المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالولاية والهداية
التوضيح
تناول سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في المحاضرة الرابعة من شرح حديث عنوان البصري مسألة أن هداية الإمام ظاهرية وباطنية، وأنّ حقيقة الإمام عليه السلام هي أن كل شيء فيه، وأنه هو أساس وجود العالم، مشيراً إلى أن الرؤية الظاهرية للإمام ليست هي المطلوب بل المطلوب هو معرفته الباطنية، وأن علم الإمام هو علم حضوري لا حصولي، وكل شيء في عالم الإمكان إنما هو برعاية الإمام عليه السلام الدائمة، ثم تكلم في أن كل علم يتنزل إلينا من خلال الإمام عليه السلام، وأن الحضور الظاهري للإمام والولي ليس ضروريا في السلوك، وختم بأن عمل الإنسان بما يعلم يوصله إلى العلم
هو العليم
إمكانية السلوك في ظل غيبة الإمام والولي
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٤
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
هداية الإمام ظاهريّة وباطنيّة
كان البحث حول حديث عنوان البصري, الذي أتى إلى الإمام الصادق عليه السلام طالباً منه دستور عمل ونصيحة, فنبّهه الإمام إلى أمرين: الأمر الأوّل يرتبط بجهة خارجيّة, والأمر الثاني يرتبط بجهة داخليّة ويعود إلى شؤونه الشخصيّة.
مفاد الأمر الأوّل أنّني [أي الإمام] مقيَّد في علاقتي بك، إذ أنّني أعيش تحت المراقبة، ممّا يحدّ من ارتباطي بك وتواصلي معك: «إنّي رجل مطلوب». وقد وصل الكلام إلى هذا الحدّ, وأنّه لا دخل لحضور أو غيبة الإمام في مسألة الأخذ بيد الإنسان وحركته نحو الكمال؛ فكما أنّ الإمام عليه السلام يُساهم بحضوره وظهوره في رشد الناس وتعاليهم وارتقائهم إلى الكمالات الإنسانيّة والمقصد الأعلى, كذلك المسألة في حالة الغيبة هي بهذا النحو أيضاً من الناحية الباطنيّة، من دون أيّ فارق في البين. وقد تعرّضنا سابقاً لبيان الفرق بين زمان غيبة إمام الزمان عليه السلام (حينما يكون مستوراً عن أنظارنا) وبين حضوره بالنسبة للأشخاص الذين لا يتواصلون معه.
افرضوا أنّ الإمام عليه السلام يعيش في المدينة مثلاً.. ففي عهد الإمام الصادق عليه السلام، كان بإمكان عدد من الأشخاص فقط التواصل معه، وهم الأشخاص الذين يقطنون المدينة، وأمّا الذين كانوا يقطنون المدن الأخرى، فلم يكن لهم ارتباط بالإمام. وبالتالي، ما هو الفارق بين الحضور والغيبة؟ فلو كان المراد هو اللقاء الظاهري, فإنّ أهل بلد واحد فقط هم الذين يُمكنهم الاستفادة من الوجود الظاهري للإمام عليه السلام، وأمّا بالنسبة للمتواجدين بمكّة، أو خارج الحجاز, أو القاطنين في ذلك الوقت في بلاد إيران وما وراء النهر، فما هو حالهم؟ إذ قد لا يتمكّن هؤلاء من رؤية الإمام ولو لمرّة واحدة طوال عمرهم. فهل يعني أنّ طريقهم نحو الله مغلق؟! وأنّ الطريق إلى الله منحصـر بخصوص القاطنين في المدينة فقط؟! هذا كلام غير موزون أبداً..
إنّ ارتباط الإنسان بالله ليس مادّياً حتّى يحتاج إلى الحضور, بل هو ارتباط قلبي وملكوتيّ, وفي عالم القلب والملكوت لا وجود للبعد الزماني ولا المكاني؛ فالزمان والمكان هما ظاهرتان من ظواهر عالم الطبع والمادّة, ولا دخل أصلاً للزمان والمكان في حركة الإنسان نحو الكمال ـ وهي حركة في طول العوالم الوجوديّة للإنسان ـ فالذي يحدث مع السالك حين حركته إلى الله هو عبارةٌ عن عبوره من عوالم الغيب، وهي عبارة أخرى عن ملكوت الإنسان، وفي عالم الملكوت لا أثر أصلاً للبعد الزماني والمكاني هناك. نعم، سوف نبيّن في الجلسات اللاحقة إن شاء الله، كيفيّة اطّلاع الإمام عليه السلام وكيفيّة هداية مقام الولاية، غاية الأمر أنّنا سنتعرّض هذه الليلة لبيان هذه المسألة بشكل عابر ومجمل.
حقيقة الإمام عليه السلام كون كلّ شيء فيه
فوجود الإمام المبارك عليه السلام هو الكتاب المبين {وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين} ۱, أو {في كتاب مبين}, والمراد بـ الكتاب المبين هو الإمام ونفس المعصوم, و{كلّ شيء} هو عبارة عن كلّ ما سوى الله. وكلّ ما يطلق عليه أنّه شيء قد تمّ إحصاؤه في الإمام المبين, والإحصاء يعني الجمع, أي أنّ الله تعالى قد جمع كلّ الأشياء في الإمام المبين، وجعلها هناك. فنحن لا نرى من الإمام إلاّ بدناً, حيث نراه واقفاً إلى جانبنا ببدنه المُلكي, بينما تختبيء في داخله حقيقةٌ هي العلّة في الخلقة والعلّة في دوام خلق جميع الموجودات التي يُطلق عليها ما سوى الله. فجميع الموجودات بالعلم الحضوري.. أي تماماً كما يشعر الإنسان بوجود نفسه ويحسّ بملكاته ويشعر بغرائزه، بحيث لا تحتاج أن يخبرك أحد بأنك أنت تمتلك حافظة؛ لأنّك ستقول له: أنا بنفسي أعلم هل أمتلكها أم لا. كما لا تحتاج أن يقول لك أحد: يا سيّدي، إنّك تمتلك هذه الخصائص النفسانيّة؛ لأنّك ستقول له: أنا أعلم أفضل منك هل أمتلكها أم لا!
فحالة الوجدان والإدراك لملكاتكم وغرائزكم وصفاتكم.. التفتوا جيّداً، هل يوجد شخص أقرب منّا إلى هذا الإدراك الذي نمتلكه، أم لا يوجد؟ لا يوجد بالطبع! فحينما يذهب المريض إلى الطبيب, فكلّ ما يتمكّن الطبيب من فعله هو أن يطّلع على المرض الذي أُصيب به ذلك المريض, ولا يستطيع أن يُدرك أكثر من ذلك، فهل يُمكنه أن يحسّ أيضاً بالألم الذي يُعاني منه المريض؟ بالطبع لا؛ لأنّ ذلك الألم داخل المريض، وهو الذي يشعر بالألم, فمهما كان الطبيب ماهراً وحاذقاً، فهو إنّما يمكنه أن يُشخّص موضع المرض ليس إلاّ, كأن يُصاب المريض ـ مثلاً ـ بالتهاب الزائدة الدوديّة، فيأمر الطبيب بإجراء عمليّة جراحيّة فوريّة، وإلاّ فإنّ حياة المريض تكون في خطر. ولو كان في غاية الحذاقة والمهارة, فإنّه سيعرف بأنّ شحوب لون هذا المريض هو بسبب انسداد شريان القلب الذي لا يسمح ـ من باب المثال ـ بوصول الأكسيجين إلى الرئة وغير ذلك، فيُؤدّي إلى شحوب لون ذلك المريض.. هذا إذا كان ماهراً جدّاً! لكنّه لا يستطيع أن يُدرك الألم الذي يُعاني منه والوجع الذي يحسّ به ذلك المريض؛ لأنّه أمر خارج عن اختياره. وعليه، فإنّ المريض أكثر شخص يُمكنه أن يشعر بهذا الألم الذي أصابه..
هل هذا واضح؟ هل فهمتم المسألة بشكل تامّ؟! فبالنظر إلى هذا الأمر, أقول إنّ الإمام عليه السلام هو الشخص الذي يكون أقرب إلى المريض من شعوره بهذا المرض.. هذا هو الذي نُسمّيه بالإمام! يعني كما أنّني أشعر في أعماق وجودي بهذا الألم، ولا يوجد من هو أقرب منّي في هذا الشعور والإدراك ـ وهذا أمر لا ريب فيه بتاتاً ـ فإنّ الإمام عليه السلام ـ من خلال الإحاطة العليّة والولائية التي يتمتّع بها ـ هو أقرب إليّ من إحساسي بهذا الألم.
الإمام عليه السلام هو أساس وجود العالم
فحينما تريد أن تأخذ صورة لوثيقة معيّنة، فتضعها ـ من باب المثال ـ في الآلة الناسخة، فتستنسخ منها صورة، ثمّ تحتفظ بالوثيقة الأصليّة لكيلا تكون عُرضةً للأوساخ وبعض الأمور التي تُؤدّي لتلفها، فتستنسخ من تلك النسخة نسخةً أخرى، وإلاّ لو كان مقرّراً أن يستعمل الإنسان الكتاب الأصلي بشكل متكرّر في الاستنساخ لأدّى ذلك إلى تلفه. ولهذا، فإنّهم يستنسخون صورة واحدة عن ذلك الأصل، ثمّ يضعونه جانباً، ولا يستعملونه بعد ذلك. وفي عالم الخلقة، فإنّ النسخة الأصليّة لظاهرة الخلق هو وجود الإمام.
وقد سعيت لبيان هذه الأمور حتّى تتّضح نوعيّة الارتباط القائم بيننا وبين الإمام, فالنسخة الأصليّة هو الإمام, ونحن نسخ مصوّرة، أي أنّنا في ارتباطنا بصفاتنا وخصائصنا لسنا إلاّ نسخ مصوّرة.. فجميعنا نسخ مصوّرة. وأمّا النسخة الأصليّة، فهو وجود الإمام عليه السلام ونفسه المباركة التي تتمتّع بالإحاطة العلّية، أي أنّه العلّة لهذه النسخة المصوّرة، هذا مع أنّ هذه النسخة المصوّرة لها بدورها نسخ مصوّرة أخرى، كأن يأخذونها ـ فرضاً ـ إلى الآلة الناسخة فيستنسخون منها صورة.. صورة عن معدة الإنسان، فماذا تكون هذه النسخ؟ تكون نسخ متوالية.. نسخة بعد أخرى. هذا فيما يخصّ بدن الإنسان، وكذلك لو كانت لدينا آلة يمكنها أن تأخذ صورة عن روحنا وصفاتنا وملكاتنا، فإنّ جميع ذلك لن يعدو كونه استنساخ عن صورة مستنسخة. والعجيب في الأمر أنّ نفس هذه الصورة المستنسخة ترجع في أصلها إلى وجود الإمام عليه السلام... لقد صارت المسألة دقيقة ورفيعة جدّاً، فلا نطيل فيها هنا أكثر من ذلك. فهذه الحقيقة هي حقيقة الإمام, {وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين}, حيث عُبّر في الروايات ـ في ذيل هذه الآية ـ عن الإمام المبين بأنّه هم المعصومون عليهم السلام بعينهم.
وتوجد هنا عبارة ورواية عن إمام الزمان عليه السلام يقول فيها: بناءً على التقدير والمشيئة الإلهيّتين، فقد غبنا, والمشيئة الإلهيّة هي التي اقتضت ذلك, ولو سألنا لماذا اقتضت المشيئة الإلهية ذلك؟ فالله هو العالم ونحن لا نعلم.. لماذا ينبغي على الإمام أن يكون غائباً؟ الله هو الأعلم, نعم، لقد وردت بعض المسائل حول هذا الأمر, لكنّها ترجع في حقيقتها إلى مشيئة الله، بيد أنّ الكلام يبقى حول أنّ الإمام عليه السلام يقول: إنّ غيبتي هذه لا أثر لها أبداً في العلاقة القائمة بيني وبينكم، وبينكم وبين الله تعالى.. «نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين...» يقول الإمام: حتّى وإن كنّا غائبين عنكم من الناحية الظاهريّة, وبعيدين عنكم ببدننا العنصري, وأنّنا قد ابتعدنا عن مساكن الظالمين, فإنّ ذلك جرى بحسب المصلحة الإلهيّة سواءً لنا أم لشيعتنا؛ فالمصلحة الإلهيّة تقتضي أن نبقى بعيدين عن الناس ما دامت دولة الدنيا بيد الفاسقين. لكن متى تقتضي هذه المصلحة الظهور؟ هذا أمر نجهله, وغير مطّلعين على وقته؛ إذ ينبغي على الناس أنْ يكونوا مستعدّين لظهور الإمام, وواقفين على حقيقة الفراغ الذي يُشكّله عدم التواصل مع الإمام عليه السلام بالنسبة إليهم. نعم، يبقى أنّ هذه المسألة مختصّة بعوامّ الناس، وأمّا بالنسبة للخواصّ، فلا فرق لديهم بين الظهور والغيبة.
الرؤية الظاهرية للإمام ليست هي المطلوب بل المعرفة الباطنية
ذات يوم، رجوتُ من المرحوم الحدّاد أن يعطيني عملاً أو دستوراً أو برنامجاً أو شيئاً للتشـرّف برؤية الإمام عليه السلام, وقد كان عمري حينئذٍ يبلغ سبعة عشر عاماً ـ وذلك في السفر الثاني الذي تشرّفنا فيه بزيارة العتبات المقدّسة بعد الرجوع من الحجّ مع المرحوم الوالد رضوان الله عليه ـ، نعم، لم يكن طلبي جدّياً!! فأنا أريد أن أعترف لكم هنا بالحقيقة.. لقد كان أمراً ذكرناه هكذا.. رمية من غير رامٍ.. فإن أعطانا شيئاً، فبها ونعمت، وإلاّ فلن يُحرّك ذلك فيّ أيّ شيء. فتبسّم السيّد الحداد ابتسامةً مليحةً جدّاً وقال: إذا كنت تريد أن ترى الإمام بظاهره, فخذ هذا البرنامج ـ فذكر لي شيئاً ـ، ولكن اعلم أنّ رؤية الظاهر لا تُفيد شيئاً. قال: إذا كنت ترغب في ذلك، فتعال وقل هذا الذكر أربعين ليلة ـ أو عشـرين ليلة ـ وسترى الإمام, بل يمكنك أن تتحدّث معه أيضاً.. ولكنّ الرؤية الظاهريّة لن تُفيدك شيئاً؛ فالمهمّ بالنسبة إليك هو أن يكون باطنك متّصلاً بالإمام. وأنا بدوري رأيت أنّه لا قدرة لي على تحمّل هذه الأذكار، فأعرضت عن المسألة.
فحينما يقول مثل هذا العظيم بأنّ رؤية الإمام الظاهريّة ليست بذات أهميّة لي... فهؤلاء الذين كانوا يرون النبيّ الأكرم ماذا استفادوا من ذلك؟! هذا مع أنّ النبيّ الأكرم هو أعلى وأعظم من صاحب الزمان عليه السلام. فأين ذهب أولئك الذين كانوا يأتون عند النبيّ، ويمسحون رؤوسهم ووجوههم بماء وضوئه، بعد وفاته عندما جاؤوا إلى منزل ابنته وأحرقوا بابه؟! أين كان هؤلاء؟! وأين ذهبوا؟! وأولئك الذين كانوا يذهبون خارج المدينة لعدّة فراسخ من أجل استقبال النبيّ عند رجوعه من غزوة أو سفر، أين كانوا حينما وُضع الحبل في عنق أمير المؤمنين واقتيد إلى المسجد بتلك الطريقة؟!! كلّ ذلك ليس ملاكاً.. المعرفة هي الملاك, ومن هم الذين كانوا يمتلكون المعرفة؟ هم ثلاثة أشخاص.. سلمان وأبو ذرّ والمقداد.. ولو أردتم أن تسمعوا منّي الحقيقة: لقد كان شخصاً واحداً فقط، وهو سلمان. فأولئك كانت لديهم معرفة وصمدوا وثبتوا على مواقفهم، إلاّ أنّ سلمان كان شيئاً آخر!
علم الإمام علم حضوري لا حصولي
بعد ذلك يقول الإمام عليه السلام: «فإنّا نحيط علماً بأنبائكم, ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم..» أي أنّه لدينا إحاطة علميّة بأعمالكم, فأيّ شيء تريدون القيام به, فعلمه عندنا. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه حينما أتحدّث معكم الآن، فإنّ النسخة الأصليّة لهذا الكلام موجودة في نفس الإمام! حينئذٍ هل يُمكننا أن نتصوّر من الأساس أن نأتي ونسأل الإمام: يا بقيّة الله، يا إمام الزمان، هل أنت مطّلع على أحوالنا؟ هل تعلم شيئاً عنّا؟ هل تُعاين توسّلاتنا؟ إنّ النسخة الأصليّة لهذا الكلام موجودة الآن هناك, والمسألة التي أتحدّث عنها هي معلولة لتلك النسخة الأصليّة، وبمثابة الوجود المتنزّل عنها.
وهذا يعني أنّ علم الإمام ليس علماً حصوليّاً, فالعلم الحصولي يعني أن يكون الإنسان خالي الذهن بالنظر إلى مسألة من المسائل، ويكون ذهنه خالياً على مستوى تصوّراته وتصديقاته؛ ولهذا من اللازم أن يأتي شخص ليذكر له تلك المسألة أو يفتح كتاباً ليفهمها.. فهذا هو ما يُسمّى بالعلم الحصولي.. وأمّا عندما يكون الإمام عليه السلام غائباً عنّا وفي نفس الوقت يقول: نحن لدينا إحاطة علميّة بأعمالكم, ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم, فما هو هذا العلم؟ هذا العلم ليس حصوليّا بل هو علم حضوريّ؛ لأنّه في العلم الحصولي يحتاج الإنسان لأن يكون على اتّصال بالطرف الآخر, وعلى ارتباط بتلك المسألة, وأمّا هذا العلم فهو حضوري، والعلم الحضوري يعني أن يكون لنفس الشيء ونفس تلك الحادثة حضوراً عينيّاً في وجود الإنسان؛ وهنا يحدث اتّحاد للعلم والمعلوم بالعين الخارجيّة على مستوى نفس الإمام.
رعاية الإمام عليه السلام الدائمة لعالم الإمكان
بعد ذلك يقول الإمام عليه السلام: لقد تخيّلتم أنّنا أهملناكم.. كلّا: «إنّا غير مهملين لمراعاتكم, ولا ناسين لذكركم, ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء, واصطلمكم الأعداء».. وإلاّ فهل تتصوّرون ما الذي سيحلّ بكم؟ فنحن نستيقظ من النوم صباحاً، ونرتدي اللباس، ونخرج للعمل ونرجع، ونقوم بكلّ هذه الأعمال ونحن غير مدركين لحقيقة ما يفعله ذلك الإمام الجالس في تلك الناحية من العالم.. مرتاحين وفي غفلة تامّة، مثل ذلك الطفل الذي يقول لوالده: أبي العزيز، ألا تسافر بنا إلى ذلك المكان؟ فيقول له: بلى، نسافر. فيُركبه السيّارة ويأخذه إلى الطائرة وينقله بعد ذلك إلى ذاك المكان, لكنّ الطفل لا يعلم ما الذي قام به هذا الأب؛ فقد ذهب للعمل واجتهد في توفير المال وتهيئة جواز السفر، وأخذ جميع المسائل بعين الاعتبار، ورفع الموانع، وفعل وفعل. فيأتي ذلك الولد ويقول: لقد أركبني أبي السيّارة وأخذني إلى ذلك المكان وأرجعني! لكنّه لا يعلم حجم المتاعب المهلكة التي تكبّدها ذلك الأب..
ونحن بدورنا نستيقظ صباحاً من النوم، ونذهب إلى العمل, أفهل نحن على اطّلاع بالحوادث التي تقع على مدى الطريق الذي نطويه في ذهابنا للعمل؟ وبتلك التقلّبات التي تحصل؟ وتلك المسائل التي يحويها عالم القضاء والقدر؟ وتلك الحوادث التي يُمكن أن يصطدم بها الإنسان؟ وأولئك الجنود الذين يريدون إحداث الخلل وإيجاد العوائق في مسيرته؟ فمن الذي يُنظّم كلّ ذلك ويصنعه ويرفع الموانع؟ من الذي يقوم بكلّ هذه الأعمال؟ لا اطّلاع لنا نحن على شيء من ذلك! ويكفي أن نعلم بأنّه لو انكشف سرّ الملكوت للإنسان للحظة واحدة من دون أن يكون له استعداد نفسي لذلك، فإنّ بدنه لن يقوى على ذلك وسيمضحلّ من الأساس، وسيُفضي ذلك بشكل عامّ إلى اختلال النظام الإنساني بأجمعه.
ولهذا، فإنّهم يأتون بالإنسان ويمنحونه السعة والقابليّة والقدرة بالتدريج لكي يتمكّنون من إراءته شيئاً من الأشياء. ثمّ يحرّكونه مرّة أخرى إلى الأعلى والأسفل، ويظهرون له شيئاً.. فهم لا يكشفون [عن الحقائق والأسرار] هكذا ومن دون سبب! بل يعمدون إلى فرك الآذان قليلاً ۱، ويضغطون عليها، ثمّ يدعونها، بعد ذلك يضغطون مرّة أخرى قليلاً لكن أشدّ، وهكذا... . وخلاصة الأمر، فإنّهم يُرافقون الإنسان في الطريق ويضعون بعضاً من الحلوى والسكاكر في فمه، فيتحرّك قليلاً، ثمّ ماذا بعد؟ خلاصة القول، أنّهم أفضل من يعلم بحقيقة الأمر، ونحن لا نعلم شيئاً! فالأمر لا يحصل هكذا ومن دون سبب. فلنكل الآن الحديث عن هذه المسائل إلى المستقبل إن شاء الله، فأنا لا أريد أن أُخيفكم الآن؛ لأنّه لا يُستحسن ذلك الآن، ولنتحدّث عن المواضيع العذبة، مع أنّ هذه المسائل هي جميلة بأجمعها.
عاشقم بر لطف وبر قهرش به جِدّ | *** | اى عجب من عاشقِ اين هر دو ضدّ۱ |
فكلّها أمر واحد. حينما يكون المقصد واحدا، فما هو الفرق بين الطريق الصعب والسهل، ما دام المقصد سينتهي إلى موضع واحد؟!
يقول الإمام المجتبى عليه السلام: لو يعلم المؤمنون ما الذي قدّره الله لهم من النعم عندما يرحلون إلى ذلك العالم.. إلى الآخرة، لقالوا: ليت الله قد ابتلانا في هذه الدنيا أكثر!! فنحن الآن نعيش في حالة إغماء، ونعاني من الدوار، ولا اطّلاع لدينا، ولا نعلم بما يجري من أمور وحوادث.. ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء, واصطلمكم الأعداء..
مقام الولاية للإمام هو الإحاطة العلية والواقعيّة بجميع الأمور وتنزل كل شيء من خلاله
فهذا المقام هو مقام الولاية, إذ الولاية تعني الإحاطة العلّية والواقعيّة بجميع المقدَّرات والنفوس, والولاية تعني طريقة تدبير حقيقة التوحيد ونزولها في عالم الكثرة؛ فحينما تريد حقيقة التوحيد أن تتنزّل إلى عالم الكثرة, فإنّها تتوزّع وتتراكم وتنبسط، وحينما يريد العلم الإلهي أن يتنزّل إلى عالم الكثرة وينزل إلى الأسفل, فإنّه يصل إلى جبرائيل والأنبياء والنفوس المقرّبة بنحو معيّن, ويصل إلى الملائكة بنحو آخر, وإلى الأرواح بنحو ثالث، فيتنزّل بهذا الشكل حتّى يصل إلى الجميع... فيصل إلى الإنسان بشكل معيّن، وإلى الحيوان بشكل آخر، وإلى الجمادات بشكل ثالث, والنباتات بشكل رابع وهكذا... فجميع ذلك هو علم الله.
يتجلّى هذا العلم في الحيوان، فيسعى لتهيئة غذائه ومعاشه، ويتجلّى في النحلة والبعوضة والحشرات والحيوانات والوحوش.. فتتنزّل جميع هذه العلوم وتتوزّع.. فلا اطّلاع للذبابة على العلم الذي لدى النحلة, ولا اطّلاع للبعوضة على العلم الذي لدى الذبابة, ولا علم للفهد بتلك الخصوصيات الموجودة في الأسد، وكذلك الأمر بالنسبة للفيل والغنم والبقر.. فكلّ هذه الموجودات لديها علوم مختصّة بها ولا اطّلاع للإنسان عليها. فيأتي هذا العلم وينتشر ويتوزّع في الكثرة، فمن المسؤول عن جميع تنزّلات هذه العلوم وعن السير النزولي لهذا العلم الإلهي ـ ولاسم الله العليم ـ في مظاهر عالم الكثرة؟ المسؤول عنه هو الإمام عليه السلام.
أديسون له عبارة جميلة ـ يبقى أنّ فهمه محدود بمقدار وسعه ـ يقول فيها: إنّ الاختراع عبارة عن ٩٩ بالمائة من السعي والبحث, و۱ بالمائة من الإلهام. نحن نقلب المسألة ونقول: ٩٩ بالمائة إلهام و۱ بالمائة سعي, لأنّ كلّ سعي هو نتيجة للفكر، والفكر يؤدّي إلى السعي, والسعي يجلب الفكر, وذلك الفكر يولّد السعي، وهكذا إلى أن يصل إلى نتيجة. وقد سُئل آينشتاين: كيف كنت تصل إلى تلك الاكتشافات؟ فقال: لا يُسأل الاكتشاف عن كيفيّة حصوله! بل هو عبارة عن شرارة تُصيب الإنسان!! حيث تكون جالساً، فتقدح هذه الشرارة، لكن من الذي قدح هذه الشرارة؟! لا علم لك بذلك! من الذي يأتي ويُلهم هذا الفكر؟ هذا هو الذي يُقال عنه أنّه من توزيع مظهر الاسم "العليم"، والذي يدير ذلك العلم ويُفيضه على كلّ ظرف بحسب قابليّته الخاصّة هو الإمام عليه السلام. هل هذا واضح؟
يُقال بأنّ أحد العلماء قال ـ في يوم من الأيّام ـ أثناء درسه: من غير المعلوم أن يكون لحضـرة أبي الفضل وأمثاله اطّلاع على هذه المسائل التي نقرؤها ونباحثها الآن! يعني (والتوضيح منّي أنا): إذا أردنا أن نحترم في هذه المسألة أحداً، فإنّنا نحترم الإمام عليه السلام؛ لأنّ علمه لدنّي، ولا مفرّ لنا من هذا الأمر، وأمّا بالنسبة لحضرة أبي الفضل, فغاية الأمر أنّه كان إنساناً صالحاً.. عبداً صالحاً أتى إلى كربلاء لينصر أخاه وغير ذلك...
وأمّا هذه العلوم التي نمتلكها، فلا يحصل عليها الإنسان إلاّ بمشقّة الأنفس من خلال السعي والمطالعة وأمثال ذلك.. فكان ذلك العالم يذكر لتلامذته هذه الأمور، ويبدو أنّ ذلك حصل في زمن الميرزا القمّي. وفي الليل، يرى ذلك العالم أبا الفضل في المنام، فيقول له: حسناً، تعال لنرى ما عندك! فيطرح عليه مسألة أصوليّة، ويشرع في البحث، لكنّه لا يحير جواباً منذ البداية. وحينما يستيقظ في الصباح، يبدأ في الاستغفار، وغير ذلك.
كل علم يتنزل إلينا من خلال الإمام عليه السلام
فنحن نتصوّر أنّ هذه الأشياء التي حصلنا عليها وهذه العلوم التي وصلنا إليها قد جاءتنا من بيت خالتنا! كلّا يا عزيزي! عليك أن تعلم أنّه قبل أن تشرع في بيان هذه الأمور التي توصّلت إليها، بأنّ نسختها الأصليّة موجودة هناك. فمن ذلك المصدر وضعوها في عقلك وقلبك، فماذا كنت تظنّ؟
يُقال بأنّه في يوم من الأيام, كان أحد علماء طهران.. وقد كان منزله يقع في متنزّه المدينة ولديه حوزة في تلك المنطقة، حيث كان يعطي درساً هناك والظاهر أنّه في اللمعة. ففي أحد الأيّام أورد إشكالاً على المرحوم الشهيد الأوّل أو الشهيد الثاني.. وكلاهما من العظماء، سواءً تعلّق الأمر بالشهيد الأوّل أم الثاني, غاية الأمر أنّ الشهيد الثاني ـ بحسب ما يظهر من حالاته وأحواله ـ كان أقوى من الشهيد الأوّل في المسائل العرفانيّة, غير أنّ كلاهما كان من العلماء والأخيار والعبّاد والصلحاء والأولياء والعظماء.. وكلّ ما نقوله عنهم قليل في حقّهم, ومن الواضح أساساً أنّ الإنسان حينما يقرأ اللمعة ويطالع فيها، فإنّه يُلاحظ امتلاكها لنورانيّة خاصّة قلّ ما يُشاهدها في بقيّة الكتب الفقهيّة, وهذا من أثر نفوس هؤلاء العظماء الذين كتبوا هذه الكتب, وإلاّ فإنّ نفس هذه الاستدلالات موجودة في كتب أخرى.. فيخطر ذلك الإشكال في ذهنه، ثمّ يعترض على الشهيد الأوّل بأسلوب السخريّة، أي بعبارات نظير: كان من الأفضل أن تطالع أكثر قبل أن تكتب هذه المطالب, أو أنّه كان يُبيّن ذلك بطريقة غير لائقة. وحينما كان يلقي درسه، كان أحد الدراويش جالساً في جانب من المجلس منشغلاً بنفسه. ولمّا انتهى الدرس, رجع ذلك العالم إلى منزله، وحينما حلّ الليل وأراد أن يُحضّر لدرس الغد, وفتح الكتاب, اكتشف أنّه كلّما أراد أن يُطالع الكتاب، لم يستطع أن يفهم منه شيئاً, ولم يقدر على فهم أيّ شيء من الأساس. ماذا؟ إنّه لعجيب جدّاً هذا الأمر! فكأنّه صار مثل طفل في الصفّ الأوّل، فلم يكن يفقه شيئاً! ما الذي يعنيه هذا الأمر؟ وقد حصل معي أنا أيضاً وحلّ بي نفس هذا الشيء الذي أحدّثكم عنه، حيث كنت أدرس سابقاً اللمعة وغير ذلك, فخطر ببالي أمرٌ ما، وحينما وصلت إلى إحدى العبارات، لم أتمكّن من قراءتها مهما حاولت، هذا مع أنّني كنت أدرّس اللمعة، فكلّما حاولت أن أدقّق النظر فيها، لم أفهم منها شيئاً! وكانت عبارة «لكنّه»، حيث كنت أقرؤها «لَكْنَه، لِكْنَه»، وإذا قرأناها بهذا الشكل، فلن يكون لها أيّ معنى، فبقيت حائراً هكذا. وخلاصة القول، أنّني ذهبت للنوم تلك الليلة في المدرسة وأنا منزعج. وفي الصباح، كنت خجلاً من نفسي، فأنا الذي... كيف لا أفهم ذلك؟ وفي الصباح، كان يتواجد أحد الطلبة هناك، وأظنّ أنّه كان يقرأ السيوطي ـ فبينما كنت أدرّس أنا اللمعة، كان هو يدرس السيوطي، والرفقاء من الطلبة يعلمون أنّ عدّة سنوات تفصل بين السيوطي واللمعة ـ فحينما أتى، قلت له: تعال يا سيّدي لأرى كيف تقرأ هذه العبارة؟ فاكتشفت فجأةً أنّه يقرؤها بطريقة سلسة جدّاً: ..لكنّه... فمع أنّه لم يكن يفهم معنى العبارة، غير أنّه قرأها «لكنّه». فقلت: يا إلهي، لقد فهمت! فمهما يكن الأمر، غير أنّي فهمت في الأخير.
لقد اكتشف ذلك العالم في الليل أنّه لا يستطيع المطالعة أبداً. وحينما حلّ الصباح قال: لنذهب الآن إلى الدرس بهذه الحالة، ولنر ما الذي سيحصل في الأخير. فذهب في الصباح إلى الدرس وفتح الكتاب، فرأى أنّه لا يُمكنه ذلك ـ وقد كان ذلك الدرويش جالساً هناك ـ فلم يفهم شيئاً! فقال لتلامذته: إنّ حالي اليوم ليست على ما يُرام، ومزاجي لا يسمح لي [بإلقاء الدرس]، فأطلب من الأصدقاء والرفقاء أن نعطّل الدرس إلى فرصة قادمة إن شاء الله. فقالوا له: حسن جدّاً. فقاموا ورحلوا، لكن من دون أن يكون لهم اطّلاع على حال ذلك المسكين. فخرج الأستاذ من المسجد تعتريه حالة شديدة من الحيرة، وخرج من طهران ـ حيث كانت طهران صغيرة آنذاك ـ وتوجّه إلى مزرعة خارج طهران, فجلس هناك مغموماً ومنزعجاً جدّاً ومطأطئاً رأسه يُفكّر في حقيقة هذه المسائل. وفجأةً إذا به يرى ذلك الدرويش جالساً هناك، فقال له الدرويش: السلام عليكم أيّها السيّد! فنظر إليه وقال: يا للهول! لقد كنت مسروراً بوحدتي، فإذا بهذا الشخص يأتي في هذا الموقف الحسّاس.. فقال له الدرويش: كيف حالك؟ لم تقدر اليوم على إلقاء الدرس؟!! لماذا؟ أين ذهب علمك؟!! فقال الأستاذ: ما أعجب البلاء الذي ابتلينا به؟ والحاصل أنّ ذلك الدرويش كان يتحدّث وذلك الأستاذ... ثمّ قال له: يا عزيزي! إنّ إهانة الشهيد ليست بالأمر الهيّن، فهذا العلم الذي منحك الله إيّاه كان ببركة نفس هؤلاء العظماء, فأنت تأتي وتُدرّس كتاب الشهيد، ثمّ تقوم بإهانته! هيّا عاجل بالتوبة وأعلن توبتك، وسيُرجع الله تعالى إليك علمك ـ فقد كان الدرويش هو من أخذ منه ذلك ـ وخلاصة الأمر أنّ ذلك المسكين أحسّ فجأةً بأنّه صار يعلم، ورجع إلى حالته السابقة، وشعر بأنّه يفهم المسائل.
فالمراد ـ والحال هذه ـ أنّ هذه العلوم تخضع لنظام خاصّ وتدبير معيّن. وهذا الذي ذكرناه كان متعلّقاً بالعلم، ويُمكنكم أن تقيسوا ذلك على ما تشاؤون.. ونحن نرغب في هذه الليلة أن نكمل ـ إن شاء الله تعالى ـ هذه الفقرة ولو بهذا المقدار...
فنفس الشيء يُقال بالنسبة للقدرة والحياة والعلم. فنحن نُلاحظ الآن في أنفسنا قدرة, أفهل نمتلك القدرة أم لا؟ أجل نمتلكها. فحينما أرفع الآن هذا الكوب، فإنّ ذلك يحصل بواسطة ما لديّ من قدرة, فمن أين أتت هذه القدرة؟ فثمّة هناك مدير ومدبّر يتلقى تلك القدرة من الله تعالى ويجعلها فيّ بذلك المقدار المحدّد لا أقلّ ولا أكثر. فنفس تلك اليد الخفّية تأتي لتتلقّى القدرة من الله تعالى وتضعها في زيد وعمرو، وتضعها في البعوضة والنحلة، وتضعها في البارود والقنبلة الذريّة والنوويّة والطاقة المحرّكة والأفلاك والأجرام السماويّة وتضعها في الملائكة المقرّبين.. تجعلها في جميع ما سوى الله كلٌّ بحسب قابليّته من دون زيادة أو نقصان. تلك اليد هي الإمام عليه السلام.
فإذن، عرفنا الآن بأنّ النسخة الأصليّة الأولى موجودة هناك، وأنّنا مجرّد صور مستنسخة، بل نحن لسنا حتّى صور مستنسخة، إذ أنّ الصورة المستنسخة عبارة عن وجود مستقلّ عن تلك النسخة الأصليّة. فحينما يضع الإنسان الورقة في جهاز الاستنساخ من أجل الحصول على نسخة فإنّ تلك الورقة تخرج من الجهاز، فنحصل على ورقتين: النسخة الأصليّة والصورة المستنسخة، لكن يبقى أنّنا لسنا حتّى صور مستنسخة.. ولنكل الآن البحث حول هذه المسألة إلى وقت آخر إن شاء الله تعالى.
الحضور الظاهري للإمام والولي ليس ضروريًّا في السلوك
بناء عليه, فإنّ حضور الإمام عليه السلام لا يُعدّ شرطاً في السير والسلوك إلى الله, وحضور الولي لا يُعدّ شرطاً كذلك, وحضور الوصيّ أيضاً, فما هو الشرط إذاً؟ هو أن تُخلص قلبك لله.. هذا هو الشرط! وأن تكون مسلّماً لرضا الله تعالى.. هذا هو الشرط وحسب! فالمطلوب منّا هو أن نقول: يا إلهي، لقد سلكنا طريقك، وأماّ بالنسبة لبقيّة الأمور، فأنت أعلم منّا بذلك. فمن الممكن أن يكون حضور الولي في غير صالح الإنسان.. من أين لنا أن نعلم؟! إذ من الممكن أن يكون الارتباط بالوصيّ ليس بنفع الإنسان.. فلا اطّلاع لنا على ذلك.
فهل تتصوّرون أن يكون لتلك المسائل الخارجة عن اختيار الإنسان دخلٌ في رشده وتكامله؟ [لو كان الأمر كذلك] لكان هو الظلم بعينه، ولكان ذلك مجانباً للعدل؛ لأنّ تلك المسائل خارجة عن اختيارنا! أفهل وضع العظماء أيديهم منذ البداية في يد الوليّ؟! لا يا عزيزي، لم يكن الأمر بهذا الشكل! فقد طووا العديد من المراحل. فكلّ إنسان يمتلك ـ بحسب المصلحة التي يعيّنها الله تعالى له ـ طريقاً ومنهجاً خاصّاً به، بحيث يكون لكلّ شخص مسلكاً مختلفاً عن الآخرين، والمهمّ في هذا الأمر هو أن نعمل بما نعلم.
عمل الإنسان بما يعلم يوصله إلى العلم
في أحد الأيّام أتى جماعة من علماء النجف عند السيّد علي القاضي يريدون منه أن يعطيهم برنامجاً ودستوراً عمليّاً, فذكر لهم المرحوم القاضي عبارةً رائعة وجذّابةً جدّاً, حيث قال لهم: هل عملتم بما تعلمون، وبما تبيّن لكم من الشرع وما يجب العمل به من التكاليف لكي تسعوا الآن وراء الأمور المجهولة؟! أم أنّكم لم تعملوا بها؟ إنّها عبارة عجيبة جدّاً! أليس هناك صدق في الإسلام أم لا؟ ألا ينبغي على الإنسان أن يكون صادقاً؟ فهل التزمنا نحن بهذ الحكم والقانون الفطري؟! أفلم نرتكب الكذب في حياتنا؟ أفهل التزمنا بهذا القانون حينما أحسسنا بوجود خطر على مصالحنا؟ هل عملنا بما تفرضه علينا الفتوّة والشهامة؟ وهل التزمنا بالإيثار والإنفاق؟ وهل التزمنا بأداء ما فُرض علينا من واجبات ومستحبّات وبقيام الليل وصلاة الليل واليقظة بين الطلوعين.. حتّى نسعى الآن وراء الأمور المجهولة؟! إنّنا لم نعمل ولو بمعشار ذلك!
يقول المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه وروحي له الفداء ـ: كنت في النجف بين مجموعة من العلماء، فدار الحديث حول قيام الليل، فقيل بأنّ صلاة الليل واليقظة بين الطلوعين وما شابه ذلك هي للعاطلين عن العمل، وأمّا بالنسبة إلينا نحن العلماء، فعلينا أن ندرس ونطالع، ومن المفروض علينا أن نتباحث في الغد ونواجه التلاميذ، فلا يبقى للإنسان أيّ مجال ـ مع هذه المطالعة وما شابه ذلك ـ للاستيقاظ وأداء صلاة الليل؛ فهذه الأمور تتناسب مع الأشخاص العاطلين الذين كانوا على عهد الرسول.. فهؤلاء لم يكونوا يشتغلون بأيّ شيء.. لا رواية، ولا درس، ولا بحث.. فكانوا يأتون في الصباح لرؤية النبيّ، ثمّ يذهبون لأداء أعمالهم، وينامون في أوّل الليل، ولذلك كانوا يتمكّنون من أداء المستحبّات. وأمّا الذي يريد أن يذهب للدرس في الغد، فعليه أن يُطالع لساعتين أو ثلاث ساعات، فلا حاجة لمثل هذا الشخص في صلاة الليل من الأساس! ثمّ قال [المرحوم العلاّمة]: فنظر إليهم أحد السادة العلماء ـ من الذين كانوا حاضرين هناك وكان من أصحاب الرياضة وقيام الليل، وقال: أتشربون النرجيلة؟ وقد كان من عادتهم هناك أن يُدخّنون النرجيلة، حيث يأخذ منهم تدخين كلّ نرجيلة نصف ساعة أو ساعة من الزمان، يتحدّثون خلالها ويتمازحون فيما بينهم، فقالوا: نعم. قال لهم: هل بلغ بكم عدم الاهتمام بصلاة الليل إلى هذا الحدّ، بحيث أنّكم لا تستطيعون أن تتركوا تدخين النرجيلة لنصف ساعة وتستيقظون بدل ذلك قبل الأذان؟! بمعنى أنّ النرجيلة هي أهمّ عندكم من صلاة الليل؟!
نعوذ بالله تعالى من ذلك اليوم الذي يأتون فيه بسجلّ الإنسان ويعرضونه عليه، عندئذٍ سنكتشف أنّ جميع ما نقوله مصاب بالنقص والاعوجاج. وأمّا إذا سعى الإنسان إلى تحكيم عقله ورغب في الوصول إلى الحقيقة، فإنّ العديد من المسائل ستتبدّل، والعديد من الأحكام ستتتغيرّ، والكثير من الاستنتاجات ستتحوّل، وسيغيّر الإنسان الكثير من الأحكام التي يُصدرها في حقّ الناس؛ وهي مسألة عجيبة ودقيقة جدّاً!
فأنتم تُلاحظون أحياناً أنّ أحدهم يقوم بإصدار حكم في حقّ أحد الأشخاص الغرباء.. إنّ فلاناً بهذا الشكل! وإذا قلتَ له: يا سيّدي، لقد قمت بإهانة هذا الشخص من خلال كلامك، أفهل كنت ستقول نفس الشيء لو كان أخوك في مكانه؟! لن تقول بالطبع! إذن، فما هو السبب الذي دفعك لأن تتفوّه بهذا الكلام في حقّ أخيك في الإيمان وتنتهك عرضه، والحال أنّك تمتنع عن ذلك بالنسبة لأخيك [في النسب] الذي لا يُراعي الكثير من الأمور ـ كما يفعل ذلك الأخ في الإيمان ـ ولا يُصلّي، لماذا تفعل ذلك؟ ما هي حقيقة المسألة؟ أيكون السبب هو علاقة الرحم الظاهريّة فقط؟! حينئذٍ يقول الله تعالى: إذن، لقد كانت أواصر النسب والقرابة هي التي دفعتك لعدم إهانة هذا الشخص، وهي نفسها التي جرّتك لانتهاك عرض أخيك في الإيمان؛ وما ذلك إلاّ لأنّه لم يكن من أقاربك، هذا مع أنّه مؤمن وصلاحه ظاهر وارتكب خطأً واحداً فقط. وأمّا بالنسبة لذلك الشخص، فلأنّه كان من أقاربك وكانت تربطك به مصالح مشتركة، ومن المحتمل أن يقف في المستقبل في وجهك، وتحصل بينكما مسألة ما، فإنّك تُحجم عن القيام بهذا الفعل!! إنّها مسألة دقيقة جدّاً! حينئذٍ ما الذي ينبغي على الإنسان فعله؟ عليه أن يراعي الأمور كثيراً.
يقول المرحوم القاضي: هل عملتم بكلّ ما تعلمون حتّى تسعون الآن وراء السير والسلوك؟ وترغبون في الأمور المجهولة؟ وتبحثون عن هذه المسائل العجيبة والغريبة...؟ لا يا عزيزي! أنا أضمن لكم ـ وأمسكوا بتلابيبي يوم القيامة ـ أنّه لو عمل كلّ واحد منكم بما يعلم من حقائق وقيم وواقعيّات وأحكام وما بُيّن من الشرع، ولو رغبتم حقيقةً في العمل بما تعلمون، وليس بما لا تعلمون، فالأمور التي لا تعلمونها...
وبحسب قول المرحوم الشيخ [مرتضى] الأنصاري ـ حينما جاء مجموعة من الأشخاص من شوشتر إلى النجف ليطرحوا عليه بعض الأسئلة ـ فقال لهم: "لا أعلم"! وكان الشيخ جواد الأنصاري هو من ذكر للإخوان هذه القصّة عن المرحوم الشيخ [مرتضى] الأنصاري رضوان الله عليه. فسألوه مرّة أخرى ـ لا أعرف عن أيّ شيء سألوه ـ فردّ عليهم ثانيةً: لا أعلم! فهل كان متعمّداً في ذلك؟ فالسؤال كان حول مسألة شرعيّة! ثمّ طرحوا عليه سؤالاً آخر للمرّة الثالثة، فردّ عليهم أيضاً: لا أعلم! فقام أحدهم وقال: فلماذا إذن وضعت هذه العمامة على رأسك؟! قال: وضعتها للأشياء التي أعلمها، ولو كنت وضعتها للأشياء التي لا أعلمها لوصلت عمامتي إلى عنان السماء!
فعلينا أن نعلم بنحو قاطع ـ والحال هذه ـ أنّه إذا عملنا بمقدار ما نعلم ومقدار ما نحن مطّلعون عليه، وعمِلنا بجدٍّ وبشكل حقيقي ومن دون هزل ولا مزاح، فإنّ الباب سيُفتح للكلّ، وسيصل الجميع إلى ذلك الهدف المنشود.
[يبدو أنّ أحد الأشخاص نبّه السيّد حفظه الله تعالى إلى انتهاء وقت المحاضرة فقال حفظه الله:] الساعة الآن الحادية عشر وخمسة دقائق.. حسن جدّاً، أعتذر إليكم مرّة أخرى، فنحن لم نصل هذه المرّة أيضاً [إلى ما كنّا نريد أن نبحثه]، فنحن جميعاً على هذه الشاكلة: نكتفي بالوعد من دون أن نعمل! ونكل إن شاء الله تعالى بقيّة الأبحاث إلى الجلسة اللاحقة إذا حظينا برعايته سبحانه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.