهونَ عَلَينَا ما في أَيدي النّاسِ مِن هَذِهِ الأَموَالِ ثُمَّ نَخرُجُ مِن عِندِكَ فَإِذا صِرنا مَعَ النّاسِ والتُّجّارِ أَحبَبنا الدُّنْيا».
      قالَ: فَقالَ أَبو جَعفَرٍ عليه السّلام: ”إِنَّما هِيَ القُلوبُ مَرَّةً تَصعُبُ ومَرَّةً تَسهُلُ“ ثُمَّ قالَ أَبو جَعفَرٍ عليه السّلام: ”أَما إِنَّ أَصحابَ مُحَمَّدٍ صلّى الله علیه وآله قالوا: يا رسولَ اللَّهِ نَخافُ عَلَينا النِّفاقَ. قالَ فَقالَ: و لِمَ تَخافونَ ذَلِكَ؟ قالوا: إِذا كُنّا عِندَكَ فَذَكَّرتَنا ورَغَّبتَنا وَجِلنا ونَسينا الدُّنْيا وزَهِدنا حَتَّي كَأنّا نُعايِنُ الآخِرَةَ والجَنَّةَ والنّارَ ونَحنُ عِندَكَ فَإِذا خَرَجنا مِن عِندِكَ و دَخَلنا هَذِهِ البُيوتَ وشَمِمنا الأَولادَ ورَأَينا العيالَ والأَهلَ، يَكادُ أَن نُحَوَّلَ عَنِ الحالِ الَّتي كُنّا عَلَيها عِندَك و حَتَّى كَأَنّا لَم نَكُن عَلَی شَيءٍ. أَفَتَخافُ عَلَينا أَن يَكونَ ذَلِكَ نِفاقًا؟
      فَقالَ لَهُم رَسولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله: كَلّا إِنَّ هَذِهِ خُطوَاتُ الشَّیطانِ فَيُرَغِّبُكُم في الدُّنْيا واللَّهِ لَو تَدومونَ عَلَی الحالَةِ الَّتي وَصَفتُم أَنفُسَكُم بِها لَصافَحَتكُمُ المَلائِكَةُ ومَشَيتُم عَلَی الماءِ ولَو لا أَنَّكُم تُذنِبونَ فَتَستَغفِرونَ اللَّهَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلقًا حَتَّى يُذنِبوا ثُمَّ يستَغفِروا اللَّهَ فَيَغفِرَ اللَّهُ لَهُم. إِنَّ المُؤمِنَ مُفَتَّنٌ تَوّابٌ. أَمَا سَمِعتَ قَولَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرين‌}* و قالَ: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه‌}.**»
      سورة البقرة (٢)، ذيل الآية ٢٢٢.
      **سورة هود (۱۱)، صدر الآية ٣. (م)

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

28
  • ثالثًا: إنَّ هذا التصوّر بأنّه لا تأثير أبدًا للعلاقة بين المرأة والرجل على أفكار الطرفين وخلقهم وسلوكهم أمرٌ باطلٌ؛ لأنَّه في العديد من المواطن قد يرتكب الإنسان خطأً في تشخيصه، فلا يفهم أنَّ هذه الحالة مضرّةٌ له وتُؤدّي إلى إيقافه عن الحركة وإلى ركوده.

  • نموذجان عن استتار المرض في الإنسان

  • ونظير هذه المسألة قد يقع في المسائل الفيزيائيّة والجسمانيّة للإنسان؛ فمثلًا: إنّ دفاع البدن مقابل دخول المرض أو الإحساس بالألم، يُنبّه الإنسان على وقوع مثل هذا الخطر، وقبل أن يضعف العضو يُرسل الجهاز العصبيّ التنبيه اللازم عبر الشعور بالألم فيتّجه ذهن الإنسان نحو العلاج مباشرةً، ولكن في بعض الأحيان لا يجري الأمر على هذا النحو؛ كما في السنّ إذ كثيرًا ما لا يلتفت الإنسان إلى مدى تآكل السنّ وزوال الجدار الداخلي للسن خلال تسوسه، وبعد أن يمضي وقتٌ يكون السيف قد سبق العذل فيفسد عصب السنّ.

  • نموذجٌ آخر في الجسم، إنّ (التنظيم الذاتي الدماغي)۱ في الجهاز العصبي هو المسؤول عن تنظيم ضغط الدمّ والتحذير من ارتفاع ضغط الدمّ أو انخفاضه، ولكن في بعض الحالات، لا يعمل هذا المنبّه ويَعرُض للإنسان عارضُ فرطِ ضغط الدم على الشخص المريض أو بعبارة أخرى: القاتل الخفي٢، ويظنّ المريض نفسه شخصًا سالمًا خاليًا عن أيّ عارضٍ؛ ولذلك لا يُقدم على علاج ذلك، وبالنتيجة يُبتلى بعوارض مرضه.

  • علّة حرمة السكن في بلاد الكفر

  • ولذلك عندما قال الأعاظم: إنّ السكن في بلاد الكفر حرامٌ، فلأجل هذا السبب؛ يعني: لا يلتفت الإنسان في أغلب الأحيان أثناء إقامته في بلاد الكفر وابتعاده عن الجوّ المعنويّ والروحاني للإسلام وغلبة جوّ الكفر، إلى التحوّل والتغيّر في صفاته وحالاته النفسانيّة، ولا يظنّ أنّ نفسه تأثّرت بالثقافة والأوضاع الغالبة هناك؛ ويتصوّر أنَّه بمجرّد أداء الصلاة والصوم ومساعدة المحتاجين وإتيان الحجّ ودفع الحقوق الشرعيّة، لم يتطرّق أيّ خللٍ أو نقصان في مذهبه وعقيدته وسلوكه، وأنَّه سيؤدّي التكاليف كما يرضى الله.

    1. Autoregulation.
    2. Silent Killer.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

29
  • وقد حصلت هذه المسألة مع العديد من الأشخاص المرتبطين مع كاتب هذه السطور، رغم أنَّ الإنسان في مثل هذه الظروف حتّى لو لم يتراجع القهقرى ولم تتبدل أوصافه الحسنة إلى الرذائل، إلّا أنّه سيكتسب بالتدريج صبغة ثقافة الكفر في صفاته وخصاله الأخلاقيّة وسلوكه المعنويّ، وستصبح أعماله وسلوكياته وعباداته كالخشب الجاف فقط، وستكون بلا أيّ تأثيرٍ معنويٍّ ولا جذبة روحانيّة؛ ولا يطرف طرفةً من العمر إلّا ويجد أنّ رأسمال الوجود قد مضى ويجد أنّ صحيفة عمره انقضت بطلانًا وعبثًا، ويعود إلى ذلك العالم خائبًا خاسرًا خالي الوفاض بدون تحصيل أيّ نتيجةٍ.

  • إيجاد بيئةٍ مناسبةٍ لتحصيّل الأمان الأخلاقيّ والتوازن الروحيّ هي وظيفة الجميع

  • ولذلك، فإنّ وظيفة كلّ فردٍ فردٍ، وخصوصًا الحكومة الإسلاميّة في المجتمع الإسلاميّ، هي إيجاد مثل هذا الفضاء وإيجاد هذا الجوّ لتحصيل الأمان الأخلاقي والاعتدال الروحيّ؛ جوٍّ وفضاءٍ حيث يستطيع كلّ فردٍ مكلّفٍ وعاقلٍ أن ينال أعلى مرتبةٍ من مراتب الكمال الإنسانيّ والمعرفة الربوبيّة، ولا يقع أيّ مانع أو رادعٍ في طريق وصوله إلى هذه الغاية القصوى.

  • رغم أنّ هذه الوصيّة موجّهةٌ بحسب الظاهر إلى الابن البار الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، ولكن من الذي لا يعلم أنّ مراد الإمام عليه السّلام ومقصوده لا ينحصر بالإمام المجتبى عليه السّلام؟! بل هي تشمل جميع شيعته ومواليه، بل أبعد من ذلك، إنَّها تشمل جميع أهل الدنيا الذين غايتهم وهدفهم في هذه الدنيا الحياة العقلانيّة في ظروفٍ مناسبةٍ وفي جوٍّ من الأمان وطمأنينة النفس وفراغ البال.

  • وصايا أمير المؤمنين وكلام هي لكافّة الأعصار والأمصار

  • وكما ذكر في آخر وصيّةٍ له حيث أوصى بها في آخر ساعات حياته، وقال ما يلي:

  • «أُوصيكما وجميعَ وُلدي وأهلي ومَن بَلَغَه كِتابي بتَقوَى الله ونَظمِ أمرِكم ...»۱

  • يعني: «أوصيكما أنتما الاثنين (الحسن والحسين) وجميع أبنائي وأهلي وكلّ شخصٍ بلغته وصيّتي ورآها أو سمعها أو قرأها،‌ بتقوى الله وتنظيم أموركم».

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ۸٥.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

30
  • وهذا الأمر واضحٌ تمامًا أيضًا في العهد الذي كتبه الإمام عليه السلام لمالك الأشتر، فهو كان يعلم أنَّ ناصره ومعينه مالك الأشتر سيستشهد في وسط الطريق [إلى مصر] مسمومًا بيّد رجال معاوية، فكيف يدوّن مثل هذا العهد له؟! إنّ هذا العهد الذي هو بشهادة جميع الخبراء وأرباب السياسة ومدوّني القوانين الاجتماعيّة والسياسيّة لم يُكتب نظيره إلى الآن في جامعيته وشموليته.

  • وسرّ هذه المسألة أنَّ الإمام عليه السّلام أبٌّ ومربيّ وهادي والآخذ بيد كافّة أفراد بني آدم إلى يوم القيامة؛ وقد ألقيت هذه المسؤوليّة على عاتقه؛ لأنّه وصل إلى مرتبة العصمة المطلقة وكلامه يتّصف بالأبديّة والدوام، وبالتالي ينبغي أن يكون لديه إحساسٌ بالمسؤوليّة والتكفّل لجميع الأفراد سواءً عاشوا في زمان حياته أم أولئك الذين سيأتون إلى صحن الوجود إلى يوم القيامة؛ وهذه هي الوظيفة التي ألقاها الله على عاتق الإمام المعصوم عليه السّلام فقط وفقط، وليس على عاتق شخصٍ آخر وإن بلغ المراتب العليا من العلم والاطّلاع والتجربة.

  • ولهذا السبب كانت وصيّة الإمام عليه السّلام أبديّة، ولذلك دوّنت لكلّ شخصٍ يضع قدمه في هذه الدار ولكلّ شخصٍ مُهرت ماهيته بهوية التشخص والوجود.

  • كيفيّة مخاطبة أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام في هذه الوصيّة

  • والمسألة الأخرى التي ينبغي الاهتمام بها، هي كيفيّة مخاطبة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام؛ فكما يبدو جليًا من لحن الخطاب في هذه الوصيّة، رغم أنّ الإمام عليه السّلام لم يُصرّح بابنٍ خاصٍّ من خلال عبارة:«إلى المَولودِ المُؤمِّل ما لا يُدرِك»۱؛ ولذلك فإنَّ البعض وبالاستناد على بعض الأدلّة، يرون أنّه كانت موجّهةً إلى محمّد بن الحنفيّة الابن الآخر للإمام عليه السلام، ويعتبرون أنَّ الموصى من قبل الإمام عليه السّلام في هذا المكتوب هو محمّد بن الحنفيّة؛ في حين أنّ مقتضى العرف هو مراعاة جانب المسائل العرفيّة من قبيل الأولويّة في السنّ والأولويّة في النسب وسائر خصائص الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام.

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٣، ص ٤٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

31
  • كلمات أمير المؤمنين وباقي الأئمة عليهم السّلام في مثل هذه المقامات لا تنافي مقام عصمتهم

  • إنَّ المسألة التي يعتمدون عليها كي يتصوّروا مثل هذا التصوّر هو ما يلي: إنَّ بعض العبارات [الواردة فيها] من قبيل: «عَبدِ الدُّنيا وتاجِرِ الغُرور»، ومثل: «صَريعِ الشّهَوات»، لا تتماشى مع مقام الإمام عليه السّلام والعصمة المطلقة، وبالتالي فإمّا أنّ المقصود من المولود في هذه الفقرات هو ابنٌ آخر له وهو جناب محمّد بن الحنفيّة، وإمّا يجب إخراج هذه الفقرات عن معانيها الأصليّة والوضعيّة، وتوجيهها بتوجيهاتٍ وتأويلاتٍ ومجازات، وتحديد معنى مغاير لمفاهيمها الواقعيّة.

  • وبالطبع مع غضّ النظر عن أنَّ مثل هذه النظرة في حدّ نفسها بعيدةٌ عن شؤون مباني المحاورة وقواعد الأدب [العربي]، فنظرًا لخصوصيّة المقام حيث الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام من جهةٍ وابنه النجيب الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام من جهةٍ أخرى، فإنَّه سيكون غير مناسبًا وأكثر توهينًا وبعدًا عن التعقّل والتأمّل؛ لأنَّ اقتضاء مقام الإمامة في الإمام المجتبى عليه السّلام تتناقض مع أصل هذه التعابير، سواءً حُملت على معناها الأصلي أم تمّ توجيهها وتأويلها؛ لأنَّ نفس استعمال اللفظ موجبٌ للتوهين وهتك حرمة الإمام، وصدور هذه المسألة عن الأفراد العاديين أمرٌ مستهجنٌ، فما بالك لو صدرت عن إمامٍ معصومٍ مثل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

  • وعلاوةً على ذلك، هل تختصّ هذه العبارات بهذه الوصيّة؟! فإذا كان الإمام عليّ عليه السّلام قد خاطب ابنه الذي لم يصل بنحوٍ رسميٍّ لمرتبة الولاية والإمامة بعد بهذا الخطاب واستعمل مثل هذه الكلمات والعبارات، فماذا ستقولون في فقرات دعاء أبي حمزة الثمالي حيث يخاطب الإمام السجاد عليه السّلام ربّه في أثناء تصدّيه لمرتبة الولاية المطلقة والإمامة الكليّة، فيقول:

  • «أنَا الّذي عَلَى سَيِّدِه اجتَرَى، أنَا الّذي عَصَيتُ جَبّارَ السَّماءِ، أنَا الَّذي أعطَيتُ عَلَى مَعاصي الجَليلِ [المَعاصي جَليلَ] الرُّشا».

  • يعني: «أنا الشخص الذي تجرّأ وتجاسر على مولاه وسيّده،‌ أنا الذي واجهتُ وقابلتُ ربّ السماء مع هيمنته وجبروته، أنا ذلك الشخص الذي دفعتُ الرشوة من أجل الوصول إلى المعاصي الكبيرة!».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

32
  • وهل يمكن القول: إنَّ الإمام المعصوم عليه السّلام يُقدم على مثل هذه الفواحش والذنوب؟! أو هل يُمكن أن نتصوّر بأنّ الإمام عليه السّلام قصد من هذه الألفاظ والعبارات معاني أخرى غير معناها ومفهومها الوضعي والأصلي؟!

  • أو كما نقرأ في مناجاة أمير المؤمنين عليه السّلام في مسجد الكوفة:

  • «مَولايَ يا مَولايَ، أَنتَ الجَوادُ وأَنَا البَخيلُ وهَل يَرحَمُ البَخيلَ إِلّا الجَوادُ ... مَولايَ يا مَولايَ، أَنتَ الهادي وأَنَا الضّالُّ وهَل يَرحَمُ الضّالَّ إِلّا الهادي ... مَولايَ يا مَولايَ، أَنتَ الغَفورُ وأَنا المُذنِبُ وهَل يَرحَمُ المُذنِبَ إِلّا الغَفورُ».

  • من الطبيعي أنّ تصوّر البخل أو الضلال أو صدور الذنب من الإمام المعصوم عليه السّلام محالًا وممتنعًا، سواءً شاء أن يُخاطب النّاس أم يناجي الله، ففي كلّ الأحوال، المحال محالٌ، ولا فرق في ذلك.

  • التوجيهات الخاطئة للبعض في مقام الدفاع عن عصمة أهل البيت عليهم السّلام

  • قال البعض: إنَّ الإمام عليه السلام قد استخدم هذه العبارات والكلمات في مقام الخضوع والخشّوع والمسكنة مقابل الله تعالى، وبعد أن انكشفت له عظمة حضرة الحقّ وجلاله وكبريائه، اعتبر نفسه متّصفًا بالصفات الرذيلة، وخاطب إلهه بهذا الخطاب.

  • ويبدو لنا أنّ هذا التبرير غير مُبرّر وغير مناسب، بدليل:

  • أوّلًا: كلّ ذنبٍ أو طاعةٍ لهما حكمٌ وتكليفٌ من الله، ولهما مفهومٌ خاصٌّ وحدودٌ معيّنةٌ، فهما يختلفان عن بعضهما من هذه الناحية، هذا على الرغم من أنَّ تركهما أو إتيانهما سيجعل المكلّف إمّا يحصل على الثواب أو العقاب على قدم المساواة.

  • مثلًا‌:‌ حقيقة الصلاة تختلف عن الصوم على الرغم من كون كلّ واحدٍ منهما واجبًا وإلزاميّاً؛ أو مثلًا: حقيقة شرب الخمر تختلف عن الرشوة للحصول على الأمور المذمومة، رغم أنَّ كليهما حرامٌ ويستوجب فاعلهما العقاب، ومن هنا، كيف يُمكن للإمام عليه السّلام أن يخاطب الله في الوقت الذي لم يشرب فيه الخمر ويقول: إلهي، لقد شربتُ اليوم الخمر؟! فهذا الكلام سيكون كذبًا محضًا؛ حتّى لو صدر من باب التواضع وبنية استحقار النفس والاستخفاف بها.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

33
  • مثلًا: لو كان الإمام زين العابدين عليه السّلام المنسوب لوالده الإمام سيّد الشهداء عليهما السّلام؛ يخاطب الله قائلًا: إلهي، والدي هو فلان العربيّ البدويّ الساكن في الصحراء، ومراد الإمام من ذلك التواضع والاستخفاف بنفسه، فهل هذا العمل صحيح ومقبول؟ كلّا، بل هذا كذبٌ وحرامٌ؛ لأنّه قلبٌ للواقعيّات، وقلب إحدى الواقعيّات حرامٌ عقلًا وعرفًا وشرعًا وهو أمرٌ باطلٌ؛ حتّى لو كان من باب التواضع.

  • ثانيًا: يستطيع الإمام عليه السّلام إظهار العجز والمسكنة والذلّة مقابل كبرياء الله وجلاله، ولا داعي لاستعمال هذه التعابير بحيث يتسبّب في حصول الشبهة وتشويش الأذهان ووقوع الشكّ بين الناس حول حقيقة الولاية؛ وهذه النقطة مشهودة في كثيرٍ من الأدعية والآثار المأثورة عن الأئمّة عليهم السّلام.

  • وقال البعض أيضًا: إنّ مُراد الإمام عليه السّلام عند مقام التكلّم ليس شخصه هو؛ بل أراد أن يضع نفسه نائبًا عن باقي الأشخاص والمذنبين وأن يقوم بمناجاة الله من طرفهم وبالنيابة عنهم؛ مثل الحاكم والسلطان الذي على ارتباط مع باقي الأمم والدوّل، ويعتبر نفسه نائبًا عن أُمتّه وشعبه ويُلقي كلامه إلى المخاطبين بنحو الحكاية عن كلام الأمّة.

  • وهذا التبرير غير مقبول أيضًا؛ لأنّه:

  • كيف للشخص الذي يعتبر نفسه مُبرّأً عن هذه الأوصاف أن يعتبر نفسه من خلال هذه التعابير أنّه داخلٌ في زمرة أهل الفسق والفجور؟ فالمتكلّم في مقام النيابة عن فردٍ أو أفرادٍ يكونون مشتركين في جهةٍ أو جهاتٍ متعدّدةٍ في العنوان والصِفة، إذا كان غير متّصفٍ ولا مُعنونٍ بتلك الجهة أو تلك الجهات، لا يجب أن يتحدّث بطريقة تجعل مخاطبه يعتبره موافقًا لرأيهم وأنّ مرامه ومرامهم واحدٌ وأنّهم مُتفقون في السليقة؛ وما ذُكر في هذه العبارات مُعاكسٌ لهذا الأسلوب تمامًا. ولو أنّه اعتبر نفسه في مقام النيابة داخلًا في زمرة الآخرين وعدّ نفسه من ضمنهم، سيبقى الإشكال والنقد مطروحًا هنا أيضًا؛ كما تمّ مراعاة هذه النقطة في العديد من الأدعية المأثورة عن المعصومين عليهم السّلام؛ على سبيل المثال في مناجاة ودعاء صاحب الأمر عجّل الله فرجه الشّريف، يُخاطب الله قائلًا:

  • «اللَّهُمَّ إِنَّ شِيعَتَنَا خُلِقَتْ مِنْ شُعَاعِ أَنْوَارِنَا وَبَقِيَّةِ طِينَتِنَا، وَقَدْ فَعَلُوا ذُنُوباً كَثِيرَةً اتِّكَالًا عَلَى حُبِّنَا وَ وَلَايَتِنَا فَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فَقَدْ رَضِينَا وَمَا كَانَ مِنْهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَأَصْلِحْ بَيْنَهُمْ وَ قَاصَّ بِهَا عَنْ خُمُسِنَا وَ أَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ وَ زَحْزِحْهُمْ عَنِ النَّارِ وَ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ أَعْدَائِنَا فِي سَخَطِكَ!».۱

    1. بحار الأنوار، ج ٥٣، ص ٣۰٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

34
  • فهنا نلاحظ أنَّ الإمام عليه السّلام في مقام الشفاعة لأمته المذنبة، ونلاحظ كيف يتجاوز عن أعمالهم وسلوكهم، ويطلب من الله سبحانه وتعالى أن يثقل كفّ حسنات الأمّة بشفاعته.

  • وقد وجّه البعضُ الأمرَ بهذا النحو: إنَّ مراد الإمام عليه السّلام من هذه التعابير هو جنبة تعليم الأشخاص وتربيتهم، لا أنَّه هو نفسه مُتّصفٌ بهذه الأوصاف، وذلك بهذا النحو: يجب على الإنسان المذنب في مقام العجز والاستغاثة وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى يجب عليه أن يُفكّر في ذنوبه وأن يُخاطب الله بحالةٍ من الإنابة والمسكنة والشعور بالخطأ؛ وأن يسأله الرحمة والرأفة؛ وبالطبع فإنَّ كلّ إنسانٍ سيكون مرتكبًا لذنبٍ خاصّ وخطأ مُعيّنٍ في حدود التصرّفات والأعمال التي صدرت عنه، والإمام عليه السّلام إنّما نبّه على بعض هذه المعاصي في هذه الفقرات من باب المثال والنموذج؛ وإلّا يجب على السارق الاعتراف بالسرقة وعلى الكاذب أن يعترف بكذبه وهكذا....

  • هذا التوجيه والتبرير أكثر وهنًا ممّا سبق، ولا أساس له أكثر من باقي التبريرات السابقة؛ إذ كيف تنسجم حالة الإمام عليه السّلام وكيفيّة التجاءه وابتهاله وبكائه و إنابته مع هذا التوجيه؟! فهل الإمام مثل المُمثلين الذين يُمثّلون ويظهرون بآلاف الأدوار التي تُمثّل شخصيّة الآخرين،‌ ويرسمون حالتهم التصنعيّة والمجازيّة بصورة الحقيقة والواقع؟!

  • والآن حيث إنّ الحديث وصل إلى هنا، لذا من المناسب أن نبسط الحديث فيما يرتبط بهذا الموضوع، وأن نكشف الستار عن هذا السرّ الذي ما زال مُغلقًا بالنسبة للعديد من الأشخاص.

  • حقيقة الإنسان عبارة عن نفسه وروحه القدسيّة

  • إنّ حقيقة الإنسان عبارةٌ عن النفس والروح القدسيّة التي تنزّلت من ذات الباري بنفخةٍ تكوينيّةٍ في قالبٍ مثاليٍّ ومادّيٍ واختارته كمأوى ومسكن؛ وبواسطة هذا التنزّل الذي يلزم عنه التعلّق بعالم الكثرة، سيُصبح متّصفًا بصفة الشهوة والغضب والأنانيّة والتمحور على الذات والميل نحو الكثرة. بخلاف الملائكة الموجودين في عالم التجرّد، والمشغولين بالتسبيح والتقديس وتنفيذ أوامر الله بدون الاتصاف بالشهوة والغضب وحبّ الكثرات والأنانيّات؛ ولذا فإنَّ صدور الذنب والمعصية الناجمة عن الأنانيّة والتمحور على الذات والتكبّر والعناد، سيكون أمرًا محالًا عليهم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

35
  • فإنَّ الملائكة وصلوا إلى الفعليّة العقلانيّة من جهة خلقتهم وهويتهم، وكلّ واحدٍ منهم يستفيد من علم الحقّ اللامتناهي بحسب مرتبته التجرّديّة، ولذلك لن يضاف لها شيءٌ طوال بقائها وحياتها من ناحية السير الطولي والسعة الوجوديّة ولن تنقص منها مرتبةٌ، وبواسطة نفس هذه الفعليّة، لا يصدر عنها أيّ ذنبٍ أو عمل مخالفٍ للرضا الإلهي. ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُون‌ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون‌﴾۱.‌

  • جهة اختلاف الإنسان عن الملائكة في مبدأ الخلقة ومنتهاه

  • وأمّا الإنسان فإنّه يختلف عن الملائكة من ناحيتين الأوّل: الاختلاف في المبدأ؛ الثاني: الاختلاف في المنتهى.

  • وأمّا الاختلاف في المبدأ فهو على هذا النحو:

  • إنَّ نفس الإنسان وروحه نشأت وخُلقت من حقيقة ذات الباري تعالى الذي يُعبر عنه بروح الله والحقيقة البسيطة ومقام الهوهويّة مثلما صرحت الآيات القرآنيّة بهذه المسألة: 

  • ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‌ فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ﴾٢.‌

  • ولهذا السبب، الإنسان هو المخلوق الوحيد من بين جميع أصناف الخلائق الذي لبس خلعة الخلافة الإلهيّة؛ لأنَّ جامعية الذات للأسماء والصفات الكليّة تقتضي جامعيّة المُنشَأ مِن الذات الذي هو نفس الإنسان وروحه؛ وبواسطة هذه الجامعيّة وهذه المبدئيّة الواقعة في السير الطولي، يستطيع الإنسان أن يصل إلى المرتبة التجرّدية لمعرفة الذات وأن ينال الفناء الذاتي، وبعد الفناء الذاتي تظهر في مرحلة البقاء وتبرز جامعيّة أسماء الحقّ وصفاته في منصّة الظهور والبروز.

  • ولكن بما أنَّ خلقة الملائكة تعود إلى ما دون مرتبة الذات؛ أي إنَّ نشأتها تحققت في مرتبة العلم والقدرة الربوبيّة؛ لذا بالطبع لن تتمتّع بمثل هذه الجامعيّة، وسيكون غاية سيرها الطولي نفس مرتبة نشأتها لا أكثر، ولا يُتصوّر الفناء الذاتي بالنسبة لها.

    1. سورة الأنبياء (٢۱)، ذيل الآية ٢٦ والآية ٢۷.
    2. سورة ص (٣۸)، الآية ۷٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

36
  • وأما الفرق الآخر، فهو من جهة انتهاء الخلقة في نشأة الشهادة وعالم الطبع، وذلك بهذه الكيفيّة، وهو أنّ النفس والروح الآدميّة تتعلّق بعد الخلقة والتشكّل ـ بحسب السعة الوجوديّة لكلّ فرد ـ في التنزّل لمراتب الأسماء والصفات إلى أدنى العوالم الذي هو عالم المادّة والطبع؛ وبواسطة هذا التعلّق يحصل الارتباط بالقالب الجسماني والمادّي؛ ويلزم من هذا الارتباط حدوث الغرائز والصفات والمَلكات المُسانخة والموافقة مع هذا العالم كغريزة الشهوة التي من أجل الاستمرار وحفظ النسل؛ أو الغضب الذي من أجل الدفاع ضدّ موانع الحياة ومن أجل تأمين مصالح البقاء، وغريزة الحبّ والرأفة، وأمثال ذلك.

  • ولا فرق في هذه المسألة بين مختلف الناس مع درجاتهم المختلفة؛ يعني: كما أنَّه يلزم عن وجود الإنسان في هذا العالم وجود غريزة الشهوة والغضب وغيرها من الغرائز لديه، وبدون هذه الغرائز سيكون استمرار الحياة مرهونًا بالخطر، كذلك فإنّ الميل نحو الجنس الآخر والتعلّق المخالف مودعٌ في باطن كلّ فردٍ من أفراد بني آدم، سواءً كان هذا الميل في أفراد البشر العاديّين أم في الأولياء والمعصومين عليهم السّلام؛ فكما أنّنا نستلذّ بالرائحة العطرة، ونبتهج بالوجه الجميل ونُسرّ للصوت الموزون، فكذلك الإمام عليه السّلام يستمتع مثلنا بهذه الأمور أيضًا؛ وكما يستلذ الأفراد العاديين من النساء والرجال بضمّ بعضهم البعض ويرغبون باستمرار ذلك، فكذلك أولياء الله يرغبون بذلك أيضًا؛ وكما أنَّ الآلام والابتلاءات الدنيويّة تُؤلم روحنا وجسمنا كذلك تؤلمهم أيضًا؛ وعلى هذا فقس....

  • وأولئك الذين يقولون: إنَّ الإمام عليه السّلام بعيد عن العلاقات الجنسيّة وفقط لأجل حفظ الظاهر يبادر إلى الزواج لأجل بقاء النسل ولا يحصل لديه أي لذة من هذه العلاقة، أو أنَّه لا نصيب له من نكهة المأكولات والمشروبات؛ أو أنَّه لا يتأثر بالأمور التي عادة توجب الحدث لسائر الأفراد ولا يحتاج إلى الغسل والوضوء، كلّها ناشئة من جهل الأفراد بموقعيّة وشأن الإمام عليه السّلام. إنّهم يتصوّرون أنّ الالتذاذ بهذه الأمور والتأثّر بأسباب الحدث يتنافيان مع شأن الإمام عليه السّلام، وساحةُ قدسه وطهارته بعيدةٌ عن هذه المسائل؛ وما شابه من التفكير الباطل والفكر العابث!

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

37
  • التأثر من لوازم عالم الكثرة والطبع، ولا يتنافى مع الخصوصيات الخَلقيّة والخُلقيّة للإمام عليه السّلام

  • إنّ الشهوة والغضب، واللذّة والألم والحدث وغيرها، تتنافى مع هويّة الملائكة وصفاتها، لا مع الخصوصيّات الخَلقيّة والخُلقيّة للإمام عليه السّلام؛ ولو لم يكن الأمر كذلك،‌ لما استطاع الإمام عليه السلام أن يكون أسوةً ونموذجًا لنا، وما كان لقصّة يوسف عليه السّلام أيّ قيمةٍ بالنسبة لنا، وماذا ستكون ثمرة القصّة العجيبة الغريبة لهجرة السيّدة هاجر مع ابنها إسماعيل وقصّة ذبحه بيد إبراهيم الخليل؟ وما هي التعاليم التي ستحويها وتفيدنا في مسيرتنا نحو قطع التعلّقات وتحقّق التوحيد؟ والأهمّ من الجميع هو الواقعة الفريدة على مرّ العصور، قضيّة عاشوراء الحسينيّة، فما الرسالة التي ستحويها للأجيال اليقظة الحرة المطالبة بالتحرّر من القيود النفسانيّة والحبال الشيطانيّة والتحرّر في الفضاء الملكوتي؟

  • فهل في خلقتنا وخلقتهم مثل هذا المصير بحيث نتألّم نحن وننصب مجالس العزاء لخسارة أبنائنا أمّا هم فلا؟ وا عجبًا من الكلام اللغوي والفارغ! فأين الرضا بإرادة الله ومشيئته في مثل هذه الأحداث؟! وأين تقبّل مشيئته وتقديره؟! وأين عدم التألّم والتأثر وحرقة القلب في مثل هذه المصائب؟ لا يوجد أيّ تلازم بين هاتين الظاهرتين على الإطلاق.

  • يظن بعض من ليس لديه علمٌ ولا إطّلاع ما يلي: بما أنّ الأولياء الإلهيّين وعلى رأسهم الأئمّة المعصومين عليهم السّلام في مرتبة التوحيد، لذا فإنّهم يعدّون كافّة الأمور من ناحية الله، وينسبون كلّ الذوات مع ماهياتها المختلفة وصفاتها المتباينة إلى ذات الحيّ القيّوم بسبب الإدراك الشهوديّ للتوحيد بالأسماء والصفات والأفعال، فلا يعتبرون أيّ ظاهرةٍ أو صفةٍ أو فعلٍ في العالم خارجًا عن دائرة الوجود؛ وحيث إنّ دائرة الوجود خيرٌ محضٌ لذا بالطبع ستكون آثار الوجود وترشحاته خيرًا وجميلةً أيضًا، وبالتالي في تلك المرتبة لن يكون للرائحة البشعة أي مفهومٍ بالنسبة لهم، وسيكون المرّ والحلو سيان بالنسبة لهم؛ وهكذا....

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

38
  • إنّ هؤلاء الأفراد ليس لديهم أدنى تصورٍ عن كيفيّة تكوّن النشأتين، فهل يتنافى تصوّر انتساب جميع الموجودات إلى ذات الباري المقدّسة مع هويتهم الخارجيّة بحيث تكون إحداهما مرّةً والأخرى حلوةً؟! وهل يتعارض رؤية تجليّات وظهورات حضرة الحقّ بنحوٍ جميلٍ والتفكير فيها بنحوٍ حسنٍ مع حدّة السكين وتقطيع الجلد واللحم؟! لا يقتصر الأمر على أنّه لا تعارض ولا تباين بين الأمرين، بل إنّه عين الجامعيّة للكثرة والوحدة في تجلّي الحقّ؛ ودون هذا الأمر، لن يكون للكثرة أيُّ معنى ومفهومٍ. إذن الأولياء الإلهيّين مثلنا يتذوّقون المرارة ويستطعمون الحلاوة، وكل ما يُؤثّر علينا في عالم الطبيعة سيؤثّر عليهم أيضًا.

  • كافة أفراد البشر مكلّفون وموظّفون بأداء الأوامر الإلهيّة

  • لقد اتضح هذا الموضوع من الجهة والحيثيّة التكوينيّة، وأما من ناحية التشريع ومقام التكليف ومراتب المعرفة والتهذيب فإنَّ جميع أفراد البشر مكلّفون وموظّفون بأداء الأوامر الإلهيّة، أمّا التوفيق بالقيام بالتكاليف فهو من ناحية الله كما يقول في القرآن الكريم:

  • ﴿وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه‌﴾۱.

  • أو كما ورد في الخطاب مع النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول عزّ وجلّ:

  • ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.٢

  • يعني: «بواسطة الرحمة واللطف الإلهيّين كنت تتعامل مع المشركين باللين والتصرّف الجميل، ولو أنّك تعاملت معهم بالفظاظة والقسوة وقلبٍ قاسٍ بلا مرونة،‌ لانفضوا من حولك وتفرّقوا، ولانزعجوا منك».

  • إنّ الله ينسب في هذه الآية الشريفة الأخلاق الحميدة إلى نفسه، وينسب فظاظة الأخلاق إلى البشر وإلى آثار عالم الطبع والتعلّقات الدنيويّة.

  • أو كما يقول مولى المتقين في دعاء الصباح:

  • «إلٰهي، إِن لَم تَبتَدِئني الرَّحمَةُ مِنك بِحُسنِ التَّوفيقِ، فمَنِ السّالِكُ بي إِلَيك في واضِحِ الطَّريق».

    1. سورة النحل (۱٦)، صدر الآية ٥٣.
    2. سورة آل‌ عمران (٣)، صدر الآية ۱٥٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

39
  • يعني: «يا إلهي! لو أنّ رحمتك ولطفك لم تشمل حالي منذ البداية، ولو لم يكن التوفيق من ناحيتك رفيق طريقي، فمن الذي يُمكنه أن يدلّني إلى الطريق الرئيسي للسعادة والفلاح وأن يوصلني ويهديني ويدلّني عليك؟!».

  • وهذا الخطاب الصادر عن أمير المؤمنين عليه السّلام هو عين الحقّ؛ إذ بدون عناية الحقّ ولطفه؛ لكان ما يلزم عن النفس المتعلقة بعالم الدنيا هو التورط في الشهوات والمعاصي والزلّات.

  • ويقول عزّ وجلّ في سورة الضّحى فيما يتعلّق بارتباط رسول الله مع الخالق وكيفيّة أخذه بيده وهدايته ما يلي:

  • ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيماً فَآوَى ، وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى‌﴾۱.

  • إن مفهوم الضلالة هو تعلّق النفس بالكثرات بدون عناية الحقّ ولن تحمل نتيجة سوى سوء الطالع والخسارة و الخراب.

  • ويقول في آيةٍ أخرى:

  • ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَليلاً﴾٢.

  • يعني: «لو أنّ لطفنا لم يشمل حالتك، ولو أنّنا لم نجعلك ثابتًا وصامدًا أمام مطالبهم، لكنت وقعتَ في فخهم ولكنت مِلتَ نحو آمالهم وتطلّعاتهم وتوقعاتهم».

  • وتوجد في هذا المجال العديد من الآيات والروايات والأدعيّة المأثورة عن المعصومين عليهم السّلام بحيث تخرج عن الإحصاء.

  • هناك جنبتان في كل إنسان وفق كلّ مرتبة وميزان من العلم والمعرفة والتجرّد

  • بناءً على هذا، فإنّ كلّ فردٍ يختبر جنبتين وحيثيتين في وجوده وحسب مقدار علمه ومرتبة معرفته وتجرّده التي وصل إليها.

  • الجنبة والحيثيّة الأولى: هي الفقر والمسكنة والخسران التي هي لازم الدخول والوفود إلى هذه الدنيا وإلى الكثرات، والتي هي توأمٌ مع الشهوات ومحوريّة الأنا والتعدّي على حقوق الآخرين وحريمهم.

    1. سورة الضّحى (٩٣)، الآیات ٦ و ۷.
    2. سورة الإسراء (۱۷)، صدر الآية ۷٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

40
  • والحيثيّة الثانيّة: هي لطف حضرة الحقّ وعنايته وتوفيقه، وهي تقتضي العبوديّة والسكينة والاطمئنان والنورانيّة وصفاء الباطن ومراعاة العدل والسداد والتمتّع بكافة المواهب الإلهيّة العامّة والخاصّة. وسوف تترافق هاتين الجنبتين مع الإنسان وبصحبته بشكلٍ مُستمرٍّ ولن ينفصلا عنه، وسيكون لكلّ واحدٍ منها مكانته، ولن يتعارضا مع بعضهما حتّى للحظةٍ واحدةٍ. ولذلك نشاهد بعض المسائل في كلام الأولياء الإلهيّين تتحدّث عن كلا الحالتين وعن كلا الروحيّتين والخصوصيّتين.

  • يقول الخواجة عبد الله الأنصاري في مناجاته:

  • إلهي! حينما أنظر فيك، فأنا من أصحاب التيجان والتاج على رأسي، وعندما أنظر إلى نفسي، فأنا من أصحاب القبور والتراب على رأسي.۱

  • وأمّا سيّد العالمين وسيّد الكائنات فإنّه يُخاطب في مقام عزّة حضرة الحقّ، بخطاب ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‌ ، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى﴾٢، وعند القرب من مرتبة الذات والورود إلى حريم الله يُصبح متّصفًا بوصف ﴿ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‌﴾٣؛ وأمّا في مقام العبوديّة والمسكنة والذلّة، فتجده يقول:

  • «اللهمّ! لا تَكلني إلى نَفسي طَرفَةَ عَينٍ أبدًا في الدّنيا والآخِرَةِ٤».

  • ويقول مولانا سماحة السيّد هاشم الحدّاد رضوان الله عليه:

  • إنّ ألف معجزةٍ ظاهريّةٍ لا تصل إلى مقدار واحدةٍ من مطالبنا ومسائلنا.

  • ويقول في المقام وفي المنزلة البشريّة وحول ذلّته:

  • عندما أنظر إلى نفسي، أرى أنّ الله سبحانه لم يخلق شخصًا على وجه الأرض أكثر تقصيرًا منّي.

  • وكلا الحالتين صحيحٌ، وكلاهما حقّ، وعين الواقع.

    1. مناجات خواجه عبد الله انصاری (فارسي)، ص ۱۱٢، المناجاة ٢۱٣؛ ص ۱۱٩، المناجاة ٢٢٣، مع أدنى تفاوت.
    2. سورة النّجم (٥٣)، الآيتين ٣ و ٤.
    3. سورة النّجم (٥٣)، الآيتين ۸ و ٩.
    4. الإقبال، ص ۸۱ و ۱٦۰؛ مصباح الكفعمي، ص ٦۰٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

41
  • فقد اعتبر أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه قسيم الجنّة والنّار في مرتبة ظهور الولاية وتجلّي المشيئة القاهرة، ومع إحاطته بجميع عالم الوجود رفع نداء «سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني»۱؛ وأمّا في مقام التضرّع والخشوع ونظرة العبوديّة فصدح بمناجاة مسجد الكوفة.

  • لذلك لا يجب أن نفترض أن المعصومين عليهم السّلام قد نطقوا بهذه العبارات فقط من أجل تربيتنا وتعليمنا، بل إنّهم قد وصلوا إلى معنى هذه العبارات ومفهومها حقيقةً وواقعًا وقالوا هذه العبارات تعبيرًا عن الواقع، بل إنّهم أدركوا هذه المفاهيم بصورةٍ أفضل وأعمق وأبلغ من جميع أفراد البشر.

  • وعندما خاطب الإمام السّجاد عليه السّلام ربّه:

  • «أنا الّذي أعطيتُ على المَعاصي جَليلَ الرُّشا»٢، فهو يشعر أنَّه في مثل تلك الوضعيّة واقعًا، وهو لا يمزح مع الله، ولا يتظاهر بانكسار النّفس؛ لأنَّ مقام العرض على الله لا يناسبه الهزل أو التظاهر بانكسار النفس، ولا يحتمل المجاملات؛ فالمقام مقامُ عرضِ الحقائق والواقعيّات لا مقام المجاز والاستعارة، والإمام لا يُجبر ويُؤخذ بالحياء مع الله، فكما نُشاهد هذه الواقعيّة بالعيان في حالاتنا ونفسياتنا، كذلك يشاهدها ويشعر بها الإمام عليه السّلام.

  • ولذا يقول الله تعالى في قصّة النبيّ يوسف: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى‌ بُرْهانَ رَبِّهِ﴾٣؛ يعني: لو أنّه لم يرَ حقيقة المعصية التي هي الظلام والنار والابتعاد عن الحقّ، لأقدم قطعًا على هذا الفعل القبيح، إذن النبي يوسف عليه السّلام كان واقفًا على فقرات الإمام السّجاد عليه السّلام بالدقّة، ووصل إلى مفهومها ومغزاها بنحوٍ كاملٍ، وشعر بها بكلّ ما فيها من صحّة وواقعيّة.

    1. الأمالي للصدوق، ص ۱٣٣ و ٣٤۱ و ٣٤٣.
    2. الإقبال، ص ۷۱.
    3. سوره يوسف (۱٢)، صدر الآیة ٢٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

42
  • يجب التوجّه إلى جنبة المربوبيّة والخَلقيّة وإلى فقرنا وفاقتنا عند الالتجاء والدعاء

  • والآن بعد أن اتضّحت المسألة تمامًا، نصل إلى هذه المسألة، وهي: لماذا كان الأعاظم والمعصومين عليهم السّلام عند الالتجاء والدعاء والطلب ينظرون إلى جنبة المربوبيّة هذه وإلى الجنبة الخَلقيّة والبشريّة لا إلى الحيثيّة الربوبيّة والجنبة الرابطيّة والإلهيّة، فلا نجدهم يتوجّهون في الأدعية والمناجاة مع الله بتلك الصورة [أي بالنظر إلى الحيثية الربوبيّة]؟

  • يبدو أنّ هذا الأمر سهلٌ وبديهيٌّ؛ لأنّ العبد في مقام الطلب والحاجة من مولاه ومن صاحب اختياره، لا يستخدم أوصاف المولى والسيّد ونعوته وينسبها إلى نفسه؛ لأنّ جميع تلك الأوصاف والحالات إنّما أفيضت عليه من جانب مولاه،‌ وليس له أيّ علاقةٍ بذلك.

  • فهل من الصحيح أنَّ يخاطب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ربّه في مقام الاستغاثة والطلب من قاضي الحاجات على هذا النحو: إلهي! إن الواقف بين يديك قادر على شقّ القمر وردّ الشمس، وإنطاق الحصى، وجميع عوامل وفواعل عالم المادة تحت إرادته، وتسخيرها بيده، وجميع الملائكة يسمعون كلامه ويُطيعون أوامره؟!

  • فلو خاطب الله بهذه الطريقة، فإنَّ الله سيجيبه:

  • قُل ودعني أرى: هل تستطيع القيام بهذه المسائل التي مدحت بها نفسك من عندك، أم أنَّها إفاضةٌ من عندي وبعنايةٍ مني؟ إنّك لا تقدر حتّى أن تبعد بعوضةً عنك، ثمّ تأتي وتتشدّق بخوارق العادات هذه وتستعرضها قبالي؟!

  • هنا نرى حقيقةً وواقعًا بأنّ حقيقة التوحيد وتوحيد الحقيقة ممثّلٌ ومجسّمٌ في وجود الأولياء الإلهيّين، وأنّ باقي الأفراد مبتلون بالشرك والنفاق في مراتب مختلفة من المعرفة.

  • عالم أولياء الله ليس عالم الاعتبار والمجاز والمبالغة

  • إنّ عالم أولياء الله ليس عالم الاعتبار والمجاز والمبالغة، إنَّه عالم الحقّ، وكلامهم مبنيٌّ على أساس الحقّ، ولا سبيل إليه للمجاز والتوريّة والتبرير كما هو متعارفٌ عليه في عرف المحاورات بين الأفراد؟ فإنّنا نجد أنّهم يرفعون الشخص أحيانًا في مقام المدح إلى السماء ويصلون به إلى مرتبة قاب قوسين، وأحيانًا أخرى يضربونه أرضًا في مقام النقد والتعبير إلى درجة أنّه لا يبقى منه أثر، تارةَ يُجلسون الشخص على القمر، وتارة أخرى يُلقون بالعبد الفقير في قعر البئر؛ ولكنّ هذا ليس رسم وديدن الرجال الإلهيّين.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

43
  • ومن هنا، رغم أنّ وصيّة أمير المؤمنين هذه تُخاطب الإمام الحسن عليهما السّلام بخطاب: «أسير الشّهوات» أو «تاجر الغرور»، لكنّ هذا الخطاب خطابٌ موجّه إلى الجبلّة البشريّة وشاكلة الإنسان، سواءً كان الإمام المجتبى عليه السّلام أم غيره، فالجميع دون استثناء داخلين ومشمولين بهذا الوصف.

  • إنَّ العمل بهذه الوصيّة سيضع الإنسان والمجتمع في مثل هذا الموقع وهذا الجوّ؛ ولهذا الداعي ومن هذا المنطلق طلب جمّعٌ من الأخلّاء الروحانييّن وأخوان الطريق أن أقوم بترجمة إكسير السعادة هذا وزاد الفلاح والسعادة ورأسمال تجارة الآخرة.

  • لذلك شرع هذا الحقير بتنفيذ طلبهم بعين المنّة من الله، وأقدّم هذه الترجمة۱ إلى مشتاقي لقاء حضرة المحبوب وأتباع التشيّع العلويّ عن حقّ مع بعض التعليقات والإضافات؛ آملًا من كافة الشيعة المخلصين الدعاء بالخير والشفاعة يوم السؤال،﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُون‌﴾٢.

  • مگر صاحبدلی از روی رحمت***کند در حقّ درویشان دعایی.٣
  • [يقول: لعلّ رجلًا عارفاً يُشفق علينا من وحي الرحمة والعطف فيدعو لنا نحن الدراويش‌]

  •  

  • الرابع والعشرون من شهر رمضان المبارك ۱٤٣۱ هـ. ق

  • عشّ آل محمّد وكريمة أهل البيت، السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها

  • وأنا الرّاجي عفوَ ربّه، السيِّد مُحمّد محسن الحسيني الطهراني

    1. تجدر الإشارة إلى أنّ مسألة ترجمة هذه الوصيّة النفيسة قيّمةٌ جدًا بالنسبة إلى أصحاب اللغات الأخرى لا سيّما القارئ باللغة الفارسيّة، ولكن باعتبار أنّ الوصيّة كُتبت بعربيّة بليغة لذا فالقارئ العربي ليس بحاجةٍ إلى الترجمة، ولكن ما قام به المؤلّف المحترم، كان في الواقع إعادة صياغةٍ للرواية بلغةٍ معاصرةٍ يفهمها أهل هذا الزمان ولا سيّما الشباب منهم، بل هي أقرب على الشرح والبيان الموجز، أضف إلى ذلك أنّه قد صحبها بعض الإضافات والتعليقات المهمّة جدًا وخصوصًا في الشأن الإجتماعي والسلوكي العرفاني، ولذا قامت اللجنة على ترجمة جميع جهود سماحته ما عدا في بعض المواطن القليلة التي اقتصر فيها على مُجرّد الترجمة المطابقة للنص العربيّ بلا مزيدٍ من التوضيح،‌ وقد أضفنا معاني الكلمات الصعبة الواردة في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالاعتماد على كتب اللغة، لتتمّ بذلك الفائدة للقارئ العربيّ الكريم. (م)
    2. سورة الشّعراء (٢٦)، الآيتان ۸۸ و ۸٩.
    3. دیوان اشعار شوریدهء شیرازی.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

44
  • شرح الوصيّة

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

45
  • وصيّة والدٍ فني عمره إلى ولدٍ يزرع الأماني في ضميره

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • «ومن وصيّةٍ له علیه السَّلام، للحسنِ بنِ علیٍّ عليهما السَّلام، كَتَبها إليه بحاضِرَينَ۱ منصرفًا من صفّينَ٢».

  • «مِنَ الوالِدِ الفانِ، المُقِرِّ لِلزَّمانِ، المُدبِرِ العُمُرِ، المُستَسلِمِ لِلدّهر، الذّامِّ لِلدُّنيا، السّاكِنِ مَساكِنَ المَوتَى، والظّاعِنِ٣ عَنها غَدًا، إلَى المَولودِ المُؤَمِّلِ ما لا يُدرِكُ، السّالِكِ سَبيلَ مَن قَد هَلَكَ، غَرَضِ٤ الأَسقامِ، و رَهينَةِ الأيّامِ، و رَمِيَّةِ٥ المَصائِبِ، وعَبدِ الدُّنْيا، وتاجِرِ الغُرورِ، وغَريمِ المَنايا، وأسیرِ المَوتِ، وحَليفِ٦ الهُمومِ، وقَرينِ الأَحزانِ، ونُصُبِ۷ الآفاتِ، وصَريعِ الشَّهَواتِ، وخَليفَةِ الأَمْوات».

  • يعني: هذه الوصيّة هي من قِبل والدٍ وصل عمره إلى نهايته، وهو يعترف ويُؤمن بانقضاء الزمان ومرور الوقت، الذي ترك حياته ورائه، والذي استسلم للدهر وللزمان، وهي من شخصٍ أدار ظهره للدنيا وذمّها، واستقرّ مسكنه في مساكن الموتى، وسينتقل غدًا إلى بيتٍ آخر حيث سينتقل إلى عالم الآخرة.

  • نه عمر خضر بماند نه ملک اسکندر***نزاع بر سر دنیای دون مکن درویش۸
  • [يقول: لن يدوم عمر الخضر ولا مُلك الإسكندر، فلا تُنازع أيّها الدرويش على الدنيا الدنيّة].

    1. قريةٍ اسمها «حاضرين» تقع بالقرب من صِفّين، [وتُسمّى الآن: الرقّة].
    2. صفّين هو موضعٌ بالقرب من مدينة الرقّة وتبعد مئتي كيلومترٍ عن حَلَب، وقد وقعت فيها معركة صفّين، وفيها الآن مزارُ أويس القرني وعمّار بن ياسر وشهداء صِفّين. (م)
    3. الظاعن: الراحل.
    4. الغرض: الهدف.
    5. الرمية: الصيد.
    6. الحليف: كل شيء لزم شيئًا فلم يُفارقه.
    7. نُصب الشيء هو الذي لا يُفارقه.
    8. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٢۸٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

46
  • وهي مُوجّهةٌ إلى الولد الذي يزرع في ذهنه وضميره الأماني التي لا يُمكن الوصول إليها، ويمشي في طريق ومسير الهالكين، الذي تُحيط به الأمراض والأسقام والآلام، وارتهنته الأيّام فجعلته ضمن دائرة سيطرتها وغلبتها، وجعلته مصائب الزمان وشدائده هدفًا لسهام البلاء، ودعته الدنيا للتذلّل والتواضع والخشوع والعبوديّة، وبواسطة هذه العبوديّة للدنيا زاد على الدوام من غروره ومحوريّة ذاته وأنانيّته، ولم يحصل من تجارة الدنيا من متاعٍ سوى التفاخر والتكاثر وطلب العلوّ.

  • دنیا همه هیچ و اهل دنیا همه هیچ***ای هیچ، ز بهر هیچ بر هیچ مپیچ 
  • [يقول: ليست الدنيا بشي‌ء وليس أهلها بشي‌ء، فيا أيّها اللاشي‌ء لا تسعَ إلى اللاشي‌ء من أجل لاشي‌ء].

  • وهو الشخص الواقع في مهبّ عواصف الحوادث دائمًا، وأسيرٌ عاجزٌ بين مخالب الموت.

  • وإذا المنيّةُ أنشَبَت أظفارَها***ألفيتُ كلَّ تميمة۱ لا تَنفَع٢
  • ولدٌ ملازمٌ للمعضلات الفكريّة والاضطرابات النفسيّة، ومجالسٌ للغموم والغُصص، تستهدفه الأمراض على الدوام، وتصرعه الشهوات، يمشي في مسير الأموات عدّة أيّامٍ ثمّ يلتحق بهم بعد ذلك.

  • آن قصر که جمشید در آن جام گرفت***آهو بچه کرد و روبه آرام گرفت 
  • [يقول: ذلك القصر الذي كان جمشيد يأخذ فيه قدح الفتح *** قد خرب وصار مزبلةً فوضعت الخزالة مولدها فيه، واستقرّ فيه الثعلب].

  • بهرام که گور می‌گرفتی همه عمر***دیدی که چگونه گور بهرام گرفت؟٣
  • [يقول: هل رأيت كيف أنّ "بهرام" الذي كان يصطاد فريسته طوال عمره، هل رأيت كيف أنّ القبرُ أخذه واصطاده؟].

    1.  أقرب الموارد: «التميمة: عوذةٌ تُعلّق علی صغار الإنسان مخافةَ العين؛ ومنه قوله: ألفَيتُ كلّ تميمة لا تنفع».
    2. العقد الفريد، ج ٣، ص ٢۱۰، من قصيدةٍ لأبي ‌ذُؤيب الهذلي.
    3. رباعيات الحكيم عُمر الخيَّام النيشابوري.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

47
  • كلام أمير المؤمنين عليه السلام في السبب والدافع لكتابة هذه الوصيّة

  • «أمّا بَعدُ، فَإنَّ فيما تَبَيَّنتُ مِن إدبارِ الدُّنيا عَنّي، وجُموحِ۱ الدَّهرِ عَلَيَّ، وإقبالِ الآخِرَةِ إلَيَّ، ما يُرَغِّبُني [ما يَزَعُني] عَن ذِكْرِ مَن سِوايَ، والاهتِمامِ بِما وَرائي، غَيرَ أَنّي حَيثُ تَفَرَّدَ بي ـ دونَ هُمومِ النّاسِ ـ هَمُّ نَفسي، فَصَدَقَني رَأیي، وصَرَفَني عَن هَواي، وصَرَّحَ لي مَحضُ أمري، فَأَفضَى بي إِلَى جِدٍّ لا يَكونُ فيهِ لَعِبٌ، وصِدقٍ لا يَشوبُهُ كَذِبٌ، ووَجَدتُكَ بَعضي، بَل وَجَدتُكَ كُلّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيئًا لَو أصَابَكَ أصَابَني، وكَأنَّ المَوتَ لَو أتاكَ أتاني، فَعَناني مِن أمرِكَ ما يَعنیني مِن أمرِ نَفسي، فَكَتَبتُ إلَيكَ [كِتابي] مُستَظهِرًا٢ بِهِ إن أنا بَقيتُ لَكَ أَو فَنیتُ».

  • يعني: أمّا بعد، بعد أن تبيّن لي أنّ الدنيا بدأت تُدبر عنّي، وأنّ الأيّام غلبتني وتسلّطت عليَّ من خلال مرور الزمان، وصرتُ أرى الآخرة أمامي، بعد ذلك لم يعد هناك من فائدةٍ تذكّر الآخرين؛ لأنّ الاهتمام بأموري تمنعني من الالتفات إلى غيري، وتكفيني عن التدقيق في أعمال الآخرين؛ فلا أرى في نفسي اهتمامًا بالأمور التي مضت ورائي.

  • وقد ورد في الحديث:

  • «كَفَى بِالمَرءِ شُغلًا بِعيبِه لِنَفسِه عَن عُيوبِ النّاسِ».٣

  • فيكفي الإنسان أن ينشغل بعيوبه ليتجنّب البحث والتفتيش في نقائص الناس وعيوب الآخرين.

  • روزها فکر من اینست و همه شب سخنم***که چرا غافل از احوال دل خویشتنم
  • از کجا آمده‌ام آمدنم بهر چه بود***به کجا می‌روم آخر ننمایی وطنم
  • مرغ باغ ملکوتم نیم از عالم خاک***دو سه روزی قفسی ساخته‌اند از بدنم [يقول: أنا طائر روضة الملكوت ولست من عالم التراب، و لقد صنعوا لي قفصاً من بدني لأيّام معدودات].
  • خنک آن روز که پرواز کنم تا بر دوست***به هوای سرکویش پر و بالی بزنم ٤ 
  • [يقول: ۱-حديثي طوال نهاري و ليلي: لماذا أنا غافلٌ عن أحوال قلبي.

  • ٢- من أين جئتُ؟ وما علّة مجيئي؟ وأين سأذهب؟ فوطني لم يتّضح لي أخيراً. و لم آتِ بطوع إرادتي لأذهب بِمشيئتِي، بل انّ من جاء بي سيردّني إلى وطني.

    1. الجموح: الاستعصاء والمغالبة.
    2. مستظهرًا: مستعينًا.
    3. تحف العقول، ص ٢۸٢، نقلًا عن الإمام السجّاد علیه السّلام.
    4. المثنوي المعنوي، طبع میرخانی، ص ٤٢۰، آخر الدفتر الرابع.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

48
  • ٣- فأنا طائر روضة الملكوت و لست من عالم التراب، و لقد صنعوا لي قفصاً من بدني لأيّام معدودات. 

  • ٤- فما أسعد ذلك اليوم الذي سأحلّق فيه إلى الحبيب، و أخفق بأجنحتي بهوى دياره].

  • إلّا أنّه في مثل هذه الحالة التي وضعت فيها جانبًا شؤون الناس ومتابعة احتياجاتهم، وركّزت فيها على احتياجاتي وابتلاءاتي، ووجدتُ عند الاهتمام باحتياجاتي بأنّ فكري ورأيي قد وافقني وصدّقني، وقد أبعدني وصدّني عن الأهواء والرغبات البشريّة، وأظهر لي حقيقتي وعاقبة أيّامي، وأبرز لي ذلك على الملأ بالصراحة، ولذلك ساقني إلى إرادةٍ حديديّةٍ وعزم راسخٍ واهتمامٍ بالغٍ في أمر نفسي، بحيث لا أجد في إرادتي شائبة هزلٍ أو مزاحٍ أو لعبٍ، ولذا فأنا قلق بشكلٍ جادٍّ بشأن مآلي ومستقبلي وعاقبتي وأنا لا أنظر إلى الحقائق التي أمامي نظرة هزلٍ أو لعبٍ، ولا أعتقد بأنّ الأحداث التي أمامنا كاذبة وخاطئة. 

  • في مثل هذه الحالة والوضعيّة التي أنا عليها، وجدتُ أنّك (الإمام الحسن عليه السلام) جزءًا من وجودي، لا بل شعرتُ أنّك جميع وجودي الباقي والاستمراري، لدرجة أنّه إذا حدث لك شيءٌ ما، فكأنّ ذلك قد حدث لي أنا، وإذا أصابك أتاك الموت، فكأنّه أتى إليّ أنا، وكلّ أمرٍ يُصيبك بالتعب والإزعاج، أرى أنّه أصابني أنا بالأذيّة والبلاء، لذلك بدأتُ في كتابة هذه الوصيّة آملًا قبولها والاهتمام بها، سواءً في حال حياتي أم مماتي (أي إنّني لم أكتب هذه الوصيّة لزمان حياتي، بل من أجل أن تعمل بها في كلّ‌ حالٍ وفي كلّ لحظةٍ من عمرك وحياتك)».

  • الوصيّة بالتقوى وعمارة مدينة القلب والتمسّك بالحبل الإلهي

  • «فإنّي أوصيكَ بِتَقوَى الله [أي بُنَيَّ] ولُزومِ أمرِه، وعِمارَةِ قَلبِكَ بِذِكرِهِ، والاعتِصامِ بِحَبلِهِ، وأيُّ سَبَبٍ۱ أوثَقُ مِن سَبَبٍ بَينَكَ وبَینَ اللهِ إن أنتَ أخَذتَ بِه؟»

  • يعني: إذن يا ولدي! أوصيك بتقوى الله وأن تواظب على الدوام على تنفيذ أوماره والاجتهاد بترك ما نهى عنه حضرة الحقّ، وأن تعمر قلبك بذكر الله فتحييه وتُنعشه بذلك، وأن تتمسّك بذلك الحبل المُحكم الذي بينك وبينه، فأي سببٍ ووسيلةٍ وواسطةٍ أكثر إحكامًا وأكثر دوامًا وأكثر طمأنينة مِن سَبَبٍ وارتباطٍ بَينَكَ وبَینَ اللهِ إذا أنتَ تمسّكت بهذا الحبل وحافظت عليه؟!

    1. السبب: الحبل.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

49
  • دوست نزدیک‌تر از من به من است***وین عجب‌تر که من از وی دورم
  • چه کنم با که توان گفت که دوست***در کنار من و من مهجورم۱ 
  • [يقول: الحبيب أقرب إليّ منّي (إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ ولكن مع كلّ ذلك فالعجب كيف أنّي بعيد عنه!! فماذا أفعل ومع أي شخص يمكنني أن أتكلّم، فالحبيب قريبٌ وأنا مهجورٌ بعيدٌ!!]

  • وقد ورد في الحديث القدسي:

  • «لَو عَلِمَ المُدبِرونَ عَنّي، كَيفَ اشتياقي بِهِم وشَوقي إلى رُؤيَتِهِم لَماتوا شَوقًا».٢

  • يعني: لو يعلم عبادي الذين فرّوا منّي كم أني أشتاق إلى قربهم ولقائهم وزيارتهم ومقدار ميلي ورغبتي لذلك، لتركوا أبدانهم من شدّة الشوق، وطاروا للقائي.

  • يقول الخواجة حافظ الشيرازي رضوان الله عليه:

  • فاش می‌گویم و از گفته خود دلشادم***بنده عشقم و از هر دو جهان آزادم [يقول: سأفشي الأمر بصراحةٍ ووضوحٍ،‌ وأنا سعيدٌ ومسرورٌ بما أقول،إنّني عبدٌ للحبّ وأنا مُتحرّرٌ من كِلا العالَمَيْن]
  • نیست بر لوح دلم جز الف قامت یار***چه کنم حرف دگر یاد نداد استادم [يقول: لم ينتقش في لوح قلبي سوى «أ» قامة الحبيب (إشارة إلى الوحدة والتوحيد)، فماذا أفعل إذ لم يُعلّمني أستاذي حرفًا آخر].
  • طایر گلشن قدسم چه دهم شرح فراق***که در این دامگه حادثه چون افتادم [يقول: أنا طائر حديقة القُدس، فكيف يمكنني أن أشرح قصّة فراقي (وانفصالي عن الجنّة) وعذابي في سجن الدنيا المليئة بالحوادث وعدم الاستقرار؟!]
    1. گلستان سعدی، الباب الثاني، في أخلاق الدراويش.
    2.  إحياء علوم الدين، ج ۱٤، ص ٩٥؛ المحجّة البيضاء، ج ۸، ص ٦٢، مع قدرٍ من الاختلاف.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

50
  • من ملک بودم و فردوس برین جایم بود***آدم آورد در این دیر خراب آبادم [يقول: كنتُ ملاكاً، وكانت الفردوس موطني، فهبط بي آدم إلى دير الخراب هذا].
  • سایه طوبی و دلجویی حور و لب حوض***به هوای سر کوی تو برفت از یادم.۱
  • [يقول: نسيت ظل شجرة طوبى، ومواساة حور الجنّة وعناقهنّ، والجلوس بجانب حوض الكوثر، وكلّ ذلك على أمل حبك والوصول إلى زقاق وصالك].

  • وصايا أمير المؤمنين ومواعظه من أجل إحياء القلب وجعله نورانيّاً

  • «أحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وأمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وقَوِّهِ بِاليَقِينِ، ونَوِّرهُ بِالحِكمَةِ»

  • يعني: حافظ على نفسك حيّةً بالموعظة وحديث النفس، وأمته من خلال الزهد والإعراض عن الأهواء النفسانيّة والآمال غير الصائبة، واجعل قلبك ثابتًا وقويّاً من خلال القطع واليقين بالعقائد والأعمال؛ ولا تلج إلى أيّ مسألةٍ أبدًا بدون تحقيقٍ واطمئنان ويقين، ولا تُقدم على أيّ أمرٍ تتردّد فيه أو تشكّ به، ولا تسعى نحو أيّ أمرٍ اعتمادًا على الحدس والظنّ والتخيّل وأقوال الناس والشائعات، بل توقّف فيه ولا تتحرّك، ونوّر قلبك بالحكمة.

  • وتقول الآية الشريفة: ﴿وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني‌ مِنَ الْحَقِّ شَيْئا﴾٢.

  • يعني: الناس يتّبعون حدسهم وظنّهم على الدوام، ويقضون أيّامهم خلف أهوائهم النفسانيّة، في حين أنّ الحدس والظنّ لا يُوصلانهم في أيّ وقتٍ من الأوقات إلى الحقّ والواقع.

  • يقول الإمام الصادق عليه السّلام:

  • «قِفْ عِندَ الشُّبهة! فَإِنَّ الوُقوفَ عِندَ الشُّبُهَاتِ خَيرٌ مِنَ الِاقتِحَامِ في الهَلَكات».٣

  • يعني: لا تُقدم عندما لا تنكشف لك حقيقة الأمر! لأنّ التوقّف في الشبهات والمواطن التي ليس لديك فيها قطعٌ ويقين، أفضل من الغرق في الهلكة.

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٣٦٢.
    2. سورة النجم (٥٣)، الآية ٢۸.
    3. الكافي، ج ۱، ص ٦۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

51
  • يقول مولانا جلال الدّين الرومي _ رحمه الله:

  • بر خیالی صلحشان و جنگشان***از خیالی فخرشان و ننگشان۱ 
  • [يقول: يقوم صلحهم وتقع حربهم على الخيال، وينشأ فخرهم وخزيهم من خيالهم].

  • جان همه روز از لگدکوب خیال***وز زیان و سود و از خوف زوال
  • نی صفا می‌ماندش نی لطف و فرّ***نی به سوی آسمان راه سفر٢
  • [يقول: تدور الروح كلّ يومٍ في الخيال فلا يبقى لها لطفٌ أو صفاء، وتخشى الضرّ مع خوف الزوال فلا يغدو بإمكانها السفر نحو السماء].

  • «ونَوِّرْه بِالحِكْمَةِ» (والمطالب الحقيقيّة التي تبتني على البرهان العقلي والشهود الربّاني وابتعد عن الشائعات والتوهّمات والأمور الرائجة بين الناس والمبنيّة على أساس الحدس والظنّ، ولا تجعلها معيارًا لعملك وفكرك وبرنامج حياتك)

  • ابتناء التصوّرات والتصديقات على الحقائق الخارجيّة والأمور النفس الأمريّة و...

  • فالتصوّرات والتصديقات (وخلاصةً: الواقعيّات الإنسانيّة الذهنيّة) إمّا أن تكون مبتنية على الحقائق الخارجيّة والأمور النفس أمريّة والتي يُقال لها العلم والمعرفة والإدراك، وإمّا أن تكون مصنوعة من قبل الذهن والنفس من دون أن يكون لها أيّ ارتباط بالواقعيّات الخارجيّة؛ ومن باب المثال، كثيرًا ما نُشاهد الأطفال يُخبرون عن بعض الأشخاص أو الموجودات الخارجيّة من دون أن يكون لها أيّ تحقّق في الخارج، بل تكون مبتنية على أساس تخيّلات هؤلاء الأطفال.

  • ولا يخفى أنّ هذه المسألة لا اختصاص لها بالأطفال الصغار، بل قد نجد أنّ الكبار العقلاء تحصل لهم مثل هذه الظواهر؛ نظير مشاهدة صورة بعضهم في القمر، والتي شاعت كثيرًا بين الناس! حيث يُطلق على مثل هذه الظواهر اسم التخيّل والتوهّم.

    1. المثنوي المعنوي، الدفتر الأوّل، ص ۸.
    2. المثنوي المعنوي، الدفتر الأوّل، ص ٢٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

52
  • فهذا النوع من التصوّرات والتصديقات لن يكون أبدًا منشأ لأيّ أثر من الآثار، ولن تترتّب عليه أيّة ثمرة، ولن يحلّ أيّة عقدة، ولن يُعالج أيّة مشكلة، بل سيُؤدّي إلى غوص المتوهّم في وحل الجهل أكثر فأكثر، مبعدًا إيّاه عن الحقيقة وانكشاف الواقع.

  • علّتا نشوء التوهّمات هما جهل البشر والتعلق بالأمور الظاهريّة والحسيّة

  • ومن الضروري الالتفات إلى أنّ العلّة الكامنة من وراء نشوء التوهّمات في مقابل التعقّلات هما علّتان:

  • الأولى: جهل الإنسان وعدم اطّلاعه على الظواهر الخارجيّة والموضوعات والمسائل الحقيقيّة، والذي يُعدّ لوحده عاملاً مهمًّا جدًّا ورئيسيًّا في ضلالة الناس وانحراف الأذهان وطيّ طريق الغواية والضلال.

  • إنّ عدم الاطّلاع اللازم على القضايا الكلّية والمباني الأصيلة والتعاليم العقلانيّة والإرشادات الفطريّة التي تُعدّ رأسمال ثمينًا جُهّزت به خلقة الإنسان لأجل تشخيص الحقّ والباطل، وعدم التعرّف على المطالب الوحيانيّة الواردة من قبل حاملي لواء الوحي وحرّاس مدرسة الحقّ، يُؤدّي إلى السقوط في فخّ التوهّمات والتخيّلات؛ ممّا سينجرّ في الأخير إلى هلاك الروح والجسم، وضياع الفرص وتلاشي الاستعدادات والقوى البشريّة.

  • ای بسا ابلیس آدم روی هست***پس به هر دستی نباید داد دست۱
  • [يقول: ما أكثر ما يظهر إبليس بصورة آدم؛ فلا ينبغي أن نُسلّم لأيّ إنسان]

  • إنّ اتّباع الإنسان للفاسدين والماكرين ذوي المظهر الخدّاع والجذّاب، والكلام الموزون والمعسول، والوجه البشوش والضاحك، والملامح المنشرحة والباسمة، والتواضع الناشئ من المكر والحيلة، والسخاء والعفو النابعين من النوايا النفسانيّة الرديئة، والزهد الخدّاع والمرائي، لن يستتبع إلاّ الخسران والشقاء والهلاك وضياع العمر وتفويت الفرص؛ وكلّ ذلك بسبب عدم اطّلاع الإنسان على الأصول والمباني واتّباعه وانقياده لشخص آخر. وأمّا إذا تعرّف المرء على القواعد والأصول وعلم بملاك الاتّباع والاستماع والانقياد للأفراد، فإنّه حينئذ لن يُطيع أيّ أحد طاعةً عمياء اعتمادًا على عاطفته وعقله الناقص وذهنه المفتقر للوعي والإدراك.

    1. المثنوي المعنوي، الدفتر الأوّل، ص ۱۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

53
  • ولهذا، نرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ينصح في هذه الوصيّة بالحكمة؛ أي الكلام المتقن والاعتقاد الراسخ الذي يستطيع الإنسان من خلاله تشخيص موارد الشبهة، واتّقاء السقوط في فخّ الأهواء والنزوات والشيطان.

  • العلّة الثانية لنشوء التوهّمات وسقوط الإنسان في فخّها هي ميل النفس الإنسانيّة وتعلّقها بالظواهر الجزئيّة والأمور الحسّية ومظاهر عالم الطبع والمادّة؛ وهي مسألة يُعاني منها جميع الناس؛ العالم منهم والجاهل، الصغير والكبير، الرجل والمرأة؛ اللهمّ إلاّ تلك الطائفة من الناس الذين عبروا عن الجزئيّة والتحقوا بالكلّية عن طريق تهذيب نفوسهم وتزكيتها وتربيتها وإيصال قواهم الروحيّة والعقلانيّة إلى مرحلة الفعليّة.

  • كيفيّة تعلّق النفس وميلها نحو الأمور الحسيّة وظواهر عالم المادّة

  • فبسبب تعلّق النفس بعالم المادّة ـ والذي يُمثّل عين ظهور الحوادث الجزئيّة والقوالب المحدودة ـ فإنّ ميلها إلى الجزئيّات والأمور الظاهريّة سيفوق توجّهها إلى الكلّيات والقضايا الحقيقيّة والملاكات الكلّية، ممّا يُفضي بها في اختياراتها إلى التفكير في الأمور الظاهريّة أكثر من المسائل المنطقيّة والمعنويّة.

  • مثلًا: حينما يُريد شابٌ أن يختار زوجةً فأكثر ما ينظر إليه هو جمال الوجه والقوام الجميل وكم أنّ هذه الفتاة مُلفتةٌ للنظر، ويُغمض العين عن أصالة الأسرة والأخلاق الحميدة والالتزام بمسؤوليّات الحياة، والوفاء للعشق والمودّة بين الطرفين، وتقبّل طلبات الزوج ورغباته المنطقيّة؛ وعدم مُراعاة هذه النقطة هو الذي يؤدّي في المستقبل إلى بروز المرارة والفشل والمشاكل، وكثيرًا ما ينتج عن ذلك الفراق والانفصال في نواة العائلة.

  • ومن جهة الفتاة أيضًا يتمّ التفكير في الجهات الظاهريّة عند اختيار الزوج، من قبيل: الموقعيّة الاجتماعيّة والوظيفة الجيّدة وجمال الشمائل، وتتمّ الغفلة عن مقدار الالتزام بلوازم الارتباط الزوجي، والعقلانيّة في التدبير والتربية، والأخلاق المناسبة، والتقيّد بالموازين الشرعيّة.

  • وفي الخيارات المرتبطة بالأمور الاجتماعيّة، نشاهد بالعيان كيف أنّ الملاك في انتخاب الشخص قد يكون هو العلاقات الأسريّة والانتماء لمدينة واحدة وحيّ واحد، أو الكلمات المعسولة والوعود الكاذبة والفاتنة، أو العطايا والمنح المحسوبة بمكر وحيلة، أو ملأ الشوارع بالزخارف البرّاقة التي تسحر العيون واللوحات الدعائيّة الجذّابة، أو التجمّعات الحزبيّة المدروسة أو...، بحيث إنّ الإنسان لا يُفكّر أبدًا في لياقة المنتخَب لتدبير الأمور وإصلاح النظام الاجتماعي، ولا في أهليّته لإدارة المجتمع، ولا يهتمّ أبدًا بعواقب الأمور وانهيار نظام التحضّر.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

54
  • إنّ جميع هذه المصائب والمفاسد والمشاكل ناجمة عن توجّه الإنسان للأمور الجزئيّة والحسّية والمظاهر المادّية الخدّاعة والمغوية.

  • وقد سمعنا أنّه في أحد البلدان، كان المعيار في كسب الآراء من أجل انتخاب رئيس الجمهوريّة هو جمال الوجه والشهرة في مجال التمثيل؛ مع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بهذا البلد فقط.

  • فتعال وانظر كيف استُبدلت الملاكات والقيم العقلانيّة والمعنويّة والمنطقيّة بالأحاسيس الفرديّة والميول الحيوانيّة والتعلّقات الفارغة البلهاء في موضوع يرتبط بأكثر المواقع الاجتماعيّة حسّاسية، ويتعلّق بتحمّل أصعب المسؤوليّات والأعباء الشعبيّة، ألا وهو موضوع إدارة المجتمع وتدبيره! ممّا يُؤدّي إلى اختفاء السعادة والفلاح والقضاء على الأمن الفردي والاجتماعي في ذلك البلد ليحلّ محلّها الهلاك والبوار؛ وهذا كلّه نتيجة لاتّباع التوهّمات والتخيّلات بدلاً عن التعقّل والملاكات الواقعيّة.

  • وكما ذكرنا سابقًا، فإنّ هذه المسألة لا تُلحظ فقط بين عوامّ الناس والأشخاص البسطاء، بل نُشاهدها أيضًا بين الفضلاء وأهل العلم؛ وقد اطّلعت طيلة أيّام حياتي على كثير من الشواهد على هذا الأمر.

  • أحد المواطن التي تؤدّي إلى تخيّل النفس ومصاديق انخداعها، كثرة الجموع والزيادة الظاهريّة

  • يُشير القرآن الكريم إلى الكثرة والوفرة الظاهريّة كأحد موارد التوهّم والتخيّل والمصاديق الخدّاعة والمضللّة للنفس، حيث يقول: 

  • ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون‌﴾.۱

  • أي: يا أيّها الرسول! قل للناس: لا تُساووا أبدًا الأشرار والفاسدين بالطاهرين والصالحين، ولو كانوا يتجاوزونهم من حيث العدد؛ ولهذا، عليكم أيّها المؤمنون ذوو التفكير العميق أن تُطيعوا الله تعالى وتتّبعوا أوامره ولا تنجذبوا نحو المظاهر الخدّاعة والجموع الوفيرة؛ لكي تصلوا إلى الفلاح والسعادة الأبديّة.

    1. سورة المائدة (٥)، الآية ۱۰۰.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

55
  • وفي هذه الآية يُشير الله عزّ وجلّ إلى أحد مواطن التوهّم والتخيّل، وهو الميل نحو الكثرة والسعي نحو الزيادة، وعدّ ذلك أحد القِيم والمعايير في التفاضل والتقدّم بين العوام وأهل الباطل والمُلفت للنظر هو أنّه في آخر الآية يُوجّه خطابه إلى أصحاب العقل؛ أي إنّ هذه النقيصة لا ترتبط بالتعقّل والعقلانيّة واتّباع التعاليم العقلانيّة، بل تبتني على أساس غلبة الإحساسات والنظرة الظاهريّة وترجيح الجنبة الحسيّة على الحيثيّة العقلانيّة والفطريّة البشريّة.

  • ويقول في آية أخرى فيما يتعلّق بنفس هذه المسألة وهذا المصداق: ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ﴾.۱

  • أي: لا يضلّك ويخدعك كثرة أموال المشركين وأهل الخلاف وكثرة أولادهم، فيؤدّي ذلك إلى حصول الشكّ لديك، فإنّ الله يُريدهم أن يعلقوا في هذه الدنيا وأن يُمضوا عمرهم ورأس مال حياتهم في تدبير أموالهم وإدارتهم وفي العناية بأبنائهم، وأن لا يستفيدوا أيّ فائدةٍ من وجودهم في الحياة، وأن يخرجوا من الدنيا إلى عالم الآخرة في حال الكفر والخسران.

  • وهذه النقطة أوضح في آياتٍ أخرى، وقد طُرحت هناك بشكل أصرح؛ كقوله تعالى:

  • ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبيلِ اللَّه‌﴾.٢

    1. سورة التّوبة (٩)، الآية ٥٥.
    2. سورة الأنعام (٦)، صدر الآية ۱۱٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

56
  • من ضمن أسباب حصول التوهّم والتخيّل المكانة والشخصيّة الاجتماعيّة للأشخاص

  • ومن مصاديق التوهّم أيضًا، المكانة الاجتماعيّة لبعض الأشخاص، والتي تؤدّي إلى غواية البقيّة وضلالهم؛ سواءً حصلت هذه المكانة والشهرة بواسطة وفرة الأموال والبذل والعطاء، أو حصلت بواسطة التصدّي للمسؤوليّة والمناصب الحكوميّة، أو بسبب النواحي العلميّة والمسؤوليّات الشرعيّة؛ ولهذا، نُشاهد كيف أنّ شخصًا من الأشخاص قد لا يكون يتمتّع بأيّة محبوبيّة واحترام وتكريم، إلى درجة أنّ الناس لا يردّون عليه السلام، لكن بمجرّد أن ينال منصبًا حكوميًّا، يُصبح محطًّا لأنظار الناس وموردًا لاهتمامهم؛ فُيقدّمونه في المجالس والمحافل على أهل الفضل والدراية، ويُبرزون اهتمامًا بالغًا بكلماته وأحواله.. إنّ جميع هذه الأمور ناجمة عن غلبة قوّة الخيال والوهم على القوى الفطريّة والعقلانيّة للإنسان.

  • أحد الأسباب الأخرى لحصول التوهّم والتخيّل، هو الانتساب إلى الشخصيّات العظيمة والمحترمة

  • ومن جملة المصاديق الأخرى لإيجاد الشبهة والتوهّم هو انتساب المرء لشخصيّة عظيمة ومحترمة وسط مجتمع ما أو جماعة وفرقة خاصّة؛ كأن يكون ابنًا لهذه الشخصيّة أو زوجا لها أو يكون له ارتباط ببعض الأشخاص الذين لهم علاقة أكثر بهذه الشخصيّة أو بالمنتسبين إليها وهكذا....

  • ففي هذه الحالة، وبسبب وجود وظهور بعض القيم الأخلاقيّة للإنسان، ستعمل القوّة الواهمة والمتخيّلة على تسرية المكانة التي تحتلّها هذه الشخصيّة العظيمة إلى بطانته والأشخاص المحيطين به، وستُعمل ـ بنحو من الأنحاء ـ نفسَ ملاك الخضوع والطاعة الذي كانت تُعمله في حقّ هذه الشخصيّة بالنسبة لبقيّة الشخصيّات، مع الغفلة عن أنّ مجرّد الانتساب لا يُعدّ دليلاً على ثبوت نفس معايير وملاكات الأفضليّة والترجيح؛ فما أكثر ما كان سلوك المحيطين بعظيم ما والمنتسبين إليه يقع تمامًا في الطرف المقابل لمنهجه ومدرسته، وما أكثر ما كان هؤلاء على تضادّ تامّ مع سلوكه!

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

57
  • التحقيق في علل اشتعال حرب الجمل

  • لقد وقعت الفتنة بعد وفاة موسى الكليم عليه السلام على يد زوجته «صفورا»۱؛ مثلما نشبت معركة الجمل والحرب ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام الخليفة بالحقّ والمنصَّب من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على يد عائشة زوجة الرسول وبواسطة المقرّبين منه كطلحة والزبير.

  • ولهذا، حينما أدّت مصاديق التوهّم وأسبابه ـ نظير الانتساب لرسول الله (عائشة)، والاشتهار في المجتمع بسبب القدم في الإسلام (طلحة والزبير)، والانتماء للدين الإسلامي ودعوى اتّباع سنّة الرسول والاعتراف بالقرآن كمصدر وحيد للوحي والهداية (جيش البصرة)، وطلب الثأر لخليفة المسلمين (عثمان) ـ إلى إيجاد الشكّ والشبهة والتوهّم لدى أحد المحيطين بأمير المؤمنين، فإنّه عليه السلام ردّ عليه قائلاً:

  • «إنّك رجلٌ ملبوسٌ عَليك، لا يُعرفُ الحقُّ بأقدار الرِّجال، اعرفِ الحقَّ تَعرفْ أهلَه، اعرفِ الباطلَ تَعرفْ أهلَه».٢

  • أي: إنّك رجل غلَبَت على عقلك وفكرك القوّتان المتوهّمة والمتخيّلة اللتان عملتا على إخفاء الحقيقة عنك وأخرجتاك عن ميزان الإنصاف والاعتدال، وأغوتك جاذبيّة الظواهر عن الميل للحقّ؛ فاعلم بأنّ الحقّ والواقع لا يُقاسان أبدًا بموقعيّات الناس وشخصيّاتهم الظاهريّة الخدّاعة! ومن هنا، عليك أوّلاً أن تتعرّف على الحقّ بشكل جيّد وواضح؛ وحينئذ، ستتعرّف بنفسك على متّبعيه، كما عليك أيضًا أن تشخّص الباطل بكلّ وضوح، وتطّلع على جميع جوانبه وحيثيّاته، لتتعرّف آنذاك على أتباعه من المنحرفين؛ فتميّزهم عن أهل الحقّ والسداد.

  • ففي يوم من الأيّام، سألت أحد الأعزّاء والأحبّاء والأقرباء (الذين قلّ نظيرهم في فنّ تشخيص المجوهرات والأحجار الكريمة، بحيث يُعدّ من أكبر الخبراء في العالم في هذا المجال): ما هي العلّة الكامنة من وراء هذا النجاح والشهرة والخبرة التي اكتسبتها، بحيث بلغتَ هذه الدرجة من التبحّر والتجربة في التمييز بين الأحجار الكريمة الحقيقيّة والمزيّفة، وصاروا يذهبون بك إلى مختلف البلدان لأجل الاستفادة من خبرتك؟

    1. كمال الدّين وتمام النعمة، ج ۱، ص ٢۷؛ إثبات الهدى، ج ۱، ص ٤۰٢؛ الخرائج و الجرائح، ج ٢، ص ٩٣٤.
    2. أنساب الأشراف، ج ٢، ص ٢٣٩؛ بحار الأنوار، ج ٤۰، ص ۱٢٥، مع اختلافٍ يسير.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

58
  • فأجابني قائلاً: العلّة الوحيدة من وراء ذلك أنّني في البداية حصرت جميع توجّهي وبحثي ودراستي في تشخيص الأحجار الأصليّة والحقيقيّة والثمينة، وقد صرفت وقتًا كثيرًا في الدراسة وقراءة الكتب المرتبطة بهذا المجال، بحيث صار لديّ إشراف كامل ومعرفة تامّة بكافّة الجوانب المرتبطة بهذه الأحجار ونوعيّتها وخصائصها؛ ومنذ ذلك الوقت، سهُل عليّ كثيرًا تشخيص الأحجار المصنوعة والمزيّفة، في حين أنّ بقيّة الأشخاص كانوا يهتمّون منذ البداية بالأحجار المزيّفة إلى جانب اهتمامهم بالأحجار الأصليّة؛ ولهذا، فإنّهم لم يتمكّنوا من الحصول على الدقّة التي حصلت عليها ويتعرّفوا على خصائص الأحجار كما تعرّفت عليها.

  • إنّ ذلك الرجل المتردّد والمشوّش لم يستطع بدوره أن يُدرك في معركة الجمل كون المرأة زوجةً لرسول الله لا يوصلها إلى درجة العصمة والحفظ من الخطأ والمعصية، وأنّ القرب من رسول الله لا يُفيد شيئًا، كما أنّ إسلام جيش البصرة لا يُعدّ دليلاً على التنزّه عن الخطإ والزلل والانحراف في المسير؛ وعلى هذا القياس....

  • ولذا نرى طوال التاريخ، على الدوام كانت التوهّمات والتخيّلات هذه هي السبب وراء حصول العديد من الانحرافات والانقلابات والجنايات على البشريّة؛ وكيف أنّهم استغلّوا النفوس الساذجة وجهلة العوام من أجل الوصول إلى الآمال الحيوانيّة والشهوات النفسانيّة، وكيف أنّهم جعلوا الشباب قليلي السنّ والتجربة وسيلةً لمقاصدهم الخبيثة والمشؤومة من خلال إلقاء الأوهام والتخيّلات إليهم.

  • لقد كان عليه أن يتوصّل بتفكيره إلى أنّ الخلافة لا تُساوي فلسًا واحدًا من دون استنادها إلى دعامة إلهيّة وحجّية شرعيّة وعقلانيّة، وأنّ الخليفة لا يكون كلامه مسموعًا وطاعته واجبةً إلاّ حينما يكون منصّبًا من قبل الله تعالى ورسوله، وليس عن طريق انتخاب الناس ونصبهم؛ الأمر الذي يُعدّ منحصرًا بشخص عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحسب.

  • ومن هنا، نجد بأنّ مدرسة التشيّع تتكّئ على الفهم واليقين والإتقان، لا على الشعارات وإثارة الضجيج والشغب والقوّة والمغالطة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

59
  • الهدف من انعقاد المجالس الدينيّة هو الوصول إلى الفهم والإدراك وتغيير أسلوب الحياة

  • فلا فائدة من إقامة الاحتفالات الدينيّة والاحتفال بالمناسبات التقليديّة المتعارفة، بدون حيازة الفهم والإدراك ودون تغيير أسلوب الإنسان وتصرّفه على أساس تعاليم مدرسة أهل البيت، إذ بدون ذلك لن يترتّب عليها أثرٌ. فإنَّ مجرّد الفرح في مولد أعاظم الدين، ومجرّد الحزن على مصائبهم دون استلام رسالتهم ودون إحداث تغيّرٍ وتبدّلٍ في نظرة الإنسان، ودون خروجه من وادي التخيّلات والتوهّمات، ودخوله إلى ساحة العلم والعقل والفهم، والوصول إلى مباني مدرسة أهل البيت وعقائدهم الحقّة ـ التي ينبغي أن يُبيّنها العلماء والوعّاظ من أهل العلم والخبراء بالسيرة والسنّة وبمباني التشيّع للحضور والمستمعين، وذلك بعيدًا عن الأهواء النفسانيّة وبدون مراعاة المصالح الدنيويّة مع تجنّب المحاضرات الخطابيّة ـ لن يُحقّق أيّ نتيجةٍ مثمرةٍ ومؤثّرةٍ في تغيير نهج الإنسان وهدفه.

  • وبناءً على ذلك، أمرَنا موالينا أن نُحيي ذكر هذه المدرسة في المجالس والمناسبات وأن يتم بيان مباني هذه المدرسة وتعاليمها، وتفسيرها للناس؛ وأن لا يُكتفى بالأشعار وإنشاد المديح في المواليد وقراء مجالس العزاء أو اللطم في أيّام المصائب؛ لأنَّ القوّة المتخيّلة ستقوى في هذه الحالة وستودع القوّة العاقلة في غياهب الغفلة والنسيان، وهذا الأمر يقع في النقطة المقابلة تمامًا لتعاليم مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

  • في مدرسة أهل البيت السبيل مفتوح للعقل والدراية لا للإحساس والتوهّم

  • في هذه المدرسة السبيل مفتوح للعقل والدراية لا للإحساس والتوهّم أمّا السير على الأرجل في مصائبهم واللطم على الوجه والصدر، فرغم أنّه ممدوحٌ ومحمودٌ جدًا بين العوام إلّا أنَّ اتباع موازين أهل البيت ومبانيهم ومراعاة جانب الاعتدال والإتقان والسداد هو الذي يجعل الإنسان في زمرة شيعتهم ومواليهم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

60
  • إنَّ منشأ ما جرى على الأئمّة من الأناس الجهلة ومن سفلة العوام هو بسبب هذا الموضوع، إذ لم يكن أفراد ذلك الزمان مِمّن يُقيمون المجالس الدينيّة ويراعوها ويُشاركون في صلاة الجماعة والمساجد ويلطمون أقلّ عددًا من أفراد هذا الزمان؛ ولكنّنا رأينا كيف تشكّلت فاجعة سقيفة بني ساعدة بعد مضيّ بضع ساعاتٍ على ارتحال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. أوَلم يكن هؤلاء المشاركون في هذا الموقف غير أولئك الذين كانوا بالأمس عند منبر رسول الله يلطمون على الرأس و الصدر؟! وهل هم غير أولئك الذين أودعوا تعاليم الرسول الأكرم ووصيته برعاية: «إنيّ تارِكٌ فيْكُم الثّقَلين، كتابَ الله وعترَتي، وإنّهما لن يَفترِقا، حتّى يَرِدا عَليَّ الَحوضَ»۱ في قبضة النسيان والإهمال؟! فيتراءى لك الأمر كأنّما لم تصدر هذه العبارة من النبيّ!

  • إنّ الأفراد الذين خدعوا بمكر عمرو بن العاص ومعاوية في معركة صِفّين ورفع المصاحف على أسنّة الرماح، كانت قوّتهم الواهمة قد أثيرت، وجرّهم ذلك إلى ترك الحرب وقبول التحكيم، أَليسوا هم الذين أقسموا في مسجد الكوفة أنّهم لن يتخلّفوا عن تنفيذ أوامر خليفة رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وسينثرون دمائهم حتّى آخر قطرةٍ منها في طريق مدرسته ونهجه؟! فما الذي حدث إذن؟!

    1. معرفة الإمام، ج ۱، ص ٣۷:
      «يروي أحمد بن حنبل هذا الحديث عن حديث زيد بن ثابت بطريقين صحيحين، أوّلهما: بداية ص ۱۸٢ من الجزء الخامس من مسنده، لكن العبارة هكذا: قال رسول الله صلّي الله عليه [و آله‌] و سلم: ”إنّي تاركٌ فيكم خليفتين كتاب الله حبلٌ ممدود ما بين السماء و الأرض أو ما بين السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض“.
      وثانيهما في نهاية ص ۱۸٩ من الجزء الخامس من مسنده، لكنّ عبارته بهذه الكيفية: قال النبي:”إنّي تارك فيكم ثقلين كتاب الله وأهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض جميعاً“.
      ويقول في تفسير (الدّر المنثور)، ج ٦، ص ۷: ”وأخرج الترمذي وحسن ابن الأنباري في المصاحف عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه [و آله‌] و سلّم: إنّي تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الأخر، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، و لن يفترقا حتّي يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما“».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

61
  • وأولئك الذين انضمّوا إلى جيش يزيدٍ وابن زيادٍ ليُقاتلوا ابن رسول الله وارتكبوا تلك الفاجعة والجناية التاريخيّة، أليسوا هم من قاموا بمبايعة نائبه ورسوله «جناب مسلم بن عقيل» قبل ذلك بأيّام وأرسلوا ألاف الرسائل والدعوات لسيّد الشهداء عليه السّلام، مع تلك اليمين المؤكّدة التي أقسموها والطلبات الملحّة التي أرسلوها للإمام عليه السّلام؟! فلماذا حصل ذلك؟!

  • علل انحراف أهل الكوفة وعدم نصرتهم للإمام الحسين عليه السلام 

  • إنّ سبب هذا الأمر هو أمران:

  • الأوّل: عدم معرفة الإمام، ولزوم إطاعته والانقياد لأمره.

  • الأمر الآخر: تسليم القلب والروح إلى الشائعات والميل نحو ظواهر عالم المادة ومظاهره،‌ وحلول الوهم والخيال محلّ العلم والمعرفة والتعقّل؛ مثلما رجّحوا استلام حكومة الريّ على السعادة والفلاح الأبديّان، وكلّها سلسلةٌ من الخيال الباطل والمعارف المغلوطة، وتخيّلات وأوهام فارغة! ورأينا ماذا حصل بعد ذلك.

  • كلام الله في القرآن الكريم في ذمّ الخيال والوهم الموجود الوارد في القوالب الشعريّة

  • ويقول الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم في ذمّ الخيال والوهم الوارد في القوالب الشعريّة ما يلي:

  • ﴿وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ في‌ كُلِّ وادٍ يَهيمُون ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُون﴾.۱

  • يعني: «والشعراء يتبعهم الأفرادٌ الضالّون والمُنحرفون (لأنّ قاعدتهم وأساس مرامهم لا يقومان على مباني متينة وراسخة) ألا ترى أنّهم يدخلون في كلّ جوٍّ سواءً أكان صادقًا أم كاذبًا، وسواءً أكان خيالًا أم واقعًا، ولا يثبتون على ما يقولون ولا يلتزمون به؟!»

  • والشعر إنّما كان مذمومًا في الإسلام من هذه الجهة؛ يعني: التخيّل والتوهّم، لا الشعر بمعنى الكلام المُسَّجع والمُقفّى الذي يحتوي على المعاني الحكيمة والعبر ذات المغزى الأخلاقي والتعاليم المفيدة والمتينة التي هي عين الصلاح والصواب وعين المدح، وقد صدر [هذا النوع من الشعر] عن حضرات المعصومين عليهم السّلام أيضًا.

    1. سورة الشّعراء (٢٦)،الآيات ٢٢٤ إلى ٢٢٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

62
  • التقابل بين الحكمة والنور وبين الوهم والخيال

  • وفي مقابل الوهم والخيال تقع الحكمة والنور التي هي عين انكشاف حاقّ الواقع وانطباق الصور الذهنيّة على ما في الخارج بعينه؛ سواءً ظهرت هذه الحكمة بهيئة الكلام في النثر والشعر، أم ظهرت بصورة الكشف بالنسبة للمُدرِك في المنام والتي يُعبّر عنها بالإلهامات الغيبيّة في الرؤيا، أو في بالمكاشفات الرحمانيّة في المراتب المختلفة من الكشف؛ كما حدث مع نبي الله داوود عليه السّلام في محراب العبادة، حيث تمّ تعليمه أنَّه لا ينبغي له أن يعتمد أبدًا على التوهّمات والتخيّلات في القضاء؛ وأنّ مجرّد كثرة الأغنام لدى أحد طرفي الخصومة ليس دليلًا على مظلوميّة الطرف المقابل، وأنّه يجب أن يكون معيار القضاء والحكم قائمًا على أساس الأدلة والشواهد المتقنة والمتينة.۱

  • فالمكاشفة في هذه الحالة حكمةٌ؛ لأنَّها تبيينٌ للواقع وترفع الاشتباه والخطأ، ولهذا يُطلق على حكم القاضي والحاكم، اسم الحُكم؛ لأنَّها بهذا الأسلوب ترفع الشكّ والإبهام وترفع الغائلة والشكوى، فتسوي الموضوع المتخاصم فيه وتبدي الواقع؛ مثل مُعجزات الأنبياء عليهم السلام مقابل سحر وشعوذة السحرة الذين يُقوّون الخيال والتوهّم لدى المشاهدين فيظنّون أنّ توهمهم واقعٌ وأنّه موجودٌ في الخارج.

  • ولذلك يقول القرآن: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس‌﴾٢ يعني: سخّروا أعين الناس وسحروها، لا أنّهم قاموا بفعلٍ أو تصرّفٍ خارجيٍّ معيّنٍ بحيث غيّروا وجودًا وجعلوه بصورةٍ أخرى.

  • ومن هنا، فإنَّ معجزة موسى حكمةٌ؛ لأنَّها رفعت الإبهام والتوهّم وأبطلت تسلطهم وتصرفهم وفضحت سحر السحرة.

    1. إشارةٌ إلى الآيات ٢۱ إلى ٢٦ من سورة ص (٣۸). (م)
    2. سورة الأعراف (۷)، مقطع من الآية ۱۱٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

63
  • يقول الخواجة حافظ الشيرازي رحمة الله عليه:

  • علم و فضلی که به چل سال دلم جمع آورد***ترسم آن نرگس مستانه به یغما ببرد
  • سحر با معجزه پهلو نزند دل خوش دار***سامری کیست که دست از ید بیضا ببرد۱
  • [يقول: ۱. كم أخشى أنّه إذا سقطت عيني على النرجسة الباعثة على السُكر، أن يضيع ما جمعته في قلبي طوال أربعين عامًا من العلم والفضل.

  • ٢. لا يُقاس السحر بالمعجزة، وكُن فرحًا بالسامريّ حتّى تأتي المعجزات بيد (موسى) البيضاء].

  • ولهذا نُشاهد أنَّ أصحاب المال والسلطة والحكام الظالمين وسلاطين الجور يسعون للسيطرة ّعلى القوى الواهمة للأفراد من أجل الاستعلاء والحصول على السيادة ومن أجل إخضاع الآخرين مقابل فرعنتهم؛ وبواسطة السيطرة والتسلّط على قوتيّ التخيّل والتوهّم لدى الناس، يحرمونهم من الفكر والتعقّل والعودة إلى الفطرة ومن استعمال الأدوات الممنوحة لهم من الله لأجل تمييز الحقّ عن المجاز والصدق من الكذب والصفاء من المكر والواقع من الاعتبار.

  • بيان علل استعلاء واللاهثين وراء السلطة من أصحاب المال والقوّة وسلاطين الجور

  • فإنَّ هذه القلاع والقصور كقصر «نمرود» و«فرعون» و«نيرون» و«التتار»، وقصور إمبراطوريّة الصين وشاهات «الأخمينيّة» و«الساسانيّة»، وقصور سلاطين «الروم» و«اليونان» مع ما لديهم من الخدم والحشم والجنود، كانت كلّها من أجل هذا الأمر؛ يعني: من أجل إبعاد الروح والنفس عن الإرادة والاختيار، ومن أجل التحكّم بالنفوس وإبعادها عن الهويّة البشريّة المستقلّة،‌ وعزلها عن الارتباط بمبدأ الكون والوجود المطلق؛ وبالنتيجة بروز العجز والضعف والذلّ والعدم والفراغ ونضوب الرأسمال الإلهي من قبيل: الفطرة والعقل والاستقلال الوجودي عن ما سوى الله.

  • وكما يقول الإمام علي عليه السلام:

  • «يا بُنَيَّ، لا تَكُن عَبدَ غَيرِكَ وقَد جعلَك الله حُرًّا!»٢.

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٢٢٢.
    2. نهج البلاغة (عبده)، ص ٥۰، الرسالة ٣٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

64
  • ينسى أغلب الأشخاص هويتهم عند مواجهتهم لهذه المظاهر الكاذبة والشيطانيّة، وينحنون لعظمة قبضة من الأحجار والآجُر والخشب ويقعون دون أن يشعروا تحت السيطرة والتسلّط النفسي لذلك الفرد الماكر القادر والظالم، ويُصبحون مطيعين ومنقادين لكلّ ما تتعلق به إرادته ومشيئته. ويضعون على أعناقهم طوق العبوديّة للمخلوق الضعيف الفاني بدلًا من عبوديّة الخالق الجبّار وخالق السماوات والأرض، ويُلبسون أعمالهم رداء الرغبّات الشهوانيّة والنيّات الدنيئة ويضعون بدنهم وروحهم تحت اختياره في جوٍّ كاريزماتي۱.

  • أسابا تواضع الأفراد مقابل العظمة الظاهريّة والخادعة لأرباب المعابد والكنائس

  • وهذه المسألة ملحوظةٌ حتّى بين أرباب الكنائس والأديرة، فقد رُفعت المعابد والكنائس في هذا العصر وتطاول بنيانها إلى السماء، وطرازها المعماريّ والهندسيّ يُبهر كلّ من يراها؛ موقعها الجغرافيّ، وارتفاع المكان، ومراعاة الدقّة والاهتمام بالتفاصيل، واستخدام أغلى الأحجار ومواد البناء، وكيفيّة بنائها، ومكان الأسقف والبابا، وكذلك الزخرفة المنقوشة في الكنائس والأديرة كلّها تحكي عن أمرٍ واحدٍ، وهو تقوية القوّة الواهمة والمتخيّلة، وإزالة قدرة الفكر والتعقّل، والبعد عن الذات والهويّة الاستقلاليّة الإنسانيّة، والتواضع مقابل هذه العظمة الظاهريّة الفارغة، بحيث يقوم الإنسان لا إراديًا بتعظيم وتكريم أرباب المعابد، ووضعهم في مقامٍ رفيعٍ جدًا ومنزلةٍ استثنائيّةٍ جدًا تفوق المعتاد والسيرة والسُنّة وما هو متعارفٌ عليه.

  • ولكن حقّاً، لماذا يكون الأمر بهذا النحو؟ ولماذا يجب أن يضع الأفراد أنفسهم في مثل هذه الموقعيّة؟ فهل هم مختلفون عن باقي الناس كي يرغبوا بأن يطأطأ الآخرون رؤوسهم تبجيلًا لهم ويسقطون ذلًا وهوانًا أمامهم؟!

    1.  كاريزماتيّك (Charismatic) كلمةٌ يونانيّةٌ بمعنى الموهبة؛ والكاريزما مصطلحٌ يُطلق على خاصّيّة موجودة لدى الشخص وهي أنّه بحسب اعتقاده أو بحسب اعتقاد الآخرين يمتلك قدرةً على القيادة تفوق العادة، ويُستعمل هذا المصطلح غالبًا في العلوم السياسيّة وعلم الاجتماع، ويصفون به مجموعةً من القادة الذين تمكّنوا من خلال الاستعانة بقدراتهم الشخصيّة من التأثير العميق الذي لا نظير له على أتباعهم. (م)

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

65
  • يعود سرّ هذه المسألة إلى أنَّ هذا النوع من الأشخاص لا يشعرون بالارتباط بين الذات ومبدأ الوجود بسبب سيطرة الأنانيّة النفسيّة وغلبة الهوى والتمركز على الذات والعجب بالنفس، فلا يرى نفسه تحت إرادة الله ومشيئته القاهرة؛ ولذلك يرى لنفسه عظمةً وجلالًا فارغين وسلطةً (أهريمنيّة)۱ وعُلوّاً مجازيّاً وباطنًا فارغًا مقابل كبرياء الحقّ وعظمته. وبما أنّهم بعيدون عن الصفات الحسنة والمَلَكات العالية والراقيّة، ولا يمتلكون نقدًا ومالًا في سوق مكارم الأخلاق والمعرفة ولا يجدون في رأسمال وجودهم متاعًا يجذب أنظار أهل التشخيص والتعقّل، لذا يُصبحون مُجبرين على أن يُبرزوا القدرة الظاهريّة والمظاهر الدنيويّة التي تملأ العيون عن طريق المكر والخداع والإرعاب والتحذير، ومن خلال إبراز الرفعة والجلال الفارغين، ووضعها أمام العوام فيبعدونهم عن عزّة حضرة الحقّ وجلاله،‌ ويسلّمون كبريائه وعظمته بيد النسيان كي يتمكّنوا من الاستقرار على مركب الهوى والهوس قدر ما يستطيعون، ويحكمون الشعوب ويُسيطرون على إرادتهم واختيارهم،‌ ويمتطون جواد الهوس والاستبداد ويقفزون به.

  • والآن تعالوا لنقارن بين هذه السنّة والأسلوب وبين سنّة رسول الله والأئمّة المعصومين عليهم السّلام التي أمر بها وكانوا هم أنفسهم ملتزمين بها ومتقيّدين بها.

  • فمن جهةٍ هناك المعابد المشيّدة إلى علو السماء وبارتفاعات تعلو عن الخمسين مترًا وبحجارة قيّمة ورسومات تُذهل الناظر، وعجائب الزخارف والحرف والفنون، ومكان البابا الرفيع والأسقف وأرباب المسيحيّة واليهود،‌ وعلى هذا فقس.... وفي الجهة الأخرى، هناك مسجد المدينة الذي أقيم على التراب والحصير وبجدارٍ ارتفاعه لا يتجاوز المترين،‌ وسقفه من سعف النخل دون أيّ علامة أو شاخص لموقع إمام الجامعة وقائد المجتمع وحامل لواء الوحي وصاحب لواء الحمد والشفاعة الكبرى؛ وحتّى عندما طُلب منه أنَّ يبنوا سقفًا من الطوب والخشب على ذاك الجدار، لم يأذن وقال: أبدًا، «عريشٌ كعريش موسى»٢ ولم يتجاوز ذلك. فلماذا يجب أن يكون الأمر على هذا النحو؟ وما هو دافع رسول الله حتّى حكم بمثل هذا الأمر؟

  • إنَّ سبب هذه المسألة هو أصل التوحيد وأساس العبوديّة في قبال الربوبيّة، وقيام منهج الأنبياء على هذا الأساس ودورانه حول هذا المحور.

    1. أي: شعورًا بالألوهيّة المستقلّة عن ألوهيّة الله. (م)
    2. الكافي، ج ٣، ص ٢٩٥.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

66
  • ففي مدرسة الأنبياء الإلهيّين أصل الوجود وأساس الكون متمحّضٌ ومنحصرٌ في الذات الربوبيّة الواحدة، وأصل الخلقة والتحوّلات مترتّبة عليها، وكلّ شيءٍ ناشئ عن آثار الوجود الإطلاقي للحقّ، وما هو خارجٌ عن حيطة وجوده فهو العدم والفناء المحض.

  • دعوة الأنبياء والأولياء الإلهيّين هي دعوةٌ نحو ذات واجب الوجود فقط

  • ومن هنا، فإنَّ دعوة الأنبياء والأولياء الإلهيّين سوف تكون نحو ذات واجب الوجود فقط وفقط، ولا سبيل لأيّ شائبة من وجودهم في هذه الدعوة، فلماذا إذن يجب أن يتصرّفوا مثل الحكام والسلاطين وأرباب الكنيسة والكنيس؟ وأيّ ضرورةٍ يشعرون بها من أجل تقليدهم واتباعهم؟

  • علاوةً على ذلك وهو الأهمّ، يجب أن لا يوجد في مكان عبادة العِباد أي رادعٍ أو مانعٍ عن التوجّه إلى ذات المعبود، وينبغي أن لا يجد العبد لله في قلبه ونفسه حال عبادته إلّا الله، ويجب أن يكون متوجّهًا إلى الساحة الربوبيّة بكامل وجوده؛ ولهذا السبب، فإنّ أيّ شيءٍ يمنعه من مثل هذا الهدف سيتعارض مع أصل العبادة والتحرّك نحو عالم التوحيد.

  • في مدرسة الأولياء الإلهيّين العزة والكبرياء هي لله فقط

  • في مدرسة الأولياء الإلهيين العزة لله وليست لعباد الله، فالكبرياء رداءٌ لا يليق إلّا بالقامة الشامخة لربّ العزّة، لا القامة القبيحة للمدّعيين والمحتالين، فالعبودية لا تليق إلّا لذات ذو الجلال، ولا تليق بأصحاب الشهوات والظالمين، والتعظيم جميلٌ إذا كان أمام العظمة اللامتناهية للحقّ عزّ وجلّ، لا للخسيسين وأصحاب الفطرة المنحطّة، والسجدة ينبغي أن تكون لخلّاق الأرضين والسماوات، لا الشياطين والوحوش.

  • ولذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يكون المسجد خاليًا من أيّ أثرٍ ومظهرٍ قد يصرف توجّه العبد عن الذات الإلهيّة المقدّسة، كما أوصى أن تكون مراكز العبادة بأبسط شكلٍ مُمكنٍ. 

  • ففي مسجد رسول الله العزّة والكبرياء لله، أمّا في الكنائس والمعابد فهي للقائمين عليها ولأصحابها. 

  • الدعوة في مسجد رسول الله إلى ذات الواحد القهّار، أمّا في الأماكن الأخرى فالدعوة إلى أصحاب تلك الأماكن والمتصدين لشؤونها. 

  • النداء في مسجد رسول الله نداءُ التوحيد، أمّا في الأماكن الأخرى فالنداء نداءُ الكثرة والتوجّه للنفس. 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

67
  • لا فرق في مسجد رسول الله بين مكان جلوس خاتم النبيّين وافتخار عالم الخلقة مع مكان باقي المشاركين ولو برأس إبرة، أمّا في الكنائس والمعابد فالقس والحاخام وغيرهما يجلس في أرقى وأعلى وأبرز نقطة. 

  • النداء في مسجد رسول الله: «الله أكبر»، أمّا في الأماكن الأخرى: أنا أكبر، حتّى لو احترزوا عن ذكر ذلك باللسان. 

  • ما يُروّج له في مسجد رسول الله هو العبوديّة المطلقة في قبال الربوبيّة المطلقة، أمّا في المعابد الأخرى فإنَّ الدعوة لربوبيّة النفس والأنانيّة والفرعونيّة.

  • ولو أتى شخصٌ إلى المدينة للقاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودخل إلى المسجد لما عرف من هو رسول الله، إذ ليس هناك ما يُميّز الرسول عن الحاضرين، فلا يوجد حارسٌ أو حاجبٌ أو مكتبٌ لتنظيم اللقاء به ولا انتظارٌ لوقتٍ طويلٍ ولا توجد وسائط وأثاث [خاصّ به]، كان يجلس كسائر الأفراد في المسجد ويقوم برتق وفتق الأمور هناك، وكان صادقًا مع الجميع، ولم يكن من سبيلٍ للمكر أو الخداع في علاقاته.

  • في يومٍ من الأيّام قال لي والدنا المرحوم رضوان الله عليه:

  • قصّةٌ تتعلّق بتصرّفٍ إزدواجيٍّ من قبل أحد العلماء المعروفين والمشهورين

  • في تلك السنوات التي كنتُ قد هاجرتُ فيها للتوّ من النجف إلى إيران، واخترتُ السكن في طهران، ذهبتُ من أجل أمرٍ حياتيٍّ إلى إحدى المدن للقاء أحد العلماء المعروفين والمشهورين؛ وبما أنّني لم أشأ أن يطلّع شخصٌ آخر على هذا اللقاء قررتُ أن ألتقي بذلك العالم بين الطلوعين. وفي صباح اليوم التالي، اتجهتُ بعد أداء الصلاة نحو منزل ذلك الشخص، وعندما وصلتُ إلى بيته، كان الجوّ مازال مظلمًا. طرقتُ الباب، ففتح الخادم لي الباب، ولأنّه يعرفني واكبني إلى داخل المنزل، وقال في الضمن: ما زال سماحته في «الجوّاني» ولم يخرج بعدُ إلى «البرّاني»، وسأذهبُ الآن لأطلعه على قدومك. وبعد مضيّ ثلاث أو أربعة دقائق عاد الخادم، وقال: سماحته في هذه الغرفة المجاورة، وهو ينتظرك الآن، فقمتُ ودخلتُ الغرفة. فرأيته جالسًا خلف مكتبه بزيه الرسمي منشغلًا بالمطالعة في أحد الكتب الفقهيّة من القطع الرحلي، في حين أنَّ الخادم كان قد قال: إنّ سماحته لا يزال في «الجوّاني» وسيكون في خدمتك قريبًا! عندما شاهدت هذا المشهد، قلت في نفسي: مع الجميع نعم، ومعي أيضًا نعم؟! فقمتُ وقطعتُ ارتباطي به بشكلٍ دائمٍ.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

68
  • تغيير سُنّة الرسول الأكرم بعد ارتحاله بواسطة الخلفاء وسلاطين الجور

  • للأسف، لقد تمّ تغيير سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعد ارتحاله بواسطة خلفاء الجور، وجعلوا أساليبهم ومرامهم مثل باقي السلاطين والحكّام وإمبراطوريّات باقي الملل والنحل.

  • شيّدوا القصور والقلاع الضخمة بعنوان حفظ ماء وجه الإسلام ومراعاة شؤون سلاطين الإسلام، ولوثوا مساجد المسلمين مثل الكنائس بالذهب والزينة والزخارف والصور واستخدام أنواع الفنون، والأثر الوحيد الذي لم يعد يُشاهد فيها هو نداء التوحيد والتوجّه إلى الوجود المطلق للحقّ والتواضع والعبودية ورفض الاعتبارات والتعيّنات، وأصبح أئمّة الجماعات كأرباب الكنائس في الاهتمام بتزيين المسجد والمحراب والمنبر وزخرفته ويتسابقون فيما بينهم في ذلك، ويسعى كلّ واحدٍ منهم لرفع مكانته على الباقين.

  • ابتعادُ المساجد في أيّامنا عن المسار الذي رُسِم في مدرسة الإسلام وعن أوامر الرسول الأكرم

  • وقد حرم استمرار هذا النهج غير المقبول إلى يومنا هذا الجميع من إدراك فيض الحضور في المساجد بالأسلوب والسنّة الإسلاميّان. 

  • ففي عصرنا الحالي، ابتعدت مساجدنا عن المسار الذي رسمه لها الإسلام ومدرسة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فالزخرفة بالكاشي والمرايا والزخارف الأخرى بما في ذلك الترصيع بالذهب أبعدها تمامًا عن السنّة السنيّة لأولياء الحقّ، فإنَّ المصلين يُفكّرون بكلّ شيءٍ في هذه المساجد سوى بالحضور المطلق بلا أيّ قيدٍ لله؛ ولا يجب أن يُفكّروا بها؛ لأنَّه لا مكان لله في هذا المكان، وذهنهم وقلبهم مضطربٌ ويتحرّك بكلّ اتجاه إلّا باتجاه التوّجه نحو الخالق المعبود؛ وجميع ذلك يعود إلى تقوية القوى الواهمة والخياليّة. 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

69
  • ففي هذه الأماكن عوضًا عن التعليم والتربية الإسلاميّة الصحيحة والمتقنة وبدلًا من تنوير الأذهان بالمعارف الأصيلة لمدرسة التشيّع، يسعون إلى الرفعة والتفاخر والعلوّ والتفوق على الآخرين، ويسعى الناس نحو اكتساب الامتيازات الاجتماعيّة بصورةٍ أكبر ونحو الشهرة وأن يصبحوا معروفين على الصعيد الشخصي، ولا يتورعون أبدًا عن كتمان الحقائق ومعارف مدرسة أهل البيت عليهم السلام بعذرٍ واهٍ وهو مراعاة المصالح والمسائل الاجتماعيّة؛ وفي المقابل لا يتورّعون عن نشر المطالب الخاطئة ولا عن تشويش الأذهان وتمويه الأفكار بشتى أنواع الطرق.

  • وفي هذه الحالة، كيف يمكننا أن نفصل طريقنا ومسيرنا عن باقي الفرق والأديان، ونعدّ أنفسنا على حقّ والباقي أهل الضلالة والبطلان؟ ألم نسلك نحن ذات السبيل والطريق الذي كنّا نذمّه ونملّ منه ونقدح فيه؟ وألم نقم بتقوية الخيالات وتعزيز الأوهام والتصوّرات غير الواقعيّة عوضًا عن تحسين القوى العقلانيّة والفطريّة؟

  • خلال بعض الأسفار كان طريقي يمرّ بتلك الكنائس الكذائيّة وبقصور الحكّام والسلاطين، فكنتُ أجلس جانبًا وأغرق في أفكاري وأقول مخاطبًا نفسي: ألسنا مثل هؤلاء الأفراد وأصحاب السلطة والتزوير؟! وأليس هذا هو نفس الملاك والمعيار الذي قام عليه الماضون وقام عليه جيلنا المعاصر وهو نفسه الذي جعلهم يقومون بهذه الأعمال في مقام الترفّع والأنانيّة والاستكبار..‌ أليس هو نفسه موجودٌ بيننا وبين مسؤولينا ودعاتنا؟!

  • أهميّة منزلة الحكمة في رؤية القرآن الكريم

  • وهنا نفهم عمق الآية الشريفة حول حضرة لقمان ومفهومها، والتي تقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَة﴾۱؛ أو آية: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثيرا﴾٢،

  • فمن يُؤتَ الحكمة، فقد نال الخير العظيم والصلاح والفلاح الأبديّ.

    1. سورة لقمان (٣۱)، صدر الآية ۱٢.
    2. سورة البقرة (٢)، قسم من الآية ٢٦٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

70
  • الحكمة تعني: انكشاف الباطن ورفع الإبهام في موارد الشك، ووضوح الأحداث والظواهر الخارجيّة، وهل يُمكن للشخص الذي ينال مثل هذه النعم العظيمة أن يضل وينحرف؟! وهل تستطيع الحوادث والأيّام أن تحرفه عن مسيره المستقيم؟! وهل يمكن لكثرة العدد وللإعلام الواسع والشائعات العجيبة الغريبة أن تُؤثّر على ذهنه وفكره؟! هیهات! فهو يُصحّح سيره وكذلك يُنقذ الآخرين من ورطة الهلاك، ويُوجههم إلى ساحل السعادة والفلاح في ظلّ نور الحكمة وشعاع شمس الهداية، وبهذا اللحاظ يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «ضلَّ مَن ليس له حكيمٌ يُرشِدُه».۱

  • يعني: «ضلّ وانحرف الشخص الذي لم يضع يده بيد الحكيم والشخص الذي قطع الطريق إلى نهايته والذي يمتلك ضميرًا منيرًا الذي يعرف الصلاح والفساد جيّدًا، ويستطيع التفريق بين الطريق والحفرة، ويُميّز بين الطرق الملتوية وبين الصراط المستقيم، ولم يُسلّم نفسه له».

  • كلام أمير المؤمنين عليه السلام في بيان أوصاف الأولياء الإلهيّين

  • ويقول في وصف نفس هؤلاء الأفراد: 

  • «هَجَم بهم العلمُ علی حقيقة البصيرة وباشَروا روحَ اليقين، واستَلانوا ما استَوْعَره المُترِفونَ، وأنِسوا بما استَوحَشَ منُه الجاهِلونَ، وصَحِبوا الدُّنيا بأبدانٍ أرواحُها مُعَلَّقةٌ بالمَحَلِّ الأعلى، أولئك خلفاءُ اللهِ في أرضِه، و الدُّعاةُ إلى دينِه».٢

  • أي: «إنّ العلم والمعرفة بالواقع وانكشاف الحقائق القابعة خلف الستار قد أمطرت على قلوبهم وضمائرهم، ورضوا بالأمور الصعبة التي لم يرضى به المسرفون والمترفون، ومسّوا جوهر الإيمان واليقين بأرواحهم وقلوبهم، وألفوا واستأنسوا بالحقائق التي يخشاها ويستوحش منها الجهلاء والبعيدون عن وادي العلم والمعرفة، وقد عاشوا في هذه الدنيا بأبدانهم وأجسادهم، لكنّ أنفسهم وأرواحهم كانت متّصلةً بعالم القدس والمحلّ الرفيع من الطهارة والأنس، أولئك هم خلفاء الله على الأرض ودعاة البشر إلى دين الله».

    1. الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، ص ۸٥٩.
    2. نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ۱۷۱.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

71
  • نعم إنّ عدم الاشتغال بذكر الله والاهتمام بزخارف الدنيا والحرمان من نصيحة المشفقين وعِبَر الناصحين، والانخداع بتملّق المتملقين وإطراء الحواريين المزوّرين والمحتالين، والوقوع في أيدي المنحرفين والمزايدين، وبالمديح والثناء والتمجيد والتقديس، كلّ ذلك يُقوّي القوّة الواهمة عند الإنسان ويُضعف نور العقل والإيمان، وعند اشتداد القوى الخياليّة والوهميّة يظنّ الصلاح فسادًا، والفساد صلاحًا، فيعتبر نصيحة المشفقين عداوةً وخصومةً، ومدح المتملّقين وثناءهم محبّةً ولُطفًا، فيقوم من حوله بتعزيز رأيه وتأييد منهجه الخاطئ والمنحرف بدلًا من نقده وإصلاحه، فيترك أصدقائه الواقعيين والملتزمين مكانه ليجلس عنده حفنةٌ من الأفراد الوصوليّين المؤيدين.

  • ويبتعد عنه العلماء وأصحاب العقل والسداد، ويجلس مكانهم طالبو الدنيا ممّن لا خبر لديهم عن الله ومن أصحاب السيرة الشيطانيّة، فيسوقونه في مسير الأهواء والهوس نحو جهنّم والنيران الإلهيّة، ويصل في عاقبته بأيدٍ خاليةٍ وعمرٍ ذرته الرياح ورأسمالٍ مهدورٍ، ويُغادر إلى الديار الأبديّة ومقام المفسدين والظالمين بحقيبةٍ مثقلةٍ بالمسؤوليّات والجفاء والأسئلة، ﴿خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِين﴾۱.

  • وصايا أمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلّق بتذكّر بالموت وأخذ العبرة من الماضين

  • «وذلِلْـهُ بِذِكرِ المَوتِ، وقَرِّرهُ بِالفَناءِ، وبَصِّرهُ فَجائِعَ الدُّنيا، وحَذِّرهُ صَولَةَ٢ الدَّهرِ، وفُحشَ تَقَلُّبِ اللَّيالي والأَيّامِ، واعرُضْ عَلَيهِ أخبارَ الماضينَ، وذَكِّرْهُ بِما أصابَ مَن كانَ قَبلَك مِنَ الأوَّلينَ».

  • يعني: «أخضع قلبك من خلال ذِكر الموت والانتقال إلى عالم الآخرة، وامنعه بذلك عن الطغيان وطلب التفوّق، واجعل ذكرى البوار والفناء والعدم حيّةً في نفسك وثابتةً في ضميرك على الدوام، وأطلعه على الحوادث المؤلمة ووقائع الدنيا المرّة، وحذّره من غلبة الدهر وسقوط الظالمين والمستكبرين، ومن عدم استقرار تقلّب الليل والنهار، وأطلعه على قصص الماضين ذات العبرة، ونبّهه بما جرى على الأجيال السابقة».

    1. سورة الحجّ (٢٢)، ذيل الآية ۱۱.
    2. الصولة: من صال، أي وثب واستطال.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

72
  • عند مرور أمير المؤمنين عليه السلام من مدائن وعندما وصل إلى إيوان كسرى، ترجّل عن مركبه، وصلّى ركعتين، وتلا هاتين الآيتين: 

  • ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُون‌ ، وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَريم‌ ، وَنَعْمَةٍ كانُوا فيها فاكِهين‌ ، كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرين ، فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرين‌‌﴾۱.

  • يعني: كم ترك هؤلاء من بساتين مليئة بالخضرة وعامرة بالشجر وعيون الماء العذب ومضوا عنها، فأخلوا مزارعهم النضرة ومقامهم الرفيع، ومضوا إلى منزل الآخرة، وكم هي كثيرةٌ تلك النعم والملذّات التي غرقوا فيها فخرجت من أيديهم بأجمعها. نعم، هذه هي سنّة الله ومشيئته بحيث يأخذ هؤلاء ويضع مكانهم مجموعاتٍ أخرى وأقوامٍ آخرين، فلم تبكِ في رثائهم السماء ولم تحزن عليهم الأرض، ولم يكن لديهم مهلةٌ من قبلنا ليحيوا ويعيشوا أكثر».٢

  • يقول الخيّام:

  • آن قصر که جمشید در آن جام گرفت***آهو بچه کرد و روبه آرام گرفت
  • بهرام که گور می‌گرفتی همه عمر***دیدی که چگونه گور بهرام گرفت؟ 
  • [يقول: ۱- ذلك القصر الذي كان «جمشيد» يأخذ فيه قدح الفتح، قد خرب وصار مزبلةً فوضعت الغزالة مولودها فيه، واستقرّ فيه الثعلب

  • ٢- هل رأيت كيف أنّ «بهرام» الذي كان يصطاد فريسته طوال عمره، هل رأيت كيف أنّ القبرُ أخذه واصطاده؟].

  • تأكيد وتشجيع الأعاظم على زيارة أهل القبور ومشاهدة آثار السابقين لأجل أخذ العبرة

  • كان العظماء يشجعون تلامذتهم دومًا على زيارة أهل القبور ورؤية آثار السابقين لأخذ العبرة.

  • فقد أوصى المرحوم القاضي ـ رضوان الله علیه ـ تلامذته بزيارة أهل القبور، وأن يجلسوا بعد قراءة الفاتحة في زاويةٍ وأن يمضوا ساعةً من الوقت بالصمت والخلوة والتفكّر في المآل وفي عاقبة الأمر وفي الموت، وكان يقول:

    1. سورة الدّخان (٤٤)، الآيات ٢٥ إلى ٢٩.
    2. بحار الأنوار، ج ۸٩، ص ٢٩٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

73
  • «لهذا الأسلوب تأثيرٌ جيّدٌ في قطع التعلّقات، والتفات النفس إلى مبدأ الوجد، ويمنع من الالتفات إلى الكثرات».۱

    1. كان لوالدنا المرحوم، العلّامة الطهراني ـ‌ رضوان الله علیه ـ رفيقٌ ذو ضميرٍ حيٍّ وقلبٍ صافي، وكان ذو مكاشفاتٍ معنويّةٍ وروحانيّةٍ، ويُدعى المرحوم الحاجّ هادي الأبهري الخان صنمي ـ رحمة الله علیه ـ وقد أدرك هذا الحقير محضره واستفاد منه إلى سنّ السابعة عشر، وقد قال يومًا من الأيّام: 
      «كنتُ كثير السفر خلال فترة شبابي بسبب مقتضيات العمل؛ وفي كثيرٍ من الأحيان كنتُ أنتقل سيرًا على الأقدام حتّى وكنتُ أطوي المسافات بين المُدن، وفي ظهر يومٍ من أيّام فصل الصيف كان الهواء حارًّا جدًا وغلب عليّ العطش، فجلستُ إلى جوار جبل يجري أسفله ماءٌ زلالٌ من عينٍ في أسفله، وتسمّرت عيناي في الصحراء والسكوت الغريب الحاكي عن عدم وجود حياتٍ في تلك النواحي، وفجأةً خطر ببالي ما يلي: هل يوجد احتمالٌ أنّه كان هناك أفرادٌ كانوا يعيشون في هذه المنطقة في يومٍ من الأيّام؟ وأنّهم كانوا ينعمون بنعمة الحياة ووجود مجتمع وبضجّة الحياة، أمّ أنّه من الأساس لم يسكن في هذه الأرض أحدٌ حتّى الآن، ولم يطأها أدميٌّ؟
      وفي هذه الأثناء، رفع الله الستار عن عينيّ، فنظرتُ فرأيتُ أنّه في نفس هذا المكان الذي جلستُ فيه، كان هناك العديد من القبائل والأفراد والأجيال التي تعاقبت على طول التاريخ؛ جاؤوا وبنوا المنازل والمُدن والقرى والحدائق، ثمّ حلّت مجموعةٌ أخرى مكانها وعاشوا لمئات السنين ورحلوا أيضًا، وجرت الأمور على هذا المنوال بحيث لم أستطع أن أحفظ عددهم في خاطري وكان الأمر غير قابل للعدِّ والإحصاء».
      وكان لهذا العبد سفرٌ إلى شيراز في زمن المرحوم الوالد رضوان الله علیه، وبعد عودتي ذهبتُ إلى محضر سماحته في مشهد وأخبرته عمّا جرى في السفر. 
      وفي تلك الأثناء، قال: «هل ذهبت لزيارة "تخت جمشيد"؟»
      وكان الحقير قد ذهب في السابق، ولكنّني لم أذهب في هذه السفرة، فقلتُ: لا لم أذهب.
      فقال: «من الجيّد أن يذهب الإنسان إلى هذه الأماكن ويأخذ العبرة، وأن يستفيد من الأحداث والمسائل التي مرّت على الماضين، وأن يعتبر منها لمستقبله».
      بالطبع إنّ هذا التوجيه يختلف تمامًا عما هو متداولٌ بين العوام وأولئك الذين ابتعدوا عن مسار التكامل والحياة اختلافًا جوهريّاً وماهويّاً. فقد تعرّض البعض إلى هذه الآثار من باب إحياء الآثار القوميّة وسنن القدامى وتاريخ الماضين، وكان الفخر بتلك الحقبة هو مصبّ الاهتمام، وهذا بنفسه خطأٌ فاحشٌ جدًا ونهجٌ مرفوض ومذمومٌ بشدّة.
      فلا مكان لإحياء آثار الجاهليّة وللسُنن غير الالهيّة وللخرافات القوميّة في فضاء التوحيد والاهتمام بالتعاليم الالهيّة، فبدلًا من سوقه إلى المبدأ والتوجّه إلى التوحيد والنظر إلى المستقبل والمآل، تسوقه إلى الالتفات إلى مظاهر الكثرة وعلامات الجاهليّة وآثار الأنانيّة وظلم الظالمين، وإلى أصحاب المال والسُلطة الذين لا خبر لديهم عن الله والإنسانيّة، وإلى الحكومات القمعيّة المعاديّة للشعوب، وبدلًا من الالتفات إلى مباني التوحيد وأصوله التي تمّ‌ تفسيرها بلسان الشريعة وبواسطة الأولياء الإلهيّين، تجعله يميل نحو الخرافات والمسائل الواهية والعابثة؛ أمّا مشاهدة هذه الأماكن بقصد التنبّه والتوجّه وأخذ العبرة وتصحيح الأفكار وإيجاد مسير الحياة، فهو أمرٌ مناسبٌ ومفيدٌ جدًا ولا إشكال فيه.
      ولأمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة خطبةٌ في ذمّ الاهتمام بآثار السلف والتفاخر بها على الآخرين، وهناك نقاط لافتة وغريبة في تفسير سورة {أَلْهاكُمُ التَّكاثُر} حول آثار الماضين* وتُعتبر مطالعتها من أهم المسائل للجميع.
      *نهج البلاغة (عبده)، ج ٢، ص ٢۰٤، الخطبة ٢۱٥.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

74
  • وجهة نظر الأعاظم فيما يتعلق بكيفيّة زيارة الأئمّة المعصومين عليهم السّلام

  • وكذلك في حرم المعصومين عليهم السّلام يجب على الزائر أن ينتحي بعد الزيارة في زاويةٍ وأن يجلس ويمضي بعض الوقت في الصمت والتفكر، فإنَّ القراءة الكثيرة للأدعية، والدوران بين كافة الأدعيّة والزيارات والاستمرار بالقراءة، تمنع الإنسان من النصيب والفائدة الأكثر.

  • فعلى الزائر أن يستشعر حضور الإمام المعصوم إلى جواره، وأن يُسلّم نفسه إليه، وأن يعتبر ولايته عليه فرضًا وواجبًا، وأن يجعل نفسه منقادًا له فيحدّثه ويحاوره في باطنه وسرّه ويناجيه، فيعدم نفسه ويفنيها في نفس المعصوم عليه السلام، ويستذكر حياة الإمام عليه السّلام والأحداث التي مضت عليه ويضع نفسه في ذلك الزمان وفي تلك الظروف ويقيس بالميزان حالته وهو إلى جوار الإمام عليه السلام، وفي حال الخطأ والاشتباه يسعى إلى تصحيح مساره، ويُرمّم ماضيه ويجبره، ويبدي الجدّية والاهتمام في قبول ملزومات الإمامة والولاية بكلّ ما لديه من قدرة واستطاعة، وعند ذلك وفي هذه الحالة سوف يكون له من هذه الزيارة نصيبًا أكبر وبركةً أعظم وتقرّبًا أعلى تبعًا لذلك.

  • ولن تكون زيارة الأئمّة المعصومين عليهم السلام مثمرةً لو تخلّلها الصراخ والنواح والصرخات العالية والصاخبة، بل ستكون سببًا في انزعاج الآخرين وسلبهم الراحة ورفع حضور القلب من الزائرين؛ وهذا عين المعصية والاشتباه. 

  • فالإمام يسمع نجوى القلب، ومطلّعٌ على مكنون خاطرنا، ومشرفٌ على مكنونات سرائر ضمائرنا إشرافًا كلّيًا، ولا يحتاج إلى صوتٍ وصراخٍ ولا عرض الحاجة بالصرخات الخارجة عن الأدب.

  • فالأفراد الذين يقومون بقراءة المجالس والأشعار وإصدار الأصوات في حرم الأئمّة عليهم السّلام، لن يكونوا محلّ نظرهم وتوجّهم قطعًا، فلا ينبغي الخروج عن حدّ الأدب والاحترام في حرم الأولياء الإلهيّين ومزارهم؛ ويجب إبراز الأدب والاحترام أمام ساحة وجودهم المقدّس وينبغي إبراز الوفاء والعشق والطاعة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

75
  • وكثيرًا ما نرى الزائرين لأئمّة البقيع عليهم السلام يقتربون من القبور بأحذيتهم ويقتربون من المراقد المطهّرة ويبدؤون بقراءة الزيارة، وهذا العمل يعتبر في كمال الإهانة وقلّة الأدب في قبال المعصومين عليهم السلام، فما الفرق بين حرم الإمام الرضا عليّه السّلام وحرم أئمّة البقيع عليهم السّلام كي يكون هذا الفرق الشاسع بينهما في الحركات و كيفيّة الزيارة؟! جميع هذه المسائل ناشئةٌ عن جهل الزائر الذي ملأ بصره وسمعه الباب والحائط والمرايا والطلاء بالذهب والأربعون فانوس، فأصبح غافلًا عن التوجّه إلى باطن الإمام ونفسه الولائيّة.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام المتعلقة في التأمل والسير في آثار وديار الماضيين

  • «وسِرْ في ديارِهِم وآثارِهِم، فَانظُرْ فيما فَعَلوا، وعَمّا انتَقَلوا، وأينَ حَلّوا ونَزَلوا، فَإنَّكَ تَجِدُهُم قَدِ انتَقَلوا عَنِ الأَحِبَّةِ، وحَلّوا دِيارَ الغُربَةِ؛ وكأنّكَ عَن قَليلٍ قَد صِرتَ كَأحَدِهِم؛ فَأَصلِح مَثواكَ، ولا تَبِعْ آخِرَتَك بِدُنْياكَ».

  • يعني: «تفكّر في ديار الماضين وآثارهم (سواءً من خلال رؤية منازلهم الخربة وآثارهم الباقية ومساكنهم المتهدّمة، أم من خلال مطالعة تاريخهم وقراءة كتبهم وآثارهم الباقية)، فتأمّل عملهم وتصرّفاتهم جيّدًا، وانظر أنّهم انتقلوا من أيّ الأماكن، وحلّوا في أيّ المنازل ونزلوا فيها (انتقلوا من المنازل الرفيعة والقصور المرتفعة والبساتين الخضراء ليصبح مأواهم قعر التراب وداخل القبور) وفي هذه الأثناء سترى أنّهم ابتعدوا عن أصدقائهم ومسامرة الأحبّة، وجاؤوا إلى ديار الغربة والوحدة، 

  • وأنتَ أيّها الحسن! سوف تصبح في المستقبل القريب مثل واحدٍ منهم، وسوف تمضي في نفس الطريق الذي مضوا فيه؛ لذا أصلح وضعك ومثواك،‌ ولا تبع آخرتك بالدنيا».

  • إنّ هذه الفقرة من وصيّة الإمام، تستحقّ التأمّل فعلًا؛ لأنّه من خلال هذا البيان يُصبح واضحًا للعيان أنّه ليس هناك من اختلافٍ بين الماضين واللاحقين، ولا يوجد في البين إلّا الزمان هو الذي فصل بين الجيلَيْن، وليس هناك من امتيازٍ آخر بينهما.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

76
  • ومن هذا المنطلق يقول الإمام الصادق عليه السّلام:

  • «إِذَا أَنْتَ حَمَلْتَ جَنَازَةً فَكُنْ كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمَحْمُولُ [وتصوّر أنّهم يسيرون بك إلى قبرك الأبدي، وبالتالي انتبه لنفسك ماذا هيّأت من زادٍ لذلك اليوم! وما هو العمل الذي ستأخذه معك!]».۱

  • الأوامر والدستورات العمليّة عن أمير المؤمنين عليّه السّلام في أبعاد الحياة الشخصيّة والإجتماعيّة.

  • «ودَعِ القَولَ فيما لا تَعرِفُ، والخِطابَ فيما لَم تُكلَّفْ، وأَمسِك عَن طَريقٍ إِذَا خِفتَ ضَلالَتَهُ، فَإنَّ الكَفَّ عِندَ حَيرَةِ الضَّلالِ خَيرٌ مِن رُكوبِ الأهْوالِ٢».

  • يعني: «لا تتحدّث في موضوعٍ ليس من اختصاصك وليس لديك فيه خبرة، ولا تفتح فمك في الموطن الذي لم يكن عليك تكليفٌ فيه بأن تتكلّم، ولا تمضِ في طريقٍ وقد خفيت عليك نهايته؛ لأنّ التوقّف والسكون في مواطن الحيرة والخوف من الضلالة والانحراف أفضل من الوقوع في الهلكة ودمار الجسم والروح والدنيا والآخرة».

  • من هذه الفقرة وما يليها، يبدأ الإمام عليه السّلام بطرح الدساتير والقواعد العمليّة، ويطرح برنامجًا للحياة الشخصيّة والإجتماعيّة؛ ويبدأ حديثه عن كيفيّة الاتجاه والتكليف في حال الجهل والشكّ بالمسألة، فيُعيّن للإنسان بشكلٍ عامٍّ موقفه تجاه المسائل الخارجيّة والقضايا التي يُواجهها، ويُشخّص له تكليفه؛ سواءً في المسائل التي لديه علمٌ ويقينٌ تامٌّ بها، أم في المسائل التي فيها شكٌ وإبهامٌ، وما ورد في هذه الفقرات يجمع لما بين الحالات المختلفة، ويمكن حساب القدر المشترك بينها على أنَّه عدم وجود المصلحة والحجّة البيّنة على إقدام الإنسان في هذه الحالات.

  • العواقب الوخيمة للتكلّم في غير مجال تخصّص الإنسان وعلمه

  • المسألة الأولى: التكلّم في الموطن الذي لا يمتلك الإنسان فيه العلم والاطلاع الكافي على جوانب المسألة. فإبداء الرأي في هذه الحالة وسوق النّاس في اتجاهٍ معيّنٍ عينُ الخطأ ويؤدّي إلى الهلكة والعواقب الوخيمة.

    1. الكافي، ج ٣، ص ٢٥۸.
    2. الأهوال جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

77
  • ومن المعروف أنَّ النّاس يُبدون رأيهم ونظرهم في ثلاث مواضيع:

  • الأوّل: في مجال الطبّ وتشخيص الأمراض وصرف الدواء.

  • الثاني: في مجال البناء والأبنيّة. 

  • الثالث: في مجال الأحكام والمسائل الشرعيّة، وإبداء النظر في كافّة هذه المسائل خطأ، وخصوصًا التدخّل وإبداء الرأي في الأحكام الشرعيّة، وينبغي في هذا الموضوع على أهل الفضل والعلم الانتباه والحذر، وطالما لم يكن لديهم علمٌ ويقينٌ قطعيٌّ بالحكم أو بالمسألة الاعتقاديّة، فلا يفتحوا أفواههم بالكلام والفتوى. ولا يتصوّروا بأنَّ إظهار عدم المعرفة مُوجبٌ للمنقصة في الدين أو يبعث على توهين الشريعة.

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «لا تَقُلْ ما لا تَعلَم! بل، لا تَقُل كُلَّ ما تَعلَم!»۱، فلكلّ مقامٍ مقال.

  • ففي كثير من الأحيان، يؤدي إظهار أمرٍ من الأمور وبيانه إلى جلب المفاسد وتوالي العواقب الوخيمة؛ وحكم ذلك هو الحرمة. كما أن صرف الدواء من شخص غير طبيب حرامًا ويترتب عليه الدية والحساب والعقوبة؛ كما ورد في مضمون هذه الرواية.٢

  • تجنب الورورد في المسائل الملتبسة والمبهمة

  • المسألة الثانية: تُحذّر فقرةٌ أخرى من الوصيّة الإنسانَ من الدخول في المسائل الملتبسة والمبهمة، تلك المسائل التي يخفى على الإنسان صحّتها وسدادها، ومن الممكن أن تضعف قدرة الإنسان فيها على الفهم والتشخيص بسبب إصرار المحيطين وغلبة الشائعات وكثرة القيل والقال، ويُصبح من الصعب تمييز طريق الصواب عن غير الصواب، فيُسلّم الإنسان قدرته واختياره إلى حفنةٍ من الأفراد أو مجموعةٍ خاصّة ذات أهدافٍ مُعيّنةٍ، ويضعونه في مسارٍ لن تكون عاقبته فيه سوى سوءُ الحظّ والخسران.

  • وكم توجد من الوساوس في هذه المسألة؛ لأنّ تحديد التكليف أو عدم القيام بمسؤوليّةٍ خاصّةٍ، أو الشعور بلزوم رفع الظلم وأمثال ذلك كلّها تزيد من العلّة والانحراف، ثمّ يُضيفون على هذه الإجراءات اللون والصبغة الإلهيّة، ويعتبرونه من زمرة المتعهّدين والملتزمين بالوظيفة الشرعيّة.

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ٢٢۷.
    2. الكافي، ج ۷، ص ٣٦٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

78
  • تقول الآية الشريفة حول هذه الأمور:

  • ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلا﴾۱.

  • يعني: «لا تدخل في أمرٍ ليس لديك فيه قطعٌ ويقينٌ ولا تتبعه؛ واعلم أنّ الله سوف يسأل عن مسموعاتك ومُبصراتك وعن إدراكاتك الباطنيّة وأحكام ضميرك وما أودعه فيك».

  • توضیح وتفسير كلام الإمام صادق علیه السّلام: الأمور ثلاثة...

  • يقول الإمام الصادق عليه السّلام:

  • «إنّما الأُمورُ ثَلاثةٌ: أمرٌ بَينٌ رُشدُه فَيُتَّبَع، وأمرٌ بَیِّنٌ غَيُّه فَيُجتَنَب، وأمرٌ مُشكلٌ يُرَدّ علمُه إلى الله وإلى رسوله. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم: حلالٌ بَيّنٌ وحرام بَيّنٌ وشبهاتٌ بَینَ ذلك، ومَن تَرك الشُّبُهاتِ نجى مِن المُحَرَّمات، ومَن ارتَكبَ الشُّبُهاتِ دخل في المُحَرَّمات و هَلك مِن حيث لا يَعلم».٢

  • إنّ القضايا والأمور التي تحيط بالإنسان وتلّف به لا تخرج عن ثلاث حالات:

  • الحالة الأوّلى: قضيّةٌ تكون الصحّة فيها واضحةً والصلاح فيها جليّاً، دون أيّ نقطة إبهامٍ أو شكٍّ وبالطبع على الإنسان أن يُرتّب الأثر عليها ويؤدّيها.

  • الحالة الثانية: عكس الصورة الأولى؛ يعني: يكون الفساد والهلاك والظلمة مشهودين في القضيّة بوضوحٍ، وليس هناك أدنى شكٍّ في ذلك، وفي هذه الحالة أيضًا، الواجب على الإنسان واللازم عليه تجنّب الدخول فيها وعدم الإقدام عليها.

  • الحالة الثالثة: المواطن التي لا يتّضح فيها الصلاح والفساد؛ ومن المحتمل أن يُؤدّي دخول الإنسان بها إلى الهلكة والندم، وفي هذه الحالة يجب الاجتناب عن هذه المواطن أيضًا؛ لأنَّ الخشية هي أن يقع في الحرام والهلكة؛ فيخطّ بخط البطلان على كافّة الاستعدادات والإمكانات التي يمتلكها بدون أن يعلم أو يشعر، فيُبتلى بالندم المستمرّ.

    1. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ٣٦.
    2. الكافي، ج ۱، ص ٦۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

79
  • وقد وضّح الإمام عليه السّلام في هذه الرواية وظيفة الجميع وتكليفهم أمام هذه الصراعات والاختلافات وبين الانقسام إلى فئتين أو فئات متعدّدة. وهي مسألةٌ لطالما أرّقت الجميع خلال الحياة وعبر التاريخ وشغلت الجميع بها.

  • ضرورة القيام بالأمور بناءً على أساس العلم والقطع أو الحجّة الشرعيّة

  • لا شك أنَّ الصلاح والرشد الواضح والجليّ إنّما يحصل عندما يكون للفرد علمٌ وقطعٌ به أو بواسطة الحجّة الشرعيّة التي هي مثل علم المكلّف وقطعه التي تُوصله إلى ذلك الطريق، حتّى لو لم يكن لدى الإنسان اطلاعٌ على ذلك الموضوع؛ كرجوع المريض إلى الطبيب الحاذق في صورة تأييد أهل الخبرة والتشخيص؛ كرجوع المُقلّد إلى المجتهد الجامع للشرائط المُتّصل بعالم الغيب والمُشرف على مصالح ومفاسد الحكم والإنسان، وبالإضافة إلى وصوله إلى مرتبة استنباط الحكم الظاهري، يكون مطّلعًا بقلبه وضميره على أسرار عالم الملكوت ويرى الحوادث بعين الباطن (لا من خلال الراديو والجريدة اليوميّة والأخبار المنقولة من زيد وعمرو فقط) ويُدرك المشاهدات الملكوتيّة والقلبيّة بالعيان، فيرى نفسه في تلك الواقعة والحادثة بالعلم الحضوري، بل يكون حاضرًا وناظرًا بالعين الحضوريّة.

  • في هذه الحالة، إنَّ طاعة مثل هذه المجتهد أمر واجب، وحكمه كعلم وقطع الإنسان نفسه، فيكون ملزمًا ونافذًا.۱

  • وإذا أردنا تقديم مصاديق لهذه الصورة، فيجب علينا أن نذكر أفرادًا من قبيل: المرحوم السيّد بحر العلوم، المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمداني والمرحوم السيّد أحمد الكربلائي، و المرحوم السيّد علي القاضي، و العلّامة الطباطبائي والعلّامة الطهراني رضوان الله عليهم أجمعين.

  • وفي غير هذه الحالة، لا ينبغي أن تكون الطاعة والانقياد مطلقتين، وعلى المكلّف مراعاة موازين الاحتياط بحسب مراتب قرب المجتهد وعلمه ومعرفته، ويجب عليه الالتزام بالمباني والأحكام بمقتضى مقام الثبوت لا الإثبات؛ لأنَّ معيار الالتزام بالتكليف وبالتقليد في كلّ فردٍ مُقلِّد سوف تكون بمقدار مرتبة عقله ودرايته بالموضوع والحكم المترتّب عليه مع ملاحظة موقعيّة المجتهد المقلَّد ورتبته؛ وكثيرًا ما يكون في بعض الموطن عالمًا بنفسه بالخلاف، فيحرم التقليد عليه، وفي حالة عدم الثقة بإتقان الحكم يجب عليه مراعاة جانب الاحتياط.

    1. إن شاء الله بحوله وقوّته سيأتي توضيح هذا الأمر في كتاب الاجتهاد والتقليد، للمرحوم العلّامة الوالد (قدس الله سرّه). [تجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب المذكور طبع فيما بعد وتُرجم إلى العربيّة تحت اسم «الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد والمرجعيّة»،‌ وللاطلاع على البحث المذكور،‌ راجع: ص ٦٥ إلى ۷۱؛‌ وص ٣۸۰].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

80
  • وبهذا اللحاظ، إذا رأى أن العظماء من أهل المعرفة والفقاهة قد حكموا بحرمة مسألةٍ ما ـ مثل تحريم الموسيقى وآلات القمار كالشطرنج والنرد وغيره ـ لكنّ بعض الفقهاء قالوا بإباحتها، فعليه أن يراعي الاحتياط وأن يتجنّب استخدامها؛ ولا يمكن تجاهل حكم وفتوى هؤلاء العظماء بمجرّد تبرير جواز العمل بها بفتوى الفقي فيرتكب تلك الأحكام.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام بالأمر بالمعروف والنهيّ عن المنكر

  • «وَأْمُر بِالمعروفِ تَكُنْ مِن أَهلِهِ، وأَنكِرِ المُنكرَ بِيدكَ ولِسانِكَ، وباينْ۱ مَن فَعَلَهُ بِجُهدِكَ، وجاهِدْ في الله حَقَّ جِهادِهِ، ولا تَأخُذْكَ في الله لَومَةُ لَائِمٍ، وخُضِ الغَمَراتِ٢ لِلحَقّ حَيثُ كانَ، وتَفَقَّهْ في الدّين».

  • يعني: «ضع في بالك على الدوام الأمر بالمعروف الوصيّة بالأعمال الصالحة، حتّى تكون أنتَ كذلك من ضمن المحسنين والصلحاء، وحذّر الناس من ارتكاب العمل القبيح المخالف لرضا الله، وليكن تعاملك معهم على نحو التنبيه والتذكير، وابتعد عن الشخص الذي يُبادر إلى القيام بالأعمال الخاطئة، وأبعدها عنك، وانهض في سبيل الله وإطاعة الأوامر الإلهيّة وتنفيذ رضا الله وإرادته بجميع وجودك (بالقلب واللسان والعمل)، ولا تفتح طريقًا إلى قلبك للخوف من لوم اللائمين، ولا تخشَ عند إحقاق الحقّ والعمل به من الصعوبات والعقبات التي تقف في طريقك، واسع بقدر سعتك الوجوديّة وطاقتك على التعلّم واستطاعتك في البحث وبحسب ما تسمح به الظروف المحيطة لفهم التعاليم الدينية ومعرفة مباني الشريعة والوحي وابذل اهتمامك بذلك».

  • الوظيفة الخطيرة والحياتيّة لعلماء الدين والمتخصّصين في مباني الشريعة

  • لقد وضّح أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الفقرة تكاليف علماء الدين وحافظي مباني الشريعة في المراتب المختلفة من المعرفة والاطلاع، وذكّرهم ونبّههم إلى وظيفتهم الخطيرة والحياتيّة، والتي هي إرشاد المجتمع والأفراد وهدايتهم، وإحياء السنّة وإقامة العدل وإبطال الظلم والجور والأعمال القبيحة، ولفت النظر إلى توقّع الناس ومطالبتهم في مسألة بيان الحقّ ورفع الظلم عنهم.

    1. من المباينة والبينونة، وهي الانقطاع والمفارقة.
    2. الغمرات: جمع غمرة، وهو الماء الكثير، وأراد به هنا الكناية عن الشدائد والمصاعب.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

81
  • إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقبيح هو من فروع الدين ومن ضروريات المذهب، وبدون مراعاة هاتين المسألتين ستنحلّ عروة الشريعة والمدنيّة، وسيتزلزل قوام المجتمع، وسيسلك المجتمع طريق الانحطاط والسقوط، وسيتعزّز الظالم في ظلمه وعدوانه، وسيستمرّ المظلوم في حرمانه؛ ويمتنع وصول الاستعدادات إلى الفعليّة في مجتمعٍ كهذا، وتُحرم النفوس الإنسانيّة من طيّ مراحل الرقيّ، وسيكون مرجعها ومآلها إلى البوار والهلكة.

  • يقول الله عزّ وجلّ في الآية الشريفة:

  • ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون‌﴾۱.

  • بعض شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

  • وبالطبع لا بدّ من الالتفات إلى أنّ شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو المعرفة الكاملة والدقيقة بالمعروف والمنكر؛ وفي المرحلة التالية معرفة الشخص المخاطب والظروف الحاكمة عليه وعلى المجتمع حتّى يكون الأمر بالمعروف قد وقع في الفضاء والظرف المناسب. أو أنّ النهي عن المنكر لم يكن في أرضيّة وظروف بحيث يتحقّق منها خلاف الغرض.

  • ففي بعض الأوقات، تُؤدّي النصيحة بين مجموعةٍ من الناس إلى تعنّت المُخاطب، وفي النتيجة تكون ردّة فعله غير مناسبة؛ ولا بدّ من القيام بهذه المسألة في الخفاء.

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «نُصحُكَ في المَلاء تَقريعٌ».٢

  • يعني: «النصيحة للشخص بين جمعٍ من الناس، يُؤدّي إلى ضرب النفس وخدش الروح والنفسيّة».

  • وفي بعض الأحيان لن تكون نتيجة الإقدام على مثل هذه المسألة سوى الندم وتلف الإمكانات والنفوس؛ لأنّها لم تحصل في ظروف ملائمة.

    1. سورة آل عمران (٣)، صدر الآية ۱۰٤.
    2. غرر الحكم و دُرر الكلم، ص ٢٢٥.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

82
  • ويُستفاد من الآية الشريفة أنَّه ينبغي لمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تتحقّق بواسطة مجموعةٍ خاصّةٍ تكون مطلعةً على المباني ومدركةً للظروف الحاكمة وخبيرةً في تشخيص المصالح والمفاسد في المجتمع؛ ولا يجدر لكلّ فردٍ يمتلك أيّ دافعٍ وسليقةٍ وتشخيصٍ أن يتدخّل في هذا الأمر.

  • ضرورة تأسيس مؤسّسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

  • ولذلك يجب أن تُؤسّس في الحكومة الإسلاميّة مؤسّسةٌ بهذا الاسم تتكفّل بالتبليغ الإسلاميّ على أحسن وجهٍ؛ ويتمّ مساعدتها من قبل المجتهدين الجامعين للشرائط والشخصيّات المعروفة بالصلاح والتقوى والمطّلعين على ظروف المجتمع والزمان من أجل تحقيق هذا الهدف الراقي، من أجل تطبيق الشعارات والتبليغ على مستوى المجتمع بموازين الشرع وطبق مسار الأولياء الإلهيّين وأن يتجنّبوا الإفراط والغلوّ والتفريط. وأن لا تصنع الشعارات ـ لا قدّر الله ـ أو تُطرح وفق المصالح المبنيّة على الأفكار الدنيويّة والآراء الشخصيّة والأهواء النفسانيّة؛ ولا أن تُحقن أذهان النّاس العوّام والمراهقين والشباب بالتعاليم الإحساساتيّة العاطفيّة والتي لا أساس لها في الشريعة ولا في العقلانيّة، فيحرفونهم ويضلّونهم، ولا أن يجعلوهم في خدمة الجماعات والأفراد من الانتهازيّين وعبّاد الدنيا.

  • ومن هنا، فإنَّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقبيح هي إحدى المحاور الأساسيّة لتشكيل المجتمع على أساس التعاليم الوحيانيّة؛ ويجب على المتصدي لها أن يكون الأعلم والأفقه والأكثر بصيرةً والأشجع من سائر أفراد المجتمع، وينبغي أن يكون الأشخاص المُتصدّون للتبليغ ولترويج الأوامر والنواهي بأمرٍ منه، أفرادًا خبراء وذوي بصيرة، كي يتشكّل قوام المُلك والأمّة على ميزان الاعتدال والإتقان، وتقطع أيدي المتربّصين عن تخريب أذهان النّاس ونفوسهم وحرفها.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

83
  • يجب أن يكون الجهاد في سبيل الله مبنيًّا على أساس البصيرة

  • وبناءً على هذا المبنى، يجب أن يكون الجهاد في سبيل الله مبنيّاً على أساس البصيرة؛ ويجب أن يمتلك الشخص المجاهد بصيرةً فيما يتعلّق بظروف الزمان والشواخص الأساسيّة لهذا التكليف الإلهي، وكذلك يجب أن يمتلك إطلاعًا كافيًا وخبرةً وافيّةً، فلا يقدم بأيّ وجهٍ من الوجوه على عملٍ وهو تحت تأثير الإحساسات والشائعات والخطابات غير الواقعيّة أو بناءً على استفزاز الخصم أو تشجيع من الأصدقاء عديمي البصيرة؛ ويرى نفسه مسؤولًا عن حفظ وحماية أرواح النّاس وأموالهم وأعراضهم، كي لا يستتبع ذلك ـ لا قدّر الله ـ نتائج غير قابلةٍ للتدارك، ونتائج مدمّرةً للمجتمع والنّاس بسبب الإقدام على عملٍ أخرق غير ناضجٍ.

  • لقد شجّع الإمام علي عليه السّلام الناس بعد قبوله بمسؤوليّة الحكومة وحثّهم على الجهاد ضدّ معاوية وصدّ هجماته؛ وقد أمضى ثمانية عشر شهرًا في واقعة صفّين من أجل العمل على اضمحلال نظام الكفر ومحاربة شيطنة معاوية؛ ولكنّ الإمام المجتبى عليه السّلام في تلك الظروف الحساسة والخطيرة أخذ على عاتقه الصُلح مع معاوية وحذّر النّاس من أيّ إجراء سريع ضدّ معاوية.

  • وفي فترة الخلافة المعنويّة وفترة إمامة سيّد كلا العَالَمَين الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السّلام، لم يُقدم لمدّة عشر سنواتٍ على أيّ عملٍ ضدّ حكومة معاوية؛ ولكن بعد وصول يزيد إلى السلطة قام ضدّه وجهاد ضدّه ووقعت تلك الفاجعة التاريخيّة في صحراء كربلاء؛ وأمّا الإمام الباقر عليه السلام فقد حذّر من قيام زيد بن علي، وحذّره من اتّخاذ إجراءات ضدّ حكومة بني مروان الجائرة.

  • وهنا نصل إلى هذه النقطة، وهي أنّه يجب أن يتحقّق الجهاد في سبيل الله بواحدةٍ من هاتين الطريقتين:

  • الأولى: من خلالا الاتّباع والانقياد والطاعة للإمام المعصوم الحيّ عليه السّلام.

  • الثانية: تحت نظر وإشراف النائب الخاصّ والمرتبط بالإمام الحيّ المعصوم كحضرة مسلمٍ بن عقيل عليه السّلام. 

  • وفي غير هذه الصورة، لن يكون الجهاد عن بصيرةٍ ولا حجّةً شرعيّةً وسوف تتوجّه إلى الشخص عواقبُ لا تنفكّ عنه.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

84
  • بالطبع، ما ذُكر يرتبط بالجهاد بمعنى الإجراء الهجومي، وأمّا فيما يتعلّق بالدفاع فلا يحتاج إلى إذنٍ.

  • ففي مدرسة الحقّ، يجب أن يكون القيام بأمرٍ من المعصوم عليه السّلام، والقعود يجب أن يكون بأمرٍ منه، والأهواء والرغبات والأذواق الشخصيّة يجب أن لا تُبرّر وتُفسّر وتأوّل كلام الإمام المعصوم عليه السّلام وأوامره.

  • التبصّر في الدين والبصيرة في مباني الوحي

  • يذكّر الإمام عليه السّلام في تتمّة الموضوع بمسألة التبصّر في الدين والبصيرة في مباني الوحي ويأمر بأنّه يجب أنّ يكون المرء بصيرًا ومُطّلعًا على التعاليم الوحيانيّة، ورغم أنّ الإمام نبّه إلى هذه المسألة في جملةٍ وجيزةٍ وعبر عنها؛ إلّا أنّه من الإنصاف أن نقول: إنّ المُفتاح الرئيسي لجميع خزائن المعرفة وأسرار الشريعة ومباني الوحي يكمُن في هذه العبارة.

  • ويجب الاعتراف بهذه النقطة بصراحةٍ ووضوحٍ، وهي أنَّه ما من حائطٍ أوطى وأقصر في مجال المعارف والاعتقادات من حائط الشريعة والوحي؛ إذ يُمكن لأّي شخصٍ ولأي فردٍ أن يُبدي وجوده ورأيه في هذا المجال، وأن يُبرز عقيدته ويظهر رأيه وفتواه بالأحكام الدينيّة بعباراتٍ من قبيل: «هذا ما أفهمه أنا»، و«ويُحتمل أن يكون هكذا...»، و«باعتقادي أنّه كذا...»، و«الدين للجميع وبإمكان كلّ إنسانٍ أن يُفسّره من عنده».

  • والحديث في هذا المجال طويلٌ، ويجب مطالعة توضيحه المفصل في كتاب افق وحى۱ [= أفق الوحي] الذي كُتب بقلم الكاتب؛ ولكن سأعرض الأمر بشكلٍ مُجملٍ:

  • كما أن أصل الشريعة والمباني الدينيّة وجذروها نشأت من عالم الوحي ومن نبع الغيب ولا يُمكن للأنبياء الإلهيين تدوين وتنزيل المباني الشرعيّة والأحكام الدينيّة إلّا بالاتصال بذلك الأفق وتلك الساحة، لا عبر مطالعة الكتب وسماع الكلمات والعبارات، وكذلك بعد الأنبياء الإلهيين، فالأفراد الوحيدون الذين يستطيعون تبيين الأحكام وتفسير مباني الوحي الكليّة هم الذين اتصل قلبهم وسرّهم بعالم الملكوت وحظيرة اللاهوت ويُنزّلون الحقائق الوحيانيّة من ساحة التقدير إلى ساحة التنجّز والفعليّة؛ وهم عبارةٌ عن: الأولياء الإلهيّين والعرفاء بالله وبأمر الله الجامعين لمقام الشهود وكشف الباطن ونالوا مرتبة البصيرة والخبرة بكشف الظاهر والاستنباط. 

    1. افق وحی (فارسي)، الفصل الثالث، ص ٢۰۷ إلى ٢۸٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

85
  • بالطبع تجدر الإشارة إلى أنّنا نعتبر مرتبة الأئّمة المعصومين عليهم السّلام ما فوق منزلتهم وسعتهم الوجوديّة وفوق إشراق وإشراف هؤلاء الأفراد؛ ولذلك لم ندخلهم في هذا القسم.۱

  • وعلى هذا الأساس فالتفقّه في الدين لا يحصل إلّا إذا وصل نفس الفرد إلى مرتبة الشهود أو إذا كان يتلقى ويستقبل المسائل من فردٍ واصلٍ، وفي غير هاتين الصورتين، فإنَّ كلًّا من المُقلَّد والمُقلِّد سيكونان غير مطلعين على مباني الشرع وموازينه.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالصبر وبالتحمّل في الأعمال

  • «وعَوِّد نفسَكَ التَّصبُّرَ علی المكروهِ، ونِعْمَ الخُلُقُ التَّصبُّرُ [في الحقِّ]، وأَلجِيءْ نفسَكَ في الأُمورِ كُلِّها إِلى إلهٰك، فإنَّكَ تُلجِئُها إلى كَهفٍ حَريزٍ٢، ومانِعٍ عزيزٍ، وأخلِصْ في المسألةِ لِرَبّكَ، فإنَّ بيَدهِ العَطاءَ والحرمانَ، وأكثِرِ الاستِخَارَةَ، وتَفَهَّمْ وصيّتي، ولَا تَذهبَنَّ عَنها صَفحًا، فإِنَّ خيرَ القولِ ما نَفعَ، واعلَم أنَّهُ لا خَيرَ في عِلمٍ لا يَنفعُ، ولا يُنتفعُ بعِلمٍ لا يَحِقُّ تَعلُّمُهُ».

  • يعني: «عوّد نفسك على الصبر والتحمّل في المكاره، وكم هي جميلة خصلة الصبر والتحمّل في الأعمال التي تنطبق على الحقّ، (إنّ الاستمرار وثبات الرأي والعزم في الحقّ بأيّ شكلٍ وفي أيّ مكانٍ ينبغي أن يكون دائمًا ومستمرّاً،‌ 

    1. لقد تمّ توضيح هذا الأمر بنحوٍ مُفصّلٍ في كتاب الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد والمرجعيّة، للمرحوم العلّامة الطهراني قدس الله سرّه، [ص ٣٤٥؛ و ص ٦٥ إلى ۷۱].
    2. الحريز: الموضع الحصين.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

86
  • وعند التعامل مع المكاره لا يجب أن يُصاب عزم الإنسان واهتمامه بالضعف والفتور والكسل)۱ والجأ إلى الله في جميع أمور الحياة والأحداث التي تواجهها، وليكن في ضميرك أنّه هو الوحيد المؤثّر وفقط في تسيير الأمور وأنّه المُسبّب الأصلي في رفع الحوائج، وفي هذه الحالة تكون نفس الإنسان قد لجأت إلى ملجأ وكهفٍ حريزٍ ومُحكمٍ وقويٍّ وإلى مأوى يُمكن الاعتماد عليه، ويكون قد وضع نفسه في موضعٍ يمنع اختلاس الشياطين وصدمات المفسدين، ولن يقبل مع العزّة والرفعة أيّ وجودٍ في مقابل نفسه ولن يفسح له المجال إليها، وينبغي أن تكون نيّتك على الدوام عند الطلب من الله خالصةً وخاليةً من الأغيار؛ لأنّ هو الوحيد فقط الذي يمتلك العطاء والحرمان، واطلب الخير والصلاح من الله باستمرار، وسلّم أمورك في كلّ عملٍ تعمله إلى مشيئة الله ورضاه، ولا تضع نفسك أمام اختيار الله وصلاحه، ويا بُنيّ! تفهّم هذه الوصيّة جيّدًا، وإيّاك أن تنساها وتغفل عنها،

  • فإنّ أفضل الكلام هو الكلام النافع، واعلم أنّه لا يوجد أيّ خيرٍ ولا بركةٍ ولا نفعٍ في العلم غير النافع، ولن يستفيد الإنسان من العلم الذي لا صلاح في تعلّمه».

    1. يقول الخواجة حافظ الشيرازي رحمة الله عليه:
      تا شدم حلقه به گوش در میخانۀ عشق***هر دم آید غمی از نو به مبارک‌بادم
      [يقول: ما إن أصبحت غلامًا في حانة العشق، حتّى صارت الأحزان تتجدّد عليّ في كلّ لحظةٍ، فهنيئًا لي بذلك!!].تصورنا أن لطف وعناية الله تكون مصحوبة دومًا بالصحّة والسعادة والرخاء والتوفيق؛ ولكن يجب الانتباه أنَّه كثيرًا ما تكون هذه الأمور سبب غفلة الإنسان عن مبدأ الكون ودوامها غير مناسبة لأجل تلطيف وتجرد الروح والنفس. ولذلك، فإنَّ الله في بعض الأوقات؛ يبتلي الإنسان بابتلاءات من قبيل المرض وضيق العيش والمضايقات الإجتماعيّة والاضطرابات العائليّة، كي ينبهه ويخرجه من غفلته ويذيقه عدم دوام وثبات التعلقات الدنيويّة ويوجهه للتعلّق به؛ كما يقول:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ}. *** يعني: «نحن سنمتحنكم بالأمور المزعجة من قبيل: الخوف من الوقوع في الحوادث وبزوال الأم وبضيق المعيشة وبنقصِ بعض رأس المال بل قد تُفلسون أو تفقدون عزيزًا أو ينقص المحصول، وسنمنعكم من الغرق في الكثرات والدنيا، وبناءً على هذا بشر يا رسولنا الصابرين والمتحمّلين بالرحمة وبقربنا».ولذلك، وكما ورد في الروايات، على الإنسان أن يعتبر هذه المصاعب رسول الرحمة والمغفرة الإلهيّة، وأن يُوفّق بين نفسه وبين المشيئة والتقدير فلا يخشى مواجهة هذه الأمور ويستقبلها بصدرٍ رحبٍ.يُقال: إنَّ بعض أهل المعنى مِمّن قاموا في هذه الدنيا بحلّ المعضلات ورفع الحوائج لأنفسهم ولأقاربهم من خلال الوسائل، أبدوا الندم وبعد الانتقال من هذه الدنيا. *** ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٣٦٢. *** سورة البقرة (٢)، ذيل الآية ٢٢٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

87
  • نواجه في هذا القسم من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام بعض النقاط التي يجب التعرّض لها:

  • الصبر على المصاعب وكيفيّة تأثيرها على السير والسلوك المعنوي والروحي

  • النقطة الأولى: الصبر على المصاعب واستقبالها بعنوانها أصلًا وقسمًا مهم من الوقائع والأحداث المستمرّة طوال الحياة، وكيفيّة تأثيرها في السير المعنوي والسلوك الروحاني.

  • لا شكّ أنَّ القضاء والقدر الإلهي يحكيان عن وحدةٍ مُنسجمةٍ بين جميع الحوادث ـ سواءً في أصل وجود الأحداث أم في عوارضها ـ بحيث لا يمكن تقييم أيّ حادثة بصورةٍ مُنفردةٍ، وجميع حوادث هذا العالم كحلقات السلسلة متصلةٌ ومُرتبطةٌ ببعضها البعض؛ ومن ناحيةٍ أخرى كلّ واحدةٍ من هذه الحوادث مجعولةٌ على أساس الحكمة البالغة للحقّ عزّ وجلّ، وهي من أجل هدفٍ ومقصدٍ مُعيّن في السير والحركة، والتخلّف في أيّ نقطةٍ من هذه الدائرة سيُؤدّي إلى الخلل والنقص في باقي النقاط والمواضع.

  • جهان چون چشم و خط و خال و ابروست***که هر چیزی به جای خویش نیکو است۱
  • [يقول: إنّ العالم مثل العين والخطّ والخال والحاجب، وكلّ واحدٍ منها جميلٌ في مكانه]. 

  • * * *

  • پیر ما گفت خطا بر قلم صنع نرفت***آفرین بر نظر پاک خطا پوشش باد ٢
  • [يقول: لقد قال شيخنا (العارف) (لِمَن اعتقد أنّ هناك أخطاء كثيرة موجودة في خِلقة العالَم) لَم يصدر هناك أيّ خطأ في عالَم الخَلق؛ فبورِكَ مِن نظرٍ نزيهٍ ساترٍ للعيوب].

    1. گلشن راز، القسم ٥۰.
    2. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ۱٤۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

88
  • ومن ناحيةٍ أخرى، إنَّ مجموعة هذه الأحداث سوف تكون مقرونةً بالعسر واليسر، وبالصعود والهبوط، وبالكمال والنقص، وبالصحة والمرض، و...، ومن الصعب قبول الأمور غير المنسجمة مع النفس، فذلك يتطلّب من الإنسان تحمّلًا وسعة صدرٍ زائدة في قبال الصعوبات، وجميع هذه الأمور ضروريّةٌ من أجل تبدّل هذه الاستعدادات إلى الفعليّة الإنسانيّة، وبدونها لن يحصل الهدف والمقصود؛ فلذلك يجب على السالك في سبيل الله أن لا يخشى من مواجهة الصعوبات، وأن يرى أنّ قدرة الله التي لا تزول، فوق هذه الظواهر وفوق تقلّبات الحياة البشريّة، وعليه أن يُعيد الأمور إلى الله تعالى، كي يقلّ ما يتحمّله من ألمٍ وأذية خلال عبوره لتلك المشاكل والصعاب، وكي يصل كذلك إلى الرشد والفعليّة المطلوبين بواسطة هذا السير.

  • الإخلاص في النيّة والالتفات التامّ إلى الله عزّ وجلّ

  • النقطة الثانية: إخلاص النيّة في السؤال والطلب من الله تعالى.

  • وبعد اتضاح هذه المسألة، وهي أنّ كافّة هذه الحوادث والمسائل مُقدّرةٌ من ناحية الله، وأنّ بيده انتظام كافّة المخلوقات، قال عزّ وجلّ:

  • ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‌ء﴾۱.

  • يعني: «زمام حياة كلّ موجودٍ بيد قدرته القاهرة»، وعلى الإنسان يتوجّه في جميع الأمور إليه فقط، وأن لا يُفسح المجال لغيرٍ في هذا التوجّه.

  • وهذه المسألة تنال أهميّةً بالغةً، وهي أنّه كيف للإنسان مع وجود العلّم والاطّلاع على هذه المسألة في حوادث الدنيا ـ ولكن بما أنّها لم ترسخ بعدُ في جميع زوايا قلبه وضميره، ولم تُصبح بصورةٍ مَلَكةٍ، ولم تستقرّ بعد ـ تجده يتطلّع إلى المظاهر الخادعة في التأثير والتسبيب أيضًا وينجر قلبه ناحيتها؛ وهذه المسألة موجودةٌ لدى أغلب الأفراد حتّى لدى ذوي المراتب المختلفة من المعرفة ومدراج الكمال أيضًا.

  • قال النبي يوسف عليه السّلام في السجن لأحد الشخصين، والذي بشّره بالحياة: ﴿اذْكُرْني‌ عِنْدَ رَبِّك‌﴾٢.

    1. سورة يس (٣٦)، مقطعٌ من الآية ۸٣.
    2. سورة يوسف (۱٢)، ذيل الآية ٤٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

89
  • يعني: «عندما تكون في خدمة الملك فاذكرني هناك»، وقد جعل الشيطان هذا الشخص ينسى ذكر يوسف عند عزيز مصر، فبقي يوسف سبع سنوات في السجن، وفي هذه المدّة شمل التوفيق الإلهي روحه، واستطاع أن يصل إلى مرتبة المعرفة وتجرّد النفس والاتّصال التامّ بالمبدأ الحيّ القيّوم، وحاز على مقام تربية النفوس وتزكيتها؛ وفي هذه المرحلة أخرجه الله من السجن وعيّنه من أجل إرشاد المجتمع وهدايته.

  • منزلة الاستخارة ضمن عقائد الشيعة وثقافتهم

  • النقطة الثالثة في هذا الكلام: مسألةٌ الاستخارة التي يبدو أنّها فقدت منزلتها من ضمن عقائد الشيعة وثقافتهم وباتت تُستخدم في غير المواطن والمواقف المناسبة.

  • معنى الاستخارة: طلبُ الخير والصلاح والعافيّة؛ وكما يتّضح من معنى الخير والصلاح والعافية فإنّ هذه الألفاظ يُمكن أن تكتسب مكانها ومفهومها في الرشد والترقّي والقرب وتجرّد نفس الإنسان. ومن الممكن في الكثير من الأوقات أن تكون الفوائد الدنيويّة (من أرباح المكاسب والمعاملات والتنعم بالرفاهية والراحة والصحّة والسلامة البدنيّة وازدياد الأموال والثروة) مضّرةً بتجرّد النفس ورفع الحجُب ورفع التعلّقات بما سوى الله، وفي النتيجة قد تُؤدّي إلى عدم تبدّل الاستعدادات إلى فعليّاتٍ وإلى عبوديّةٍ محضةٍ. وبالعكس، قد يصّب حلول بعض المتاعب والشدائد في مصلحة الإنسان؛ كما ورد في القرآن الكريم:

  • ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‌ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرينَ﴾۱.

  • يعني: «سوف نضعكم باستمرارٍ في اختبارٍ وامتحانٍ من خلال بعض المخاوف والصعوبات والنقص في الأموال وفقدان الأحبّة والأعزّة والجفاف (لنعلم مقدار صلابتكم وتحمّلكم وصبركم ونجعل ذلك موجبًا لتزكيتكم وتربيتكم وترقّيكم) لذلك، يا رسولنا! بشّر الصابرين والمتحمّلين بالرحمة وبقربنا».

  • وكما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: 

  • إنّ الله يرحم عباده ويتلطّف به من خلال المرض والمشقّة.٢

    1. سورة البقرة (٢)، الآية ۱٥٥.
    2. لقد وردت العديد من الروايات في هذا المضمون في كتاب بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٢٥، باب ۱۸، فضل التعزّي والصّبر عند المصائب والمكاره. (م)

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

90
  • وكما يقول الخواجة حافظ الشيرازي: 

  • تا شدم حلقه به گوش در میخانه عشق***هر دم آید غمی از نو به مبارک بادم۱ 
  • [يقول: ما إن أصبحت غلاماً في حانة العشق، حتّى صارت الأحزان تتجدّد عليّ في كل لحظة، فهنيئاً لي بذلك!!].

  • لذلك، غالبًا ما لا تكون الصحّة ورغد العيش في صلاح الإنسان ومنفعته، فإذًا إن ما يوجب الخير والسعادة في الدارين، هو العافية؛ كما نقرأ في الدعاء:

  • «اللَّهُمَّ ارزقني العافية إلى منتهى أجلي».٢

  • ويتوجّب على العبد أن يطلب الخير والعافية، لا أن يطلب المنفعة والصحّة والرفاهية والسعادة؛ وهذا معنى الاستخارة وطلب الخير من الله تعالى.

  • ولذلك، فإنَّ ما وصلنا من أولياء الدين عليهم السّلام، ومن توصيات الأولياء الإلهيّين كذلك، هو ما يلي:

  • إذا كان الشخص يشكّ في مسألةٍ، فعليه في المرحلة الأوّلى أن يطلب المساعدة والعون في حلّ المشكلة من أهل التجربة وأصحاب البصيرة، وكما قالوا:

  • «مَا خَابَ مَن استَشَارَ».٣

  • أي: إنّ الشخص الذي يستشير الآخرين في أموره، لا يتضرّر أبدًا.

  • وإذا لم يزل شكّه من خلال المشورة، فدستوره أن يغتسل غسل الاستخارة ثمّ يصلي ركعتين وبعد الصلاة يسجد ويقول مائة مرة: «أستخيرُ اللهَ برَحمَتهِ».٤ يعني: «أطلب من الله الخير والرحمة، وليكن لديك أملٌ بالوصول إلى الخير من خلال رحمته»، وعندها يؤدي ما يُلقى في قلبه؛ وبهذه الطريقة يسلب عن نفسه إرادة القيام بالفعل، ويوكّل إرادة إلى الله؛ وأمّا هذه الاستخارة المتداولة بين النّاس ـ سواءً التي بالقرآن أم بالمسبحة ـ فهي ترتبط بالحالات التي يبقى الشكّ والإبهام فيها قائمًا حتّى بعد أداء عمل الاستخارة [المذكور في الأعلى].

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٣٦٢.
    2. التهذيب، ج ٥، ص ٢۷٦
    3. الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، ج ۱، ص ٥٥۸، مع اختلافٍ يسيرٍ.
    4. الكافي، ج ٣، ص ٤۷٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

91
  • فائدة الفرد والمجتمع في الأمور الثقافيّة

  • وأمّا المسألة الأخرى الموجودة في هذه الفقرات فهي تذكير الإمام عليه السّلام وتنبيهه على القول الحسن والعلم النافع.

  • فالإمام عليه السّلام يعتبر في هذه الفقرات أنّ أفضل الكلام هو الذي يستتبعُ منفعةً للمخاطب وأمّا العلم الذي لا فائدة منه فهو مردود، وقال: إنَّ العلم الذي لا يستحق التعلّم لن يترتب عليه أيّ فائدةٍ أو منفعةٍ.

  • والمحور الأساسي والمسألة الجديرة بالاهتمام في هذه الجمل، هو انتفاع الفرد والمجتمع من المسائل الثقافيّة، وكون الشرط الأساسي للقبول بها أو عدم القبول بها هو منفعةُ البشر من الإنجازات العلميّة والأخلاقية وفوائدها وأضرارها.

  • حيث سيتمّ تقييم النفع والضرر من وجهة نظر العقل والفطرة الآدميّة من منطلق رقيّ الحياة البشريّة والسعادة الأبديّة وتعاليهما؛ ومن الطبيعي أن تكون المصالح المادية والدنيوية مفيدةً وقيّمةً طالما أنّها تُساعد الإنسان في تحصيل السعادة البشريّة وإحياء دار الآخرة والتعالي نحو مراتب الفعليّة والتجرّد، وطالما تُساعد الإنسان، أوعلى الأقل طالما لا تشكّل مانعًا في طريقه.

  • ولذلك يجب على الإنسان أن يكون وحسّاسًا وقلقًا جدًا جدًا تجاه مُدخلاته الذهنيّة، فلا يفتح عينه وأذنه وقلبه لأيّ كلامٍ وحادثةٍ وصوتٍ، وكذلك عليه المراقبة والانتباه فيما يتعلّق بالأطعمة والأشربة من جهة جلبها للمنفعة والضرر للبدن، وأن يُبدي الحساسيّة اللازمة فيما يتعلّق بالعلوم المنتجات البشريّة وعلوم العصر المتنوّعة؛ وأن يعلم أنَّ ذهن الإنسان ونفسه ستمتلك دومًا الاستعداد من جهة التغيّر والتبدّل والتحّول إمّا إلى الترقّي أو إلى الانحطاط، وتناول العلوم التي ليس فقط لن تجلب له النفع من ناحية الارتقاء الروحي، بل كثيرًا ما تتسبّب في انحطاطه ووقوعه في المشاكل، وتمنعه من الوصول إلى غاية الإنسان ومقصده.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

92
  • وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام:

  • «تعلّموا من النحلة كيفيّة اكتساب العلوم؛ لأنّها تبحث بين جميع هذه الزهور والأعشاب على اختلافها وتنوّعها عن أفضلها وأنفعها، فتختارها لإعداد شرابها الحلو والمصفّى، وأنتم كذلك ابحثوا وانظروا من بين جميع هذه العلوم والفنون المتنوّعة، أيّها أنفع لسعادتكم وفلاحكم في المستقبل»۱.

  • يقول الشيخ البهائي رحمة الله عليه:

  • علمی بطلب که تو را فانی***سازد ز علایق جسمانی٢ 
  • [يقول: اطلب علمًا يُحرّرك من العلائق الجسمانيّة]

  • وكما يقول جناب السنائي:

  • علم کز تو تو را نبستاند***جهل از آن علم به بُوَد صدبار٣ 
  • [يقول: إذا لم يُغيّر العلم سيرك ومسيرك ولم يُوجب كمال نفسك، فالجهل أفضل منه بمئة مرّة].

  • ومن هنا، يجب أن يكون هدف العالِم وغايته من اكتساب العلوم هو تحصيل الرضا الإلهي، وليس مجرّد الخوض في العمران وسهولة العيش وقضاء العُمر؛ والخوض في أيّ علمٍ يجب أن يكون مسبوقًا قبل كلّ شيءٍ بنتائج مفيدة للإنسان وللمجتمع. وإذا شعر الإنسان أنّه قد يوقع بنفسه أو بالآخرين في الفساد والخسارة ـ بسبب وسوسة الشيطان ـ بواسطة هذا العلم، فيجب عليه أن يستنكف عن تعلّمه، وعلى طالب العلم أن يدرس كافة جوانب ذلك العلم وأن يُشرف عليه، وبعد ذلك عليه أن يستخدمه في تحصيل رضا الله فقط، وأن يُبعد عن نفسه الأغراض الدنيويّة والنفسانيّة. 

  • وفي هذه المرحلة، وعلى الخصوص على طالبي العلوم الإسلاميّة وأتباع تعاليم الشريعة منه سبحانه، واجب وضروري أن يظهروا أقصى درجات المراقبة في الإخلاص بالنيّة وصفاء الباطن؛ فلا يخسروا في وسط الطريق أو آخره خلوص النيّة التي كانوا يتصفون بها في بداية السير والمسير، فلا تبعدهم زخارف الحياة ومظاهر الدنيا الدنيّة ووسوسة الشياطين وفتنة الخناسين عن مدرسة أهل البيت عليهم السّلام، فلا تبهت الصبغة الإلهيّة في وجودهم. 

    1. ملاحظة:‌ هذه الرواية مرويّة بالمعنى، ولم نجد مصدرها، نعم هناك بعض الروايات التي تُقاربها في المعنى، كقول أمير المؤمنين عليه السلام: «كُنْ كَالنَّحْلَةِ إِنْ أَكَلَتْ، أَكَلَتْ طَيِّباً، وَإِنْ وَضَعَتْ، وَضَعَتْ طَيِّباً، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى عُودٍ لَمْ تَكْسِرْه‌». (غرر الحكم ودرر الكلم‌، ص ٥٣٢). (م)
    2. مثنوی شیر وشكر [مثنوي الحليب والسكّر]، القسم ٥.
    3. ديوان أشعار سنائي (فارسي)، قسم القصائد.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

93
  • ونستنتج من أوامر الإمام عليه السّلام المسألة التالية: كلّ كلامٍ ـ رغم أنَّه قد يكون مفيدًا في بعض المواطن ـ إلّا أنَّه لا ينبغي بيانه في كلّ مكانٍ وأمام كلّ شخصٍ، ولا بدّ من مُراعاة درجة المخاطبين ورتبتهم عند بيان المسائل؛ فكما أنّ الانصات إلى أيّ كلامٍ قد يُؤدّي بالإنسان إلى الخسارة، فكذلك لا بدّ من ملاحظة الوقت والظروف عند إلقاء أي فكرة، حتّى لا تُؤدّي إلى نتائج سلبية لدى المخاطب.

  • أهداف أمير المؤمنين عليه السّلام من بيان هذه الوصيّة

  • «أَي بُنَيَّ! إنّي لَمَّا رَأَيتُني قَد بَلَغتُ سِنًّا، ورَأَيتُني أزدَادُ وَهنًا۱، بادَرتُ بِوَصيَّتي إلَيكَ، وأوْرَدتُ خِصالًا مِنها قَبلَ أن يَعجَلَ بي أَجَلي دونَ أن أُفضِيَ٢ إلَيكَ بِما في نَفسي، و أن أَنْقُصَ في رَأْيي كَما نَقَصتُ في جِسمي، أو يَسبِقَني إلَيكَ بَعضُ غَلَباتِ الهَوَى، أو فِتَنِ الدُّنْيا، فَتَكونَ كَالصَّعبِ٣ النَّفورِ٤، وإنَّما قَلبُ الحَدَثِ٥ كَالأرضِ الخاليَةِ: ما أُلقِيَ فيها مِن شَيءٍ قَبِلَتهُ، فَبادَرتُكَ بِالأدَبِ قَبل أن يَقسُوَ قَلبُكَ، ويَشتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَستَقبِلَ بِجِدِّ رَأْيكَ مِنَ الأمرِ ما قَد كَفاكَ أهلُ التَّجارِبِ بُغيَتَهُ وتَجرِبَتَهُ، فَتَكونَ قد كُفيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وعوفيتَ مِن عِلاجِ التَّجرِبَةِ، فَأتاكَ مِن ذَلِكَ ما قَد كُنّا نَأْتيهِ، واستَبانَ لَكَ ما رُبَّما أَظلَمَ عَلَينا مِنهُ».

  • يعني: «يا بُنيّ! إنّني بعد أن رأيتُ أنّ عمري قد وصل إلى نهايته، ورأيتُ أنّ الضعف والوهن بدأ يغلب على بدني، قرّرتُ أن أوصيك بوصيّتي، وقد أوردتُ فيها بعضًا من الخصال والتعاليم الأخلاقيّة والاجتماعيّة وذلك قبل أن يعجل بي أجلي من دون أن أوفّق بإبلاغك ما في نفسي، وكذلك قبل أن يحلّ الضعف والفتور في اهتمامي وعزمي على إبلاغك هذه الأمور كما حلّ النقص والضعف في جسمي، أو أن يغلب هوى النفس على قلبك وضميرك بسبب مرور الزمان والاهتمام بالدنيا، فلا تقبل منّي نصيحتي هذه، أو يسبقني إليك فتن الدنيا ومصاعبها فتصبح مثل الحصان الصعب النفور فيمنعكم ذلك من الأنس والألفة لإدراك الحقائق والشعور بالواقعيّات، 

    1. الوهن: الضعف.
    2. أفضى فلانٌ إلى فلانٍ، أي:‌ وصل إليه.
    3. الصعب: نقيض الذلول من الدواب.
    4. النفور: ضدّ الآنِس.
    5. الحدث: الشابّ،‌ والذي في مقتبل العمر.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

94
  • في حين أنّك الآن في حالٍ وجوٍّ آخر وفي فضاءٍ مختلفٍ؛ لأنّ قلب وضمير الشاب الحديث السنّ كالأرض البكر التي لم يمسسها أحد، تقبل كلّ شيءٍ يزرعونه فيها وينمو فيها كلّ ما يبذرونه فيها، ولذا بادرتُ بكتابة هذه الوصيّة وبالتأديب بالأدب الصالح قبل أن يقسو قلبك وقبل أن ينغمر فكرك وعقلك بالأمور الواهية والمشاغل السخيفة الفارغة من المعنى،‌ لكي تهتمّ بعزمٍ راسخٍ وهمّةٍ عاليةٍ بما جرّبه أهل التجارب،‌ فلا تعود بحاجةٍ إلى تجربته وامتحانه مجدّدًا؛ إذ من الخطأ تجربة الأمر المُجرّب،

  • فتكون قد حصلت على ما سعينا خلفه وحصّلنا وانكشف لك الكثير من الحقائق التي كانت خافيةً علينا (لأنّك تكون قد استفدت من تجارب الآخرين مضافًا إلى تجاربك الشخصيّة)».

  • لقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات إلى ثلاثة نقاطٍ تستحقّ التأمّل.

  • ينبغي معالجة الحادثة قبل وقوعها

  • النقطة الأولى أنّه قال: ينبغي معالجة الواقعة قبل وقوعها، والوقاية مقدّمة على العلاج دائمًا. 

  • إنّ النفس والروح مكوّنةٌ على أساس الفطرة ومباني التوحيد وهي مستعدّةٌ للفعليّة والكمال؛ وإذا ما تمتّ تربية الآدميّ وتأديبه في بداية الأمر بيد فردٍ صالحٍ قطع الطريق وحكيمٍ بصيرٍ ومُطلعٍ خبيرٍ، والتزم بإطاعة أوامره والانقياد لها مع حركةٍ سريعةٍ ونشاطٍ بليغ، فإنّه سيُخرج مراحل التجرّد والفعليّة الواحدة تلو الأخرى إلى منصّة الظهور؛ وإذا فوّت على نفسه هذه الفرصة، فإنَّه لن يحوز على ذلك الاستعداد والنشاط حتّى لو كان لديه في مسير الكمال اهتمامٌ بالوصول إلى المقصد.

  • أفضل زمانٍ لتلقّي المسائل الأخلاقيّة هو فترة عنفوان الشباب

  • أمّا النقطة الثانيّة فيُمكن أن تكون مترتّبةً على هذه المسألة:

  • يعتبر الإمام عليه السّلام في هذه الفقرات أنَّ أفضل فترةٍ لتلقّي المسائل الأخلاقيّة ومباني السير والسلوك إلى الله هي فترة عنفوان الشباب؛ لأنَّ قلب الشاب وذهنه على أساس الحقائق الفطرية والتعاليم التكوينيّة لم يتلوّثا بعد بالشهوات والنفسانيّات والأهواء الوضيعة؛ ولن يُعارض أو يقاوم تقبّل الحقّ، وسيقبل به بسرعةٍ؛ وكما قال الإمام عليه السّلام:

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

95
  • عَليْكُمْ بالأَحْداثِ.۱ يعني: «عليكم بالشباب وحديثي السنّ، فلا ينبغي أن تخسروا فرصة تقبّلهم من خلال تأخير الوقت والتسامح والتأجيل! حتّى لا يحرفهم المحيط أو الأصدقاء أو المجتمع عن مسير الحقّ، وحتّى لا يشغلهم شوقهم وذوقهم وفكرهم بالشهوات والأهواء النفسانيّة وبالابتعاد عن تعاليم الوحي ومباني الشرع بحيث يصبح إعادة المياه إلى مجراها أمرًا مشكلًا جدًا، وقد يُصبح غير ممكنًا في كثيرٍ من الأحيان؛ ولذلك قال الأعاظم من أهل المعرفة ومُربّي النفوس:

  • لا بدّ أن يبدأ الإنسان منذ سنّ الشباب للوصول إلى مراتب الكمال والسير في عوالم المعرفة؛ وسيكون عبور النفس عن عقبات عالم الكثرة أمرًا صعبًا في سنٍّ أكبر.

  • الاستفادة من تجربة الآخرين في تصحيح المسار واعتدال الطريق

  • النقطة الثالثة في هذه البيانات: الاستفادة من تجربة الآخرين في تصحيح المسار واعتدال الطريق. ومن الضروري العمل بهذه النقطة مع الاهتمام الكمال والكافي؛ لأنَّ حياة الإنسان والحياة الدنيويّة تقتضي مع كافّة تقلّباتها والاختلاف في الأساليب والشخصيّات وحدوث الأحداث المشكوك بها والمتشابهة، تقتضي أن يُواجه هذه الأحداث بقدرةٍ وقوّةٍ أعلى من شعوره ومدركاته ومعرفته، وأن يستخدم أدواتٍ ومُعدّاتٍ ذات كفاءةٍ أعلى وأقوى؛ لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يصل إلى صحّة ذلك الحدث وسقمه من خلال تجربته الخاصّة، فقد يُفوّت الفرصة ويحيق به الخسران والبوار والندامة، أو يقع في عمق تلك الحادثة فيصبح طريق التراجع مسدودًا عليه. وهنا يجب يُعطي تجربة الآخرين حقّها وأن يُقارنها بسائر المجريات والأحداث والأمور التي لها دورٌ رئيسي في تلك الحادثة، وأن يعين تكليفه ويعبّد طريقه.

    1. الكافي، ج ۸، ص ٩٣.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

96
  • «أَي بُنَيَّ! إنِّي ـ وإن لَم أَکُنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كانَ قَبلي ـ فَقَد نَظَرتُ في أَعمالِهِم، وفَكَّرتُ في أَخبارِهِم، وسِرتُ في آثارِهِم، حَتَّى عُدتُ كأَحَدِهِم، بَل كأَنّی بِما انتَهَى إلَيَّ مِن أُمورِهِم قَد عُمِّرتُ مَعَ أَوَّلِهِم إلَى آخِرِهِم، فَعَرَفتُ صَفْوَ ذَلِك مِن كَدرِهِ، ونَفعَهُ مِن ضَرَرِهِ، فَاستَخلَصتُ لَك مِن كُلِّ أمرٍ نَخیلَهُ۱ وتَوَخَّيتُ لَك‌ جَميلَهُ، وصَرَفتُ عَنكَ مَجهولَهُ، ورَأَيتُ ـ حَيثُ عَناني مِن أمرِكَ ما یَعني الوالِدَ الشَّفيقَ، وأجمَعتُ عَلَيهِ مِن أدَبِكَ ـ أَن یَكونَ ذَلِك وأنتَ مُقبِلُ العُمُرِ ومُقتَبِلُ الدَّهرِ، ذو نِيَّةٍ سَليمَةٍ ونَفسٍ صافِيَةٍ، وأن أبتَدِئَك بِتَعليمِ كِتابِ اللهِ وتَأویلِهِ، وشَرائِعِ الإسلامِ وأحكَامِهِ، وحَلالِهِ وحَرامِهِ، [و] لا أُجاوِزُ لَكَ إلَى غَيرِهِ، ثُمّ أشفَقتُ أن يَلتَبِسَ عَلَيكَ ما اختَلَفَ النَّاسُ فيهِ مِن أهْوائِهِم وآرائِهِم مِثلَ الَّذي التَبَسَ عَلَيهِم، فَكانَ إحكامُ ذَلِك عَلَى ما کرِهتُ مِن تَنبيهِكَ لَهُ أحَبَّ إلَيَّ مِن إسلَامِك إلَى أمرٍ لا آمَنُ عَلَيك بهِ الهَلَكةَ، و رَجَوتُ أن يُوَفِّقَك اللهُ فيهِ لِرُشدِك، وأن يَهدِیَكَ لِقَصدِكَ، فَعَهِدتُ إلَيكَ وصيَّتي هَذِه».

  • يعني: «يا بُنيّ! رغم أنّي لم استطع أن أدرك حياة الناس من قبلي بسبب محدوديّة عمري، إلّا أنّني تأملتُ جيّدًا في أفعالهم وتصرّفاتهم، وفكّرتُ في أخبارهم، وسرتُ في آثارهم إلى درجة أنّك تظنّني كنتُ معهم على الدوام فصرتُ أعتبر واحدًا منهم،‌ وأصبحت لي معيّةٌ وملازمةٌ معهم،‌ وبسبب اطّلاعي وإشرافي على جميع أفعالهم وتصرّفاتهم فكأنّني عشت من أوّل خلق البشر إلى آخر، وحددتُ من تصرّفاتهم التصرّفات الحسنة، وعرفت المفيد والمضرّ منها للإنسان، 

  • فاستخلصتُ لك من كلّ أسلوبٍ ومنهجٍ رأيته أحسنه وزلاله، واخترتُ لك أجمله، واجتنبتُ طرح المواطن المشكوكة والمشتبهة، ورأيتُ ـ مثل أبٍ مشفقٍ وقلقٌ على مستقبل ابنه وصلاحه من المصاعب والمشاكل التي يُمكن أن تواجه ابنه في المستقبل فتوقعه في التعب والضغط والتشويش، ولديه عزمٌ وإرادةٌ راسخةٌ على تربيته وتأديبه، وأريدُ أن يكون أنجز هذه الغاية وهذا الأمر المهمّ وأنت في عنفوان الشباب ومقتبل العمر، وحينما يكون زمانك في أفضل ظروف الحياة حيث تكون ذا نيّةٍ سليمة وخالصة ونفسٍ صافية.

    1. النخيل: المُختار المُصفّى.‌

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

97
  • طريقة أمير المؤمنين وأسلوبه في إرشاد الإمام الحسن عليهما السلام وتربيته

  • وقد بدأتُ معك بتعليمك كتاب الله، ولم أقصّر في تعليمك تأويل الآيات وشرحها وبسطها،‌ وعرّفتك بالعقائد والمباني والأصول لشريعة الإسلام وأحكامه، وفصّلتُ لك الحلال والحرام، ولم أتجاوز في ذلك كلّ الكتاب الإلهي ومباني الشرع ولم أرسلك إلى المدارس والنِحل المختلفة، ثمّ خفتُ عليك أن تلتبس عليك الأمور وأن تُبتلى بنفس توهّمات وانحرافات باقي الناس وبأهوائهم النفسيّة (وأن تُبتلى بالمهالك التي ابتلي فيها عوام الناس من خلال اتّباعهم السلائق النفسانيّة والأسلوب البعيد عن المنطق العقلاني)؛ ولذا رجّحتُ أن أُحذّرك من خلال التنبيه والتأديب ـ رغم أنّي أكره ذلك ـ من الخطر الذي يتهدّدك بسبب الغرق في المهالك، وأن أريك طريق السداد والرُشد، راجيًا أن يُوفّقك الله تعالى للرشد والصلاح وأن يهديك إلى مقصدك ومآلك، ولهذا السبب كتبتُ لك هذه الوصيّة».

  • «واعلَمْ ـ يا بُنَيَّ! ـ أنَّ أحَبَّ ما أنتَ آخِذٌ بِهِ إلَيَّ مِن وَصِيَّتي، تَقوَى اللهِ والِاقتِصارُ عَلَى ما فَرَضَهُ اللهُ عَلَيكَ، والأَخذُ بِما مَضَى عَلَيهِ الأَوَّلونَ مِن آبائِك والصّالِحونَ مِن أَهلِ بَيتِك؛ فَإنَّهُم لَم يَدَعوا أن نَظَروا لِأَنفُسِهِم كما أنتَ ناظِرٌ، وفَكَّروا كما أنتَ مُفَكِّرٌ، ثُمّ رَدَّهُم آخِرُ ذَلِك إلَى الأخذِ بِما عَرَفوا، والإمساك عَمَّا لَم یُكَلَّفوا، فَإن أَبَت نَفسُك أن تَقبَلَ ذَلِك دونَ أن تَعلَمَ كَما عَلِموا فَلْيكُنْ طَلَبُك ذَلِك بِتَفَهُّمٍ و تَعَلُّمٍ، لا بِتَوَرُّطِ۱ الشُّبُهاتِ وعُلُوِّ الخُصوماتِ.

  • وابدَأْ ـ قَبلَ نَظَرِك في ذَلِك ـ بِالِاستِعانَةِ بِإلَهكَ، والرَّغبَةِ إلَيهِ في تَوفيقِك، وتَركِ كُلِّ شائِبَةٍ أوْلَجَتكَ٢ في شُبهَةٍ، أوْ أسلَمَتكَ إلَى ضَلالَةٍ؛ فَإذا أيقَنتَ أن قَد صَفا قَلبُكَ فَخَشَعَ، وتَمَّ رَأْيُكَ فاجتَمَعَ، و كانَ هَمُّكَ في ذَلِكَ هَمًّا واحِدًا؛ فَانظُرْ فيمَا فَسَّرتُ لَكَ، وإن أنتَ لَم يجتَمِعْ لَكَ ما تُحِبُّ مِن نَفسِك، وفَراغِ نَظَرِكَ وفِكرِكَ؛‌ فَاعلَمْ أنَّكَ إنَّما تَخبِطُ العَشْواءَ٣، وتَتَوَرَّطُ الظَّلماءَ، ولَيسَ طالِبُ الدّينِ مَن خَبَطَ أوْ خَلَطَ، والإمساكُ عَن ذَلِكَ أمثَلُ»

    1. الورطة: هي الأمر المُشكل الذي يصعب التخلّص منه.
    2. أولجتك: أدخلتك.
    3. العشواء: الضعيفة البصر، أي تخبط خبط الناقة العشواء.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

98
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بتقوى الله

  • يعني: «اعلم يا بُنيّ! إنّ أحبّ أمرٍ في هذه الوصيّة أحبّك أن تعمل به، هو تقوى الله ومراعاة رضاه في كلّ حالٍ، فاثبت واستمرّ على ما أوجبه الله عليك وفرضه ولا تتجاوزه، وقُم بما قام به من مضى من آبائك الصالحين العظام من أهل بيتك وامضِ على تلك السيرة والمنهج وتمسّك بها؛ لأنّهم كانوا يُلاحظون مصالحهم على الدوام كما أنّك تلاحظ ذلك أيضًا، وكانوا يؤدّون أعمالهم بعد التفكير والتدبير كما أنّك تُفكّر وتتدبّر،‌ وقد أوصلتهم هذه المسألة إلى أن يعملوا بكل ما هو يقين ومعرفة، وأن لا يعتنوا بما لم يكتب عليهم التكليف بالعمل به،

  • فإذا حصل في نفسك شكٌّ وتردّدٌ بالنسبة إلى عمل الماضين، ولم تصل إلى نفس اليقين والمعرفة التي وصلوا إليها، فعليك أن تنهض وتبحث عن ضالّتك وتطلب معرفة الواقع والوصول إلى حاقّ المسائل عن فهمٍ ودرايةٍ (لا تعبر عن القضايا والشبهات بسرعة، ولا تعتبرها بسيطة وتافهة)، وإيّاك أن تتورّط في الشبهات بدون علم وبصيرة، أو ينخدع عقلك وفهمك بالظواهر والمظاهر المذهلة، فتنجذب إلى الأمور الجذّابة التي تخدع العوام من الناس!

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالاستعانة بالله وطلب المدد منه

  • وعليكم قبل أيّ شيء وقبل أن تُقدم على أيّ أمرٍ أن تستعين بالله وأن تطلب منه المدد، وتتوجّه إليه بطلب التوفيق برغبةٍ وشوقٍ تامٍّ، وابتعد عن كلّ أمرٍ يُحيّر فكرك ويجعلك مُتردّدًا وفي النتيجة يُوقعك في الشبهة والاشتباه، أو يُسلّمك إلى يد الضلالة والضياع؛ فإذا وجدتَ في نفسك صفاء القلب والخشوع أمام الحقّ، وأنّ عقلك ودرايتك راسخين وثابتين على اتبّاع الحقّ، ورأيت أنّ همّك وغمّك ـ في قبال العمل بالحقّ ورضا الربّ وصلاح الدنيا والآخرة ـ‌ همّاً واحدًا وعزمًا راسخًا، عند ذلك انظر جيّدًا وتأمّل بدقّة فيما سوف أفسّر لك وأوضّحه.

  • وإذا لم تتيقّن بصلاحك وسعادتك عند مواجهتك للأحداث والقضايا، ولم تستطع أن تميّز سبيل الصواب من الباطل بنحوٍ واضحٍ، وإذا عجز فكرك ورأيك عن تشخيص صلاح ذلك الموضوع وسداده، فاعلم أنّك تمضي في الطريق على عماء،‌ ولا تخطو خطواتك عن بصيرة وإتقان، وأنّك ستصل في الظلمات والعتمات الحالكة والمفسدة إلى الهلاك والاضمحلال، وطالب الدين لا يُبتلى في الاشتباه أو يمزج الحقّ والباطل؛ وعليك في هذه المواطن الاحتياط والتوقّف والأفضل عدم الحركة في تلك الواقعة».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

99
  • هناك مواطن جديرة بالتأمل في هذه الفقرة:

  • الموطن الأوّل: يقول الإمام عليه السلام: إنّ أحبّ المناهج هو تقوى الله والعمل بالتكليف الذي تمّ تشريعه من جانب الله، ويجب على الإنسان أن لا يزيد أو يُنقص من التكليف من تلقاء نفسه.

  • يتصوّر البعض أنّ رضا الله هو في أداء العبادات بصورةٍ شاقّةٍ وصعبةٍ، وأنّه كلّما كانت العبادة أصعب فستكون قيمتها عند الله أعلى؛ أو يرون بأنّ القيام بالمستحبّات فرضٌ وواجبٌ عليهم.۱

    1. هناك روايةٌ مأثورةٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول فيها: «أفضَلُ الأعمالِ أحمَزُها». يعني: «أفضل العبادات هي المصحوبة بالصعوبة والمشقّة».
      ويجب الانتباه إلى هذه النقطة هنا وفي سائر المواطن الأخرى، وهي أنّ أداء العبادات وطاعة أمر الله يتشكّل في ظرف التكليف وفي فضائه، وطالما لم يأتِ تكليفٌ على الموضوع بعد، فإنَّ أداء ذلك العمل أو تركه من تلقاء النفس يُعتبر تجاوزًا لمباني العبوديّة وتجرّأً على المولى؛ وكما يتبيّن من الأمثلة المذكورة فإنّ حكم الله أمرٌ وإظهارُ ذوق الأفراد أمرٌ آخر.
      أمّا العبادات التي تتنوّع السبل والطرق في أدائها والتي يكون كلّ نوعٍ من الأداء فيها مقبولًا من الشارع، فيقولون في هذه الحالة: العمل والعبادة الأكثر قبولًا عند الله هي ما كانت جنبة العبوديّة والذلّة والمسكنة فيها أكثر وأفضل من سائر الأشكال.
      مثلًا: لو فرضنا أنَّه استقرّ وجوب فريضة الحجّ على الإنسان بسبب تحصيله لزاد السفر والمركب، أو أنّه هيّأ وسائل السفر من أجل أداء الحجّ المستحب ففي هذه الحالة وفي الظروف الحالية سيكون السفر إمّا عبر الطائرة أو عبر السفينة أو على ظهر دابة أو سيرًا على الأقدام، ومن الطبيعي أن تميل نفس الإنسان ابتداءً إلى الأولى من هذه الوسائل ثمّ ستميل إلى باقي الوسائل تباعًا ولن يُبدي رغبةً بالسير على الأقدام مطلقًا. وهنا يتحقّق مصداقٌ لهذه الرواية، فإذا توفّرت الفرصة الكافية ولم تبرز أيّ موانع خارجيّة فالسفر بواسطة السيارة أو الدابة سوف يكون مرجّحًا على السفر بالطائرة قطعًا، فما بالك بالسير على الأقدام؛ لأنّه عند السفر بالسيارة وأمثالها ستشعر نفس الإنسان بالتعب والمشقّة والعبوديّة أكثر من السفر بالطائرة. وقد طوى الإمام المجتبى عليه السّلام المسافة بين المدينة ومكّة سيرًا على الأقدام مرارًا وتكرارًا، في حين أنَّ نياقه كانت تتحرّك أمامه.
      كما شوهد الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام والإمام سجاد عليه السّلام يطويان السفر سيرًا على الأقدام.
      وقد طوى الملّا صدرا الشيرازي ـ الحكيم المشهور ومفخرةُ عالم الإسلام ـ الطريق مرارًا من منزله إلى مكّة سيرًا على الأقدام، وقد انتقل إلى رحمته تعالى في مدينة البصرة خلال سفره الأخير.
      ولنطرح مثالًا آخر هنا:
      الواجب على الإنسان الذي يجب عليه قضاء الصيام، أن يصوم اليوم في أيّ ظرفٍ كان، سواءً كان ذلك اليوم من أيّام الشتاء القصيرة أم من أيّام الصيف الطويلة المترافقة مع الحرّ والعطش، وأيّهما صام فلا إشكال ويكون قد أبرئ ذمته وسقط التكليف عنه؛ ولكن بالطبع ثواب الصيام في الصيف وتحمّل العطش والتعب أكثر أجرًا وثوابًا من الصيام في الشتاء قطعًا. وعلى هذا القياس... .
      وبناءً على ذلك، فإنَّ مضمون الرواية لا يعني أنّه على الإنسان أن ينحت تكليفًا من رأسه وبدون إذن الشارع وإجازته، وأن ينشغل من تلقاء نفسه بأداء عملٍ ما، حيث إنَّ هذا العمل هو بدعةٌ قطعًا وخلاف المراد ومبغوضٌ من الشارع؛ بل مفهومه هو أنَّه من بين المصاديق المتعدّدة للقيام بالتكليف، ذلك المصداق الذي يُوقع النفس في مشقةٍ أكبر هو الأحبّ عند الله؛ لأنَّ آثار ذلك العمل ـ وهو التذلّل والخشوع ـ تُصبح أكثر وضوحًا.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

100
  • مثلًا: في الموطن الذي يجب عليهم التيمّم فيه بدلًا من الوضوء، يتوضّؤون ويوقعون أنفسهم في الهلكة أو المشقّة؛ وفي حالة وجود عذرٍ يرفع عنهم وجوب الصيام، يصومون ويُتسبّبون بأنواع الإصابات والأضرار لأجسادهم؛ أو أثناء سفر الحجّ، تقوم المرأّة بتناول أقراص دواءٍ معيّنٍ يُؤخّر حصول العذر الشرعيّ لها بدلًا من اتّباعها للواجبات المنصوص عليها في الشرع فتستريح خلال أيّام العذر؛ فتدوس بفعلها ذلك على السنّة الإلهيّة التي جعلها في حقّها أو تُضرّ بالمسار الطبيعي والتكويني للمشيئة الإلهيّة المتعلّقة بها، في حين أنّ تكليفها كان مبنيّاً على أساس السير الطبيعي للأمور.

  • يجب علينا أن نعلم بأنّنا سوف نكون موفّقين ومؤيّدين في أداء واجباتنا وتكاليفنا طالما كان عملنا في ظلّ رضا الله وتقديره، وطالما لم نُضف شيئًا أو ننقصه من تلقاء أنفسنا، وأن لا تأخذنا الحرقة على أداء التكاليف أكثر من نفس صاحب الشريعة، وعلينا أن لا نخلط نِيّتنا الخالصة أو نلوّثها بالأهواء النفسانيّة والسلائق الشخصيّة والوساوس الشيطانيّة.

  • فإنّ جميع البدع التي ظهرت في شرائع الأنبياء بواسطة الجهلاء ومن لا أهليّة لهم، إنّما نشأت بسبب هذه المسألة، فمصافحة المُصلّين بعد الصلاة هي إحدى هذه البدع، وكذلك مجالس الأربعين للمتوفى من هذا القبيل أيضًا، ومشي النساء خلف الجنازة والمشاركة في دفن المتوفّى كذلك، وتزيين المساجد بالكاشي وبناء المنارات والقباب يُعدّ من البدع.

  • وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام: 

  • «إِذَا قَامَ الْقَائِمُ [عجّل الله فرجه الشريف] لَمْ يَبْقَ مَسْجِدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَهُ شُرَفٌ إِلَّا هَدَمَهَا، [ويُعيد بناءها من جديد على أساس سنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله]».۱

  • وحركة مواكب العزاء مع الطبول والعَلَم وغيرها كلّها أصبحت من البدع المتعارفة، ونصب مكبّر الصوت خارج فضاء المسجد والحسينيّة أو التكايا، وإيذاء الجيران كلّه كلّه بدعةٌ وحرامٌ، وعلى هذا القياس...؛ إنّ الشريعة ودين الله لا يحتاجان إلى شفقتنا، وليس من الواجب أن نأخذ على عاتقنا القيمومة عليه، فنحن إذا كُنّا نتمتّع مُتقنين ومحترفين جدًا، فلا يجب أن نسمح لأنفسنا بفصل منهجنا وممارستنا عن دائرة الشريعة وعمّا وصل إلى أيدينا من موالينا.

    1. وسائل الشّيعة، ج ٥، ص ٢۱٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

101
  • جاء شخصٌ إلى الإمام عليه السلام وقال:‌ لقد اخترعتُ دعاءً وأنا أدعوه في قنوتي وسائر مواقفي. فقال الإمام علیه السّلام وقد تغيّر: «دَعْني مِن اختِراعكَ».۱

  • النقطة الأخرى التي وردت في هذه الفقرات هي الاستفادة من تجارب الماضين.

  • ليس هناك شكٌّ في أنّ حياة الإنسان على مرّ القرون كانت قائمةً على أساس جلب المصالح ودفع المضارّ؛ وعلى هذا الأساس تشكّلت الحضارات والمجتمعات، وكان كلّ جيلٍ لاحقٍ يستفيد من تجارب الماضين، فكانوا يستفيدون من أساليبهم الجيّدة والحسنة وكانوا يأخذون العبر من عيوبهم وأوجه قصورهم. وكانت هذه المسألة شائعةً في العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة وبين الأمم، بحيث إذا تصرّفت دولةٌ أو حكومةٌ أو فردٌ بخلاف هذه الطريقة، انتقد وقُدح به من قبل العقلاء؛ لأنّ الله لم يمنحنا أكثر من عمرٍ واحدٍ. لذلك، فإنّ الشخص العاقل ينتهز الفرص باستمرارٍ، ويحمي نفسه من لدغات الأحداث بنحوٍ أفضل.

  • السبب الأساسي للانحرافات البشريّة هو الحركة في جوٍّ من الشكّ والجهل وعدم الاطلاع

  • لكن أهم نقطة نبّه عليها الإمام هنا، هي حركة الإنسان في فضاءِ الشكّ والجهل وعدم الاطلاع.

  • مهما قُلنا أو كتبنا عن هذه النقطة، كان قليلًا بحقّهما، ويُمكن القول يقينًا: إنّ أغلب الانحرافات في المجتمعات البشريّة، وكذلك بين الأفراد، إنّما كانت بسبب عدم مراعاة هذه النقطة.

  • إنّ ما يُؤدّي إلى حصول الآفات وإلى الحركة في الضلالة والظلمة في مواطن الشبهة والشكّ، وما يؤدّي فيها بطبيعة الحال إلى الابتعاد عن الحقّ وعن الاستقامة هو المظاهر الخادعة والأمور الجذّابة المغوية. تلعبُ الشخصيّة الظاهريّة للأفراد وشعبيتهم دورًا رئيسيّاً في هذه المسألة، والوعود والوعيد من دون دعامةٍ منطقيّةٍ ومُبرّرة، والاستناد فقط إلى الشعارات هي نوعٌ من الإغارة التي يُمكن لها أن تقود العقول الجاهلة والنفوس الضعيفة من عامّة الناس إلى طريق الظلام والجهل.

    1. الكافي، ج ٣، ص ٤۷٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

102
  • إذ يُمكن للشخصيّات الكاذبة وللأشخاص والمظاهر التي تملأ العين أن تلعب دورًا مهمّاً في هذا التضليل والإغواء، وفتنة النساء اللاتي طُلقن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله سلّم كانت ذات علاقةٍ بهذه النقطة، فإنّ عدم البصيرة وعدم اطلاع المسلمين على الواقع، وعدم الاهتمام بالمسألة الخطيرة المتعلّقة للولاية والزعامة من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى المظاهر الخادعة للطيف المخالف للولاية والوصاية ـ ككهولة السنّ والصحبة مع رسول الله في الغار والنسب السببي ـ قد لعبت بأجمعها دورًا. ووجود أشخاصٍ معروفين ومشهورين مثل: أنس خادم رسول الله وعثمان وصهر النبيّ وآخرين في الجبهة المقابلة، زاد من إغراء هذه الحركة أيضًا.

  • لقد واجهنا هذه الفجوة وهذا النقص بنحوٍ دقيقٍ وفي قصّة المشروطة والدستورية، حيث كان حضور علماء الظاهر ورجال الدين المشهورين ومراجع ذلك الوقت في جبهتين مواجهتين لبعضهما البعض، وسيل الاتهامات والسباب وتدمير شخصيّة النفوس من قبل الطرفين، أوقع الناس في الحيرة وأحدث ارتباكًا غريبًا وضع الطرفين في معرض طوفانٍ من الهلاك والعدم والدمار. فلم تسلم روح أحدٍ من تلك الفتنة إلّا أولئك الذين اختاروا العزلة في زاويةٍ من الزوايا، وامتنعوا عن الانتساب إلى أحد الجانبين، ودعوا الناس إلى الانسحاب من هذا الفخّ وهذه المهلكة المخطط لها.

  • من هنا يُمكن الاستنتاج أنّه في الحالات التي لا يكون واقع القضية والحادثة فيها واضحًا وجليّاً للإنسان، فلا يُمكن للإنسان أن يميل إلى أحد الجانبي المشتبهين، مفضلاً جانبًا على الآخر، ولا أن يضع نفسه بين زمرة أتباع تلك المجموعة والمتحدين في مسلكها. وعليه أن يحمي نفسه من فخّ كلّ الطرفين من خلال الاحتياط والحزم والتوقّف.

  • وبالتأكيد، في مثل هذه الحوادث، يعتبر كلّ طرفٍ نفسه حقًا مطلقًا، ويُبرز لنفسه شاهدًا أو دليلًا من الوقائع الماضية ومن الحوادث التي حصلت في صدر الإسلام من أجل إثبات مدّعاه، ويعتبر نفسه مصداقًا من مصاديق تلك الواقعة، وبطبيعة الحال لا ينبغي الاهتمام بكلامه، ولا بدّ من جعل المعيار هو وجود الشواخص وظهور آثار الحقّ فيها.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

103
  • لقد كان الحجّاج بن يوسف الثقفي من رواد الماضين واللاحقين في قتل الشيعة وقطع رؤوسهم، وكان يستشهد بآية: ﴿أَطيعُوا اللَّهَ وَ أَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُم‌﴾۱ من أجل تبرير عمله.

  • إخلاص النيّة وصفاء الباطن والتسليم أمام الحقيقة

  • وأمّا النقطة الأخيرة في هذه الفقرات، فهي إخلاص النيّة وصفاء الباطن والتسليم في قبال الحقّ، والخضوع لإرادة الله ومشيئته.

  • حيث يُؤكد الإمام عليه السلام في هذه النقطة أنّه طالما لم يكن قلب الإنسان صافيًّا وخاليّا من الغشّ بالنسبة لمسألة تقبّل الحقّ، فإنّ كلمات الأولياء وأحاديث الأعاظم لن تكون ذات فائدةٍ كبيرة بالنسبة له، والنصيحة في أذنه عبارةٌ عن دقّ الماء في الجاروش.

  • آئینه شو وصال پری طلعتان طلب***اوّل بروب خانه دگر میهمان طلب ٢ 
  • [يقول: كن مرآةً ثمّ ابحث عن جمال الوجوه الملائكيّة، واكنس بيتك ثمّ ابحث عن الضيف‌].

  • لذلك نرى أنّ أولياء الدين يعدّون الشرط الأساسي لتأثير الكلام الصالح هو خلوص النيّة وصفاء الباطن، وطالما كانت كدورة الباطن وصدأ القلب هما الغالبين على الشخص، فلن نُشاهد تأثيرًا للكلمات الحكيمة على القلب؛ ومن هذا المنطلق اعتبر أعاظم الطريق بأنّ تخلية القلب من التعلّقات والميول والصدأ، ينبغي أن يكون سابقًا على التحلية بالأنوار والفيوضات الإلهيّة؛ وعدّوا الإقدام على ذكر الله والأوراد في ظلّ عدم تقبّل النفس مضرّاً جدًا وخطرًا جدًا جدًا.

  • ولذا نجد أنّ الإمام عليه السلام قال له بعد هذا الأمر:‌ «وإذا لم تستطع أن تتيقّن وتطمئنّ نفسك باختيار طريقك ومسير حركتك نحو الله...فإياك أن تذهب في أيّ طريقٍ وأن تذهب إلى أيّ مكانٍ وأن تجيب كلّ نداءٍ وأن تدخل إلى كلّ محفلٍ! لأنّه في هذه الحالة سوف يكون الصحيح والسقيم والحسن والقبيح والمستقيم والمنحرف مختلطًا بعضه مع بعض، وسوف توصل نفسك إلى الهلكة».٣

    1. سورة النّساء (٤)، مقطعٌ من الآية ٥٩.
    2. ديوان صائب التبريزي (فارسي)، ج ۱، الباب ۱، الغزل ٩٢۰.
    3. وذلك إشارة إلى قول الإمام: «وإن أنتَ لَم يجتَمِعْ لَكَ ما تُحِبُّ مِن نَفسِك، وفَراغِ نَظَرِكَ و فِكرِكَ؛‌ فَاعلَمْ أنَّكَ إنَّما تَخبِطُ العَشْواءَ، وتَتَوَرَّطُ الظَّلماءَ، و لَيسَ طالِبُ الدّينِ مَن خَبَطَ أوْ خَلَطَ، والإمساكُ عَن ذَلِكَ أمثَلُ».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

104
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام بعدم ثبات الدنيا والاعتصام بالله عزّ وجلّ

  • «فَتَفَهَّم ـ يا بُنَيَّ! ـ وَصِيَّتي، واعلَم أنَّ مالِكَ المَوتِ هو مالِك الحَیاةِ، وأنَّ الخالِقَ هُو المُميتُ، وأنَّ المُفنِيَ هو المُعيدُ، وأنّ المُبتَلِيَ هو المُعافي، وأنَّ الدُّنيّا لَم تَكن لِتَستَقِرَّ إلّا عَلَى ما جَعَلَها اللهُ عَلَيهِ مِنَ النَّعماءِ والِابتِلاءِ والجَزاءِ في المَعادِ، أو ما شاءَ مِمّا لا نَعلَمُ. فَإن أَشكلَ عَلَيك شَي‌ءٌ مِن ذَلِك فَاحمِلْهُ عَلَى جَهالَتِك به؛ فَإنَّكَ أوَّلُ ما خُلِقتَ جاهِلًا ثُمَّ عُلِّمتَ، وما أَكثَرَ ما تَجهَلُ مِنَ الأَمرِ، ويَتَحَيَّرُ فيهِ رَأْيُك، ويَضِلُّ فيهِ بَصَرُك، ثُمَّ تُبصِرُهُ بَعدَ ذَلِك، فَاعتَصِمْ بِالَّذي‌ خَلَقَك ورَزَقَك وسَوّاكَ، ولْيكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وإلَيهِ رَغبَتُك، ومِنهُ شَفَقَتُك».

  • يعني: «فتفهمّ يا بُنيّ وصيّتي جيّدًا وتوجّه لها وأوصلها إلى أذن قلبك واعجنها بروحك ونفسك، واعلم أنّ مالك الموت والعدم هو نفسه مالك الحياة والمعيشة، وخالق الحياة هو نفسه خالق البوار والفناء، وأنّ الذي يُميت هو الذي يُعيد مرّةً أخرى، وأنّ تلك الذات التي تبتلي هي التي تفتح الطريق مرّةً أخرى، وأنّ الدنيا لم تُخلق من أجل الحياة الخالية من المصاعب ومن أجل البقاء، بل خلقها الله من أجل نِعم وابتلاءات الآخرة وجزائها، أو من أجل أمورٍ لا نعلمها ولم نطلع عليها.

  • فإذا حصلت لديك مشكلة في هذه المسائل وخلال مُضيّ العمر وما يظهر فيه من الحوادث بحيث لم تستطع أن تحلّها، فاحملها على جهلك وقصورك في العلم والبصيرة، (لا أن يحصل لديك شكٌّ في أصل تلك الحادثة والمسألة، فترى أنّها خاطئة؛ لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يكون متيقّنًا وجازمًا في جميع الأمور والأحداث).

  • لأنّك أتيت في أوّل خلقك وولادتك جاهلًا بالدنيا، ثمّ علمتَ واطّلعتَ بالتدريج، ومع ذلك لا تزال الكثير من العلوم والحقائق مجهولةً بالنسبة لك، ويتحيّر فيها رأيك ويتردّد، ويضلّ فيه بصرك وبصيرتك ثمّ بعد مضي وقتٍ من الزمان وتهيء أسباب العلم والمعرفة تعلمه وتتبصّر به.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

105
  • فاعتصم بالذات المقدّسة والمتعالية للّه عزّ وجلّ الذي خلقك ورزقك وسوّاك واعتمد عليه، واطلب منه المدد وتمسّك به، ويجب أن يكون توجّهك والتفاتك إليه وتجاهه ولا يكن في بالك معبودٌ سواه، وليكن شوقك ورغبتك منحصرًا في الوصول إلى تحصيل رضاه وحسب، وينبغي أن يكون خوفك وشفقتك من البعد عنه ومن عدم رضاه ومن سخطه وغضبه».

  • جميع الحوادث والعوارض المترتّبة عليها هي بإرادة الله وتقديره

  • يشير الإمام عليه السلام في هذه العبارات إلى أنّه مثلما يعود أصل وجود العالم وأل العالم إلى الذات الإلهيّة المقدّسة، تستند كذلك جميع الأحداث والعوارض المترتّبة عليه وترتبط بإرادته وتقديره، وقد تمّ إثبات هذا الأمر في المسائل الفلسفيّة وفي العرفان النظري (التوحيد الذاتي والأسمائي والصفاتي والأفعالي).

  • ومن هنا، يجب على الإنسان في جميع أموره وتصرّفاته ـ سواءً كانت أمورًا شخصيّةً أم علاقاتٍ اجتماعيّةً، أم مسائل عباديّةً ـ أن يطلب المدد فقط من تلك الذات التي لا مثيل لها، وأن يجعل سؤاله وطاعته وانقياده لها، وأن يتوجّه إليها بجميع وجوده وسرّه وسويدائه؛ وذلك كما أوحى الله تعالى للنبي موسى عليه السلام: «يَا مُوسَى سَلْنِي كُلَّمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ حَتَّى عَلَفَ شَاتِكَ وَمِلْحَ عَجِينِك‌».۱

  • وبناءً على هذا، يجب على الإنسان أن ينصب عيني أمله على تلك الذات التي لا مثيل لها حصرًا، وأن يخافها ويخشاها فقط، وأن لا يهتمّ بأيّ قدرةٍ أو أثرٍ في هذا العالم.

  • إشارةٌ إلى المسألة الحياتيّة؛ مسألة الهداية والإرشاد والتوجيه ومسير السعادة والفلاح البشري

  • «واعلَمْ ـ يَا بُنَيّ! ـ أنَّ أحَدًا لَم يُنبِئ عَنِ اللهِ كما أنبَأَ عنه الرّسولُ صلّى الله علیه وآله وسلّم؛ فَارْضَ بِهِ رائِدًا وإلَى النّجاةِ قائِدًا، فَإنّي لَم آلُكَ نَصيحَةً، وإنَّك لَن تَبلُغَ في النَّظَرِ لِنَفسِك ـ وإنِ اجتَهَدتَ ـ مَبلَغَ نَظَري لَك».

  • يعني: «واعلم يا بُنيّ! بأنّ أحدًا من الشخصيّات في الدنيا لم يستطع أن يُنبئ عن المقام الربوبي وأوصاف الله وخصوصيّاته كما أنبأ عنه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكما عرّفه للآخرين؛ لذا اجعله دليلك ومصباح هدايتك وقائدك ومُطاعك إلى سبيل السعادة والفلاح.

    1. عدّة الدّاعي، ص ۱٣٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

106
  • واعلم أنّي لم أخفي عنك شيئًا من النصيحة والإرشاد، والتفت إلى هذه النقطة، وهي أنّك لن تبلغ وتصل إلى مصلحتك وسعادتك ـ مهما سعيت واجتهدت ـ بذلك المقدار الذي أريده لك».

  • بعد شرح أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الجمل وبيانه لموقعيّة البشر في هذه الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة، وبعد توضيحه للحقائق والاعتبارات، وبعد بيانه لما فيه صلاح الآدمي أو فساده وأنّه من أجل الوصول إلى الفلاح والخلاص، يجب أن يتمتّع بنيّةٍ صافيةٍ وبصدق الضمير، وأنّه عليه دائمًا أن يسلك سبيل الاحتياط وأن يلزم جانب الحزم في مواقف الشكّ والشبهة، وأنّه يجب عليه أن يتّبع السنن والسُبل الحكيمة والمستندة إلى العقل والفطرة، يُشير إلى مسألةٍ مهمّةٍ وحياتيّة والتي تتمثّل بالهداية والإرشاد ومسير السعادة والفلاح للبشر، حيث يجب على الإنسان في سبيل رفع الشكوك والإبهامات والتوقّف في العمل والقرار، أن يستعين بالإرشاد والهداية والأخذ باليد من قبل شخص خبيرٍ وذو معرفةٍ ومطلعٍ على جميع جوانب وزوايا الحالات المشبوهة والمجهولة. وأن يعتبر كلامه عقلًا منفصلًا ومائزًا ومُشخّصًا للمبهمات، وأن يعدّه منارة هداية في القلب المظلم للأحداث والمهالك، وأن لا يعصي أوامره ودساتيره وإرشاداته، وأن يُقدّم إرادة هذا الخبير وقراره في المواقف الخطرة وفي اللحظات الحرجة من الحياة البشريّة على إرادته الشخصيّة وميوله؛ وعليه أن يعتبر أمره السبيلَ الوحيد للنجاة من المعضلة والشبهة التي وقع فيها.

  • وبناءً على هذا البرهان وحكم العقل القاضي باتّباع الأعلم والخبير، يجب على الإنسان أن يتّبع الرسل الإلهيّين والقادة الدينيّين الذين تكون الحالات المشكوكة والمواقف المشتبهة واضحة وجليّة لعين قلبهم ورؤيتهم الإلهيّة، وعليه أن يُرجّح أوامرهم ويفضّلها على جميع إرادات الآخرين وتوقعاتهم وتشجيع وتهديداتهم وسلائقهم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

107
  • بی پیر مرو تو در خرابات***هرچند سکندر زمانی۱ 
  • [يقول: لا تسلك طريق الخرابات بغير الشيخ المجرّب، ولو كنت الإسكندر في زمانك‌].

  • * * *

  • قطع این مرحله بی‌همرهی خضر مکن***ظلماتست بترس از خطر گمراهی٢ 
  • [يقول: لا تقطعنّ هذه المرحلة (الصعبة والمحفوفة بالمخاطر) دون صُحبة الخضر؛ لأنّ فيها من الظلمات ما قد يُعرّضك إلى خطر الضياع والضلال].

  • لزوم اتّباع الإنسان الكامل الواصل

  • من الطبيعي، بما أنّ الغاية النهائيّة من خلق البشر، هي عبور مراتب الغيب والسير في أسماء وصفات حضرة الحقّ، وبالمآل الوفود إلى حريم القدس والذات الإلهيّة المقدّسة، لذا يجب قطع هذه المسافة مع قائدٍ يكون هو بنفسه قد طوى جميع مراتب الأسماء والصفات بالشهود والعيان واحدةً تلو الأخرى، وأن يكون على درايةٍ تامّةٍ بأسرار ورموز تلك العوالم٣؛ وأن يكون قادرًا على تفهيم الإنسان السائر إلى الله فيما يتعلّق بمخاطر النفس ومهالكها وعقبات الطريق وتخليصه منها بنحوٍ فعّال ورشيق.

  • ومن هنا ندرك لماذا شخّص أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات بأنّ رسول الله وأهل بيته هم الأفضل والأكثر استحقاقًا من بين الأفراد لهداية الناس والأخذ بيدهم.

  • يقول حضرة الشيخ فريد الدين العطّار رضوان الله عليه:

  • ز مشرق تا به مغرب گر امام است***علی و آل او ما را تمام است٤ 
  • [يقول: إن كان لا بدّ من إمام من المشرق إلى المغرب، فحسبنا عليّ وآله]

    1. أمثال وحكم دهخدا (فارسي)، ج ۱، ص ٤۸٤.
    2. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٤٦٦.
    3. لقد جاء توضيح هذا الأمر في الجزء الثاني من كتاب أسرار الملكوت، [راجع: المجلسين التاسع والعاشر من الكتاب].
    4. الهی نامه عطار (فارسي)، مطلع الكتاب، في فضيلة حضرة أمير المؤمنين علیه السّلام، «أمير المؤمنين حيدر تمام است».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

108
  • وعلى هذا القياس وبنفس هذا المِلاك والمعيار، فإنّ الأولياء الإلهيّين الذين طووا مراتب التجرّد بالنحو الأتمّ والأكمل، وتحقّقوا بحقيقة العبوديّة، هم الذين يُمكنهم أن يأخذوا بأيدي السالكين في الطريق إلى الله، وإيصالهم إلى عتبة المنزل المقصود، ولا فرق في هذه المرتبة بين العالم والجاهل والأصناف المتعدّدة، فجميعهم في أيّ مرتبةٍ كانوا محتاجين إلى الإرشاد والهداية من قبل الفرد الكامل والإنسان الواصل؛ وذلك كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

  • «ضَلَّ مَن لَيس لَه حَكيمٌ يُرشِدُه».۱ 

  • يعني: «من لم يضع طوق الانقياد والخضوع على أعتاب الحكيم والعارف ذو الضمير المنير، فسوف يقع في الهلكة والضلالة بالتأكيد في صراع الأحداث وعمى الشبهات».

  • ذكر بعض أوصاف الله وعجز العبد وفقره أمام الله

  • «واعلَم ـ يا بُنَيَّ! ـ أنّهُ لَو كان لِرَبِّك شَريكٌ لَأَتَتْك رُسُلُه، ولَرَأيْتَ آثارَ مُلْكهِ وسُلطانِهِ ولَعَرَفتَ أفعالَهُ وصِفاتِهِ، ولَكِنَّه إلٰهٌ واحِدٌ كَما وَصَفَ نَفسَهُ، لا يُضادُّهُ في مُلكهِ أحَدٌ، ولا يَزولُ أبَدًا ولَم يَزَلْ. أوّلٌ قَبلَ الأشياءِ بِلا أَوَّليّةٍ، وآخِرٌ بَعدَ الأشياءِ بِلا نِهايةٍ. عَظُمَ عَن أن تَثبُتَ رُبوبِيَّتُهُ بِإحاطَةِ قَلبٍ أو بَصَرٍ؛ فَإذا عَرَفتَ ذَلِكَ فَافعَلْ كَما ينبَغي لِمِثلِكَ أن يفعَلَهُ في صِغَرِ خَطَرِهِ؛ وقِلّةِ مَقدِرَتِهِ، وكَثرَةِ عَجزِهِ، وعظيمِ حاجَتِهِ إلى رَبِّهِ في طَلَبِ طاعَتِهِ، والخَشيَةِ مِن عُقوبَتِهِ، والشَّفَقَةِ مِن سُخطِهِ؛ فَإنّهُ لَم يأْمُركَ إلَّا بِحَسَنٍ و لَم يَنهَكَ إلَّا عَن قبيحٍ».

  • يعني: «واعلم يا بُنيّ! أنّه لو كان لله عزّ وجلّ شريكٌ وشبيهٌ، لأتتك رسلٌ من قبله، وللاحظتَ آثار سلطنته وقدرته، ولعرفت أفعاله وصفاته قطعًا، ولكن الله إلهٌ واحدٌ لا شبيه له، كما أنّه وصف نفسه بهذه الصفة.

  • وليس هناك من ذاتٍ تُضادّه وتقابله في سلطنته أبدًا، ولا يُتصوّر نهايةٌ له أبدًا، والأبديّة تليق بذاته التي لا مثيل لها، هو بداية كلّ شيء وليس هناك من شيء قبله أبدًا، في حين أنّه ليس له ابتداء أو أوليّة، ولا يُتصوّر له بداية، وهو نهاية كلّ الأشياء في أصل وجودها وعوارضها، 

    1. الفصول المهمة في معرفة الأئمّة، ص ۸٥٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

109
  • في حين أنّه ليس له نهاية وختام، إنّه أعظم من أن يُدرك ربوبيّته قلبٌ أو بصرٌ وأن يصل إلى كُنه ذاته؛ والآن حيث أنّك اطلعتَ على هذه الأمور وعلى هذه الأوصاف، وصرتَ مُطلعًا على قدرته وسلطنته وهيمنته على جميع الخلائق، فكن في قبال الله الواحد الأحد في طلب رضاه وتحصيل طاعته مثلما ينبغي لشخصٍ مثلك بلا مقدارٍ ولا تمكّن، وكما ينبغي لشخصٍ عجزه كثيرٌ واحتياجه إلى ربّه مُبرمٌ وعظيمٌ، وكن كما ينبغي لمثلك بالنسبة للخشية والخوف من عقوبته ومؤاخذته ومن غضبه وإبعاده؛ لأنّ الله لم يأمرك إلّا بالأفعال الحسنة، ولم ينهك إلّا عن الأفعال القبيحة».

  • بيان السبب والدافع وراء بيان الإمام لأحوال الدنيا والآخرة وخصوصيّاتهما

  • «أَي بُنَيَّ! إنّي قَد أَنبَأْتُكَ عَنِ الدُّنيا وحالِها، وزَوالِها وانتِقالِها، وأَنبَأْتُكَ عَنِ الآخرةِ وما أُعِدَّ لِأَهلِها [فيها]، وضَرَبتُ لَكَ فيهِما الأَمثالَ لِتَعتَبِرَ بِها، وتَحذُوَ عَلَيها، إنَّما مَثَلُ مَن خَبَرَ الدُّنيا كَمَثَلِ قَومٍ سَفْرٍ نَبَا بِهِم مَنزِلٌ جَديبٌ، فَأَمّوا مَنزِلًا خَصيبًا وجَنابًا مَريعًا، فَاحْتَمَلوا وَعثَاءَ الطَّريقِ، وفِراقَ الصَّديقِ، وخُشونَةَ السَّفَرِ، وجُشوبَةَ المَطعَمِ، لِيأْتوا سَعَةَ دارِهِم ومَنزِلَ قَرارِهِم، فَلَيسَ يجِدونَ لِشَي‌ءٍ مِن ذَلِكَ أَلَمًا، ولا يرَوْنَ نَفَقَةً [فيهِ] مَغرَمًا، ولا شَي‌ءَ أحَبُّ إلَيهِم مِمّا قَرَّبَهُم مِن مَنزِلِهِم، وأَدناهُم مِن مَحَلِّهِمْ؛ ومَثَلُ مَنِ اغتَرَّ بِها كَمَثَلِ قَومٍ كانوا بِمَنزِلٍ خَصيبٍ فَنَبا بِهِم إلَى مَنزِلٍ جَديبٍ، فَلَيسَ شَي‌ءٌ أَكرَهَ إلَيهِم ولا أَفظَعَ عِندَهُم مِن مُفارَقَةِ ما كَانوا فيهِ إلَى ما يَهجُمونَ عَلَيهِ، ويَصیرونَ إلَيهِ».

  • يعني: «يا بُنيّ! لقد أطلعتُكَ على أحوال الدنيا وخصوصيّاتها بنحوٍ جيّدٍ، وأنبأتك عن زوال الدنيا وانتقالها إلى الآخرة أيضًا، وأخبرتك عن عالم الآخرة وما أعدّه الله هناك، ونقلتُ لك الأمثلة التي يُمكنها أن تُبصّرك وتمنحك التكامل بالنسبة للدنيا والآخرة، حتّى تأخذ العبرة منها وكي تطوي طريقك في هذه الدنيا على علمٍ وبصيرةٍ.

  • فإنّما مثل الشخص الذي اطلع على خصوصيّات الدنيا، مثل قومٍ ومجموعةٍ نزلوا في منزلٍ في غاية الصعوبة والقحط وغير مريح، وكانوا يريدون أن يذهبوا من هناك إلى منزلٍ مليء بالخضرة والمراعي ويبعث على السرور، ولذا لم يكونوا يرون بدًا من تحمّل مشقّة الطريق وصعوبته، وأن يُفارقوا الأصدقاء والأحبّة، وأن يتحمّلوا مشكلات الطريق، والطعام غير المرغوب وكلّ ذلك لعدّة أيّامٍ إلى أن يصلوا إلى المنزل المقصود ويأووا إلى محلّ استقرارهم الأبدي، ولهذا السبب لا يشعر هؤلاء بأيّ نوعٍ من الألم والانزعاج من مواجهتهم لهذه المسائل، ولا يرون أنّ صرف الأموال من أجل الوصول إلى هذه الغاية خسارة أو غرامةً، وليس هناك من شيءٍ أحبّ إليهم من الشيء الذي يُوصلهم إلى منزلهم ويُقرّبهم من مقصدهم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

110
  • وبالعكس فإنّ مَثَل الشخص الذي انخدع بالدنيا، وابتلي بالظواهر والأمور الجذّابة، ولم يأخذ زادًا لآخرته، ولم يكن لديه خبرٌ عن أحوالها ومقاماتها، مثل قومٍ ومجموعةٍ كانوا في منزلٍ جميلٍ ومحلٍّ ويسكنون في مكانٍ ساحرٍ، ثمّ نزلوا في منزلٍ جافٍ وقحطٍ وحارقٍ جدًا، فلم يكن هناك شيءٌ أبغض إليهم وأصعب من مفارقة ذلك المسكن والموطن ومن الحركة باتجاه المنزل الجديد».

  • حالات الإنسان المفترضة في مواجهة الحوادث التي تصيبه

  • النقطة التي تستحقّ التأمّل في هذه العبارات، هي مسألة اشتياق الإنسان بالنسبة إلى الدنيا والآخرة، وبشكلٍ عامٍّ، يُمكن أن يكون للإنسان حالةٌ من ثلاث حالات مفروضة فيما يتعلق بالأحداث القادمة، وذلك بالنحو التالي:

  • الحالة الأولى: أن تكون الحادثة التي يحتمل وقوعها لصالحه وموافقةً لرغبته وميله، وفي هذه الحالة سوف يمتلك الشوق والرغبة لتحققها، وفي كثيرٍ من الأحيان قد يتملّكه الاضطراب والتشويش خوفًا من عدم وقوعها.

  • الحالة الثانية: أن تكون حادثةً لا تتوافق مع مصالحه ورغباته وميوله؛ وفي هذه الحالة يكون مضطربًا وقلقًا خوفًا من تحقّقها، ويُريد منع حدوثها بأيّ وسيلةٍ، وأن يُبعد عن نفسه الظروف التي قد تُسبّب حصول هذه الحادثة.

  • الحالة الثالثة: أن لا تكون هناك أيّ علاقةٍ بينه وبين تلك الحادثة، فوجودها وعدم وجودها سواءٌ بالنسبة للإنسان؛ وفي هذه الحالة، يعبر عنها الإنسان بلا مبالاة ودون أن يعتني بها.

  • والمؤمن، بواسط ما لديه من رؤية وبصيرة فيما يتعلّق بالعوالم بعد الموت، حيث يُمثّل الانتقال من هذه الدنيا بالنسبة له ترك المصائب والمشاكل والاختلافات والأمراض والمخاطر، وفي المقابل الدخول في عالم المثال والبرزخ والتمتّع بالنعم اللامتناهية والابتهاج التامّ واللقاء بالأولياء الإلهيّين وإفاضة أنوار الجمال الربوبي، وإزالة جميع الأحزان والتشويشات والطيران في الفضاء العطِر اللامتناهي ومصاحبة مظاهر الجمال الإلهي من الحور والغلمان، ولذا فهو يعدّ اللحظات للانتقال من الدنيا إلى الآخرة قطعًا. ولا يحتمل الموانع الموجودة [من هذا الانتقال]، ولذا يستقبل ظروف تحقّق هذا الانتقال بطيب نفسٍ وسكينة خاطرٍ؛ كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتّقين:

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

111
  • «لَوْلاَ الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ [والمهلة التي عيّنها الله لهم فيه هذه الدنيا] لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ [ولطارت أرواحهم إلى الملأ الأعلى]»۱

  • شوق أولياء الله إلى الموت وسفر الآخرة

  • قال المرحوم الوالد رضوان الله عليه: 

  • لقد عانى المرحوم آية الله الأنصاري الهمداني ـ رضوان الله عليه ـ من أمراض مختلفة في أواخر عمره، ومن جهةٍ أخرى زاد ضيق المعيشة والنقص في جوانب مختلفة من معاناته. قال لي ذات يومٍ (للمرحوم آية الله الوالد): «لماذا ينذر هؤلاء الرفاق والأصدقاء ويتوسّلون ويذبحون الأضاحي من أجل بقائنا في هذه الدنيا؟ فما هي نتيجة الوجود في هذه الدنيا سوى المتاعب والأمراض والمشاكل؟!» ثمّ قال: «لولا الحديث والرفاقة مع هؤلاء الرفقاء والأحبّة الذين يأتون من أماكن بعيدة وقريبة لزيارتنا، لما كانت لي رغبةٌ في البقاء في هذه الدنيا حتّى ولو للحظةٍ واحدةٍ!».

  • وقد نقل أحد أقارب الحقير ما يلي:

  • بعد المرض الذي أصاب قلب المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه ـ وعودته من مستشفى القائم (عليه السلام) في مدينة مشهد إلى المنزل، جئتُ إلى محضره وقلتُ: الشكر للّه أنّك استردّيتَ صحّتك وعافيتك، وأخرجنا من القلق والاضطراب.

  • فتغيّر وجهه وهو في حالٍ من الانزعاج، وكان ذلك مشهودًا في وجناته تمامًا، وقال: «ماذا يريد هؤلاء الرفاق مِنّا في نهاية المطاف؟» لماذا لا يدعوننا وشأننا؟! لماذا لا يتركوننا نرتاح من هذه الدنيا؟! لماذا قاموا بكلّ هذا المقدار من التوسّل والدعاء والنذر وطلب الحاجة؟! ألم نُبيّن لهم كل ما يلزمهم لسعادتهم وبصيرتهم؟! حسنًا، فليتركونا لحال سبيلنا، ولعملنا ولنذهب إلى العالم الآخر».

  • لمّا رأيتُ أنّه أبدى الانزعاج والشكوى بنحوٍ شديد، وأنّ ذلك قد لا يكون مناسبًا له على الإطلاق، قلتُ له: «سيّدنا الحبيب، إنّنا إنّما نتوسّل بهذه الأعمال من أجل بؤسنا وشقائنا نحن، وإلّا فإنّنا نعلم مكانك في ذلك العالم وأنّك ستتنعمّ بأيّ رحمةٍ وعنايةٍ من العنايات الإلهيّة هناك، ونعلم أنّك تعدّ اللحظات للوصول إلى تلك المراتب والمقامات».

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٢، ص ۱٦۰.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

112
  • طبعًا كان سماحته يقول هذه الكلمات بعد أن انتقلت روحه في المستشفى إلى عالم الآخرة لمدّةٍ قليلةٍ، مثلما ذكر هو بنفسه لهذا الحقير، حيث قال:

  • لقد أخذوني إلى ذلك العالم، لكنّهم أعادوني إلى هذه الدنيا بواسطة التوسّلات والنذورات والالتجاءات الشديدة من قبل الرفقاء، وقد حدّدوا لي مدّةً قصيرةً، وقالوا: «ليس لديك فرصة كبيرة، فسرّع بكتابة مؤلّفاتك قدر المستطاع، واعلم أنّك لن تنهيها وستنتقل إلى ذلك العالم وهي غير مكتملة».

  • وهذا ما حصل.

  • وصايا سماحة العلّامة الطهراني لمؤلّف الكتاب في المستشفى

  • وقد كان هذا العبد (راقم هذه السطور) مرافقًا لسماحته في المستشفى في مرضه هذا، وبعد انتقال سماحته من وحدة العناية المركّزة إلى قسم النقاهة، قال في ليلةٍ من الليالي لهذا العبد:

  • هناك وصايا يجب أن أخبرك بها، وعليك أن تسعى جاهدًا لتنفيذها.

  • أوّلًا: أن يُدفن جسدي في المقام الأول بجوار عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام. في البداية في القسم السفلي من رجله، وإذا لم يكن ذلك مُتيسّرًا، ففي الجزء الخلفي من الرأس؛ ولا أرضى أن تدفنوني فوق الرأس أو قُدّام الإمام.۱

  • ثانيًا: لا حاجة أن تُخبر الأصدقاء والأقارب والمعارف في البلدان البعيدة، وأن تُوقعهم في المشقّة والتعب، يكفي أن تأخذوا الجنازة مع هؤلاء العدّة من الأشخاص الموجودين هنا، وشيّعوها بالفرح والسرور والابتسامة والطرب، وخلاصة الأمر شيعوها وأنتم ترقصون،‌ شيّعونا إلى منزل الآخرة! ولا يحزنّن أحدكم أو يبكي! فأنتم لا تعرفون إلى أيّ منزلٍ ومكان سأذهب!

  • ثالثًا: ينبغي أن تستمرّ مجالس العزاء والأعياد التي في منزلي بنفس النحو والكيفيّة الحالية إلى الأبد بدون أيّ تغييرٍ، وعليك أنتَ أن تكون منتبهًا ومراقبًا بالنسبة لهذه المسألة.

    1. بحسب رأي الحقير: إنّ دفن الجنازة فوق رأس الإمام أو قُدّام الإمام موجبٌ للإهانة، وهو حرامٌ شرعًا.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

113
  • بينما كنت منزعجًا قليلًا من هذه الكلمات، لاحظ سماحته ذلك وقال لي: «يا فلان! لماذا أنتَ منزعجٌ هكذا؟ فما الذي قلتُ لك؟» ثمّ قال (وهو يُحرّك يده إلى الأمام): «أنا سعيدٌ!» ومدّ هذه الكلمة مدّةً خاصّةً، وكان السرور والبهجة باديان على محيّاه بحيث أنّ هذا المشهد لا يزال مجسّدًا أمام ناظريَّ، وبقيت ذكراه اللطيفة والعذبة ترطّب روحي بعد أكثر من عشرين عامًا وتجعلها تتراقص، وتنفخ نفخة الحياة في جسدي الخالي من الروح وفي نفسي المنغمرة في الشهوات والتعلّقات، وتفيض عليّ من أمطار الرحمة.

  • نعم، هذه هي حال رجال الله وأيّامهم: ﴿رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ﴾۱.

  • وفي المقابل نُشاهد أشخاصًا من المتزيّين بزيّ أهل العلم والمعرفة، ومن الدعاة والمروجين للشريعة، ممّن قضى عمرًا فوق المنابر، وتعرّض في خطبه وأحاديثه وجلساته وكتاباته لشرح المباني وتوضيح الاعتقادات، ورغّب الناس وشجّعهم لأن يتحرّكوا إلى منزل الآخرة؛ وقد نقلوا الكثير من التعاليم الدينيّة كما لو أنّهم سمعوها بأنفسهم من نفس المعصومين، وكأنّهم حصلوا عليها بروحهم وقلبهم بعلم اليقين وحقّ اليقين من خلال الشهود الروحاني واللمس البرزخي؛ ولكن ما إن يُصابوا بمرضٍ مُهلكٍ وخطرٍ جديٍّ، وما إن يروا بأنّ الموت أمامهم، ويعتقدوا بأنّ طريق العودة أصبح مسدودًا أمامهم، وأنّ ما تحدثوا به للناس حتى الآن أصبح مُحقّقًا ومسجّلًا لهم، فجأةً يفقدون عنان اختيارهم ويُحرقون الدنيا والسماوات بأجمعها، ويطرقون كلّ بابٍ للتخلّص من هذا المرض الفتّاك، ويصرفون مبالغ هائلة من المال محيّرةً للعقول ـ وتكون تلك من بيت مال المسلمين أيضًا أو من الحقوق الشرعيّة ـ كلّ ذلك من أجل رفع ما ابتلوا به؛ وفي خيالهم الخام يرغبون أن يسبقوا التقدير والمشيئة الإلهيّة، ويُجيبون بالنفي على دعوة ملك الموت إلى المنزل الأبدي، وأن يُحرّروا أنفسهم من قبضة القضاء والقهر الإلهيّان، لكن هيهات! هیهات!

    1. سورة النّور (٢٤)، الآیة ٣۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

114
  • يُعلّمنا أمير المؤمنين عليه السلام في هذه العبارات معيارًا ومحكّاً واضحًا ودقيقًا جدًا، حيث يُمكننا من خلال هذا المحكّ والمعيار أن نفهم جيّدًا حالة الأشخاص وشخصيّتهم، وأن نقيس مقدار التعلّق بالدنيا والماديّات الموجود في أنفسهم وباطنهم، وأن نطّلع على مقدار صدقهم وتطبيقهم للكلام واعتقادهم به؛ وأن نصل حقيقة الحال كما يقول الخواجة الشيرازي حيث يقول:

  • فردا که پیشگاه حقیقت شود پدید***شرمنده رهروی که عمل بر مجاز کرد۱
  • [يقول: وغدًا عندما يظهر مقام الحقيقة، سيخجل الذي بنى عمله على المجاز].

  • وهذا المحكّ والميزان هو لجميع الأفراد، سواءً العالم منهم وغير العالم؛ فالجميع يُمكنهم أن يقيسوا مقدار قربهم وإيمانهم وتعلّقهم من خلال هذا الميزان.

  • ميزان العلاقات مع الآخرين

  • «أَي بُنَيَّ! اجعَلْ نَفسَكَ ميزانًا فيما بَينَكَ وبَینَ غَيرِكَ؛ فَأحبِبْ لِغَيرِكَ ما تُحِبُّ لِنَفسِكَ؛ واكْرَهْ لَهُ ما تَكرَهُ لَها، ولا تَظلِم كَما لا تُحِبُّ أن تُظلَمَ، وأحسِنْ كَما تُحِبُّ أن يُحسَنَ إلَيكَ، واستَقبِحْ من نَفسِكَ ما تَستَقبِحُهُ من غَيرِكَ، وارْضَ منَ النّاسِ بِما تَرضاهُ لَهُم مِن نَفسِكَ، ولا تَقُلْ ما لا تَعلَمُ وإن قَلّ ما تَعلَمُ، ولا تَقُلْ ما لا تُحِبُّ أن يُقالَ لَكَ. واعلَمْ أنَّ الإعجابَ ضِدُّ الصَّوابِ. وآفَةُ الأَلبابِ؛ فَاسْعَ‌ في كَدحِكَ، ولا تَكُنْ خازِنًا لِغَيرِكَ، وإذا أنتَ هُديتَ لِقَصدِكَ فَكُنْ أخشَعَ ما تَكونُ لِرَبِّك».

  • يعني: «يا بُنيّ! اجعل نفسك ميزانًا للعلاقة بينك وبين الآخرين، فأحبّ للآخرين ما تُحبّ لنفسك، واكره للآخرين كلّ ما تجده سيئًا لنفسك، ولا تظلم تمامًا كما لا تحب أن تكون مظلومًا، وأحسن للآخرين كما تحبّ أن يُحسن إليك غيرك، واستقبح من سلوكك وما تعتبره قبيحًا من الآخرين، وكُن راضيًا عما يفعله الآخرون بما ترضى أن تفعله لهم، ولا تتكلّم في أمرٍ لا تعرفه ولا تدرك خصائصه وجوانبه، حتّى لو كان لديك القليل من المعرفة والاطلاع عليه، ولا تقل بحقّ الآخرين أمرًا ما لا تُحب أن يُقال بحقّك. واعلم أنّ الإعجاب بالنفس مخالفٌ للدراية والنظرة الواقعيّة،‌ وأنّه يجرّ أصحاب العقل والتدبير إلى الضلال.

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ۱۱٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

115
  • ففكّر في نفسك دائمًا وكُن قلقًا جدًا في عملك، ولا تُفكّر في الآخرين ولا تتدخّل في أمورهم، ولا تشغل نفسك بهم بحيث تُصبح في هذه الحالة صندوقًا لأسرار الناس وعيوبهم بلا أن يعود ذلك بالنفع والمصلحة عليك.

  • فإذا بيّن الله عزّ وجلّ لك في هذه الأثناء طريقك والمسير الذي تتمناه ومقصدك وغايتك، فيجب عليك أن تقوم أمامه مع كمال الخضوع ونهاية الخشوع، وعُدّ هذا التوفيق وهذه النعمة العظمى منه».

  • التعاليم الأغنى والأكثر عملية فيما يتعلّق بالأمور الأخلاقية

  • على الرغم من وجود عددٍ من المواطن التي تستحقّ التأمّل والتدقيق جدًا في هذه العبارات، ولكنّنا نُواجه فيها نقطتين أساسيتين تندرج باقي المسائل تحت مجموعهما.

  • النقطة الأولى: أحبّ للآخرين ما تُحبّ لنفسك، واستقبح لهم ما تستقبحه لنفسك، وقد نستطيع القول: تُعتبر هذه القاعدة، القاعدةَ الأغنى والأكثر عمليّة والأكثر شموليّة في مجال الأمور الأخلاقية والحقوق الاجتماعيّة والعلاقات الشخصيّة في حياة البشر.

  • إنّ الالتزام بهذه النقطة في كلا جنبتي النفي والإثبات، يصون الإنسان من العديد الآفات والمصاعب وموانع الترقّي وتصونه من حصول اليأس في مسيرته التكامليّة؛ وتُمهّد الأرضيّة لحركة الإنسان في مجال العلاقات مع الآخرين، ويُوفّر التفاعل المنطقي والأخلاقي بين أفراد المجتمع والبيئة الأسريّة وبيئة العمل؛ وتبني المدينة الفاضلة التي تحدّث عنها الفلاسفة والحكماء المشهورون وتوقّعوها للأجيال القادمة، وبعبارةٍ واحدةٍ: إنّ أساس حكومة العدل الإلهي والقاعدة التي يقوم عليها والتي لا يُمكن أن تُقام إلّا باليد القويّة لحجّة الله حضرة وليّ العصر أرواحنا فداه، سوف يتمّ تشكيلها على هذا الأصل وهذا القانون.

  • لقد أدرك اليوم جميع أفراد البشر والمجتمعات المختلفة بأنّ جذر كلّ هذه الآفات والأنانيّات والتمرّد والاستقواء والظلم والإجحاف والرياء والتملّق والخداع والحيل بين الحكومات والناس هو عدم مراعاة هذا المبدأ والأصل الهامّ والحياتي.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

116
  • فطالما أنّنا خارج نطاق السلطة وحدود الحكم والسيادة، فإنّ كيفيّة أفعالنا وخطابنا وتوقّعاتنا ومطالبنا تكون بحيث تجذب جميع العقول وتجلب كلّ إنصافٍ وضمير. فتجدنا ننادي بقوّة عن مراعاة العدل ومحو الظلم وتلبية حقوق الناس، وإبراز الصدق وحُسن النيّة، وعدم كتمان الحقائق ومساعدة المحرومين، بحيث تصل صرخاتنا إلى أسماع الشرق والغرب وتُصمّ آذان الأفلاك والمجرّات.

  • ولكن بمجرّد أن ندخل إلى حيّز الواقع، وبمجرّد أن ننتقل من موقع الناظر ونستقر في مقرّ دائرة الحكم والقيادة؛ ونُصبح بأنفسنا جزءًا من مجموعة الإدارة والحكم، ننسى جميع تلك الكلمات والأفكار والسُلوكيّات مرّةً واحدةً، ونُغيّر اتجاهنا مئة وثمانين درجة مستخدمين جميع أنواع الحيل والخُدع، ومن خلال تفسير العبارات والكلمات، وعبر التبرير والتأويل للتصرّفات، ومن خلال اختيار الروايات والأدلّة، فنقف بالضبط في نفس النقطة والموقف الذي كُنّا نُنادي قبل ذلك ببطلانه وظلمه، ودعونا الجميع إلى مواجهته والنضال ضدّه، وعبّرنا عن براءتنا واشمئزازنا منه؛ وهذا الأسلوب جارٍ وسارٍ لدى جميع الناس من جميع الأصناف والأعمار.

  • الاهتمام بالنفس وعدم التدخّل في أمور الآخرين

  • أمّا النقطة الثانية والتي لا تقلّ أهميّةً عن النقطة الأولى، فهي أن يهتمّ الإنسان بنفسه وعدم التدخّل في شؤون الآخرين.

  • وقد ينشأ من ذلك الشبهة التالية: ما معنى ما يقولونه من أنّ الشخص الذي لا يعرف أوضاع الناس المحيطين به، ولا يهتمّ بمشاكلهم ومتاعبهم فهو ليس بمسلمٍ، ولا يُمكن أن يطلق عليه اسم الإنسان، ما معنى ذلك إذن؟ وما هو الموقف تجاه هذه النقطة؟ 

  • إنّ النقطة التي اهتمّ بها الإمام عليه السلام وأراد التنبيه عليها هي أنّه على الإنسان أن لا يتدخّل في الأمور التي لا ترتبط بالإنسان، والتي لا مدخليّة لعلمه بها أو جهله بها في تنظيم العلاقات بين الأفراد، بل كثيرًا ما تؤدّي إلى سوء ظنّ الأشخاص تجاه بعضهم البعض ويكون لها تبعات سيئة، وينبغي عليه أن لا يطّلع على كم المسائل وكيفها ولا أن يستخرج سرّها، ولا أن يطّلع على أسرار الناس الذين لا يرغبون بأن يطلعوا عليها الآخرون.

  • وأمّا ما يتعلّق بالمواطن التي يكون الاطّلاع فيها رافعًا للمشقّة عن الناس ومبعدًا للابتلاءات عنهم، والتي تُحلّ من خلالها عقدهم المُغلقة، فلا إشكال فيه، بل هو ممدوحٌ جدًا ولازمٌ وواجبٌ.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

117
  • إنّ أحد العادات السيئة والقبيحة جدًا هي أن يطّلع الإنسان على أسرار الناس كي يتمكنّ في يومٍ من الأيّام مِن استخدامها لتلبية رغباته النفسانيّة. وهو الفعل الذي تقوم به عادةّ الحكومات والدوّل مع شعوبهم وأممهم.

  • چو بد کردی مشو ایمن ز آفات***که واجب شد طبیعت را مکافات۱
  • [يقول: إذا فعلت السوء فلا تأمن من الآفات، فقد وجب على الطبيعة أن تُكافئك].

  • * * *

  • آنکه عیب دگران پیش تو آورد و شمرد***لاجرم عیب تو پیش دگران خواهد برد٢ 
  • [يقول: إنّ الذي جاء إليك وذكر لك عيوب الآخرين وعددها،‌ لا جرم أنّه سيُفشي عيوبك للآخرين].

  • ومن ضمن عاداتنا السيّئة، الاستماع إلى أحاديث الآخرين، مثلًا: يتحدّث شخصان على بُعد مسافة طبيعيّة عن شخصٍ آخر، فيسعى ذلك الشخص لمعرفة ما يقولانه؛ أو عندما يتّصل شخصٌ بشخصٍ آخر بالهاتف، فيرغب شخصٌ أن يفهم ما يجري بينهما.

  • وإحدى العادات القبيحة الأخرى متابعة معاملات الأشخاص ومواطن التعامل، مثلًا: اشترى صديقٌ منزلًا أو اشترى جهازًا، فنبدأ سؤاله: بأيّ ثمنٍ اشترى المنزل؟ أو من أين حصل على الجهاز؟ أو كيف يُسدّد قرض منزله؟ في حين أنّه لو نشأت مشكلةٌ لنفس هذا الشخص لاحقًا في هذه المعاملة، مثلًا: أصبح مدينًا في الصفقة، أو دخل إلى المستشفى بسبب مرضٍ ما، فإنّنا لا نسأله كيف تريد سداد الدين؟ أو من أين سوف تُؤمّن نفقات المستشفى؟ ولكن بمجرّد ان يُسدّد قرضه أو يُرخّص من المستشفى، نسأله كيف دفعت النفقات؟

  • وأحد الآثار المُدمّرة لهذه العادة السيّئة، هي خلق الخيال والوهم الخاطيء لدى نفس الآدمي بحيث يُؤدّي هذا الأمر إلى خلق وتخزين الأمور الجزئيّة والتوهّمات في النفس؛ فتبقى نفس الإنسان محصورةً في مرتبة الجزئيّة ومحبوسةً فيها، وهي التي يجب أن تعبر من أجل الترقّي والتعالي عن الجزئيّات وأن تتصل بالكليّات. وهذا هو أخطر عقبةٍ أمام السالك في طريق الله، حيث يُقوّض ذلك تقوية الوحدة فيه، وتساعد بدلًا من ذلك على تشديد الكثرة واستقرارها.

    1. خمسۀ نظامی، خسرو و شیرین، القسم ۱۱٩.
    2. گلستان سعدي، الباب الأوّل، در عبرت پادشاهان [= في عبرة الملوك].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

118
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بإرسال الزاد قبل وصول الأجل والموت

  • «واعلَمْ أنَّ أمامَكَ طَريقًا ذَا مَسافَةٍ بَعيدَةٍ ومَشَقَّةٍ شَديدَةٍ، وأنَّهُ لا غِنَى لَكَ فيهِ عَن حُسنِ الِارتِيادِ، وقَدْرِ بَلاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهرِ؛ فَلا تَحمِلَنَّ عَلَى ظَهرِكَ فَوقَ طاقَتِكَ، فَيَكونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبالًا عَلَيكَ، وإذا وَجَدتَ مِن أهلِ الفاقَةِ مَن يَحمِلُ لَكَ زادَكَ إلَى يَومِ القِيامَةِ ـ فَيُوَافيكَ بِهِ غَدًا حَيثُ تَحتاجُ إلَيهِ ـ فَاغْتَنِمهُ وحَمِّلهُ إيّاهُ، وأكثِرْ مِن تَزْويدِهِ وأنتَ قادِرٌ عَلَيهِ؛ فَلَعَلَّكَ تَطلُبُهُ فَلا تَجِدُهُ، واغتَنِمْ مَنِ استَقرَضَكَ في حالِ غِناكَ، لِيَجعَلَ قَضاءَهُ لَكَ في يَومِ عُسرَتِك».

  • يعني: «واعلم أنّه لا يزال أمامك طريقٌ طويلٌ جدًا، وأن المطبّات والعوائق الموجودة فيه تكسر الظهر وصعبةٌ للغاية ومشكلةٌ جدًا، وليس لديك خيار سوى السير في هذا الطريق بالمنهج الأحسن والاختيار المنطقي، ويُمكنك الاستمرار في السير في هذا الطريق بمقدار ما حملتَ معك من الزاد، وبالمقدار الذي يحتمله ظهرك وكتفيك، حتّى لا يكون عليك مشقّة وصعوبة في حمله؛ ولذلك لا تضع عبئًا على كتفيك وظهرك أكثر ممّا تستطيع، حتّى لا تضعف قوّتك وتمنعك من الحركة! 

  • وإذا وجدت أحد الفقراء والمحتاجين يستطيع أن يحمل عنك حملك، ويُعيده إليك يوم القيامة عندما تكون في أمسّ الحاجة إليه، فاغتنمه واترك حملك عنده، ومتّعه بالكثير من النعم بينما يمكنك القيام بذلك؛ فقد لا تتمكن من العثور عليه في اليوم الذي تحتاج إليه. (إنّ مساعدة المحتاجين وقضاء حاجات المؤمنين وتلبية أمور ذوي الحاجة هي من ضمن النعم يوم القيامة حيث يُمكن للإنسان أن يطلب بسببها المساعدة من الأفراد يوم القيامة)

  • واغتنم الإقراض إلى المحتاجين حينما يُغنيك الله وحينما لا تكون بحاجةٍ، كي يردّوا لك دينك في يوم الآخر حينما تكون في مضيقةٍ شديدةٍ، وتحتاج إلى ذلك المال أيّما حاجة، ويُخلّصوك من بلواك».

  • رغم أنّه يجب أن تُشرح كلّ عبارةٍ أو فقرةٍ في هذه الكلمات بوسعة مضامينها التي لا حدّ لها ولا حصر؛ إلّا أنّ البنان العليل والبضاعة المزجاة التي لدى الحقير هي أحسنُ عذرٍ أمام أرباب المعرفة؛ لذلك سأشير فقط إلى النقاط التي يُمكن أن تلعب دورًا حياتيّاً خاصّةً لدى أهل العلم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

119
  • يقول الإمام عليه السلام في هذه الفقرات: يوجد أمامنا طريقٌ صعبٌ للغاية، وهو مسير بعيدٌ للغاية، وكلّما كانت أكتافنا وظهورنا فارغة أكثر من الحمل الإضافي كلّما كانت حركتنا وسرعتنا في طيّ هذا المسير أسهل وأسرع. لذلك دعونا لا نزيد من الأعباء على أكتافنا بلا داعٍ ولا نفقد قوّتنا، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: 

  • ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها﴾۱.

  • وكما يقول المعصوم عليه السلام:

  • «النّاسُ في سَعَةٍ ما لم يَعلَموا».٢

  • يعني: «طالما لم يحصل علمٌ لدى الناس ولا يقين بالتكليف، فليس عليهم حملٌ ولا دليل على قيامهم بأمورٍ غير معلومةٍ».

  • المرجعيّة العامّة ومقام إصدار الفتوى يحتاجان إلى سعةٍ واسعةٍ جدًا

  • ويجب الانتباه إلى أنّ قبول مسؤوليّة أثقال الناس والتعهّد بتكاليفهم وأحكامهم يتطلّب سعةً واسعةً جدًا وقدرةً أكبر من القدرة البشريّة، لا ينبغي أن نتصوّر أنّ هذا الارتباط يتحقّق فقط بمجرّد عرض الحكم على مبنى التشخيص والاستنباط الشخصي؛ بل إنّ الإعلان العمومي لرجوع المقلّدين لي، يعني: ضمان سعادة المُقلّدِين في الدارين، والفلاح الأبدي للمُقلِّد. ذلك الفلاح الذي تكون نهايته الوصول إلى مراتب التجرّد والتوحيد وحقّ المعرفة في مرتبة العبوديّة المطلقة. الآن يجب أن ننتبه إلى أنّ الشخص الذي ينال هذه المرتبة، كيف يُمكنه وكيف سيكون قادرًا على أن يكون موصلًا للإنسان الذي يُقلّده؟! وبعبارةٍ أخرى:

    1. سورة البقرة (٢)، صدر الآية ٢۸٦.
    2. عوالي اللآلي، ج ۱، ص ٤٢٤، نقلًا عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

120
  • ذات نایافته از هستی بخش***کی تواند که شود هستی بخش.۱
  • [يقول:إنّ الذات التي تفتقر إلى الوجود، متى يُمكنها أن تمنح الوجود للآخرين (فاقد الشيء لا يُعطيه)].

  • والآن لو أنّ مقلّدي هذا الشخص أوقفوه يوم القيامة وقالوا له: نحن كنّا مستعدين للتحرّك والسير إلى الله، ولو كانت فتواك وحكمك بكيفيّة أخرى، لكنّا قبلناها بالتأكيد بقلبنا وروحنا، ولتحرّكنا نحو المقصد الأعلى وبدّلنا نقاط استعدادنا إلى فعليّةٍ، فلماذا حرمتنا أنتَ من الوصول إلى هذه النعمة العظمى؟ ولماذا منعتنا من هذه الفعليّة التامّة من خلال الفتاوى غير المتجانسة وغير المتوازنة التي أدّت إلى ابتعادنا عن الهدف والغاية من الحياة؟ فما هو الجواب الذي يمكن أن يمتلكه؟ لا شيء!٢

  • لذلك كان أعاظم أهل العلم والمعرفة والعلماء بالله والعرفاء بالله يتجنّبون باستمرار إبراز مرتبة المرجعيّة العامّة ومقام إصدار الفتوى بشدّة وبما للكلمة من معنى؛ ولم يجيزوا ذلك إلّا لخواصّ أصحابهم وتلامذتهم، وكانوا يُحذّرون الآخرين من ذلك بشدّةٍ أيضًا. 

  • وقصّة مرجعيّة المرحوم العلّامة آية الله العظمى وحجّة الله الأكبر العارف الكامل والسالك الواصل المرحوم الحاجّ السيّد أحمد الكربلائي، التي ذكرها سماحة الوالد ـ أدام الله علينا من أنوار أنفاسه القدسيّة ـ بنحوٍ مُفصّلٍ في كتابه الشريف «توحيد علمي وعيني» [= التوحيد العلمي والعيني]، تُبيّن لنا هذا المعنى بشكلٍ جليٍّ٣؛ فأصبحت هذه القصّة عبرةً لنا حتمًا وتحقيقًا وبكلّ كلمةٍ كلمةٍ فيها، وعلينا أن نطبّقها في مقام العمل.

    1. هفت اورنگ جامي، سبحة الأبرار، القسم ٥.
    2. يُمكن أن يُطرح السؤال التالي هنا: إنّنا نواجه فتاوى مختلفة بين أهل المعرفة، فأين الفرق إذن؟ إنّ الجواب المفصل على هذا السؤال وتوضيح ذلك سيرد إن شاء الله في الكتاب النفيس الاجتهاد والتقليد وهو أحد آثار الوالد المرحوم العلّامة ـ رضوان الله عليه ـ مع تعليقات هذا الحقير [تجدر الإشارة إلى أنّ الكتاب المذكور طُبع وعُرّب تحت اسم "الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد والمرجعيّة" وقد تمّ طرح البحث المذكور في ص ٦٥]؛ ولكنّنا نُنبه هنا بإيجازٍ إلى أنّ الاختلاف في فتوى أحد المراجع الدينيّين الإلهيّن والعارف الكامل يرجع بالتأكيد إلى دخول بعض المصالح والأمور التي قد تكون مخفيةً عن نظرنا، ولا يكون لها أيّ تأثيرٍ على عمليّة ترقّي الإنسان أبدًا، على العكس من الفتاوى المختلفة لدى الآخرين حيث من الممكن أن تؤدّي إلى الوقوع في الهلكة والخسران الذي لا يُمكن تداركه.
    3. توحید علمی وعینی (فارسي)، ص ٢٣.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

121
  • تربية النفوس والأخذ بأيديهم غير متيسّرٍ إلّا بواسطة الأشخاص الذين قطعوا الطريق وأكملوه

  • وبالإضافة إلى النقطة المذكورة، فإنّ المسألة الأكثر حساسيّةً والأكثر أهميّةً وخطورةً أكثر بكثير من التصدّي لمقام الإفتاء، هي مسألة قبول مسؤوليّة التربية والتزكية والأخذ بأيدي الأفراد كأستاذ ومربّي خبير وبصير وسالك قطع الطريق ووجد الطريق، وهو للأسف في هذا الزمان بالخصوص ما نجده تحت كلّ غصنٍ كالأشواك وفي قلب كل حجر وكتلة كالفطر، يسعون بنشاطٍ إلى اصطياد القلوب الساذجة والعقول البسيطة والأفكار الخامّ، ويدعونهم إلى أنفسهم، ويعتبرون أنفسهم الأعلم والأعلى والأعظم، وأمّا البقيّة فيُبرزونهم على أنّهم منحرفون وماكرون ومضللون. ويسيئون استغلال جهل الناس وعدم اطّلاعهم من أجل ازدهار سوقهم ودنياهم. فهذه المجموعة من الأشخاص، هم بالتأكيد من المصاديق البارزة والمقصود بالشخص في كلام الإمام عليه السلام:

  • «واعلَم أنّ أَمامَكَ عَقَبَةً كَئودًا، المُخِفُّ فيها أحسَنُ حالًا مِنَ المُثقِلِ، والمُبطِئُ عَلَیهَا أقبَحُ حالًا مِنَ المُسرِعِ، وأنَّ مَهبِطَك بِها لا مَحالَةَ إمَّا عَلَى جَنَّةٍ أوْ عَلَى نارٍ؛ فَارْتَدْ لِنَفسِك قَبلَ نُزولِك، ووَطِّئِ المنزِلَ قَبلَ حُلولِك؛ فَلَيسَ بَعد المَوتِ مُستَعتَبٌ ولا إلَى الدُّنيا مُنصَرَفٌ»

  • يعني: «واعلم أنّ أمامك وادٍ ومنحدرٍ مهيبٌ ومُهلكٌ، والشخص الذي يكون حمله خفيفًا في هذه العقبة وفي هذا الوادي، فإنّه يكون أفضل حالاً من الشخص الذي يحمل حملًا ثقيلًا، والشخص الذي يطوي هذه العقبة ببطءٍ، فإنّ حاله أقبح من الشخص الذي يعبرها بسرعةٍ، ومنزلك بعد هذه العقبة وهذا الوادي المُريع، هو إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى جهنّم؛ لذا هيئ لنفسك دليلًا ومرشدًا للطريق قبل نزولك، وقم بإعداد مكانك قبل النزول؛ لأنّه بعد الموت لن يعود هناك شيءٌ يرفع اللوم عنك، ولن يكون هناك من عودةٍ إلى الدنيا».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

122
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام باتّخاذ الواسطة بين الإنسان وبين الله

  • «واعلَمْ أنَّ الَّذي بِيَدِهِ خَزائِنُ السّماواتِ والأرضِ، قَد أَذِنَ لَكَ في الدُّعاءِ، وتَكَفَّلَ لَكَ بِالإِجابَةِ، وأمَرَكَ أن تَسأَلَهُ لِيُعطِيَكَ، وتَستَرحِمَهُ لِيَرحَمَكَ، ولَم يَجعَلْ بَينَكَ وبَينَهُ مَن يَحجُبُهُ عَنكَ، ولَمْ يُلجِئكَ إلَى مَن يَشفَعُ لَكَ إلَيهِ، ولَمْ يَمنَعكَ إن أسَأْتَ مِن التّوبةِ، ولَمْ يُعاجِلكَ بِالنِّقمَةِ [ولَمْ يُعَيَّركَ بِالإنابَةِ] ولَمْ يَفضَحكَ حَيثُ الفَضيحَةُ بِكَ أولَى، ولَمْ يُشَدِّدْ عَلَيكَ في قَبولِ الإِنابَةِ، ولَمْ يُناقِشْكَ بِالجَريمَةِ، ولَم يُوئِسكَ مِنَ الرَّحمَةِ، بَل جَعَلَ نُزوعَكَ عَنِ الذَّنبِ حَسنَةً، وحَسَبَ سَيِّئَتَكَ واحِدَةً، وحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشرًا، وفَتَحَ لَكَ بابَ المَتابِ وبابَ الِاستِعتابِ.

  • فَإذا نادَيتَهُ سَمِعَ [نِداءَك]، وإذَا ناجَيتَهُ عَلِمَ نَجواكَ، فَأَفضَيتَ إلَيهِ بِحاجَتِكَ، وأبثَثتَهُ ذاتَ نَفسِكَ، وشَكَوتَ إلَيهِ هُمومَكَ، واستَكشَفتَهُ كُروبَكَ، واستَعَنتَهُ عَلَى أُمورِكَ، وسَألتَهُ مِن خَزائِنِ رَحمَتِهِ ما لا يَقدِرُ عَلَى إِعطائِهِ غَيرُهُ، مِن زِيادَةِ الأَعمارِ، وصِحَّةِ الأبدانِ، وسَعَةِ الأرزاقِ. ثُمّ جَعَلَ في يَدَيكَ مَفاتيحَ خَزائِنِهِ بِما أذِنَ لَكَ [فيهِ] مِن مَسألَتِهِ؛ فَمَتَى شِئتَ استَفتَحتَ بِالدُّعاءِ أبوابَ نِعمَتِهِ، واستَمطَرتَ شَآبيبَ رَحمَتِهِ؛ فَلا يُقَنِّطَنَّكَ إبطاءُ إجابَتِهِ، فَإنَّ العَطيةَ عَلَى قَدرِ النّيَّةِ؛ ورُبَّما أُخِّرَتْ عَنكَ الإجابَةُ، لِيَكونَ ذَلِكَ أعظَمَ لِأَجرِ السّائِلِ، وأجزَلَ لِعَطاءِ الآمِلِ؛ ورُبَّما سَألتَ الشَّيءَ فَلا تُؤْتاهُ، وأُوتيتَ خَيرًا مِنهُ ـ عاجِلًا أوْ آجِلًا ـ أوْ صُرِفَ عَنكَ لِما هُو خَيرٌ لَكَ؛ فَلَرُبَّ أمرٍ قَد طَلَبتَهُ فيهِ هَلَاكُ دينِكَ لَو أُوتيتَهُ. فَلْتَكُنْ مَسألَتُكَ فيما يَبقَىٰ‌ لَكَ جَمالُهُ، ويُنفَى عَنكَ وَبالُهُ، والْمالُ [لا] يَبقَى لَكَ ولا تَبقَى لَه».

  • يعني: «واعلم أنّ الذي بيده خزائن السماوات والأرض، قد أجاز لك أن تدعوه في جميع أمورك،‌ وتعهّد لك بالإجابة، وقد أمرك أن تطلب منه لكي يُعطيك ويعتني بك، وأن تطلب منه الرحمة والعطف ليحيطك برحمته ورأفته، ولم يجعل بينك وبينه شخصًا يكون واسطةً وحاجبًا وبوّابًا بحيث يتعامل معك كما تقتضي سليقته، (فيأخذك في بعض الأوقات إلى محضر الله، ويمنعك في بعض الأوقات)، ولم يحلك إلى شخصٍ بحيث يشفع لك عند الله، ولم يمنعك من التوبة والرجوع إليه بعد ارتكاب المعاصي والأمور الخاطئة، ولم يُعجّل في عقابك وجزائك، ولم يفضحك أمام الناس في المواطن التي كنت تستحق فيها الافتضاح، ولم يُشدّد عليك في قبول الإنابة والابتهال والرجوع إلى عتبته، ولم يُناقشك في جريمة عملك الخاطئ، ولم يجعلك تيأس من رحمته.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

123
  • وبدلاً من ذلك، جعل ثوابًا وحسنةً على ابتعادك عن الذنب، وحسب معصيتك معصيةً واحدةً، وجعل حسنتك عشرة أضعاف، وفتح لك باب التوبة، وترك لك الطريق للوصول إلى ما ضاع مفتوحًا.

  • فكلّما ناديته سمع نداءك، وكلّما ناجيته وبثثته همّك علم بنجواك، ولذلك أخبرته بحاجتك ووجهت له ذات نفسك بجميع شراشر وجودك، وشكوت له همومك، وتوجهت إليه لحل مشاكلك، واستعنتَ به لإنجاز أمورك، وطلبت من خزائن رحمته أشياء لا يمكن أن تُعطيها ذاتٌ أخرى غيره من الزيادة في العمر والسلامة في الجسم والسعة في الرزق. ثم وضع الله مفاتيح خزائنه بين يديك؛ لأنه سمح لك أن تسأله وأن تعرض أمامه حاجتك.

  • فيُمكنك في أيّ وقتٍ أردت أن تفتح أبواب النعم الإلهيّة لنفسك بواسطة الدعاء، وأن تُنزل أمطار رحمته إليك؛ لذلك إيّاك أن تيأس من تأخير إجابة الدعاء؛ لأن العطاء والإغداق يعتمد على نيّة المرء، (إذا كانت نيّتك وغايتك عاليةً، فسوف يكون عطاء الله عظيمًا وعاليًا)، وكثيرًا ما تتأخر الإجابة للدعاء حتّى يصبح أجر الداعي وثوابه أكبر، ويُصبح العطاء للآمل أجزل وأوفر.

  • وكثيرًا ما تطلب من الله طلبًا ولكنّ لا يُعطيك إيّاه، لكنّه في المقابل يمنحك ما هو أفضل منه في المستقبل القريب أو البعيد. أو أنه لم يقبل هذا الدعاء من الأساس؛ لأن المصلحة الأهم تقتضي شيئًا آخر لك؛ إذ كثيرًا ما يكون مطلوبك موجبًا لهلاكك وإلى إزالة دينك وإيمانك، فإذن يجب أن يكون طلبك وحاجتك في الأمور التي تبقى جميلةً ومفيدةً لك، ولا تسبب لك أي مشاكل؛ فإنّ المال ومتاع الدنيا لن يبقى لك، ولن تبقى أنت له».۱

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالالتفات إلى الآخرة وإلى الموت

  • «واعلَمْ أَنّك إنّما خُلِقتَ لِلآخِرَةِ لا لِلدُّنيا، ولِلفَناءِ لا لِلبَقاءِ، ولِلمَوتِ لا لِلحَیاةِ، وأنَّك في مَنزِلِ قُلعَةٍ، ودارِ بُلغَةٍ، وطَريقٍ إلَى الْآخِرَةِ، وأَنَّك طَريدُ المَوتِ الّذي لا يَنجو مِنهُ هارِبُهُ، ولا يَفوتُهُ طالِبُهُ، ولابُدَّ أنّهُ مُدرِكُهُ؛ فَكنْ مِنهُ عَلَى حَذَرِ أن يُدرِكَكَ وأنتَ عَلَى حالٍ سَيِّئَةٍ، قَد كنتَ تُحَدِّثُ نَفسَكَ مِنها بِالتّوبَةِ، فَيَحولَ بَينَكَ وبَینَ ذَلِكَ فَإذا أنتَ قَد أَهلَكتَ نَفسَك‌».

    1. لقد كتب المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه ـ في كتاب «أنوار ملكوت» [=أنوار الملكوت]، ج٢، ص٢۱٣، فصلًا كاملًا حول الدعاء وكيفيّة استجابته، وعلل عدم الإجابة؛ ولذا على من يرغب بمزيدٍ من التوضيح للموضوع أن يتوخّه هناك.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

124
  • «واعلم أنّك خلقت من أجل الآخرة وليس من أجل الدنيا، وأنّك خلقت للزوال والفناء، وليس من أجل البقاء والحياة الأبديّة، وأنّك جئتٍ إلى هذه الدنيا من أجل الموت، وليس من أجل الحياة الدنيوية، وأنّك واقعٌ في منزلٍ ومكانٍ غير مستقرٍّ، وبيتٍ لا أمل بعده في مكانٍ آخر، وأنّك تسير في مسيرٍ يتّجه نحو منزل الآخرة، وأنّك تهرب وتُبعد الموت عن نفسك مع أنّه لا سبيل للنجاة من هذا الابتعاد، فمن يطلبه الموت فلن يُفوّته الموت وسوف يصل إليه ويُدركه بالتأكيد.

  • فعليك أن تنتبه! فلا يجدنّك الموت وأنت لست في حالةٍ جيّدةٍ ووضعٍ مناسب للذهاب، وأنتَ تُحدّث نفسك دائمًا بأنّك ستعود إلى الله وتتوب عن تصرّفاتك الخاطئة، فإذا بالموت قد فاجأك ومنعك من التوفيق للتوبة والإنابة إلى عتبة الله، ويأخذك إلى منزل الآخرة، فإنّه في هذا الوقت لن يعود للتوبة أثرٌ، فتكون قد ختمت بختم الهلاك والبوار على نفسك».

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بكثرة ذكر الموت

  • «أَي بُنَيَّ! أكثِرْ مِن ذِكرِ المَوتِ، وذِكرِ ما تَهجُمُ عَلَیهِ، وتُفضِي بَعدَ المَوتِ إلَيهِ، حتّى يَأتِيَكَ وقَد أخَذتَ مِنهُ حِذرَكَ، وشَدَدتَ لَهُ أزرَكَ، ولا يَأتِيَكَ بَغتَةً فَيَبهَرَكَ.

  • وإيَّاكَ أن تَغتَرّ بِما تَرَى مِن إخلادِ أهلِ الدُّنيا إلَيها، وتَكالُبِهِم عَلَیها! فَقَد نَبَّأَ اللهُ عَنها، ونَعَتْ لَكَ نَفسَها [ونَعَتْ هِيَ لَكَ عَن نَفسِها] وتَكَشَّفَتْ لَكَ عَن مَساوِيها؛ فَإنَّما أهلُها كِلابٌ عاوِيَةٌ، وسِباعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهٰا بَعضًا، ويَأْكُلُ عَزيزُها ذَليلَها، ويَقهَرُ كَبيرُها صَغيرَها، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وأُخرَى مُهمَلَةٌ، قَد أَضَلَّت عُقولَها، ورَكِبَت مَجهولَها، سُروحُ عاهَةٍ بِوادٍ وَعثٍ، لَيسَ لَها رَاعٍ يُقيمُها، ولا مُسيمٌ يُسيمُها، سَلَكَت بِهِمُ الدُّنيا طَريقَ العَمَى، وأخَذَت بِأبصارِهِم عَن مَنارِ الهُدَى، فَتاهوا في حَيرَتِها، وغَرِقوا في نِعمَتِها، واتَّخَذوها رَبًّا، فَلَعِبَت بِهِم ولَعِبوا بِها، ونَسوا ما وَراءَها.

  • رُوَيدًا يُسفِرُ الظَّلامُ، كَأن قَد وَرَدَتِ الأظعانُ، يوشِكُ مَن أسرَعَ أن يَلحَق!».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

125
  • يعني: «يا بُنيّ! تذكّر الموت كثيرًا، وتذكّر الأحداث التي تندفع إليها مسرعًا بعد الموت والتي سوف تذهب إليها، حتّى تكون مُستعدّاً لهذه الأحداث بسبب هذا التذكّر وهذه المراقبة، ولكي تحصّل الاستعداد والقابليّة للتعامل معها، وتكتسب القوّة والأزر لمواجهة الوقائع والأحداث اللاحقة. ولكي لا تقضي وقتك هكذا وأنتَ غافلٌ عن الموت فيفاجئك مرّةً واحدةً، ويتغلّب عليك وأنت في حالةٍ من الإهمال والحيرة، في الوقت الذي لا تزال غير مستعدٍّ للانتقال من هذا المنزل إلى منزل الآخرة.

  • كلام أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الدنيا وأهلها

  • وإيّاك أن تنخدع بما يحبه أهل الدنيا! (وتُبتلى أنت أيضًا بمصير جهلهم وغفلتهم! وتصوّر أنّ العيش لامتناهي وأنّ الحياة أبديّةٌ في هذه الدنيا سيقودك إلى الغفلة والحيرة والانحراف)، فخذ العبرة من تهاجم أهل الدنيا على المتاع الدنيوي والرغبات الشهوانية وتكالبهم عليها، ولا تخطو في نفس طريقهم ومسيرهم! 

  • لأنَّ الله قد وصّف لك الدنيا وزخارفها وبينها، كما أنّ الدنيا نفسها أبدت لك حقيقتها وواقعيتها بوضوح (وأنتَ مطلعٌ تمامًا على ما يجري في هذه الدنيا وما ينشغل به النّاس، ويمضون أيّامهم به) وقد أصبحت الأمور غير المرغوبة والمروعة والقبيحة شيئًا متداولًا ومتعارفًا عليه في هذه الدنيا على الملأ.

  • فاعلم أنَّ أهل الدنيا كالكلاب المسعورة التي تهجم على بعضها، وكالحيوانات المفترسة والضارية التي تهجم على بعضها البعض وتؤذيها، فيأكل القويّ منها الضعيف، ولا يرحم الكبير منها الصغير.

  • فتبقى الناس كالأنعام بحيث تتعلّق مجموعة منها بحظيرتهم، وأخرى مشغولةٌ بالرعي، وقد دُمّرت عقولهم وضلّت (ففقدوا القدرة على التمييز بين الصالح والطالح، وبين المصلحة والمفسدة)، وقد أقاموا أمورهم على أساس الأوهام والتخيّلات والجهل. ويتنقل أهل الدنيا على مراكب بها عاهة في وادٍ رمليٍّ يصعب عليها عبوره. ولا يوجد دليل أو مُرشدٌ لهذه القافلة والماشية، ولا يوجد راعٍ وصاحب زمام يأخذها إلى المراعي.

  • سلكت بهم الدنيا ومشت بهم في طريقِ الظلام وفي سبيل العمى، وحرمت أعينهم من فيض الضوء وإشراق منارة الهداية، فمشوا في هذه الصحراء وهم تائهين وحائرين وانحدروا إلى الضلالة في وادي الظلمة، وغرقوا في نعم الدنيا العابرة، وجعلوها معبودهم (الرئاسات، وتجميع الثروة، والسعي وراء الشهوات والإسراف...)، فلعبت بهم الدنيا ولعبوا هم بالدنيا، ونسوا ما ينتظرهم بعد الدنيا وبعد حياتهم في هذا المنزل.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

126
  • ولكن لن يمضيَ وقتٌ طويلٌ قبل أن يُرفع حجاب الجهل والظلام (بواسطة الموت)، وسيُدخل الناس إلى منازلهم مثل الهودج الذي يُوصله أصحابه إلى منزله، وسيطّلعون على مقامهم مثل شخصٍ مُسرعٍ يأمل في الوصول إلى منزله ومأواه!».

  • المنزل الحقيقي للروح والبدن والجسم والنفس الأدميّة

  • لقد بيّن أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات، المنزل الحقيقي لروح الإنسان وبدنه وجسمه ونفسه، وأوضح موقعيّة كلّ واحدٍ منها في عالم الخلقة والحياة الدنيويّة.

  • بما أنَّ الناس العوام لم يُعملوا عقلهم ودرايتهم لتشخيص الصلاح والفساد، وصرفوا إدراكهم وبصيرتهم في المتع الدنيويّة وقضاء العمر، لذا بالطبع سيستقبلون كلّ ما يرغبهم بالاستفادة من اللذائذ والشهوات وما يجذب النفس وسيمضون نحوها قدمًا، وسوف يكون كلّ همّهم وغمّهم هو الوصول إلى هذا الهدف وتلك الغاية؛ وبالتأكيد لن يكون لديهم علمٌ عن وسائط ووسائل ربط الروح الإنسانيّة بعوالم الغيب، وفي حال اطلعوا ولو بقدر يسير فلن يستقبلوا الأمر. وسيتعاملون معها بإهمال وتسامح وعدم اهتمام على الدوام، وسيبتعدون بأنفسهم عن تواصلٍ وتماسٍ مع تلك الوسائط وسينشغلون في مجالسهم ومحافلهم بالكلام والأمور الدنيويّة دائمًا، وإذا أراد شخصٌ الابتعاد عن هذه المجموعة وأن يسوق المجلس نحو الأمور المعنويّة والأخرويّة فسيقابل بعدم الاهتمام، وكثيرًا ما سيواجه بالاعتراض من قبلهم.

  • إلّا أنّه على العكس منهم، فقد قيّم أهل الدراية والفطنة منزلة روحهم ونفسيتهم بشكلٍ جيّدٍ، واعتقدوا أنَّ النزول إلى هذه الدنيا يُمثّل معبرًا وجسرًا فقط نحو منزل الأبديّة، ولم يجعلوا موطن الدنيا منزلًا لهم، بل استفادوا منها من أجل الاستعداد للوفود إلى الأخرة.

  • إنّهم يبذلون أقصى جهدٍ ومع كامل الحساسية في الأمور التي تقود أرواحهم وأنفسهم نحو عوالم الغيب والتجرّد والغفران؛ ويستغلّون كلّ فرصةٍ لتمهيد الطريق إلى منزل الآخرة، ويتشبّثون بأيّ وسيلةٍ وواسطةٍ يُحتمل أنّها تُساعدهم وتساندهم في هذا الاتجاه، ولا يجعلون أيّ زمانٍ أو فرصةٍ يضيعان من أيديهم.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

127
  • وتعبق مجالسهم بكلماتهم وأحاديثهم التي لها لونُ العوالم الأخرى ورائحته، وتجعل الإنسان ثملًا ومسرورًا بالنفحات والروائح القدسيّة لعالم الغيب، ويبتعدون عن الحديث في المسائل الدنيويّة ولا يعتنون بالتغيّرات والأحداث اليوميّة، ويرفضون الدنيا ويطردونها في كلّ مرتبةٍ وفي أيّ مكانٍ، ولا يخضعون لأيّ قالبٍ أو مظهرٍ حتّى لو كان له صبغةٌ أو قناعٌ دينيٌّ. فلا يخدعهم مكر المُخادعين وخداع الشياطين ووسوسة الناس قصيري النظر ولا الشعارات ولا إقبال المقبلين ولا يحرفهم عن مسير الحقّ والمباني المتقنة؛ وينظرون بسخريةٍ إلى ما يفعله الآخرون في كل فئةٍ وجماعةٍ فيبذلون أرواحهم في سبيله.

  • نعم، هؤلاء هم الفطنون في العالم المحترق والأذكياء من أصحاب الأرواح الزاهرة، الذين [اهتمّوا بما] قاله سيّد الكائنات وعصارة الممكنات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم حيث قال:

  • «كَم مِن صائمٍ لَيس لَه مِن صيامِه إلّا الجوعُ والظَمأ، وكَم مِن قائِمٍ ليسَ لَه مِن قِيامِه إلّا السَّهَرُ والعَناءُ؛ حَبَّذا نَومُ الأكياسِ و إفطارُهُم!».۱

  • «كم هم كثيرون الصائمون الذين لا يستفيدون من صيامهم إلا الجوع والعطش، وكم هم الذين يحيون الليالي ولا يستفيدون من إحياء الليل إلّا تعب العين والجسد؛ طوبى للأذكياء والحصيفين وأصحاب العقل والدراية الذين وجدوا مسير حياتهم بأحسن وجه، وميّزوا الصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة والحقيقة من المجاز! فقد تجاوز هؤلاء في نومهم وطعامهم الآخرين الذين قضوا أيّامهم بإحياء الليل والصيام، واقتربوا من مقصدهم ومقصودهم».

  • ترسم که صرفه‌ای نبرد روز بازخواست***نان حلال شیخ ز آب حرام ما٢ 
  • [يقول: إنّني أخاف أن لا يربح في يوم الحساب خبز الشيخ الحلال على مُسكرنا الحرام].

    1. ـ [تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الحديث الشريف رُويَ في مسند أحمد، ج ٢، ص ٤٤۱، مع قدرٍ من الاختلاف عن الرسول الأكرم صلّى الله علیه و آله وسلّم؛ ولكنّه مرويٌّ في مجامع الشيعة الروائيّة في نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ۱۷۱، نقلًا عن أمير المؤمنين عليه السّلام. (م)
    2. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

128
  • يُنبّهنا أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات إلى نهجه في هذه الدنيا والمقصود من وفودنا إلى هذه الدار هو العارية؛ ويُحذرنا من أن نستبدل الحقّ بالباطل والحقيقة بالاعتبار، والأصل بالفرع، كما يُحذّرنا من أن ينصبّ اهتمامنا على الدنيا بدلًا من الآخرة! فتصبح أعمارنا فارغة من المعنى، ولا نحصل على نتيجةٍ من الوجود سوى البوار والبؤس والخسران.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بقصر الآمال والأماني 

  • «واعلَم [يا بُنَيَّ!] أنّ مَن كانَت مَطِيَّتُهُ اللّيلَ والنّهارَ، فَإنّهُ يُسارُ بِهِ وإن كانَ واقِفًا، ويَقطَعُ المَسافَةَ وإن كانَ مُقيمًا وادِعًا.

  • واعلَمْ يَقينًا أَنّكَ لَن تَبلُغَ أمَلَكَ، ولَن تَعدُوَ أجَلَكَ، وأنَّكَ في سَبيلِ مَن كانَ قَبلَكَ؛ فَخَفِّضْ في الطَّلَبِ، وأجمِلْ في المُكتَسَبِ، فَإنّهُ رُبّ طَلَبٍ قَد جَرَّ إلَى حَرَبٍ؛ فَليسَ كُلُّ طالِبٍ بِمَرزوقٍ، ولا كُلُّ مُجمِلٍ بِمَحرومٍ. وأكرِمْ نَفسَك عَن كُلِّ دَنِيَّةٍ وإن ساقَتْكَ إلَى الرَّغائِبِ، فَإنَّك لَن تَعتاضَ بِما تَبذُلُ مِن نَفسِك عِوَضًا. ولَا تَكُنْ عَبدَ غَيرِك قَد جَعَلَكَ اللهُ حُرًّا. وما خَيرُ خَيرٍ لا يُنالُ إلّا بِشَرٍّ، ويُسرٍ لا يُنالُ إلّا بِعُسرٍ».

  • واعلم يا بُنيّ! إنّ الشخص الذي يكون مركبه دوران الليل والنهار - سواء أراد ذلك أم لم يُرده - سوف يتحرّك إلى الأمام مع تقدّم الليل والنهار حتّى لو لم يكن يتحرّك بنفسه، وسيطوي مسافة الحياة حتّى لو كان يستريح في منزله ومكانه.

  • واعلم على وجه اليقين أنّك لن تحقّق آمالك أبدًا، وأنّك لن تتجاوز أجلك، وأنّك سوف تسير على نفس الطريق الذي سار عليه أسلافك.

  • لذا لا تلجّ ولا تُلحّ في مطالبك ورغباتك، وتصرّف باعتدالٍ وبنحوٍ حسنٍ في أمورك؛ لأنّ بعض الآمال والرغبات غير المعقولة والبعيدة عن التوقّع قد تسبب لك الحرمان وفقدان الفرص وخسارة الأموال؛ فلن يحصل كل طالب على ما يريده، ولن يُحرم كل من أجمل في الطلب.

  • وأكرم نفسك بالامتناع عن ارتكاب أيّ عملٍ سافل أو بعيدٍ عن شأن الإنسان وشرفه، حتّى لو أوصلك ذلك الأمر السافل والدنيء إلى النعم والغنائم الدنيويّة الكبيرة؛ لأنّك لن تكون قادرًا أبدًا على الوصول إلى متاعٍ يُمكن له أن يُعوّضك هذه الخسارة، ولا أن يجبر النقص ممّا فقدته من شرافتك الإنسانية وانتهكته من طبعك وطبيعتك كرامتك، ولن يُعيد لك تلك الحيثيّة والكرامة التي فقدتها.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

129
  • ولا تكن عبدًا لغيرك أبداً وقد خلقك الله حُرّاً؛ وليس الأمر بحيث يجب أن يتحقّق للإنسان كلّ غرضٍ جيّد ومأمولٍ قيّمٍ من خلال المقدّمات القبيحة والسافلة، ولا تظنّن أنّه يجب على المرء تذوق الطعم المرّ من المشقة والتعب في كلّ راحةٍ وسعةٍ. (لا تكن صعبًا في أمورك، ولا تلجأ لأيّ شخصٍ مهما كان لتحقيق رغباتك، واترك الأمور والقضايا تسير بسلاسة وسهولة)».

  • لقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفقرات إلى مجموعةٍ من النقاط القيّمة جدًا والتي تستحقّ التأمّل جدًا.

  • النقطة الأولى: مقدار استطاعة الإنسان وقدرة الاختيار التي لديه في تحقيق آماله ورغباته، ومقدار استطاعة البشر وقدرتهم في تحقيق آمالهم.

  • لا شكّ أنّه بالنظر إلى الصفات والمَلكَات والغرائز التي وضعها الله تعالى في جهاز وكمون الآدمي، لا يعرف الإنسان حدًا مُحددًا في ما يتعلّق بالوصول إلى الملذات الدنيوية وإشباع رغباته؛ وهو في حربٍ مستمرّة خلال سعيه وراء الملذات والأطايب، مع الموانع الخارجيّة والباطنيّة، وهو لا يكتفي بمرحلةٍ واحدةٍ ولا بموقفٍ واحدٍ فقط.

  • فبالطبع لكي يبقى الإنسان مصونًا من البرد والحرارة والأخطار، لا خيار لديه سوى بناء مسكنٍ وإيجاد مأوى له؛ ولا يلومه العقل أو العرف من هذه الجهة إذا أراد تحقيق هذه الرغبة المشروعة، ولكنّه عندما يعمل على تحقيق هذه الرغبة، فإنه يتجاوز حدودها؛ ولو أنّه يمتلك القوة والقدرة على تحقيق رغباته، فلن يكون هناك من حدٍّ يُوقف هذه الرغبات، إنّه يُريد التعدّي على مساكن الآخرين والاستيلاء على أي مأوىً يراه مثيرًا للاهتمام أو جذّابًا.

  • ومن أجل إقناع الغرائز والحفاظ على النسل، يرى نفسه محتاجًا لتأسيس أسرةٍ واختيار زوجةٍ، ولكنّه عندما يستمرّ في هذا الطريق، ينظر إلى كلّ امرأة جميلةٍ وذات إمكاناتٍ بعين الطمع؛ وتُفكّر المرأة أيضًا بمصاحبة أيّ رجلٍ يُعجبها بصفاتٍ مختلفةٍ؛ وإذا تمّ توفير الآلاف للإنسان، فستتحول عين الجشع مرّةً أخرى إلى الأفق المجهول، وسيحتمل في خياله ووهمه إمكانيّة وجود موردٍ أفضل.

  • كما أنّه لا يعرف حدّاً بالنسبة لتجميع الثروة والتفوّق في السلطة والشهرة والشعبيّة وتكوين المحبوبيّة، والحكومة وغزو الأراضي وفتح البلاد والأقطار؛ وصفحات التاريخ شاهد صادقٌ وموثوق يؤيّد هذه المسألة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

130
  • بناءً على ذلك، بحكم العقل ومراعاة المصلحة، يجب الاهتمام بهذه الأمور بنفس المقدار الذي تكون مفيدةً فيه للوصول إلى الكمال والصلاح وغير مانعةٍ من الترقّي والتقدّم؛ وصرف الوقت في هذه الغايات، مساوٍ لتدمير العمر وفقدان فرصة هذه الحياة.

  • يُقال: سأل المرحوم القاضي ـ رضوان الله عليه ـ من حوله عن أحوال وأمور أحد تلامذته الذي عادوا إلى مدينته ودياره من النجف. فقالوا: «الحمد لله لقد تحسّنت أحواله وأوضاعه، وتجمّع الكثير من الناس حوله، وازدهر عمله في منطقته».

  • بعد سماع هذا الكلام، أعرب عن أسفه الشديد وقال: 

  • «ليست حالًا جيّدةً!».

  • لا ينبغي للاشتغال بالدنيا أن يمنع النفس عن التوجّه إلى الله تعالى

  • إنّ الاشتغال بأمور الدنيا يجب أن لا يكون إلى الحدّ الذي يحرم النفس من التوجّه إلى الله تعالى؛ كما تقول الآية الكريمة: 

  • ﴿قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ في‌ سَبيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِه‌﴾۱.

  • يعني: «يا رسولنا! أخبر الناس: إذا كان آباؤك وأولادك وإخوانك وزوجاتك وقومكم وعشيرتكم وكذلك الأموال التي كنزتموها والمعاملات التي تخافون فشلها أو أن يدخل إليها النقص، والمنازل التي اخترتموها لأنفسكم، إذا كانت كلّ هذه الأمور أهمّ بالنسبة إليكم من الله ورسوله والجهاد في سبيله وأحبّ إليكم، فانتظروا إلى أن ينزل الله تقديره وقضاءه بالغضب عليكم».

  • وبملاحظة ذلك كان الأعاظم يقولون باستمرار: إنّ الاكتساب في المعيشة وتحصيل الرزق يجب أن يحصلا بناءً على أساس الحاجة وضرورة الحياة، وليس على الأوهام والتخيّلات.

    1. سورة التّوبة (٩)، صدر الآية ٢٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

131
  • يجب ألا تكون المطامع الدنيويّة والمقاصد الشهوانيّة هي الغاية والمقصد في اختيار الوظيفة والمهنة

  • وأمّا النقطة الثانية: يقول الإمام عليه السلام: ضعوا جهودكم في أمرٍ حسنٍ وصالح؛ ولا تسعوا إلى يصل سعيك وجهدك إلى النتيجة التي تحاول تحقيقها. وبعبارةٍ أخرى: إنّ واجبك وتكليفك هو الاشتغال بالعمل والتكسّب للمعيشة من خلال النظرة التوحيديّة للأشياء، وليس على أساس وجهات النظر والمباني الدنيويّة والكثرات النفسانيّة.

  • وبناءً على ذلك، لا تفكّر خلال أدائك لواجب الكسب والشغل ما هي الفائدة التي سأحصل عليها أو ما هي الخسارة التي ستقع عليّ! لأنّ الرزق بيد الله وهو المتكفّل لأمور العبيد.

  • في هذه الأيّام هدف الأفراد وغايتهم عند اختيار المجال والمهنة هو كسب المزيد من الدخل وتعاليهم على بعضهم البعض في التكالب على المنافع والملذّات الدنيويّة. فتجد الشاب الذي يسعى لاكتساب العلوم والحِرَف ويضع رجله في المحيط العلمي والتجريبي، يساوره القلق دائمًا بشأن المجال والتخصّص الذي يلجأ إليه لتحقيق مستقبلٍ أكثر قبولًا وأملاً لنفسه ولأقاربه. ولا يأخذ في الاعتبار احتياجات المجتمع وضرورياته في مختلف المجالات، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن احتياجات أفراد مجتمعه وأمّته، ويُرجّح راحته على احتياجات الناس والأمّة الذين ينتمي إليهم، وإذا كان مُتمكّنًا فإنّه ينسى مسؤوليته في الحياة ويمضي من أجل دراسته وتحصيل الرفاهية إلى ديار الغربة ودول الكفر تاركًا منزله ودياره خلفه؛ ويُقدّم كلّ قوّته العلميّة والتجريبيّة لصالح دول الكفر والإلحاد والدول الأجنبيّة، ويصبح خاتمًا في إصبع الأجانب والغرباء، حتّى يتمكّنوا من استخدامه قدر المستطاع في أهدافهم الشيطانيّة؛ ومن أجل الهيمنة على الأمم المظلومة والمضطهدة والسيطرة على المصالح الدنيويّة، بقدر ما يمكنهم إغرائه وإلى آخر رمقٍ يمتلكه، ثمّ لا يكون له من ذلك أيّ نتيجةٍ سوى الخسران الدنيوي والأخروي.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

132
  • وعلى هذا القياس يجب أن تكون نيّة الشاب المحصّل والمستعدّ الذي يسعى لتحصيل المعارف الإسلاميّة ومباني أهل البيت عليهم السلام، ويضع رجله في مجال العلم نيّةً خالصةً؛ ولا يكون لديه ولو بمقدار رأس إبرة أي مطامع دنيويّة أو مقاصد شهوانيّة ولا الشهرة والصيت والشعبيّة في هذه الدنيا الدنيّة، وأن لا يدع هذه الأفكار تدخل إلى ذهنه وضميره، ولا أن تلوّث أو تشوّه نيته الصافية وصدقه القلبي؛ وعليه أن يطلب من هذه الخطوة الحياتيّة الرضا والتقرّب من المعبود والمعشوق؛ وعليه أن يبتعد عمّا يقوم به العديد من الناس فيدوسون على جميع القِيم والودائع الإلهيّة تحت أرجلهم للحصول على تلك الأمور؛ يجب أن يحذر من الشهرة والسمعة؛ ويجل عليه الاطلاع على مباني أهل البيت والمباني الاعتقاديّة من أجل تربية قلبه وتهذيبه وإخلاصه وإصفاء ضميره؛ وفي مقام التبليغ عليه أن يتوجّه إلى الرضا الإلهي فقط، وأن لا يغترّ بكثرة الناس وإقبالهم، ولا يعتني بتشجيعهم ولا بتهديداتهم؛ وعليه أن يتجنّب الإفراط والتفريط وغلبة الإحساسات، ولا يجب أن يسبب له نقص الناس في مرحلةٍ ما اليأس والحزن.

  • وبشكلٍ عامّ، يجب على كلّ شخصٍ أن يأخذ في الاعتبار الرضا الإلهي في كلّ موقفٍ.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام بحفظ أصالة النفس ومراعاة شرافة الآدمي

  • والنقطة الثالثة: في هذا البيان للإمام عليه السلام: مراعاة أصالة النفس وعلوّ قيمة الروح وشرافة النفس الآدميّة، في قبال الملذّات العابرة والحطام الدنيويّ والمنافع المستعجلة.

  • يحذر الإمام عليه السلام في هذه الفقرات من أنّه إيّاكم أن تخسروا الروح العظيمة والحريّة والمرتبة العليا من الخلافة الإلهيّة التي ليس هناك من مرتبةٍ أعلى منها سوى الذات القدسيّة للحقّ! مقابل الوصول إلى حطام الدنيا حتّى لو كانت تبدو قيّمةً في أنظار العموم. ولا تعاوضوا إكسير سعادتكم بالخرز وبالكريستالات الزجاجيّة التي لا قيمة لها! ولا تدفعوا الخسارة الدائمة وأرواحكم ثمنًا لتحقيق أدنى الملذات، وهي لذّة أهل الدنيا والغفلة، فتحرموا أنفسكم من الحياة الأبديّة! لأنّه في هذه الحالة، تكونون قد بعتم أنفسكم عبيدًا وغلمانًا للذهب الذي يشتريه الآخرون، في حين أن الله خلقكم أحرارًا، وجعلكم عبيدًا له [فقط].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

133
  • «وإيَّاكَ أن تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ! فَتورِدَك مَناهِلَ‌ الهَلَكةِ، وإنِ استَطَعتَ أنْ لا يَكونَ بَينَكَ وبَينَ اللهِ ذو نِعمَةٍ فَافعَلْ، فَإنَّكَ مُدرِكٌ قِسمَكَ، وآخِذٌ سَهمَكَ؛ وإنّ اليسيرَ مِنَ اللهِ ـ سُبحانَهُ ـ أعظَمُ وأكرَمُ مِنَ الكثيرِ مِن خَلقِهِ، وإن كانَ كُلٌّ مِنهُ».

  • «واحذر أن يقبض عليك مركب الحرص والطمع، وأن يغلب على عقلك ودرايتك وإيمانك ويُهيمن عليها! وأن يوقعوك في الهلكة في وادي الظلمات المُهلِك وفي ينبوع السموم،

  • وإذا كان مقدورًا لك، فلا تجعل بينك وبين إلهك واسطةً من أهل الدنيا، فتأكد من فعل ذلك (لا تعتمد على الناس وأصحاب المناصب أكثر من الحدّ المتعارف للوصول إلى رغباتك ومقاصدك الدنيويّة ولا تنسى الله في تحقيق أمور الدنيا)؛ لأنّك ستحصل على ما قُسم لك، وستحصل على حصّتك؛ وإذا كان العطاء صغيرًا ولكن من عند الله فهو أعظم بكثير وأعلى مرتبةً وأكثر كرامةً من العطاء الكثير الذي يصل إلى الإنسان من خلق الله، رغم أنّ جميع هذه العطايا هي جانب الله [في الواقع]».

  • «وتَلَافيكَ ما فَرَطَ مِن صَمْتِكَ أيسَرُ مِن إدراكِكَ ما فاتَ مِن مَنطِقِكَ، وحِفظُ ما في الوِعاءِ بِشَدِّ الوِكاءِ، وحِفظُ ما في يَدَيكَ أحَبُّ إلَيّ مِن طَلَبِ ما في يَدِ غَيرِكَ، ومَرارَةُ اليَأسِ خَيرٌ مِنَ الطّلَبِ إلَى النّاسِ؛ والحِرفَةُ مَعَ العِفَّةِ خَيرٌ مِنَ الغِنَى مَعَ الفُجورِ، والمَرءُ أحفَظُ لِسِرِّهِ؛ ورُبَّ ساعٍ فيما يَضُرُّه».

  • «إنّ تدارك ما ينتج عن قصر الكلام والالتزام بالصمت ممكنٌ، فعن طريق التكلّم يمكنك أن تعوّض التقصير وأن تتداركه، ولكن لن يكون مقدورًا أو لن يكون من السهل تدارك ما خرج من فمك وإعادته. (يُقال: إنّ الكلام إذا خرج من الفم يكون مثل السهم الذي تمّ رميه من القوس، ولن يكون بالإمكان استعادته) والحفاظ على الماء الذي في القربة يتحقّق من خلال إغلاق فمها.

  • وقناعتك بما هو في يدك أحبّ إليّ وأكثر إرضاء لي من النظر إلى ما في أيدي الآخرين؛ ومرارة اليأس من تحقيق بعض الرغبات والتطلّعات، خيرٌ من اللجوء إلى الناس وسؤالهم وطلب المساعدة منهم من أجل المشتهيات النفسانيّة؛ والعيش مع القليل من المشقّة والجهد ولكن مع العفّة ونظافة الكفّ، أفضل من الثروة والغنى المصحوبان بالفسق والفجور.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

134
  • وكلّ شخصٍ أولى أن يحفظ سرّه ويحميه من الآخرين؛ وكم هم كثيرون الأشخاص الذين يسعون في طريقٍ من شأنه أن يضرّ بهم».

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالسكوت وحفظ اللسان

  • ومن بين النقاط التي ذكرها الإمام عليه السلام في هذه الفقرات: مسألة الصمت وحفظ اللسان عن التكلّم اللغوي. ويُمكن القول تحقيقًا: ليس هناك مسألة تمّ التأكيد عليها في النصوص الدينيّة في جميع الأديان كما تمّ التركيز على الصمت وعدم الكلام.

  • قال لقمان الحكيم لولده:

  • «يا بُنيّ! لو كان الكلام من فضّة لكان السكوت من ذهب».۱

  • وقد ورد عن المعصومين عليهم السلام:

  • «الْكَلَامُ فِي وَثَاقِكَ‌ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ».٢

  • وقال الأعاظم:

  • «كثيرًا ما يكون إفشاء بعض الأسرار والحالات موجبًا لسلب الفيوضات والإفاضات إلى الأبد!».

  • «مَن أكثَرَ أهجَرَ، ومَن تَفَكَّرَ أبصَرَ، قارِن أهلَ الخَيرِ تَكُنْ مِنهُم، وبايِن أهلَ الشَّرِّ تَبِن عَنهم، بِئسَ الطّعامُ الحَرامُ! وظُلمُ الضَّعيفِ أفحَشُ الظُّلمِ».

  • «من يتحدّث كثيرًا سيجد في كلمته قدرًا كبيرًا من اللغو، ومن يُفكر ويتأمّل باستمرار سيخطو إلى الأمام ببصيرةٍ ورؤيةٍ ثاقبةٍ في الأمور والأحداث،

    1. في فيض القدير، شرح الجامع الصغير (المناوي)، ج ٦، ص ٢۷۷، نقلًا عن لقمان الحكيم؛ ولكنّه ورد في مشكاة الأنوار، ص ۱۷٥، نقلًا عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله وسلّم. (م)
    2. نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ٢٢۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

135
  • صاحب الصالحين والأخيار دائمًا، كي تُصبح من زمرتهم بالتدريج، وابتعد عن أصحاب السمعة السيئة والأشخاص الفاسدين والأشرار، حتّى تبتعد عنهم».

  • پسر نوح با بدان بنشست***خاندان نبوّتش گم شد
  • سگ اصحاب کهف روزی چند***پی مردم گشت و مردم شد۱ 
  • [يقول: لقد عاشر ابن نوح رفاق السوء فضلّ عن عائلة النبوّة التي كان منها. وجلس كلب أصحاب الكهف مع البشر عدّة أيّام فصار فصار معدودًا مع البشر].

  • إن تأثّر النفس البشرية عند الاتصال بالعوامل الخارجيّة هو مسألة لا يُمكن إنكارها أو التشكيك فيها، مثل: عوامل المكان والزمان والأشخاص في المحيط والأحداث التي تحدث، ولا بدّ من الاعتراف بأنّ تأثير الرفيق المصاحب ـ سواءً كان جيّدًا أم سيئًا ـ قويٌّ جدًا على النفس البشريّة؛ وقد تلقينا أوامر مؤكّدة في هذا الصدد من قبل القادة الدينيّين والأخلاقيّين، وحذرونا بشدّةٍ من الارتباط بالرفيق غير اللائق.

  • ولهذا السبب كان السكن مُحرّمًا في بلاد الكفر أيضًا بنظر الشرع؛ لأنّ الجوّ غير الملائم سيُسبّب انهيار المنظومة وتحوّل النفس من نقطة النور إلى وادي الظلمة. ولا يحصل هذا الأمر فجأةً ودفعةً، بل يحصل بالتدريج وبدون أن يشعر الشخص بذلك؛ وبعد مرور الزمان والتواصل مع المحيط والأطراف، يحصل تغيّرٌ وتحوّل كبيرٌ لدى الإنسان بشكلٍ عامٍّ بحيث أنّ شخصيّة الإنسان تتحوّل إلى شخصيّةٍ أخرى وتتغيّر رغباته، على الرغم من أنّه يبدو باقيًا على آدابه وعادات السابقة إلى حدٍّ ما.

    1. ـ [ کلّیات سعدي (گلستان)؛ ولكن ورد أيضًا في بعض نُسخ گلستان ما يلي:
      با بدان یار گشت همسر لوط***خاندان نبوّتش گم شد
      سگ اصحاب کهف روزی چند***پی نیکان گرفت و مردم شد 
      [يقول: أصبحت زوجة لوط صديقة للأشرار، فضلّت عن النبوّة في عائلتها،‌ وصاحب كلب أصحاب الكهف الأخيار عدّة أيّامٍ فصار معدودًا مع البشر]. (م)

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

136
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام باجتناب الطعام المشتبه والظم

  • «إنّ شرّ الطعام وأسوأ طعام هو الطعام الحرام، لذا عليك أن تتجنّب تناول المأكولات المحرّمة والمشتبهة! واعلم أنّ الظلم - في أيّ مكان وفي أيّ زمانٍ - أمر مذمومٌ وقبيحٌ‌جدًا، خصوصًا إذا كان المظلوم فقيرًا وضعيفًا».

  • «إذا كانَ الرِّفقُ خُرقًا كانَ الخُرقُ رِفقًا، رُبَّما كانَ الدَّواءُ داءً والدّاءُ دَواءً، ورُبَّما نَصَحَ غَيرُ النَّاصِحِ وغَشَّ المُستَنصَحُ.

  • وايّاكَ وإتِّكالَكَ عَلی المُنى! فإنَّها بَضائِعُ المَوتى، والعَقلُ حِفظُ التَّجارِبِ؛ وخَيرُ ما جَرَّبتَ ما وَعَظَكَ».

  • «حيثما أدّت المداراة والرفق إلى التجاسر والجرأة، كان لا بدّ من التخلي عنها والتعامل بقسوةٍ وشدّةٍ مع الشخص المعتدي»؛ لأنّ:

  • ترحّم بر پلنگ تیز دندان***ستم‌کاری بود بر گوسفندان۱
  • [يقول: الترحم على الفهد صاحب الأسنان الحادة القاطعة، يعتبر في حدّ نفسه ظلماً للنعجة الوديعة!]. 

  • «وكثيرًا ما يحدث أن يكون نفس الدواء موجبًا للمرض، ولكنّ المرض والألم مفيدان للإنسان ويؤدّيان إلى حصول البركات والخيرات،

  • وربّما يسمع الإنسان من شخصٍ لا يتوقع منه النصيحة والمشورة، مسألةً جديرةً بالاهتمام ومسألة جيّدة، وربّما يرى من الشخص الذي يتوقّع منه الإرشاد والتوجيه كلمات جميلةً وسلوكًا قبيحًا ورياءً. (لذا في جميع الأحوال، لا ينبغي للإنسان أن يُفتتن بكلمات الأفراد، كما لا يجب أن ينظر إلى كل كلمةٍ بعين الشكّ؛ وإنّما عليه أن يقوم بنفسه بالتحقيق والتفكّر في كلمات الأفراد).

    1. گلستان سعدي، الباب ۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

137
  • وإيّاك أن تبني حياتك وسعادتك بناءً على رغباتك وآمالك الطويلة المدى وتُحدّد سلوكك بناءً لذلك! لأنّ هذه الرغبات كلّها بضائع للأموات، فهم أيضًا كانوا يمتلكون مثل هذه الرغبات؛ لكنّهم مضوا بأجمعهم وذهبوا».

  • آن قصر که جمشید در آن جام گرفت***آهو بچه کرد و روبه آرام گرفت 
  • بهرام که گور می‌گرفتی همه عمر***دیدی که چگونه گور بهرام گرفت؟ 
  • [يقول: ذلك القصر الذي كان جمشيد يأخذ فيه قدح الفتح، قد خرب وصار مزبلةً فوضعت الخزالة مولدها فيه، واستقرّ فيه الثعلب].

  • [يقول: هل رأيت كيف أنّ «بهرام» الذي كان يصطاد فريسته طوال عمره.. هل رأيت كيف أخذه القبر واصطاده؟].

  • وكما يقول حضرة حافظ الشيرازي قدّس سرّه:

  • بده جام می و از جم مکن یاد***که می‌داند که جم کی بود و کِیْ کِی۱ 
  • [يقول: أحضر كأس الشراب ولا تذكر «جمشيد»، فمن يعلم من كان «جمشيد» هذا؟ ومن يعلم ماذا فعل «كيقباد» حينما حكم؟ لقد مضى وقتٌ طويلٌ عليهما ولم يبقى منهما إلّا الاسم]

  • «والعقل يحفظ الخبرات والتجارب ويستخدمها لتصحيح أسلوب الحياة ومسار العيش، وأفضل تجربةٍ يُمكنك الاستفادة منها هي التجربة التي تمنحك العبرة والعظة وتبدي لك القبيح والجميل».

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بحفظ الفرص والأوقات

  • «بادِرِ الفُرصَةَ قَبلَ أن تَكونَ غُصَّةً، لَيسَ كُلُّ طالِبٍ يُصيبُ، ولا كُلُّ غائِبٍ يَئوبُ، ومِن الفَسادِ إضاعَةُ الزّادِ، ومَفسَدَةُ المَعادِ، ولِكُلِّ أمرٍ عاقِبَةٌ، سَوفَ يَأْتيكَ ما قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخاطِرٌ؛ ورُبَّ يسيرٍ أنمَىٰ مِن كَثيرٍ وَلا خَيرَ في مُعينٍ مَهينٍ، ولا في صَديقٍ ظَنينٍ، ساهِلِ الدَّهرَ ما ذَلَّ لَكَ قَعودُهُ، ولا تُخاطِرْ بِشَيءٍ رَجاءَ أكثَرَ مِنهُ، وإيّاكَ أن تَجمَحَ بِكَ مَطيَّةُ اللَّجَاجِ!».

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٣۰۱.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

138
  • يجب على الإنسان أن يترصّد الفرص المناسبة على الدوام؛ لأنّه قد لا تتكرّر مرةً أخرى؛ كما ورد عن الإمام عليه السلام أنّه قال:

  • «اغتَنِموا الفُرَصَ، فإنَّها تَمرُّ مَرَّ السّحاب»۱.

  • وقد رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه يقول:

  • «إنَّ لِلّه في أَيَّامِ دَهرِكُم نَفَحاتٍ، ألا فَتَعَرَّضوا لَها، ولا تُعرِضوا عَنها».٢

  • يعني: «إنّ لله عزّ وجلّ في أيّام حياتكم نسيم رحمةٍ وبركةٍ، فإيّاكم أن تغفلوا عن هذه الفرص، واجعلوا أنفسكم مستعدّين باستمرار ومضيفين لتلك النفحات على الدوام!».

  • صوفی ابن الوقت باشد ای رفیق***نیست فردا گفتن از شرط طریق٣ 
  • [يقول: اعلم يا رفيقي بأنَّ الصوفي ابن يومه، واعلم بأنَّ من شروط السير في هذا الطريق ترك التسويف وعدم تأجيل العمل إلى الغد].

  • «لا يصل كلّ طالبٍ إلى مطلوبه، ولا يعود كلّ ما ضائع وغائب، ومِن جملة المفاسد بل أعلى المفاسد إضاعة زاد الآخرة، وفي النتيجة تضييع المعاد ويوم الآخرة؛ (لأنه بدون زاد الآخرة الذي هو القرب من حضرة الحقّ، لن يبقى مكانٌ للإنسان في منزل الخُلود)٤.

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ۱٤٢،‌ مع اختلافٍ يسير.
    2. بحار الأنوار، ج ٦۸، ص ٢٢۱، مع أدنى تفاوت.
    3. المثنوي المعنوي، الدفتر الأوّل، القسم ٦.
    4. قال والدنا المرحوم، سماحة العلّامة الطهراني رضوان الله عليه:
      في إحدى الليالي، رأيتُ في عالم الرؤيا أنني كنتُ في صحراء جافّة وحارقة، ولم يكن هناك أيّ بناءٍ أو عمران على مدّى نظري. في تلك اللحظة، رأيتُ شبحًا يبدو من بعيد ويقترب باستمرارٍ حتّى أصبح أمامي، رأيتُ أنها امرأة عجوز وكانت باليةً جدًا إلى درجة أنّ ملابسها كانت مُمزّقةً، وقد استحوذ القبح والقذارة على وجودها بأكمله، وقد وصلت إليّ وهي تعرج وتتكئ على عصا ومريضةً وبلا رمق، نظرتُ إليها جيّدًا فرأيتُ أنّها واحدةً من أقرب أقاربي وأرحامي.
      فقلت لها: «ماذا فعلتِ لتلقي هذا المصير في هذا اليوم؟».
      قالت: «لقد قضيتُ أيّام في الدنيا بالغفلة عن ذكر الله وسرتُ خلف آمال النفس الأمّارة...»، وطلبتْ منّي العون والمساعدة للتخلّص من مثل هذا المصير.
      فقلتُ لها: «مهما نصحتُكِ في الدنيا بالتوقف عن التصرّفات والأعمال التي تقومين بها، لم تقبلي منّي، والآن تطلبين منّي العون والمساعدة؟!».
      في الأخير بعد إصرارها، وضعتُ يدي في جيبي ورأيتُ أن هناك حبّة من البازلاء في جيبي، لذا أخرجتها وأعطيتها لها. التفتت إليَّ وقالتْ: «هذا فقط؟!»، فقلت لها: «ليس لديّ شيءٌ آخر». فأدارت ظهرها لي، وابتعدت عصا النساء.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

139
  • ولكلّ شيءٍ في هذا العالم عاقبةٌ، (ليس الأمر بحيث يفعل الإنسان ما يريد وليس عليه أن يقلق بشأن عواقب أفعاله ومآلها).

  • وإذا قُدّر لك شيءٌ فسوف يصل إليك لا محالة، والشخص الذي يُتاجر، يعدّ نفسه ويستعدّ للأحداث المقبلة والاحتمالات المستقبليّة، ورُبَّما كان الاكتفاء والقناعة باليسير أنمَى مِن الأمر الكثير والذي.

  • ولا خير في الاستعانة بشخصٍ قد يتسبّب في يومٍ من الأيّام بوهن الإنسان وكسره، ولا فائدة في الرفاقة والصداقة مع الصديق الذي يقوى احتمال المعصية والخطأ فيه.

  • عليك بالمداراة مع الأيّام طالما كانت منقادةً لك، (وعندما ترى أنه ليس هناك من يهتمّ بكلامك، أغلق فمك ولا تتسبّب بالصداع لنفسك بلا سبب).

  • ولا تخاطر بنفسك طلبًا للزيادة (اقضِ وقتًا واستخدم جهدًا معتدلًا لتسيير أمورك ومشاغلك)، وإيّاك أن تدع العداوة والأحقاد واللجاج يبتعد بك عن مسير الحقّ، أو أن يُفلت عنان اختيارك من يديك، أو أن يبتعد العقل والتدبير عن مجال تصرّفاتك وقراراتك! فيقودك إلى طريقٍ نتيجته الظلم والإجحاف والتعدّي والخروج عن الحدود الإنسانيّة والضوابط الإلهيّة».

  • كلام أمير المؤمنين عليه السلام حول الصداقة والرفاقة وحقوق الصديق

  • «احمِلْ نَفسَكَ مِن أخيكَ ـ عِندَ صَرمِهِ ـ عَلَى الصِّلَةِ، وعِندَ صُدودِهِ عَلَى اللُّطْفِ والمُقارَبَةِ، وعِندَ جُمودِه عَلى البَذلِ، وعِندَ تَباعُدِه عَلى الدُّنُوِّ، وعِندَ شِدَّتِه عَلَى اللّينِ، وعِندَ جُرمِهِ عَلى العُذرِ؛ حتّى كّأنّكَ لَهُ عَبدٌ، وكَأنّهُ ذو نِعمَةٍ عَلَيكَ؛ وإيّاكّ أن تَضَعَ ذلِكَ في غَير مَوضِعِهِ، أو أن تَفعَلَه بغَيرِ أهلِهِ!

  • لا تَتّخِذَنَّ عَدُوَّ صَديقِكَ صَديقًا فَتُعادِيَ صَديقَكَ، وامحَضْ أخاكَ النّصيحَةَ حَسَنَةً كانَت أوْ قَبيحَةً، وتَجَرَّعِ الغَيظَ فَإنّي لَم أرَ جُرعَةً أحلَى مِنهَا عاقِبَةً ولا ألَذَّ مَغَبَّةً. ولِن لِمَن غالَظَكَ؛ فَإنّهُ يوشِكُ أن يَلينَ لَكَ، وخُذ عَلَى عَدُوّكَ بِالفَضلِ؛ فَإنّهُ أحلَى الظَّفَرَينِ، وإن أرَدتَ قَطيعَةَ أخيكَ فَاستَبقِ لَه مِن نَفسِكَ بَقيَّةً يَرجِعُ إلَيها إن بَدا لَه ذلِكَ يَومًا ما،

  • ومَن ظَنَّ بِكَ خَيرًا فَصَدِّقْ ظَنَّهُ، ولا تُضيعَنَّ حَقَّ أخيكَ، اتِّكالًا عَلى ما بَينَكَ وبَینَهُ؛ فَإنَّهُ لَيسَ لَكَ بِأخٍ مَن أضَعتَ حَقَّهُ، ولا يَكُن أهلُكَ أشْقَى الخَلقِ بِكَ، ولا تَرغَبَنَّ فيمَن زَهِدَ عَنكَ، ولا يَكونَنَّ أخوكَ أَقوىٰ على مُقاطَعَتِكَ مِنكَ عَلى صِلَتِهِ، ولا يَكونَنَّ عَلى الإِساءَةِ أقوَى مِنكَ عَلى الإحسانِ، ولا يَكبُرَنَّ عَلَيكَ‌ ظُلمُ مَن ظَلَمَكَ؛ فَإنّه يَسعَى في مَضَرَّتِه ونَفعِكَ، ولَيسَ جَزاءُ مَن سَرَّكَ أن تَسوءَهُ».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

140
  • «عندما ترى إهمالًا وقطعًا للعلاقة من جانب رفيقك وأخيك فقم بالمبادرة لتجديد الرابطة، وعندما يُغلق الطريق أمامك بالقسوة والتكدّر، افتحه مرّةً أخرى باللطف والتقرّب منه، وحينما تجد منه بخلًا وإمساكًا في الأمور قُم بالبذل والعطاء، وعندما يهرب منك، فاقترب منه، وعندما يعاملك بالشدّة، أجبه بالرأفة واللين، وعندما يرتكب خطأ بحقّك، فاعتبره معذورًا، وتعامل معه وتصرّف بنحوٍ إنساني كما يتصرّف العبد في قبال مولاه، بحيث لا ينسب أيّ جرمٍ أو خطأ إلى مولاه، ويرى أنّ جميع الأغلاط تعود إلى نفسه ويرى نفسه المحكوم وأن مولاه الحاكم، ويرى أنّ مولاه وليّ نعمته.

  • وإيّاك أن تقوم بهذا الدستور في غير موضعه المناسب، كما لا تفعله مع غير أهله ومن ليس له القابليّة لهذا المطلوب! (بعض الناس لا يملكون تحمّلًا واستعدادًا للتعامل الكريم، يخسرون أنفسهم في قبال محبّة الآخرين ولطفهم، ويضطربون ويتخطون حدودهم ويرون أنفسهم دائنين للآخرين. فلا ينبغي العمل بهذا الدستور مع هؤلاء الأفراد؛ لأن النتيجة ستكون عكس ذلك ولن يتحقّق الهدف).

  • وإيّاك أن تجعل عدوّ صديقك وخصمه صديقًا ورفيقًا لك في أيّ وقتٍ من الأوقات؛ لأنّك ستخسر صديقك في هذه الحالة، ولا تقصّر بالوعظ والنصيحة لأخيك في الإيمان ورفيقك - سواءً أحبّ ذلك أم لم يُحبّه - واقمع غضبك باستمرار؛ لأنني تعلمتُ من التجربة أنّه لا يوجد مشروبٌ أحلى وأفضل من قمع الغضب، ولا ما هو ألذّ من عاقبة ذلك ومآله. 

  • وكن ليّنًا ولطيفًا مع الشخص الذي تعامل معك بالخشونة والشدّة؛ لأنّ المأمول أن يُغير مزاجه وخلقه وأن يُصبح لطيفًا معك. وتعامل مع أعدائك بشهامة وكرم؛ لأنّ العفو والمغفرة أحلى من الظفر والانتقام.

  • وإذا كنت ترغب في قطع العلاقات مع صديقك (لسببٍ من الأسباب)، فلا تقطع الطريق أمامه بحيث تخرّب جميع الجسور بينك وبينه، بل اترك طريقًا ضيقًا لعودته (ولا تتكلّم معه بكلماتٍ غير لائقةٍ، ولا تترك ذكرياتٍ سيئةٍ وقبيحةٍ في ذهنه ونفسه).

  • ومن ظنّ بك ظنّاً حسنًا، فلا تلمه ولا تتغطرس عليه وبدلًا من ذلك، أبد له وجهًا حسنًا وأظهر له الشكر على ذلك. وإيّاك أن تضيّع حقّ صديقك اتكالًا على القرابة والصداقة فتتسامح وتتساهل في حقّه وتترك في نفسه ذكرى غير مناسبة؛ لأنّ الشخص الذي ضيّعت حقّه لن يكون صديقًا لك بعد ذلك. 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

141
  • ولا تقم بفعلٍ بحيث تكون أسوء الناس بالنسبة لعائلتك، فيخاصمونك.

  • ولا تحرص على من أدار لك ظهره ولم يُقدّر لطفك ومحبّتك.

  • وإيّاك أن تتصرّف بطريقة تجعل الناس يعتبرون أنفسهم محقّين في قطع علاقتهم بك، ولأنّك لا تعاشرهم ولا تتعامل معهم كما ينبغي، لذا يُصبحون منزعجين ومكدّرين منك، بل عليك أن تتصرّف بنحوٍ بحيث تكون لك اليد العليا عليهم، ويجب أن تكون علاقتك بالناس بحيث لا يعتقدون أنهم على حقّ عند الخصام، وأنّك تستحق اللوم والخصومة، بل يجب أن يتصوّروا بأنّ ردّهم وجوابهم لا ينسجم مع لطفك وكرمك.

  • ولا تعتبر الأعمال السيئة التي قام بها الآخرون تجاهك عظيمةً (لا تجعلهم يدخلوا إلى نفسك، ولا تُعرهم تلك الأهميّة)؛ لأنهم بهذا الفعل القبيح، سيجلبون العواقب الوخيمة على أنفسهم، وسيجلبون النتائج الجميلة لك، ولا تُكافئ خير الناس بالشر والسوء».

  • أقسام الرزق من وجهة نظر أمير المؤمنين عليه السلام 

  • «واعلَمْ ـ يا بُنَيّ! ـ أنَّ الرّزقَ رِزقانِ: رِزقٌ تَطلُبُهُ ورِزقٌ يَطلُبُكَ، فَإنْ أنتَ لَم تَأتِهِ أتاكَ، ما أقبَحَ الخُضوعَ عِندَ الحاجَةِ، والجَفاءَ عِندَ الغِنَى، إنَّ لَكَ مِن دُنياكَ ما أصلَحْتَ بِهِ مَثواكَ، وإن جَزَعْتَ عَلى ما تَفَلَّتَ مِن يَدَيكَ فَاجزَعْ عَلى كُلِّ ما لَم يَصِل إلَيكَ، استَدِلَّ عَلى ما لَم يَكُنْ بِما قَد كانَ [فَإنّ الأُمورَ أشباهٌ]، ولا تَكونَنَّ مِمَّن لا تَنفَعُهُ العِظَةُ إلّا إذا بَالَغَتْ في إيلامِهِ؛ فَإنّ العاقلَ يَتَّعِظُ بِالآدابِ، والبَهائِمَ لا تَتَّعِظُ إلّا بِالضَّربِ.

  • اطرَحْ عَنكَ وارِداتِ الهُمومِ بِعَزائِمِ الصَّبرِ وحُسنِ اليَقينِ. مَن تَرَكَ القَصدَ جارَ، والصّاحِبُ مُناسَبٌ، والصَّديقُ مَن صَدَقَ غَيبُهُ، والهَوَى شَريكُ العَمَى. رُبّ قَريبٍ أبعَدُ مِن بَعيدٍ وبَعيدٍ أقرَبُ مِن قَريبٍ؛ والغَريبُ مَن لَم يَكُن لَهُ حَبيبٌ.

  • مَن تَعَدَّى الحَقَّ ضاقَ مَذهَبُهُ، ومَنِ اقتَصَرَ عَلى قَدرِهِ كانَ أبقَى لَهُ. وأوثَقُ سَبَبٍ أخَذتَ بِه سَبَبٌ بَينَكَ وبَینَ اللهِ، ومَن لَم يُبالِكَ فَهُو عَدُوُّكَ. قَد يَكونُ اليَأسُ إدراكًا إذا كانَ الطَّمَعُ هَلاكًا. لَيسَ كُلُّ عَورَةٍ تَظهَرُ، ولا كُلُّ فُرصَةٍ تُصابُ؛ ورُبَّما أَخطَأَ البَصيرُ قَصدَهُ، وأصابَ الأعمَى رُشدَهُ.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

142
  • أخِّرِ الشَّرَّ، فَإنّكَ إذا شِئتَ تَعَجَّلتَهُ. وقَطيعَةُ الجاهِلِ تَعدِلُ صِلَةَ العاقِلِ. مَن أمِنَ الزّمانَ خَانَه، ومَن أعظَمَه أهانَهُ. لَيسَ كُلُّ مَن رَمَى أصابَ، إذَا تَغَيَّرَ السُّلطانُ تَغَيَّرَ الزّمَانُ. سَل عَنِ الرَّفيقِ قَبلَ الطَّريقِ، وعَن الجارِ قَبلَ الدّارِ. إيّاكَ أن تَذكُرَ مِنَ الكَلامِ ما كانَ مُضحِكًا! وإن حَكَيتَ ذَلِكَ عَن غَيرِكَ».

  • يعني: «واعلم يا بُنيّ! أنّ الرزق قد قُسّم إلى قسمين: الأوّل: هو الرزق الذي تبحث عنه وتسعى إليه. والثاني: الرزق الذي يبحث عنك، وإذا لم تذهب إليه، سيأتي إليك! 

  • وكم هو قبيحٌ التواضع والخضوع في أوقات الفقر والحاجة والتمرّد والجفاء في أوقات الغنى! إنّ الدنيا مفيدةٌ بالنسبة لك طالما كانت لمنفعة الآخرة، وطالما تتمكن من الحصول على الزاد منها لسفر الآخرة، (وأمّأ أكثر من ذلك فلن يكون فيها من نتيجة بالنسبة للإنسان سوى الوزر والوبال).

  • وإذا كان الجزع والفزع مستحسنًا بالنسبة للمتاع الذي ضاع، فاجزع واضطرب بالنسبة لما لم تحصّله بعد، وطبّق نفس التفكير وهذا الأسلوب من المقارنة على ما لم تكتسبه بعد، والذي تفتقده الآن؛ لأن كلّ الأمور المتشابهة مع بعضها، فهي تشترك مع بعضها من جهة الاضمحلال والبوار.

  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بقبول النصيحة

  • ولا تكن من بين الأفراد الذين لا ينتفعون بالنصيحة والعظة، إلّا عندما يكون حديثًا قاسيًا وحادًّا، وحينما يتغيّر سبيل العظة والنصيحة باتجاهٍ شديد وغليظ؛ لأنّ العاقل يتعظ من خلال الأدب والتصرّف الحسن، أمّا الحيوانات فلا تتعظ إلّا بالضرب والتأديب.

  • امنع دخول الأحزان والآلام إلى قلبك، فابتعد عنها من خلال التحلّي بالصبر والاعتقاد الراسخ بالمشيئة الإلهيّة في نزول المصائب والشدائد.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

143
  • وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام بالاعتدال

  • إنّ الشخص الذي يترك الاعتدال ينحرف ويضلّ. وعليك أن تُصاحب في أمورك الصاحب والرفيق المناسب الذي يكون بمثابة الأهل والأقارب، والصديق الحقيقي هو الشخص الذي يكون صادقًا معك في السرّ. والشخص يسير مع هوى النفس، كالأعمى الذي يسير طريقًا بلا علم أو اطلاعٍ، وربّما تبدو الأمور بعيدة وغير محتملة؛ ولكنّها تكون أقرب إلى الإنسان من الأمور القريبة؛ وربّما تبدو بعض الأمور قريبة ولكنّها تكون أبعد من البعيد، والفقير والغريب هو الذي ليس له صديق أو رفيق شفيق.

  • ومن ينحرف عن الطريق الحقّ، سيكون طريقه ضيّقًا ومسيره صعبًا، ومن يرضى بذلك القدر المقدّر والمقسوم ويقنع به، بقي له إلى الأبد.

  • وإن أوثق وسيلة يُمكن أن تتمسّك بها، هي ارتباطك بإلهك فهو أوثق وأكثر اطمئنانًا من أيّ سببٍ وواسطةٍ، ومن لا يُراعي شأنك وموقعيّتك فهو عدوّك.

  • وفي بعض الحالات يكون اليأس هو عين الصواب والمصلحة؛ لأن الطمع والجشع يكونان آنذاك هلاكًا. 

  • ليس من الضروري أن تنكشف للإنسان الأمور المخفية عنه بحيث يصل إلى سرّها وكنهها، ولا يُمكن الوصول إلى النتيجة المرجوّة في كلّ فرصةٍ؛ وربّما لا يصل الأشخاص ذوو الخبرة والتجربة إلى مُرادهم، لكنّ الشخص الأعمى وعديم التجربة والخام يصل إلى مراده».

  • کیمیاگر از غصه مرده و رنج***ابله اندر خرابه یافته گنج۱ 
  • [يقول: لقد مات الكيميائي (الذي يدرس تحويل المواد إلى الذهب) من الغصّة والتعب، ووجد الأبله الكنز تحت الخرابة!].

    1. گلستان سعدي، الباب الأوّل، در سیرت پادشاهان [= في سيرة الملوك].

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

144
  • وصيّة أمير المؤمنين بعدم التسرّع في القيام بالأمور القبيحة والمستهجنة

  • «لا تتسرع في القيام بالأمور القبيحة؛ لأنّها لن تفوتك متى شئت أن تفعلها، والانفصال عن الجاهل يعادل الارتباط والعلاقة مع الشخص العاقل، وكل من يثق بالدهر خانَه، وكلّ من عَظّم الأيّام أصبح ذليلًا وحقيرًا، وليس كلّ سهمٍ رُمي أصاب الهدف، وعندما يتولّى السلطان والحاكم طريق الجور والظلم، فإن الزمان سوف يكون ظالمًا وجائرًا.

  • ابحث عن الرفيق قبل أن تتحرّك للسفر (سواءً أكان السفر ظاهريّاً أم سفرًا معنويّاً وسلوكًا إلى الله) واستخبر عن الجيران قبل أن تشتري الدار. وعليك أن تتجنّب الكلام الركيك والسخيف والمضحك! حتّى لو كنت تنقل ذلك عن شخصٍ آخر».

  • إذا التفتنا إلى هذه الفقرات، فستستوقفنا بعض المواطن والمسائل الجديرة بالتأمّل وكلّ واحدةٍ منها تحتاج إلى شرح مفصّلٍ؛ ولكن مع ملاحظة خصوصيّة هذا الكلام ومحدوديّة الصفحات سنكتفي بتوضيحها بنحوٍ إجمالي.

  • إطلاق الرزق في كلام أهل المعرفة على البارقات القلبيّة والتجليّات الإلهية

  • المسألة الأولى: بيان الإمام لمسألة الرزق والقوت، والذي يحتاج إلى توضيحٍ موجزٍ.

  • يقول الخواجة حافظ الشيرازي رضوان الله عليه:

  • بنوش باده که قسّام صنع قسمت کرد***در آفرینش از انواع نوش‌دارو و نیش ۱
  • [يقول: اشرب من الخمر الذي قسمه لك مُقدّر الأمور، فهناك في العالم أنواع من الشراب بعضها دواء وبعضها سم].

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٥۸٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

145
  • يُطلق الرزق في كلمات أهل المعرفة على الواردات القلبيّة والتجليّات الإلهيّة وانبساط النفس وإدراك حقائق العالم العلوي، ولكن بالطبع يُمكن استفادة هذا المفهوم من آيات القرآن وكذلك من الروايات المأثورة عن أهل البيت عليه السلام. وهذا الرزق إنّما يحصل من خلال التوفيق الإلهي للأفراد ولكن استخدامه يعتمد على قرار نفس الشخص وهمّته واختياره. مثل: إرسال الأنبياء الإلهيّين والأئمة المعصومين عليهم السلام، وأولياء الحقّ الذين تفتح كلماتهم وخطبهم النافذة للدخول إلى عالم الغيب، ويجب على الإنسان أن يسير على خطاهم بعزمٍ راسخٍ وهمّةٍ عالية، فيُبدّل من خلال الطاعة والانقياد التاميّن مراتب استعداد وجوده إلى فعليّةٍ.

  • كان المرحوم والدنا ـ رضوان الله عليه ـ يقول:

  • لقد فرشنا السفرة للجميع، والآن إذا لم يأت أحد، فيجب أن نقول: إذا كان المتسول كسولًا، فما ذنب صاحب المنزل؟!

  • وهذا القسم من الرزق لا يحصل إلى من خلال اختيار نفس الفرد، وبالكسل والتواكل لن يصل الإنسان إلى أيّ مكان.

  • وأمّا الرزق بمعنى الرزق الظاهري وهو المراد هنا فهو وسيلةٌ للبقاء واستمرارية الحياة الظاهرية في عالم الدنيا هذه؛ حيث يجب على الإنسان أن يدفع من هذا الرزق بقدر ما يستطيع لقضاء احتياجات حياته اليوميّة بسهولة وراحة البال، كما عليه أن يتجنّب الإسراف، كما لا يجب أن يُصاب بالحرص خوفًا من الغد، كذلك أن لا يصرف كلّ وقته في تحصيل هذا الرزق، وعليه أن يعلم أنّه ليس هناك من عائد أو فائدة ينتفع بها في مقابل عمره ووقته الذي صرفه.۱

  • كلام أعاظم أهل الطريقة عن ضرورة الكسب الحلال والشغل

  • يرى أعاظم الطريق بأنّ العمل والشغل أمرٌ لازمٌ للأفراد؛ ولم يُؤكّدوا على مقدار الربح ونتائج العمل، بل عدّوا ذلك من ناحية الله عزّ وجلّ. واستقبحوا الجلوس بلا عمل وقضاء العمر بلا شغلٍ مفيدٍ، واعتبروا ذلك مُضرًا بالأحوال السلوكيّة للشخص ولترقّيه.

    1. لقد جرى توضيح هذا الأمر في مجالس شرح حديث عنوان البصري.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

146
  • ينبغي على الكاسب أن يتكسّب بالكسب الحلال بمقدار الضرورة، فيجب على الطبيب أن يستخدم وظيفته لمنفعة الناس والمحرومين، وأن يمتنع عن ادخار الأموال وتخزين متاع الدنيا، ويجب على العالم الديني أن يبني عمله على أساس إنارة الأفكار وتبليغ المباني الرصينة للدين المبين وحسب. فعليه أن لا يُفكّر في الصيت والشهرة، ولا أن يستخدم علمه لتخزين الأموال والأمتعة الدنيوّيّة؛ وأن يكتفي بما قدره الله تعالى له، وربّما يُيسّر له سبيلًا ويفتح له طريقًا، وهكذا جميع أصناف الناس وطبقاتهم، حيث يجب على واحدٍ منهم أن يقنع بالتقدير الإلهي.

  • وكما يقول الخواجة حافظ الشيرازي:

  • به پادشاهی عالَم فرو نیارد سر***اگر ز سرّ قناعت خبر شود درویش ۱
  • [يقول: لا يخضع الدرويش لسلطنة العالم (وللمناصب)، فإنّ خير الدرويش (السالك) إنّما يأتي إذا اطّلع على سرّ القناعة].

  • تجنّب الأمر الذي لا يتوافق مع كرامة الإنسان وعزّة طبعه

  • أمّا المسألة الثانية: فهو الخضوع والتواضع في وقت الحاجة إلى المساعدة، وإبراز الخصومة والتعالي عند عدم الحاجة وارتفاعها. بالإضافة إلى أنّ هذه المسألة تؤدّي إلى قطع ربط الإنسان بمبدأ الوجود، وتجعله يتوجّه إلى الأسباب الماديّة، لا تنسجم أيضًا مع الكرامة الإنسانيّة وعزّة النفس؛ وتُبدي الشخص والشخصيّة في أنظار الناس بوجهٍ ومظهرٍ حقير ووضيع. 

    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، الغزل ٥۸٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

147
  • وللأسف نحن نُشاهد هذه الصفة غير المقبولة في الكثير منّا، فعند التواصل مع بعضنا البعض نبحث عن الفرص فقط؛ وبعد تجاوز الأزمة وتلبية الحاجة نعود إلى منزلتنا النفسانيّة المنحطّة والدنيئة والقبيحة. فتجدنا نخدع مخاطبنا من خلال استخدم اللسان المعسول وتركيب الكلمات بنحوٍ موزون من أجل الوصول إلى مقاصدنا الشهوانيّة، ونأسره تحت تأثير وسيطرة الجوّ المجازي؛ ونجعله يطمئن من خلال آلاف الوعود والحيل فنصل إلى مقاصدنا الشهوانيّة ـ سواءً أكان ذلك لرفع احتياجاتنا الماديّة أم للوصول إلى مقامٍ أو مكانةٍ خاصّةٍ، أم من أجل رفع معاناةٍ أو مرضٍ، أو من أجل الرغبات الجنسيّة والشهويّة ـ ولكن بعد تحقيق مرادنا، نُغيّر وجهنا الظاهري والمخادع، ونعود إلى نفس تلك الصورة القذرة والشيطانيّة والبعيدة عن الإنسانيّة؛ وننسى جميع الوعود ونتعامل مع مخاطبنا بالحيلة والخداع. هذه الصفة، هي صفة النفاق والشيطنة.

  • يجب أن يكون الإنسان عزيزًا ومتمتّعًا بالكرامة والحريّة، وأن يكون مرفوع الرأس ومستقلاً ومتمتّعًا بالأصالة؛ سواء وصل إلى ما يريد أم لم يصل.

  • كيفيّ’ التعامل مع الفرص الضائعة والمفقودة

  • المسألة الثالثة من المسائل المذكورة: كيفيّة تعاملنا مع الفرص الضائعة والمفقودة. ويُبيّن الإمام وجود تشابهٍ بين مسائل الماضي والمستقبل، وموطن هذا التشابه هو عدم وصول الإنسان إلى أيّ منها؛ لأن الدنيا تمضي والإنسان يعيش باستمرار، وعلاقته بما فقده وما لم يُحققه بعد واحدةٌ.

  • «ما فاتَ مَضى وما سَيَأتيك فَأَين؟***قُم فَاغتَنِمِ الفُرصَةَ بَینَ العَدَمَينِ»۱ 
  • يعني: «ما مات لن يرجع أو يعود، وما سيأتي فليس من المعلوم أن يأتي ويحصل، فقم واغتنم الفرصة بين العدمين».

  • وأمير المؤمنين عليه السلام ناظرٌ في هذه المسألة وهذا الموطن كما في المسألة السابقة إلى كلا الجهتين الدنيويّة والأخرويّة.

    1. مستدرك سفينة البحار، ج ۷، ص٤٢۰.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

148
  • ففي الجهة الدنيويّة يجب وضع القاعدة والقانون على أساس كون متاع هذا العالم مؤقّتًا، ويجب ألا ينشغل القلب بالشيء الذي نفقده، ولا ينبغي أن ينشغل فكرنا؛ لأن الدنيا محلّ عبورٍ، وليس منزلًا للاستقرار والوفود. وكلّ شخصٍ يشغل قلبه بالفرص الضائعة التي كان ينتظرها ويتوقّعها، ويستمرّ بالحسرة والحزن على فقدانها فسوف يُعاني من خسارةٍ روحيّة وسيخسر رأس ماله الممنوح له من الله [أي العُمر]. مثلًا: انتظار الزوج [أو الزوجة] الذي لن يكون متاحًا بعد الآن، أو تجارةٍ أصبحت خارجةً عن اختياره، أو ملكٍ أو عقارٍ لم يعد متاحًا له بعد الآن، أو منصبٍ أو مقامٍ تم منحه إلى شخصٍ آخر.

  • جميع هذه الأمور هي من جملة أمتعة الدنيا، والانشغال القلبي المؤقّت بها في هذا العالم يؤدّي إلى ابتعادنا عن مقصدنا ومبدئنا الحقيقي؛ وكما يقول حضرة مولانا [جلال الدين الرومي] قدّس الله سرّه:

  • مرغ باغ ملکوتم نیم از عالم خاک***دو سه روزی قفسی ساخته‌اند از بدنم 
  • خنک آن روز که پرواز کنم تا بر دوست***به هوای سرکویش پر و بالی بزنم.
  • من به خود نامدم اینجا که به خود باز روم***آنکه آورد مرا باز برد در وطنم 
  • می وصلم بچشان تا در زندان ابد***از سر عربده مستانه به هم در شکنم۱
  • [يقول: أنا طائر روضة الملكوت ولست من عالم التراب، و لقد صنعوا لي قفصاً من بدني لأيّام معدودات.

  • فما أسعد ذلك اليوم الذي سأحلّق فيه إلى الحبيب، وأخفق بأجنحتي بهوى دياره. 

  • أنا لم آتِ بطوع إرادتي لأذهب بِمشيئتِي، بل انّ من جاء بي سيردّني إلى وطني.

  • اسقني شراب الوصل لكي أكسر باب سجن الأبد بواسطة عربدتي السكرى (أي أضمحل وأصل إلى الفناء) ].

    1. المثنوي المعنوي، آخر الدفتر الرابع، ص ٤٣۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

149
  • ومن هنا، كان لا بدّ علينا أن نصرف همّتنا وإرادتنا في الأمور الباقية التي لا تزول وأن نهتمّ بما ينفعنا في ذلك العالم، وأن نحزن ونشعر بالمصيبة لفقداننا ما يسحبنا ويقودنا بذلك الاتجاه والعالم، وأن نعمل على تعويض ذلك وتداركه، وأن نُهيّئ أنفسنا للحصول على تلك الفرص؛ وأن نعمل بما قاله حضرة الخواجة [حافظ] الشيرازي:

  • چنینم هست یاد از پیر دانا***فراموشم نشد هرگز، همانا 
  • که روزی رهروی در سرزمینی***به لطفش گفت رندی همنشینی 
  • که ای سالک چه در انبانه داری***بیا دامی بنه گر دانه داری 
  • جوابش داد گفتا دام دارم***ولی سیمرغ می‌باید شکارم 
  • بگفتا چون به‌دست آری نشانش***که از ما بی‌نشان است آشیانش 
  • چو آن سرو روان شد کاروانی***چو شاخ سرو می‌کن دیده‌بانی 
  • مده جام می و پای گل از دست***ولی غافل مباش از دهر سرمست 
  • لب سرچشمه‌ای و طرف جویی***نم اشکی و با خود گفت و گویی 
  • به یاد رفتگان و دوستداران***موافق گرد با ابر بهاران 
  • چو نالان آمدت آب روان پیش***مدد بخشش از آب دیدۀ خویش ۱ 
    1. ديوان حافظ، طبع پژمان، ص ٣۰٤، مثنويّات.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

150
  • [يقول: أنا لا زلت أذكر نصيحة الشيخ العارف لا أنساها أبداً. 

  • إنَّ سالكاً حاذقاً وواصلًا قال لأحد السلّاك:

  • ما الذي يحويه جرابك أيّها الصوفي؟ قم وانصب شركاً إن كان فيه حَبّاً.

  • فأجابه: أجل؛ عندي شراك ولكنّي أروم صيد السيمورغ [العنقاء].

  • يقول: فقال: كيف السبيل إلى ذلك مع أنّه لا أثر لعشّها؟

  • بما أنّ شجرة السرو تلك [إشارة إلى قامة المعشوق‌] قد صارت قافلةً، فلتجعل من غصنها حارساً.

  • لا تخسر كأس الخمر وباقة الزهور، ولكن لا تغفل عن الدهر السكران (فإنّ الدهر لا يعرف أحدٌ جنونه ولا يستطيع أن يُحاسبه أحدٌ على فعله).

  • وقف عند حافّة نبع الماء وعلى أطراف النهر، وأجرَ دمع العين على الخدّ وحدّث النفس.

  • ولتذرف الدمع مثل غيوم الربيع - على ذكرى الأحبّة الذين فقدتهم‌.

  • إذا ما جاءك الماء باكياً فامدد له يد العون من دموع عيونك].

  • ولذا نرى أنّ الأئمّة عليهم السّلام والعرفاء الإلهيّين كانوا منشغلين بالتفكير باستمرار بحال وأجواء الآخرة، فكان ما يشغل نفسهم ويُقلقهم هو هذه المسائل، وحصّلوا من متاع الدنيا كلّ شيء يكون في سبيل تسهيل وفودهم إلى ذلك العالم، وتركوا الباقي على حاله.

  • الاعتبار والاستقبال الحسن للنصيحة والموعظة

  • المسألة الرابعة من المسائل التي تستحقّ الذكر في هذه الفقرات: الاتعاظ والاستقبال الحسن للنصيحة والموعظة. 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

151
  • لا شكّ بأنّ جميع الأفراد قبل أن يصلوا إلى الفعليّة العقلانيّة لديهم أخطاء في الفكر والعمل في كل مرتبةٍ من المراتب، ويجب عليهم أن يلتفتوا إلى هذه الأخطاء والاشتباهات وأن يُصحّحوها من خلال الاستعانة بباقي الأشخاص، والنقطة المهمّة هنا، هي أنّه إذا توقّف الإنسان بمجرّد التفاته إلى الاشتباه وانتباهه إلى الخطأ بسبب تنبيه الآخرين، فرفع يده عن الطريق والفكر الخاطئ، سوف تُصبح نفسه مستعدّةً للترقّي، وسوف يرتقي إلى أن يصل إلى نفس تلك المرتبة والمرحلة؛ وسوف يُصبح مُستعدّاً للارتقاء إلى المرتبة التالية والمرتبة الأعلى، وستتوفّر الأرضيّة لتقبّل الرتبة الأصعب بالنسبة إلى نفسه؛ وفي الواقع سوف يكون قد اقترب درجةً واحدةً إلى التجرّد التامّ. وإذا تمنّع أمام النصيحة والعظة وبرزت لديه الأنانيّة وحاول أن يتهرّب من الاتهام عبر تبريرات وتأويلات ولم يعترف بالخطأ، فسوف تقف نفسه في تلك المرتبة، وسوف يحصل لها فعليّة سلبيّة وسيئة؛ بالإضافة إلى أنّه سيفقد قوّته واستعداده فيما يتعلّق بالوصول إلى المرتبة الأعلى، وسيكون مستعدًا ومهيئًا للسقوط والانحطاط إلى المستوى الأدنى. وهذا هو الخطر العظيم الذي يُهددنا جميعًا بالانحطاط ويسدّ طريق الترقّي والسعادة أمامنا.

  • لقد قال لي والدنا المرحوم العلّامة ـ الطهراني رضوان الله عليه ـ مرارًا: 

  • كنتُ أعمل على إصلاح أخطائي ورفع اشتباهاتي قبل أن يُنبّهني عليها أستاذي، كنتُ أقوم بتحليل تصرّفاتي والتحقيق فيها بنفسي ثمّ أصلحها. الآن، نحن نُنبّه الأشخاص بالصراحة، لكنّهم لا ينتبهون رغم هذه التنبيهات!

  • ونفس هذه المسألة كانت هي السرّ وراء تعاليه وترقّيه إلى المراتب العليا.

  • وقال سماحته:

  • إنّ الأستاذ هو للمواطن التي لا يُدرك فيها الإنسان خطأه واشتباهه بنفسه، وليس في الموطن الذي يتيسّر للشخص التعرف على الخطأ لنفسه؛ فعند ذلك لا حاجة للأستاذ!

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

152
  • لزوم اعتماد الإنسان على إرادته واختياره

  • المسألة الخامسة من المسائل التي تستحقّ الذكر هنا: لزوم اعتماد الإنسان على إرادته واختياره؛ فحتّى لو قُدّمت له نصيحةٌ من شخصٍ عظيمٍ كوليّ الله أو الإمام المعصوم عليه السلام، فإذا أراد الشخص أن يُرتّب أثرًا على ذلك على أساس ثقته بالإمام عليه السلام أو بذلك الشخص المُبرّز، فلن يؤدّي فعله ذلك إلى حصول التأثير المطلوب والنتيجة المرجوة.

  • بحثٌ في عدم رسوخ رأي النساء وعدم ثبات فكرهم

  • «وإيَّاكَ ومُشاوَرَةَ النِّساءِ! فَإنَّ رَأيَهُنَّ إلَى أفَنٍ، وعَزمَهُنَّ إلَى وَهْنٍ، واكْفُفْ عَلَيهِنَّ مِن أبصارِهِنَّ بِحِجابِكَ إيّاهُنَّ، فَإنَّ شِدَّةَ الحِجابِ أبقَى عَلَيهِنَّ، ولَيسَ خُروجُهُنَّ بِأشَدَّ مِن إدخالِكَ مَن لا يوثَقُ بِه عَلَيهِنّ، وإنِ استَطَعتَ أنْ لا يَعرِفنَ غَيرَكَ فَافعَلْ، ولا تُمَلِّكِ المَرأَةَ مِن أمرِها مَا جاوَزَ نَفسَها، فَإنَّ المَرأةَ رَيحانَةٌ ولَيسَت بِقَهرَمانَةٍ، ولا تَعْدُ بِكَرامَتِها نَفسَها، ولا تُطمِعْهَا في أن تَشفَعَ بِغَيرِها.

  • وإيَّاكَ والتَّغايُرَ في غَيرِ مَوضِعِ غَيرَةٍ! فَإنَّ ذَلِكَ يَدعو الصَّحيحَةَ إلَى السُّقْمِ، والبَريئَةَ إلَى الرَّيْبِ، واجعَلْ لِكُلِّ إنسانٍ مِن خَدَمِكَ عَمَلًا تَأخُذُهُ بِه، فَإنَّهُ أحرَى أنْ لا يَتَواكَلوا في خِدمَتِكَ، وأكرِمْ عَشيرَتَكَ، فَإنَّهُم جَناحُكَ الَّذي بِه تَطيرُ، وأصلُكَ الّذي إلَيهِ تَصيرُ، ويَدُكَ الّتي بِها تَصولُ، استَودِعِ اللهَ دينَكَ ودُنياكَ، وأسْأَلُهُ خَيرَ القَضاءِ [لَكَ] في العاجِلَةِ والآجِلَةِ، والدُّنيا والآخِرةِ، والسَّلامُ».

  • يعني: «عليك أن تمتنع عن استشارة النساء! لأنّ أفكارهنّ وآرائهنّ ليست راسخة وثابتة، وسيتغير عزمهنّ وإرادتهن سريعًا.

  • وجنّبهم لدغات الآفات من خلال سترهم وحجابهم والكف من أبصارهنّ عن غير المحارم، لأنّك كلّما أوليت هذه المسألة اهتمامًا أكبر (أي سترهم ومنعهم من التعامل مع الرجال)، كلّما كان وضعهم في سلامٍ وعافيةٍ، واعلم أنّ خطر تركهنّ للمنزل ليس أكثر من إدخال رجلٍ لا تثق به عليهنّ، وإذا كنت تستطيع أن تفعل شيئًا بحيث لا يعرفنَ رجلًا غيرك فافعله.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

153
  • ولا تجعل للمرأة اختيارًا خارج شؤونها الشخصيّة؛ لأن المرأة مثل الريحان، وليست مثل أبطال الحرب، حيث لم تُخلق وتُكوَّن من أجل الأمور المشكلة والاضطرابات الاجتماعية.

  • ولا تبالغ في احترامها ومراعاة تكريمها، ولا تشجعها على الشفاعة والتوسّط للآخرين.

  • وتجنب إظهار الغيرة في غير موقعها المناسب! لأن هذا الأسلوب في التضييق قد يكون له تأثيرٌ معاكسٌ؛ ويحوّل الحال الصحيح والمستقيم للمرأة إلى سقيمٍ وغير مُحبّذ، ويتملكك الشكّ والريب بالنسبة للأفراد الطاهرين.

  • وحدد برنامج العمل لكل واحدٍ من خدمك، كي لا يكلوا الأمور إلى بعضهم البعض، ولا يتكاسلوا في أداء مسؤوليّاتهم.

  • وأكرم أقاربك وعشيرتك؛ لأنهم بحكم الجناحين الذين يرفعانك ويصعدان بك إلى مقاصدك وأهدافك، وهم جذرك وأصلك الذي تنتسب إليه، وهم يديك القوية التي تدافع بها عن نفسك.

  • واستودع الله دينك ودنياك، وأنا أسأله أن يمنّ عليك بأفضل التقدير والمشيئة لكلا الدارين العاجلة والآجلة، وأسأله أن يمنّ عليك بالسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة. والسّلام».

  • تحليل كلام أمير المؤمنين علیه السّلام حلو كيفيّة ارتباط الرجال بزوجاتهم

  • يتعرّض الإمام عليه السلام في هذه الفقرات التي يمكن اعتبارها أكثر العبارات حساسية في هذه الوصيّة التي لا بديل لها، لمسألة علاقة الرجال مع زوجاتهم، وقد يكون فهمها بالنحو الصحيح صعبًا بالنسبة للكثيرين حتى لمبلّغي الشريعة والفضلاء الفاهمين؛ ولهذا يقوم البعض بحذف هذه الفقرة عند حديثهم عن هذه الوصيّة! والبعض الآخر الذين لا يمتلكون هذه الجرأة والجسارة على هذا النوع من هتك الساحة المقدّمة للإمام عليه السلام وعدم احترامها، فإنّهم يعتبرون أنّها ترتبط بظروف ومتطلبات ذلك الزمان؛ وهناك آخرون يخلون مسؤوليّتهم من الإجابة والإهانات فيتخفّفون ويتحرّرون منها من خلال الإقرار بالجهل وعدم الاطلاع الكافي، ويحاول البعض تبرير هذه النقاط عبر تأويلات وتبريرات مضحكة.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

154
  • التمسّك بأدلّةٍ واهيةٍ لترجيح جنس المرأة على الرجل

  • والنكتة المضحكة هنا هي أنّ بعض مدّعي الفضل والدراية جعلوا أنفسهم ملكيّين أكثر من الملك وجعلوا القابلة أرأف وأرحم بالطفل من الأم غاضّين النظر عن الحقائق التاريخيّة والآثار الأصيلة والقطعيّة لزعماء الدين وروّاد الشرع المبين، فحاولوا أن يُثبتوا أرجحيّة وأفضليّة جنس النساء على الرجال متمسّكين بأدلّةٍ واهيّةٍ تُضحك الثكلى، ويعتبرون أنفسهم روادًا في مجال تبليغ مباني الدين وترويجها، وفي خيالهم أنّه إذا أرادوا يُرضوا مجموعةً غير ناضجةٍ وعاميّة، فلا بدّ أن يضعوا قدمًا بين الثقافات غير المتزنة الحديثة لهذا العصر، غافلين عن أنّ مثل هذه السلعة لا تشترى في ساحة العلم والتحقيق، بل في سوق المتجوّلين والسفلة، وهناك أيضًا لن تستمرّ أكثر من بضعة أيّام.

  • ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض‌﴾۱.

  • يعني: «التخيّلات والتبريرات تزول مثل زبد البحر، وأمّا ما هو مُفيدٌ وقيّمٌ للناس فإنّه يبقى في الأرض».

  • ومن المثير للاهتمام أنّ بعض الأشخاص، تمسّكوا في مسألة تفوّق النساء على الرجال بهذه الآية:

  • ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى‌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى‌﴾٢.

  • يعني: «يا ربّ! لقد ولدتُ مريم أنثى ـ والله أعلم بما وضعتُ وولدتُ ـ وجنس الذكر لن يكون كجنس الأنثى أبدًا».

  • وقالوا: إنّ الله قد جعل مقام المرأة أشرف من الرجل، فهو يقول: ﴿لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى‌﴾، بينما كان يجب أن يقول: ليس الأنثى كالذكر. في حين أن تقدّم تشبيه جنس الذكر ـ في هذه الآية ـ على الأنثى من أجل مراعاة تحسين العبارة لا شيء آخر؛ لأنّه المشاهد دائمًا في باقي الآيات هو تقديم الذكر في مقام التكليف والخطاب على الأنثى؛ لكن هذا ليس دليلًا على أفضيّلة الرجل على المرأة.

    1. سورة الرّعد (۱٣)، مقطعٌ من الآية ۱۷.
    2. سورة آل عمران (٣)، مقطع من الآية ٣٦.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

155
  • لقد أكّدتُ مرارًا وتكرارًا في خطاباتي وكتاباتي على أن واجبنا هو مجرّد بيان مباني وأحكام الشرع المقدّس، بمقدار فهمنا وإدراكنا لحقيقة التشريع لا أكثر.

  • الدين لا يحتاج إلى ملكيّيك أكثر من الملك

  • إنّ الدين لا يحتاج إلى ملكيّين أكثر من الملك، ولم يجعلنا أحد قيّمين ولا أولياء على الناس؛ إنّ الوليّ والقيّم والمولى وصاحب اختيارنا جميعًا في الزمان الحاضر هو فقط وفقط قطب عالم الوجود وعماد دائرة الإمكان، حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، ويجب علينا أن نقف للجواب أمام الإمام فيما يتعلّق بمسألة أداء التكليف وتبليغ الرسالة، سواءً رضي الناس أم لم يرضوا.

  • مشكلتنا هي أنّنا نضع أنفسنا مكان إمام الزمان عجّل الله فرجه الشريف، ونوحي للناس بأنّ زمام الدين والشريعة بأيدينا، فالدين سيكون قائمًا وراسخًا بوجودنا، وسيتفكّك وينهار في غيابنا؛ فنلبس ذلك الجلباب المتناسب مع القامة الجميلة لمولانا، ونضعه على قامتنا القبيحة المشوّهة الدميمة، وندّعي قيمومتنا على الدين. لدين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحبٌ، وهو صاحب الاختيار فيه. لقد جاء آلاف الناس ممّن هم أفضل مِنّا وأعلم مِنّا وذهبوا، ولم يتغيّر أيّ شيء، والناس تمضي بحياتها على أساس اعتقاداتهم وسيُمضوها هكذا.

  • والنقطة التي تستحقّ التأمّل هنا، هي أنّ كلّ شخص يتعامل مع التعاليم الدينيّة بناءً على مدركاتّه الخاصّة إلى جانب استعداده لتقبّل الأمور، وكم هم كثيرون الأفراد الذين وقفوا بوجه إنجازات الشريعة والرسالة وأبرزوا لها الخصام من منطلق العناد واللجاج؛ إنّ رسالة الأنبياء الإلهيّين لا تتعطّل بسبب العناد وإنكار عددٍ من الناس، ولا تخسر نفسها وتتخلّى عن الإرشاد أو تنوير الأفكار وتصفية القلوب.

  • وبشكلٍ عامٍّ، لقد نزل الدين ونزلت الشريعة الإلهيّة لمن لديه استعداد وتقبّل لها، وليس للمنحرفين ومن يختلقون الأعذار والمنتقدين.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

156
  • وقد خاطب القرآن الكريم رسول الله قائلًا:

  • ﴿وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِم‌﴾۱.

  • يعني: «إنّك لن تستطيع أن تأتي الأشخاص العمي والمعاندين إلى الطريق الصحيح».

  • وصايا الأولياء الإلهيّين هي للمتّعظين فقط

  • إنّ كتب المعارف الإلهيّة ووصايا الأولياء الإلهيّين هي لمن يعتبر ويتّعظ، وليست لأصحاب القلوب العمياء، فالنظام التربوي الذي لسادة الوحي وقادة قافلة الوادي الآمن، إنّما وضع من أجل تربية عددٍ خاصٍّ من الأفراد، وليس لكلّ واحدٍ من الأوباش الجاحدين الذين ليس لديهم هدفٌ في الحياة سوى ترويج الاعوجاج ونشر الانحرافات والوقوف بوجه مباني الفطرة والتوحيد، والذين يعملون على سدٍّ طريق الأولياء الإلهيّين ووضع الموانع أمام مسيرهم.

  • ومن هنا، فإنّ المسائل التي سيقرأها القراء المحترمين فيما يلي مبنيّةٌ على أساس قبول الحقّ والتسليم لمباني الشريعة والمعارف الحقّة، وبالطبع لا ندّعي أبدًا بأيّ وجهٍ من الوجوه أنّنا منزّهون عن الخطأ أو الاشتباه، فهذا الادّعاء يختصّ بالمعصوم عليه السلام.

  • كيفيّة العلاقة بين الرجل والمرأة في نصوص حضرات المعصومين عليهم السلام

  • لقد بيّنت النصوص التي تركها الأئمّة المعصومون عليهم السلام مسألة العلاقة بين الرجل والمرأة بشكلٍ عامٍّ وفي محيط الأسرة بشكلٍ خاصٍّ، مجموعةً من المسائل التي تستحقّ الإشارة من أجل توضيح هذا الموضوع.

  • أحد المواطن المذكورة، هو وقائع معركة الجمل التي وقعت بتحريضٍ من عائشة وإثارة الفتنة من قبل اثنين من صحابة النبيّ اسمهما طلحة والزبير، حيث شُنّوا حربًا شاملة ضد خليفة المسلمين بالحقّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. وقُتل عددٌ كبيرٌ من الطرفين خصوصًا من قبل جيش البصرة وجيش عائشة. وقد قُتل في هذه المعركة طلحة والزبير أنفسهم (اللذان أشعلا نيران هذه الحرب)،

    1. سورة النمل (٢۷)، صدر الآية ۸۱.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

157
  • وبعد إخماد نيران الحرب وهزيمة جيش عائشة، قال أمير المؤمنين عليه السلام عددًا من الأمور في ذمّها، حيث قال عليه السلام:

  • «كُنتم جُندَ المَرأةِ وأتباعَ البَهيمَةِ، رَغا فَأجَبتُم وعُقِرَ فَهَرَبتُم».۱

  • يعني: «اعلموا يا أهل البصرة! أنّكم كنتم جندًا لامرأةٍ فهي التي كانت تقودكم، وكنتم تتبعون حركة جملها، فكنتم تتحمسون وتنشطون على وقع صوت جملها ورغائه، فلمّأ قُتل وعُقر تفرّقتم وهربتم».

  • ويقول في مكان آخر حول نفس هذا الموضوع:

  • «أمّا فُلانَةُ، فَأدرَكها رَأْيُ النِّساءِ، وضِغنٌ غَلا في صَدرِها کمِرجَلِ القَينِ؛ ولَو دُعيَت لِتَنالَ مِن غَيرِي ما أتَت إلَيَّ لَم تَفعَلْ؛ ولَها ـ بَعدُ ـ حُرمَتُها الأولَى؛ والحِسابُ عَلَى اللهِ تَعالَى».٢

  • يعني: «وأمّا عائشة فقد حفّزها رأي النساء وأوهامهم لارتكاب مثل هذه الخيانة، وقد أقدمت على القيام بهذه الواقعة بسبب حقدها الدفين تجاهي، والذي كان يغلي باستمرار في روحها مثل وعاءٍ منصهرٍ في فرن الحداد. وإذا طُلِبَ منها أن تفعل مع غيري عين الفعل الذي فعلته معي، فلن تُقدم على ذلك بأيِّ وجهٍ من الوجوه؛ ومن الآن فصاعداً، ستبقى حرمتها ومكانتها بسبب انتسابها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم محفوظةً؛ وأمّا جزاء هذا الفعل ومسؤوليّة هؤلاء القتلى، فيجب أن تسوّيها مع ربّها ويجب أن تجيبه عنها».

  • «مَعاشِرَ النّاسِ! إنّ النِّساءَ نَواقِصُ الإيمانِ، نَواقِصُ الحُظوظِ، نَواقِصُ العُقولِ».

  • كذلك خاطب الإمام عليه السلام النّاس بعد معركة الجمل في هذا الصدد، وقال لهم ما يلي:

  • «مَعاشِرَ النّاسِ! إنّ النِّساءَ نَواقِصُ الإيمانِ، نَواقِصُ الحُظوظِ، نَواقِصُ العُقولِ؛ فَأمّا نُقصانُ إيمانِهِنَّ فَقُعودُهُنَّ عَنِ الصَّلاةِ والصِّيامِ في أيَّامِ حَيضِهِنَّ؛ وأمّا نُقصانُ حُظوظِهِنَّ فَمَواريثُهُنَّ عَلَى الأنصافِ مِن مَواريثِ الرِّجالِ. وأَمَّا نُقصانُ عُقولِهِنَّ فَشَهادَةُ امْرَأتَينِ كَشَهادَةِ الرَّجُلِ الواحِدِ؛ فَاتَّقوا شِرارَ النِّساءِ! وكونوا مِن خِيارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ! ولا تُطيعوهُنَّ في المَعروفِ، حَتّى لا يَطمَعنَ في المُنكر!».٣

    1. نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ٤٤.
    2. نهج البلاغة (عبده)، ج ٢، ص ٤۷.
    3. نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ۱٢٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

158
  • يعني: «أيّها النّاس! اعلموا أن إيمان المرأة ونصيبها وعقلها ودرايتها في مرتبةٍ أدنى مقارنةً بطائفة الرجال؛ وأمّا نقصان إيمانهنّ فهو الحرمان من الصلاة والصوم في أيّام الحيض وهذه شهادةٌ صادقةٌ؛ وأمّا نقصان نصيبهن وحظهنّ، فيجب أن يقال: إنَّ ميراثهن من المتوفى هو نصف ميراث الرجال؛ وأمّا ضعف عقولهنّ، فإنّ شهادة امرأتين تُقبل في حكم شهادة رجلٍ واحدٍ، احذروا من النساء المثيرات للفتن وخذوا جانب الاحتياط من خيارهن أيضًا، ولا تطيعوهنّ في أمور المعروف والأمور الحسنة، حتّى لا يطمعن في أمور المنكر والأمور السيئة».

  • تأمل في هذه الفقرات وأيضًا في مفاد الآية الشريفة:

  • ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‌﴾۱.

  • يعني: «يجب أن يشهد شاهدان من الرجال على هذه الحادثة، فإذا لم يكن هناك رجلان شهودًا، فليشهد على ذلك رجلٌ وامرأتان من الأشخاص الذين تثقون بهم؛ لأنّه إذا نسيت إحدى المرأتين أو تزلزلت، تُذكّرها الأخرى وتُخرجها من الاشتباه».

  • من هنا يلتفت الإنسان إلى هذه المسألة، وهي أنَّ بناء الإسلام والشريعة يقوم على أساس العقلانية والصحّة والحقانيّة؛ وطرح مثل هذا الاقتراح هو من أجل تعزيز وتوطيد وتثبيت العلاقات الاجتماعية وبنيان الحضارة، لا شيء آخر.

  • لا يجب التخلي عن المباني من أجل الحصول على إعجاب مجموعة ما واستحسانهم

  • ونجد في العصر الحالي، بعض المفسرين يعملون على توجيه وتأويل وتفسير آيات القرآن تفسيرًا خاطئًا مخالفًا لنصّ القرآن الصريح؛ وكما ذكرنا سابقًا، من أجل الحصول على إعجاب مجموعةٍ واستحسانهم، فنرى أنّهم يتخلّون عن مبادئهم ومعتقداتهم، فيحرّفون المفاهيم القرآنيّة بنحوٍ مخالفٍ لمراد المتكلّم والوحي الإلهي.

  • مثلًا: يفسرون «الضلال» الوارد في هذه الآية الشريفة بالنسيان ويقولون: لمّا كان بالإمكان أن يعرض للمرأة النسيان بسبب الأعمال المنزليّة وتربية الأطفال وكثرة مهامها، فإنّه قد تنسى وتغيب الوقائع والحوادث عن بالها في مقام الشهادة، ولذلك جعل الله شهادة امرأتين مساويةً لشهادة رجلٍ واحدٍ في هذه الحالات!

    1. سورة البقرة (٢)، قسم من الآية ٢۸٢.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

159
  • إنّ الإنسان ليندهش واقعًا من هذ التبرير والتحريف ويستعيذ بالله. ففي نهاية المطاف، أين رأينا أن مهام المرأة والعمل المنزلي وتربية الأطفال، خاصّةً في الأوضاع الحاليّة، هو أصعب وأكثر إزعاجًا من عمل الرجل ومشاكل عمله والتعامل مع القضايا الاجتماعيّة خارج المنزل ومن الابتلاءات المتعدّدة؟! وبالأخير لماذا يجب أن نبيع مستقبلنا بثمن بخس من خلال هذه الأراجيف، ونقدّم حكم الله والمباني الرصينة للشريعة بهذه السخاوة في سوق المكّارين لينهبوها؟! 

  • إنَّ هذا العبد، وفي حدود العلاقات الاجتماعية التي أمتلكها مع الأصدقاء وغيرهم، أُقرّ وأعترف بأنّ المشاكل الاجتماعيّة والابتلاءات الفكريّة وتشويش الخاطر الذي يُصيب الرجال إذا ما قارنّاها مع ما يُصيب النساء في هذا المجتمع فهي أكثر بمرّات وتقصم الظهر أكثر؛ فمتى كانت تتحمّل المرأة بعضًا من هذه المصاعب والابتلاءات بحيث تؤدّي بها إلى نقص في ذاكرتهنّ وتنسى الأمور؟! بل يُصادف أنَّ الأمر بالعكس تمامًا، فإنَّ ذاكرة المرأة في تسجيل الأمور الجزئيّة وحفظها أقوى بمراتب من ذاكرة الرجل، وليس هناك مجال للشكّ والشبهة في هذا الأمر.

  • فهل معنى ضالّ في الآيات القرآنيّة هو النسيان؟

  • وهل مفاد الآية: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعيدًا﴾۱ بمعنى النسيان؟!

  • أو آية: ﴿فَمَنِ اهْتَدى‌ فَإِنَّما يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾٢ هل هي بمعنى التذكّر والنسيان؟!

  • إنّنا لسنا أرأف من الله بعباده.

  • وبعبارة أخرى: هل نحن أكثر رحمةً ولطفًا وشفقةً من الله بعباده، بحيث أنّنا قمنا بتحريف المفاهيم الوحيانيّة، كي لا نُزعج خاطر عددٍ من الأفراد غير المطلعين؟! غافلين عن أنّه بهذه الطريقة، لم نفقد فقط رضا الله واستحققنا سخطه، بل أغلقنا أيضًا طريق السعادة والخلاص والصحوة والتصحيح أمام تلك العدّة من الأفراد الذين ارتكبنا هذا التحريف من أجلهم، وحرمناهم من الوصول إلى الفوز العظيم؛ 

    1. سورة النّساء (٤)، ذيل الآية ۱۱٦.
    2. سورة يونس (۱۰)، مقطع من الآیة ۱۰۸.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

160
  • ونفس هؤلاء الأفراد سيمسكون بنا يوم القيامة وسيحتجون علينا في محضر العدل الإلهي وسيقولون: يا ربّ! رغم أنّنا كنّا في الدنيا جاهلين بواجباتنا وتكاليفنا ومتمرّدين عليها؛ لكنّ هؤلاء العلماء والمبلّغين لشريعتك هم الذين لم يُرونا الطريق وكتموا الحقيقة عنّا وأخفوا الواقع عنّا، لكي يكسبوا رضانا؛ ولو أدّوا وظيفتهم، لربما كنّا انتبهنا ولتشكّلت نافذة الصلاح والفلاح في قلوبنا. 

  • وهذا الكلام هو لسان حال الأشخاص ـ الذين هم حسب الظاهر وقفوا ضدّ هذه المبادئ وعارضوها وخالفوها ـ لكنّ المسألة بالنسبة لأولئك الذين كانوا محايدين في هذا المجال وكانوا ينتظرون سماع مبادئ الوحي وفتحوا آذان روحهم لقبول حقائق الشريعة، فهي قصّةٌ أخرى!

  • وعلى هذا الأساس يرى صاحب هذا القلم نفسه موظّفًا بالعمل على توضيح وتبيين كلمات زعماء الدين وسيرتهم؛ بدون ملاحظة أيّ اعتبارات أو إغماض للنظر، بل فقط بناءً على ما توصلتُ إليه من النصوص الإسلاميّة والآثار التي وصلتنا من حاملي لواء الوحي والتشريع وبمقدار سعتي الوجوديّة وبضاعتي العلميّة المزجاة وبمقدار تجربتي، وقد ركزتُ في كلامي وخطابي على هؤلاء الناس والمخاطبين الذين ينظرون حين قراءتهم ومطالعتهم إلى هذه العبارات من منظار الإنصاف، ويضعون جانبًا وسوسات الشيطان وتلبيساته فيتعمّقون فيها، وليس لديهم أيّ هدفٍ أو غايةٍ سوى رضا الله والوصول إلى مراتب الفعليّة والقرب.

  • تنشأ فطرة كلٍّ من المرأة والرجل من مبدأ واحد

  • بناءً للنصوص وتصريحات المآثر الوحيانيّة، فإنَّ فطرة الإنسان ـ سواءً أكان رجلًا أم امرأةً ـ‌ قد نشأت وابتدعت من مبدأ واحدٍ، وهو الروح القدسيّة للذات الأحديّة المقدّسة، والآية الشريفة: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقين‌﴾۱ ناظرةٌ في خطابها إلى كلا الجنبتين الذكوريّة والأنثوية، كذلك يقول تعالى:

    1. سورة المؤمنون (٢٣)، ذيل الآية ۱٤.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

161
  • ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى‌ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُم‌﴾۱.

  • يعني: «أيّها النّاس! لقد خلقناكم من جنس الذكر والأنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائل مختلفة، كي تعرفوا مقامكم وتعلموا مكانتكم وحقيقتكم، فاعلموا أنّ أكرمكم عند الله، هو أتقاكم».

  • لم يجعل معيار الفضيلة والقرب من الله في هذه الآية الشريفة، جنس الخلق ونوع الخلق، بل تعالي النفس الآدميّة، بدون ملاحظة أيّ أمرٍ آخر؛ مثلما جعل الجنس المذكر جنبًا إلى جنب مع الجنس المؤنّث محلًا للخطاب في آياتٍ أخرى، ووجّه التكليف إليهما كليهما في سياقٍ واحدٍ، كما في قوله تعالى:

  • ﴿إِنَّ الْمُسْلِمينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرينَ اللَّهَ كَثيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظيماً﴾٢.

  • وبناءً على ذلك، فإن النفس والروح لكلا الجنسين نشأت من مرتبةٍ واحدةٍ، وهي نفس مرتبة ذات واجب الوجود؛ كما قال تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي‌﴾٣ وكلّ شيءٍ في عالم الوجود يعتمد في قيمته ومقداره على أصله وجذوره، وليس على بروزه وظهوره في مقام التعيّن وفي الخارج؛ لأنه في مقام الرجوع سوف يعود إلى نفس جذره ومبدئه.

  • تنشأ مسألة الرجولة والأنوثة في المراتب التي دون مرتبة النفس

  • من هنا يتّضح أن مسألة الرجولة والأنوثة قد نشأتا في المراتب التي هي دون النفس، يعني: حقيقة روح الإنسان عبارةٌ عن حقيقةٍ واحدةٍ وواقعيّة واحدة، وفي السير النزولي من مقام الذات عندما تصل إلى مرتبة تركّب الصورة - والتي يُعبّر عنها بالملكوت - يتمّ تشكيل الجانب الفاعلي والانفعالي فيها؛ أمّا قبل ذلك فتكن هذه الحيثيّة منتفية؛ وسجود الملائكة [لآدم] كانت في مرتبة سابقة على الحيثيّة الفاعليّة والانفعاليّة وليس بعدها، وذلك إذا ما قارنّها بالنسبة إلى خلق الإنسان وتشكّله. وفي هذه المرتبة من تركّب الصورة تختلف خصائص كلا الجنسين.

    1. سورة الحجرات (٤٩)، صدر الآية ۱٣.
    2. سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٣٥.
    3. سورة الحجر (۱٥)، مقطعٌ من الآية ٢٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

162
  • وبناءً على هذا الاختلاف ينشأ التكليف التشريع والوظائف؛ لأنّ التكليف قائمٌ على أساس الحقائق الوجوديّة الخارجيّة وقابليّاتها، لا على مجرّد إرادة وسليقة المولى ومهما كان فليكن!

  • في هذه المرتبة تتشكل القدرة الجسميّة والاستعدادات والغرائز والصفات لكلّ واحدٍ منهما، ويختلف حتّى الأفراد من نفس الجنس والنوع فيما بينهم؛ وبناءً على هذه الاختلافات في الصفات وخصوصًا لطافة النفس في جنس النساء وتصلّبها في جنس الرجال، يتمّ تنظيم القوانين الاجتماعيّة وتنظيم العلاقات، ويتمّ تدوين تكليف خاصّ كلّ جنس،‌ وينزل له حكمٌ من جانب الله عزّ‌ وجلّ.

  • وهنا نصل إلى هذه النقطة البالغة الأهميّة، وهي أنّ العمل بالأوامر الإلهيّة لكلّ فردٍ، لن يقتصر على إيجاد الراحة والأمان الاجتماعيّان والاعتدال في العلاقات بين الطرفين وحسب، بل سوف توصل كل واحدٍ من الجنسين في مقام التربية والرقيّ الروحي إلى استكمال النفس لمرتبة الفعليّة، وسوف توصله إلى الغاية والمقصد من خلقهما، ولكن في المقابل سوف يُؤدّي عصيان الأوامر والتكاليف الإلهيّة إلى اختلال النظام الاجتماعي كما أنّه سيقوض أصل الحياة الدنيويّة وأساسها ـ كما هو مشاهدٌ ـ وسيمنع كلا الطرفين من الوصول إلى مرتبة الفعليّة والهدف الأصلي من الخلقة.

  • في نظام الخلقة والتربية يبقى الرجل بمثابة الصيّاد وصيده يكون من الجنس المخالف، يُلاحقه حتّى يُسخّره لأجله، والمرأة تبقى مثل الصيد الذي يبحث عن ملجأ آمن فتجلس بسكينةٍ في حضن صيّادها يحميها من لدغات الحوادث والمُهلكات والاضطرابات المحيطة بها؛ وكم هو جميلٌ ورائعٌ هذا التقسيم وهذه الهيكليّة.

  • الحكمة الإلهيّة في خلقة الذكر والأنثى

  • لقد خلقت اليد الحكيمة للخلقة الرجلَ ليكافح ويسعى يجتهد ويناضل ويتعامل مع الصعوبات والأمور المزعجة، ولكي يقوم بتدبير وإدارة المشاكل الاجتماعيّة والأمور الخارجة عن تشكيل الأسرة؛ وقرّرت أن خلقة المرأة من أجل تحقيق السكينة والحيويّة والبهجة والسرور والصفاء اللطف والمودّة والاستمرارية والانسجام والأمن في محيط المنزل والأسرة. إنّ البيئة الدافئة للأسرة وإدارة الأطفال وتدبير أمورهم واللطف والصفاء الخاصّ هي أمورٌ بوسع وسع المرأة تحقيقها فقط، وهذه المسألة مشهودةٌ تمامًا؛ أمّا التعامل مع أمور المعاش وكسب الرزق الحلال وحلّ المشاكل والتعامل مع العقبات الخارجيّة أيضًا سوف تكون في وسع الرجل وقدرته النفسيّة أيضًا.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

163
  • من الطبيعي أن يتسبّب تغيير الوظائف والتكاليف بين الجنسين سوف يؤدّي إلى حصول مشاكل عويصة، وما ثبت بالتجربة وهو أمرٌ لا يتغيّر، هو رغبة الجنس المذكّر في الوصول إلى الجنس الآخر وتملّكه في أيّ شرطٍ وظرف، وعلى ما يبدو أنّ هذه المسألة لا تنتهي؛ وإذا لم يبد اهتمامًا كبيرًا في مرحلةٍ ما، فليس بسبب عدم وجود الغريزة والرغبة، بل بسبب بروز بعض الموانع أو المُتع المؤقّتة، وعند زوالها يعود إلى نفس تلك الرغبة وذلك الميل المودع فيه؛ والمرأة أيضًا أودع في ذاتها العطف واللطافة والصفاء الخاصّ بها، وعندما تصطدم مع رغبة الرجل وإرادته، تفقد السيطرة وتنجذب إلى رغبات الرجل ورغباته. ولا يُوجد فرقٌ في هذه المسألة بين جميع طبقات المجتمع، وكما نُشاهد لم يستثن الشيطان في خداعه للناس وإغوائهم وتدميرهم أيّ أحدٍ.

  • هناك قول معروفٌ حيث يقولون: ليس هناك من جملةٍ ألذّ ولا أعذب ولا أكثر جاذبيّة وسحرًا من جملة «أحبك» لتجذب المرأة إلى الرجل؛ والآن سواءً قيلت هذه الجملة عن صدقٍ وصفاء ومحبّة، أم بدافع المكر والخداع ولحيرة والشيطنة، وقد نُقلت روايةٌ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله كذلك لها نفس هذا المضمون۱.

  • وكلّ هذا التأكيد على حفظ حريم العلاقات بين الرجل والمرأة الموجود في الإسلام يعود إلى هذا السبب: المحافظة على لطافة المرأة وصفائها في قبال ميول الرجل ورغباته وأغراضه القذرة.

  • والآن لا بدّ من الإذعان والاعتراف بأنّ معجزة كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الوصيّة العجيبة فيما يرتبط بكيفيّة تنظيم العلاقات بين المرأة والرجل والمرأة تظهر نفسها بشكل جيّد في هذه الظروف والاجتماعيّة التي نعيش فيها، وتكشف الستار عن سرّ هذه المسألة ولِمّها. وكأنّ هذه الجمل قد كُتبت أصلًا من أجل هذا الزمان وهذه الظروف، ليس من أجل ألف وأربع مئة عامٍ مضى.

    1. الكافي، ج ٥، ص ٥٦٩: «قول الرّجل للمرأة إنّي أحبّك، لا يذهَب من قلبها أبدًا».

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

164
  • كيفيّة الحياة في مجتمعات اليوم تبعث على الخجل

  • للأسف أصبحت كيفيّة الحياة في مجتمعات اليوم بنحوٍ يبعث على الخجل جدًا، فالعيش في الشقق والمجمعات السكنيّة بلا أبواب ولا هيكل، وإشراف النوافذ على منازل الناس، وعدم مُراعاة الحجب والحياء والعفّر في المجمّعات السكنية، وحريّة التواصل بين النساء والرجال، والفتيات والصبيان، والأحاديث والمجالسة وإلقاء النكات والضحك وغيرها، تضع الوضع الاجتماعي والعلاقات الأسريّة في معرض التهديد الجديّ.

  • لا يعلم إلّا الله أيّ بلاءٍ نزل بمنازلنا وأيّ آفةٍ مدمّرةٍ حلّت بالكيان الأسري بسبب هذه المحلات التجاريّة ومراكز التسوّق المتنوّعة وبسبب التواصل الذي يجري بين الرجال والنساء في هذه الأماكن، إلى أين أوصلنا الاختلاط في العلاقات والأحاديث الجانبيّة عند الأبواب والمزاح والضحك والمجاملة والجلوس على سفرةِ طعامٍ مشتركةٍ بحجّة إيجاد الحرارة في العلاقات الأسريّة والصداقة واستقبال النساء للوافدين والسلام باليد على الضيوف وتقديم النساء الضيافة للرجال وأصدقاء الزوج والمزاح وبذل النفس أمامهم، وإقامة العلاقات الهاتفيّة بين الرجال وسيّدة المنزل؟!

  • هناك عواقب كثيرة تستتبع اختلاط النساء والرجال في محيط العمل والعلم

  • لسوء الحظّ ليس هناك من صورةٍ حسنةٍ لاختلاط الرجال والنساء والأطباء والممرضين والموظّفين في المستشفيات [الذكور منهم والإناث]، وستكون له عواقب يستتبعها؛ كما أن المعضلة نفسها تتكرّر في البيئة العِلمية في الجامعات وخلال اشتراك الشباب والشابّات في الفصول والأماكن التعليميّة، ومن خلال حضور السيّدات بمظهر غير لائق، ممّا قد يؤدّي إلى حدوث حالاتٍ نافرة في كثيرٍ من الأحيان.

  • ما هو الداعي الذي يقتضي توحيد صفوف الشابات مع صفوف الشباب؟ ولماذا يتمّ اختيار أساتذة صفوف النساء من الرجال؟ وما هي المشكلة التي ستطرأ لو كانت بيئتنا العلميّة والتعليميّة خاليةً من هذه المسائل والأحداث التي قد تجعلنا نتعرّض ـ لا سمح الله ـ لقضايا أخرى بدلاً من البحث واكتساب المعرفة والتجربة؟

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

165
  • فاليوم وفي بعض البلدان، هناك جامعاتٌ خاصّةٌ بالنساء من الحاجب إلى مديرة الجامعة، وليس بينهنّ حتّى رجلٌ واحدٌ؛ ولا يقتصر الأمر على أنّه لا نقص فيها أو قصور، بل هي أيضًا من بين أقوى الجامعات وأكثرها شهرةً في العالم من حيث العلوم والنتائج الأكاديميّة، ومن بين هذه الجامعات يُمكن الإشارة إلى جامعة جدّة في المملكة العربية السعودية.

  • ونفس هذا الأمر ينطبق على المستشفيّات أيضًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ مراعاة هذه المسألة وتنفيذها قد حصل قبل عدّة سنوات في مدينة مشهد الرضا المقدّسة وذلك في مستشفى الإمام الرضا عليه السلام، وذلك من قبل عددٍ من الأطباء المتديّنين والمُخلصين وذوي الكفاءة، واستمرّ لمدّة ستّة أشهر، وكان جميع الأفراد في جناح النساء من الأخوات المحجّبات، ولم يكن يُستعان برجلٍ إلّا في غرفة العمليّات الجراحيّة حيث كانوا يستعينون بجرّاحٍ رجلٍ من الأطباء الرجال عند الضرورة والحاجة فقط. ومن المثير للاهتمام، أنّه باعتراف أطباء هذه المستشفى وإقرارهم هم أنفسهم، كان كلٌّ من الوضع والتماسك والإدارة في هذا القسم خلال هذه الفترة التي بلغت ستّة أشهر أفضل حتّى من الإدارة التي سبقت القيام بهذا المشروع، لقد كان الوضع أفضل وأكثر تكاملًا؛ ولكن للأسف تم حلّ هذا البرنامج وعادت الأمور إلى ما كانت عليه بسبب أعذارٍ واهيةٍ من قبل بعض المسؤولين ذوي العلاقة!

  • تدريس العلوم الإسلاميّة ليس مجوزًا لتصدي الرجال لتعليم النساء وتدريسهم

  • ونفس هذا الأمر ينطبق على المراكز العلميّة الحوزويّة أيضًا، ففي العديد من هذه المراكز، يتصدّى معلّمٌ من الرجال لتدريس النساء والإجابة على أسئلتهم، وهذا خطأٌ، فإنَّ تدريس العلوم الإسلاميّة لا يُمثّل مجوّزًا للرجال للتصدّي لتعليم النساء وتدريسهم؛ فالنفس نفسٌ، والشيطان جالسٌ في الكمين وينتظر الفرصة المناسبة في كلّ لحظةٍ لإغواء الطرفين.

  • هنا نُدرك عمق وجذور كلمات السيّدة الزهراء سلام الله عليها التي تقول فيها عن المرأة ما يلي:

  • «خيرُ النساء التي لا ترى رجلًا ولا يراها رجلٌ»۱.

  • كما أنّه يكشف عن معنى كلام المعصوم عليه السّلام ويجعله جليّاً حينما يقول: «لا تجلسوا النساء في الغرف المشرفة على الأزقة والمنازل»٢.

    1. وسائل الشّيعة، ج ٢، ص ٦۷: «خَيْرُ للنِّساء أنْ لا يَرَينَ الرِّجالَ ولا يَراهُنَّ الرِّجالُ». (م)
    2. الكافي، ج ٥، ص ٥۱٦: «لا تُنْزِلوا النِّساء بالغُرَفِ». (م)

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

166
  • حينما أوصى الإمام عليه السلام ابنه بأن افعل أمرًا بحيث لا تستطيع زوجتك معه أن تتحدّث مع أيّ رجلٍ فافعل، فبالتأكيد كان يعرف شيئًا ينبغي علينا أن نسعى أكثر ونجتهد أكثر من أجل إدراكه.

  • وراقم هذه السطور، بسبب ارتباطه مع مختلف أفراد المجتمع وبسبب المسؤوليّة التي كانت بيدي حتّى الآن، أعلن صراحةً أنّ فتنة الشيطان ووساوسه وأنّ إغواء إبليس الرجيم لا تختصّ أبدًا بالأشخاص غير الملتزمين والمتفلّتين والذين ليس لديهم أيّ قيدٍ أو حدٍ يردعهم؛ بل تشمل كلا الجانبين فتشمل حتّى المؤمنين والمؤمنات والناسكين والناسكات أيضًا؛ ولا يمكن لأحدٍ أن يعتبر نفسه مأمونًا ومصونًا من سطوة الشيطان وإغوائه، وأنّه يستطيع أن لا يُراعي الموازين والمباني الواردة عن الشرع المقدّس.

  • العار الذي جلبته الهواتف النقالة والإنترنت

  • وفي هذه الأيّام لا بدّ من الاعتراف مع ألف حسرةٍ وتأسّفٍ وألمٍ، بأنَّ تواصل النساء والرجال بواسطة الهواتف المحمولة أو عن طريق الإنترنت، والفضائح التي جلبتها معها، تمضي باتّجاه تدمير بنيان الروابط الأسرية من جذورها. وأنا لا أعلم لماذا ولأيّ سبب يجب على المرأة أن تجيب على مكالمات الرجال في حال لم يكن الرجل متواجدًا في المنزل؟! وإذا لم تجب، فما المصيبة والفاجعة التي ستحلّ؟! 

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

167
  • ومن ناحية أخرى، لماذا يتعيّن على النساء الذهاب إلى السوق والمتاجر بمفردهنّ لشراء احتياجاتهنّ، ومواجهة الرجال الغريبين والملوثين بالهوى والهوس والأغراض القذرة، فيقومون بالسؤال عن الجودة والمساومة على السعر؟ ولماذا لا يشعر أزواجهم بالمسئوليّة في هذه المواطن؟! فترى أنّهم يُرسلون نسائهم بمفردهن إلى هذه الناحية وتلك، ويخلون أكتافهم من عبء المسؤوليّة؟۱

  • وإذا قال شخصٌ:‌ إنَّ الالتزام بمراعاة هذه الضوابط إلى هذا الحد يُمثّل طريقًا وأسلوبًا غير طبيعي، وهو نوعٌ من الإفراط ولا ضرورة للقيام بذلك؛ كما أنّ التجربة تؤيّد هذه المسألة أيضًا، فليس كل اتصال يُؤدّي بالضرورة إلى الفساد والانحرافات، ولا كلّ محادثة تجرّ إلى الضلال، وبالتالي لا نرى حاجة لرعايتها على هذا النحو بهذه الطريقة؛ فينبغي أن نقول في مقام الرد والإجابة:

  • أولاً: إن علّة التحفظ في الحجاب والتواصل، ليست منحصرةً في الوقوع في المفسدة والانحراف الظاهري لجميع الأفراد من جميع الأعمار وفي جميع الظروف؛ بل تكمن العلّة في فقدان الحالة النفسيّة والموقعيّة الروحيّة التي للترقّي والتعالي وتجرّد النفس، وهذا الأمر سوف يتحقّق لمثل هؤلاء النّاس قطعًا، وليس هناك من مجالٍ للشكّ في هذا الأمر.

    1. عندما كان والدنا المرحوم ـ رضوان الله عليه ـ يُقيم في طهران، كان يذهب أحيانًا إلى السوق شخصيًا لشراء ملابس أهل المنزل وإعداد الأقمشة؛ وكان يشتري ما تحتاج إليه الأسرة من أحد خيار التجار في ذلك الزمان والذي كان متزينًا بكسوة رجال الدين (واسمه المرحوم الآقا السيّد علي أكبر بيش نماز)، وكان يعمل في السوق في مجال بيع الأقمشة. وكان المرحوم السيد علي أكبر شخصًا شهمًا ومتعبّدًا ومتدينًا وصالحًا ومعروفًا جدًا بين أهل السوق بحسن العمل ومراعاة الموازين. ذات يوم، عندما كنت في ذلك الزمان طفلًا في العاشرة من العمر ذهبت إلى السوق برفقة والدي، سمعتُ المرحوم السيّد علي أكبر يقول لأبي: «أيّها السّيد الطهراني! من بين رجال الدين وأئمّة جماعات طهران، ليس هناك من أحد سوى سماحتك وشخصٍ أو شخصين آخرين يأتون إلى السوق لشراء حاجيّات أسرهم، أمّا البقية فيرسلون زوجاتهم للشراء».
      وما يُثير الاهتمام أكثر، هو أنه خلال إقامته في طهران، كان يعيش في حيّنا أحد بائعي القماش المشهورين والمتديّنين وهو كبيرٌ في السنّ، وبالإضافة إلى معرفته السابقة بالمرحوم الوالد ومودّته له، كانت له علاقة مع جميع أهل العلم وأئمّة الجماعات أيضًا. وفي أحد الأيام قال لوالدنا: «من بين عائلات جميع أئمّة الجماعات ورجال الدين في طهران، لا يوجد سوى عددٍ قليلٍ من الأخوات اللائي يأتين إلى متجرنا لشراء الأقمشة والملابس بالفعل، أمّا البقيّة فيأتين للنزهة والتفنّن وغيره!». 
      هنا يجب أن نتذكّر حرقة أمير المؤمنين عليه السلام وانزعاجه حينما خاطب رجال أهل الكوفة قائلًا: «سمعتُ أنّكم تجلسون في المنازل وتذهب زوجاتكم إلى السوق للتسوّق ويتحدّثن مع الرجال ويتبادلون المزاح».
      *الكافي، ج ٥، ص ٥٣۷.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

168
  • ثانيًا: من يضمَن أن حدوث الانحراف والاعوجاج خاصٌّ بفئةٍ وبأفرادٍ خاصّين، بينما باقي الأفراد مستثنين من ذلك؟ وكما ذكرنا سابقًا، أثبتت التجربة خلاف هذا الأمر. بناءً على هذا، فإنَّ مقتضى الاحتياط سيكون في مراعاة الموازين، والامتثال لأوامر الشرع.

  • ويقول البعض في انتقاده لعدم الاختلاط بين المرأة والرجل: بدلاً من منع الاختلاط، يجب أن نبني ثقافةً في المجتمع من أجل أن لا يُحرم الرجال والنساء من مزايا الاختلاط والتحدّث والعشرة مع بعضهم البعض، وفي المقابل لن تترتّب المفاسد والعواقب الوخيمة لهذه العلاقات؛ ويذكرون كمصداقٍ لكلامهم المجتمعات الغربيّة والعلاقات الأسرية في الأمم والدول الغربيّة.

  • و يجب أن يُقال في الإجابة على ذلك: أفلا يوجد هناك فسادٌ وانتهاكٌ للأعراض في المجتمعات الغربيّة ولا انتهاك لحقوق الآخرين؟ واعجبا! رغم وجود كلّ هذه الانحرافات والتجاوزات، إلّا أنّنا نغضّ الطرف عن الحقائق ونُنحي القضايا الواقعيّة الخارجية بعيدًا عن دائرة البحث والتحقيق من خلال اللجوء إلى العناد.

  • هل أعين هؤلاء مُغمضةٌ عن الإحصاءات للانحرافات والتجاوزات في نفس تلك المجتمعات التي يتم نشرها في تلك المجتمعات من وقتٍ لآخر؟ تلك الوقائع التي تجعل أيّ مستمعٍ يُمكن أن تُسمّيه آدميًا، يشعر بالاشمئزاز والتنفّر؟ ففي نهاية المطاف ما هو البناء الثقافي الذي يجعل الفرد قادرًا على السيطرة على رغباته النفسانيّة وشهوته الحيوانيّة ورغباته الشيطانيّة؟ أرونا إيّاه وعلّمونا!

  • لا يقتصر الأمر بالنسبة للبناء الثقافي على أنّ لا يعدّ الاختلاط مع الجنس الآخر مجازًا به وحسب، ولكنه أيضًا يحرق الثقافة أيضًا، وسوف يُدمّر بنيان الأسرة. فهل من الممكن من خلال البناء الثقافي إبقاء القطبين المعاكسين للمغناطيس بعيدًا عن بعضهما؟! وعلى فرض أنّك استطعت من خلال تلقين أحد الطرفين أن تجعله يفهم، فماذا ستفعل مع الطرف الآخر؟

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

169
  • ومن ناحيةٍ أخرى ما زلنا لا نفهم فوائد الاختلاط وتبادل الأحاديث بين الجنسين!

  • فما هو الخطأ في ممارسة المرأة للرياضة والتنزّه في الحدائق وأماكن الترفيه في بيئةٍ خاصّةٍ بهم، ويكون للرجال مساحة خاصّة بهم يُمارسون فيها الرياضة والتنزّه أيضًا؟ هل ستقع السماء على الأرض؟! أم ستهب الأعاصير وتملأ الهواء؟!

  • وما هو الإشكال في حصر محيط الإدارات والمستشفيات والجامعات والمصارف والمؤسسات بجنسٍ واحدٍ من الجنسين؟ فيقوم كلٍّ من الجنسين بالعمل والنقاش والبحث والتفكير والحديث مع شخصٍ من جنسه، وليس لهم أيّ علاقةٍ بالجنس الآخر، ثمّ يعود كلّ واحدٍ منهم إلى منزله ومأواه بعد الانتهاء من عملهم؟ فما هي الفائدة التي لا يُمكن تحقيقها إلّا من خلال التواصل والاختلاط بين الرجال والنساء في مكان العمل وخارج مكان العمل وفي الشوارع والمتنزهات والمركبات ودور السينما، وما إلى ذلك، وإلّا سوف يتمّ يزول الملك والأمّة ويضمحلّان؟!

  • النفس نفسٌ، ولا تعرف الثقافة، وإنّما تُوجّه الثقافة وتفسرها طبقًا لميولها ورغباتها وتطلعاتها؛ ألم يكن جميع هؤلاء الناس من ذوي الثقافة والمُتعلّمين والمشاهير، سواءً في هذا البلد أم في باقي البلدان والدول، بحيث وصلت أخبار انحرافهم وعدوانهم إلى خواجة شيراز أيضًا [هذا نوعٌ المثل الدارج في اللغة الفارسيّة في حال انتشر خبرٌ بين الناس عن تصرّفٍ قبيحٍ من شخص، فإنّهم يقولون: لم يبقَ أحدٌ لم يعرف بخبر فلان إلّا خواجة شيراز، بسبب بعد مدينة شيراز وكناية عن أنّ الجميع اطلعوا على الواقعة، وهنا سماحة السيّد يريد أن يقول: حتّى خواجة شيراز علم بما يحصل من فظائع في الدول الغربيّة!! (م)]، فهل هم جهلاء وليس لديهم اطلاع على ما يجري؟!

  • أسباب عدم جواز مشاورة المرأة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام

  • وأمّا المسالة الأخرى التي تمّت الإشارة إليها في هذه الفقرات فهي عدم مشاورة النساء، وهو الأمر الذي يُمكن ملاحظة نظائره في غير هذه الجمل.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

170
  • يمكن تحصيل سرّ هذا الأمر من بين سطور المسائل المذكور أعلاه؛ وهو غلبة الحالة الإحساسيّة والعاطفيّة للمرأة مقارنةً بالرجل؛ وبطبيعة الحال، يُمكن أن يجد هذا الحُكم مصداقًا له في المواطن التي تتعلّق إلى حدٍ ما بالمسائل الإحساسيّة، مثل: التجارة والحرب والجهاد والأمور الصعبة والمشكلة التي تطرأ للإنسان طوال حياته، وتتطلّب مزيدًا من القدرة على التفكير والتعقّل؛ وحيث إنَّ روح المرأة ونفسها اللطيفة إنّما خُلقت للتعامل مع الأمور اللطيفة والظريفة، لذا فهي لا تستطيع أن تتّخذ القرارات المناسبة وكما ينبغي عند مواجهتها لهذه الأحداث، أو قد تنزلق في الخطأ والاشتباه أسرع بسبب وسوسات الأفراد. وكما رأينا في حرب الجمل كيف خدع طلحة وزبير عائشة زوجة رسول الله ورغّباها وشجّعاها على القتال وعلى محاربة عليٍّ المرتضى عليه السّلام.

  • وبالتالي يُمكن الادعاء على وجه اليقين والجزم أنّ الروايات والأحكام التي صدرت في مثل هذه الحالات من علماء الدين ليست عامّةً وتنحصر ببعض المواطن الخاصّة فقط.

  • ونُشاهد نظير هذا الأمر في الروايات التي ذكرت أنّ مخالفة العامّة هي أحد وجوه الرشد وتشخيص الصواب وأنّا سبيل الرشد والصلاح يكون في مخالفة فقه أهل السنّة والفتوى الغالبة لدى أهل السنّة؛ لأنّ مبنى فقه العامّة قائمة على معارضة الفتاوى الصادرة عن أهل البيت عليهم السّلام؛ وذلك كما نَقِلَ صراحةً عن أبي حنيفة، وهذه المسألة هي حيث نحتمل المخالفة مع فقه العامة، وليس في كلّ موطنٍ وفي كلّ حكمٍ. ولذا نرى أنّ العديد من أعاظم الفقهاء كانوا يُلقون نظرةً على فقه العامّة ومصادر رواياتهم قبل إصدار الفتاوى والأحكام، بل وفي بعض الحالات رجّحوا حكمهم وفتاواهم على الحكم المتعارف والوارد من ناحية فقهاء الشيعة.

  • وبالتالي لا يُمكن تبرير مجرّد المخالفة للعامة في كافّة الأمور وكافة الأحكام؛ بل ذلك يكون يسري هذا القانون في المواطن التالية:‌ أوّلًا: حينما يكون هناك تنافي بين فتوى العامّة وفتوى الشيعية. وثانيًا: حينما تكون هذه المنافاة ناشئةً عن أصول التشيّع المسلّمة وتتعارض مع روح الفقه الشيعي.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

171
  • وعلى هذا الأساس يتّضح معنى كلام الإمام عليه السّلام الذي يقول فيه: «شاوِروهُنَّ وخالِفوهُنّ»۱؛ لأنّه أوّلًا: هذه المسألة إنّما تتحقّق عندما لا يصل الفكر إلى نتيجةٍ بعد استشارة الأفراد ممن لهم صلاحيّة الإشارة ومع ذلك يبقى الإنسان في الشكّ والحيرة بين الإقدام على العمل وبين الامتناع عن ذلك. 

  • وثانيًا: في المواطن التي تكون فيها آراء النساء وأفكارهن مختلفةً عادةً عن آراء الرجال وأفكارهم؛ وذلك بسبب هيمنة مشاعر المرأة وطريقة نظرتها إلى تلك الأمور. وبهذا المفهوم يُمكن تفسير نقصان العقل؛ لأنَّ ما يسبب النفور والخروج عن مسير الصواب والطريق القويم ليس العقل النظري والتعامل مع النظريّات؛ بل هو العقل العملي وقوّة خلق فعل الإنسان في الخارج؛ يعني: قد يُقر الإنسان ويذعن بحسن العدل وقبح الظلم مثلًا؛ ولكن في مقام العمل لا يستطيع أن يُنفّذ هذه القاعدة التي أذعن بها كما ينبغي.

  • وبالطبع يجب الاعتراف بأنه لا ينبغي أن نتصوّر في أيّ وقتٍ من الأوقات بأنّ الرجال لا يقعون في الخطأ بتاتًا؛ بل على العكس من ذلك سوف يُواجهون هذا الامتحان وهذه التجربة أكثر من النساء، ولكن المسألة المهمّة هنا هي أنّ خطأ الرجال في هذه المواطن ناجمٌ عن المعرفة والاطلّاع والعلم والشعور، وإذا أراد الشخص الخروج عن الطريق القويم وأن يسلك سبيل الانحراف والهلاك، فسيكون ذلك راجعًا إلى العناد وعن سابق إصرارٍ وتصوّر؛ وهذه المسألة مشهودةٌ وملموسةٌ بوضوحٍ في القضاء والمحاكمات عبر التاريخ؛ لكن التزلزل أو بتعبير القرآن الضلال لدى النساء قد يكون لا إراديًا وبسبب سيطرة الإحساس ودخول التخيّلات والتوهّمات وليس بسبب العناد والاستكبار. ولهذا السبب، تعتبر شهادة امرأتين مساوية لشهادة رجلٍ واحدٍ.

    1. عوالي اللآلي، ج ۱، ص ٢۸٩.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

172
  • وهنا نختتم حديثنا وكلامنا بتوضيح وصايا الإمام عليه السّلام، ولا نسمح لأنفسنا بالتجرّؤ والتجاسر أكثر من ذلك أمام محضر العصمة المطلقة؛ ونلتمس بعجز من ولاة الأمر التوفيق والسداد والصلاح والفلاح لجميع الطالبين والسالكي لمدرستهم القويمة.

  • مادح خورشید، مدّاح خود است***که دو چشمم سالم و نامرمد است۱
  • [يقول: إن مدّاح الشمس في الواقع يمدح نفسه، وكأنّه يقول: إنّ عينيّ مفتوحتان وسالمتان، غير مُرمدتين].

  •  

  • والسّلام علينا وعلی جميع عباد الله الصالحين ورحمة الله و بركاته

  • قم المقدّسة، ليلة الأحد التاسع والعشرين من ربيع الثاني من سنة ۱٤٣٢ هجريّة قمريّة

  • الآثم السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني

    1. المثنوي المعنوي، الدفتر الخامس، القسم ۱.

السعادة الأبديّة - شرحٌ إجماليٌّ لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السّلام في حاضرين

173
  • فَهْرَسُ المَصَادِرِ وَالمَرَاجِعِ

  • القرآن الكريم: المدينة المنوّرة (خط عثمان طه).

  • نهج‌ البلاغة: شـرح الشيخ محمّد عبده، ٤ مجلّدات، دار المعرفة للطباعة والنشـر، بيروت.

  • إحياء العلوم: أبو حامد الغزالي، توفي: ٥۰٥ هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، ۱۸ ج. 

  • أسرار الملكوت: آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني، دار المحجّة البيضاء ومكتب وحي، ۱٤٢٦ هـ. 

  • الإقبال بالأعمال الحسنة فيما يعمل مرّة في السنة: السيّد رضيّ الدين علي بن موسى بن جعفر بن طاووس، المحقّق:‌ جواد القيومي الأصفهاني، ٣ ج،‌ مركز النشر التابع لمكتب الإعلام.

  • أقرب الموارد في فصح العربيّة والشوراد: سعيد الخوري الشتروني اللبناني، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، قم ـ إيران، ۱٤۰٣ هـ.

  • إلهي نامه: فريد الدين العطار النيشابوري.

  • الأمالي (الشيخ الصدوق): أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابویه القمي، انتشارات کتابخانه اسلامیه، طبع چهارم، ۱٣٦٢ ه‍. ش، مجلّدٌ واحدٌ.

  • أمثال وحكم: دهخدا. 

  • أنساب الأشراف: أحمد بن يحيى البلاذري، توفي: ٢۷٩، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، طبعة ۱٣٩٤ هـ.

  • انسان موجود ناشناخته: الكسيس كارل.

  • بحار الأنوار: العلاّمة الشيخ محمّد باقر المجلسي، طبع دار الكتب الإسلاميّة (مرتضی آخوندی) طهران ۱۱۰ ج و طبع الوفاء بيروت.

  • البلد الأمين: الشيخ إبراهيم الكفعمي، مكتبة الصدوق، طبعة حجريّة، طهران.

  • تحف العقول: الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرّاني، القرن الرابع الهجري،‌ تصحيح وتعليق: علي أكبر غفّاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، الطبعة الثانية، ۱٤۰٤ هـ. 

  • تهذيب الأحكام: أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (الشيخ الطوسي)، التحقيق: السيّد حسن الخرسان، تصحيح الشيخ محمّد الآخوندي، ۱۰ مجلّدات، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الرابعة، ۱٣٦٥ هـ.

  • توحید علمی و عینی در مکاتیب حکمی و عرفانی: حضرت علاّمه آیة الله العظمی حاج سیّد محمّد حسین حسینی طهرانی، انتشارات حکمت، چاپ اول، ۱٤۱۰ ه‍. ق.

  • ديوان اشعار سنايي.

  • ديوان اشعار شوريدهء شيرازي.

  • ديوان اشعار صائب تبريزي.

  • ديوان خمسه نظامي گنجوی.

  • دیوان خواجه حافظ: مولانا شمس ‌الدّین محمّد حافظ الشیرازي، با تصحیح واهتمام حسین پژمان، نشـر: کتابفروشی فروغی.

  • رباعيات حكيم عمر خيام.

  • عدّة الداعي ونجاح الساعي: أحمد بن محمّد بن فهد الحلّي الأسدي، صحّحه وعلّق عليه: أحمد الموحدي القمّي، كتاب فروشي وجداني، قم.

  • عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية: محمّد بن علي بن إبراهيم الأحسائي المعروف بابن أبي جمهور، قدّم له آية الله السيّد شهاب ‌الدين النجفي المرعشي، تحقيق الشيخ الحاج آقا مجتبى العراقي، مطبعة سيّد الشّهداء قم، الطبعة الأولى، ۱٤۰٣. ه‍. ق.

  • غرر الحكم ودرر الكلم: عبد الواحد بن محمّد التميمي الآمدي، توفي: ٥٥۰ هـ،‌ انتشارات دفتر تبليغات قم، سنة ۱٣٦٦ ش.

  • الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: ابن صبّاغ، توفي: ۸٥٥ هـ، دار الحديث للطباعة والنشر.

  • الكافي: أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الکليني، صحّحه وعلّق عليه علي‌ أكبر الغفّاري، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الثالثة، ۱٣۸۸ هـ، ۸ مجلّدات.

  • كشف الغمّة في معرفة الأئمّة عليهم السلام: ابن أبي الفتح الأربلي، توفي: ٦٩٣ هـ، الناشر: دار الأضواء ـ بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة ۱٤۰٥ هـ. 

  • گلستان سعدی: الشيخ شرف الدين مصلح بن عبد الله السعدي الشيرازي.

  • گلشن راز: الشيخ محمود الشبستري، الناشر: كتابخانه طهوري، طهران، طبع اول ۱٣٦۱ ش.

  • مثنوى شير وشكر: الشيخ البهائي.

  • مثنوی معنوی: مولانا جلال الدين محمّد بن محمّد بن الحسين البلخي الرومي، به خط ميرخاني.

  • المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء: ‌محمّد بن المرتضى المدعوّ بالمولى محسن الكاشاني، صحّحه وعلّق عليه علي‌ أكبر الغفّاري، طبع دفتر انتشارات اسلامى، الطبعة الثالثة ۱٤۱٥ هـ.

  • المرأة في ظلّ الإسلام: مريم نور الدين فضل الله.

  • مستدرك سفينة البحار: الشيخ علي النمازي الشاهرودي، تحقيق: الشيخ حسن بن علي النمازي، الناشـر: مؤسسة النشـر الإسلامي بجماعة المدرسين بقم المشـرّفة، الطبعة ۱٤۱٩ هـ.

  • مسند أحمد: احمد بن حنبل، ٦ ج، دار صادر ـ بيروت، لبنان.

  • مطلع انوار: (دوره مُهذّب و محقّق مکتوبات خطی، مُراسلات و مواعظ): علاّمه آیة الله حاج سیّد محمّد حسین حسینی طهرانی، مقدمه و تعلیقات: آیة الله حاج سیّد محمّد محسن حسینی طهرانی، ۱٤ ج، انتشارات مکتب وحی، چاپ اوّل ۱٤٣۱.

  • معرفة الله: سماحة العلّامة آية الله العظمى الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني، ٣ أجزاء، الناشـر: دار المحجّة البيضاء، ۱٤٢۰ هـ، الطبعة الأولى. 

  • معرفة الإمام: سماحة العلّامة آية الله العظمى الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني، ۱۸ جزء، الناشـر: دار المحجّة البيضاء، ۱٤۱٦ هـ، الطبعة الأولى. 

  • مكارم الأخلاق: الطبرسي، ۱ ج،‌ منشورات الشريف الرضي، الطبعة السادسة ۱٣٩٢ هـ.

  • من لا يحضره الفقيه: الشيخ الصّدوق أبو ‌جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، صحّحه وعلّق عليه: علي أكبر غفاري، منشورات جامعة المدرّسين في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة، الطبعة الثانية.

  • مناجات: خواجه عبد الله أنصاري.

  • نظام حقوق زن در اسلام: الشهيد آية الله مرتضى مطهّري، انتشارات صدرا.

  • نور ملكوت القرآن: العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني،‌ تعريب: حسن إبراهيم، دار المحجّة البيضاء، بيروت‌ ـ لبنان، الطبعة الأولى ۱٤٢۰.

  • هفت اورنگ: جامى.

  • وسائل الشيعة: الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، تحقيق ونشـر مؤسسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التراث، قم المشـرفة، الطبعة الأُولى، ۱٤۰٩ هـ.

  • * * *