المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم القرآن والحديث والدعاء
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- إشكالات صاحب كتاب «الأخبار الدخيلة» على التوقيع الوارد في رجب؛
- [ما يرد على ما أفاده من إشكالات وإيرادات]؛
- سيرة علماء الشيعة في باب الأدعية والزيارات كانت في حفظها وقراءتها؛
- جميع الموجودات مدعاة لظهور الحقّ، وهي كلماته تعالى؛
- استقامة الدعاء بلحاظ اللفظ والمعنى؛
- النظر الاستقلاليّ إلى الموجودات شرك ومجانبة للصواب؛
- الفقدان بمعنى الفناء والعدم، لا الغيبة وعدم الصحبة؛
- الإجابة على الإشكالات الثلاثة الأخيرة في أمر الدعاء.
هو العليم
دفع الإشكالات عن توقيع شهر رجب
رسالة في الردّ على إشكالات كتاب الأخبار الدخيلة فيما يخصّ توقيع الناحية المقدسة
بحث منتخب من آثار الأعاظم
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصلّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَلَا حَوْلَ ولَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَليّ العَظِيمِ
قام جناب ثقة المحدّثين آية الله الحاجّ الشيخ محمّد تقي التستريّ دام إفضاله في كتابه «الأخبار الدخيلة» ص ٢٦٣ إلى ٢٦٥ بتفنيد التوقيع الوارد في أدعية شهر رجب، وسنورد هنا خلاصة كلامه ومن ثمّ سنقوم بالردّ عليه:
وأمّا كلامه فهو: ومن جملة الأدعية المفتراة الدعاء المذكور في «المصباحين» وهو: أخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ؛ قَالَ: مِمَّا خَرَجَ عَلَى يَدَيِ الشَّيْخِ الكَبِيرِ أبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنَ النَّاحِيَةِ المُقَدَّسَةِ، مَا حَدَّثَنِي بِهِ خَيْبَرُ بْنُ عبد الله؛ قَالَ: كَتَبْتُ مِنَ التَّوْقِيعِ الخَارِجِ إليه:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ادْعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ أيَّامِ رَجَبٍ:
اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أمْرِكَ، المَأمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ، المُسْتَبْشِرُونَ بِأمْرِكَ، الوَاصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ، المُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ.
أسْألُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ، فَجَعَلْتَهُمْ مَعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ
وَأرْكَاناً لِتَوْحِيدِكَ وآيَاتِكَ ومَقَامَاتِكَ التي لَا تَعْطِيلَ لَهَا في كُلِّ مَكَانٍ. يَعْرِفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ؛ لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ، فَتْقُهَا ورَتْقُهَا بِيَدِكَ، بَدْؤُهَا مِنْكَ وعَوْدُهَا إلَيْكَ؛ أعْضَادٌ وأشْهَادٌ ومُنَاةٌ وأذْوَادٌ وحَفَظَةٌ ورُوَّادٌ. إلى: وفَاقِدَ كُلِّ مَفْقُودٍ. إلى: ومَلَائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ وبُهْمِ الصَّافِّينَ [وَ] الحَافِّينَ. وبَارِكْ لَنَا في شَهْرِنَا هَذَا المُرَجَّبِ المُكَرَّمِ ومَا بَعْدَهُ مِنْ أشْهُرِ الحُرُمِ- إلى آخره.
إشكالات صاحب كتاب «الأخبار الدخيلة» على التوقيع الوارد في رجب
ثمّ قال بعد ذلك: ومن جملة الأمور التي تدلّ على أنّ هذا الدعاء موضوع هي ما يلي:
الأوّل: عبارة بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ؛ فماذا يعني نطق مشيئة الله هنا؟
الثاني: عبارة: التي لَا تَعْطِيلَ لَهَا في كُلِّ مَكَانٍ؛ إلى مَن يعود الاسم الموصول التي: إذا كان يعود إلى وُلَاةُ أمْرِكَ فهي ليست تامّة من حيث اللفظ، بل وحتى المعنى أيضاً؛ وإذا كانت تعود إلى آيَاتِكَ ومَقَامَاتِكَ، فلا يستوي معناها هنا، بل وحتى لفظها.
الثالث: عبارة: لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ؛ فهذه العبارة تفيد أنّ الملائكة – وهم آيات الله – متساوون مع الله نفسه في جميع صفاته تعالى إلّا عنوان الخالقيّة والمخلوقيّة؛ كما في قولنا: فلان كالسلطان إلّا أنّه لا سلطان له. أي إنّه نظير له (أي للسلطان) في جميع الكمالات سوى السلطان؛ وهذا كفر محض.
وأمّا كلمة أعْضَادٌ فظاهرها أنّهم أعضاد الله؛ وهذا أيضاً كفر، وبالكاد يمكن القول: إنّ معنى العبارة هو أنّ الملائكة بعضهم أعضاد بعض مثلهم كمثل أعوان ملك الموت.
كما أنّه يمكن بالكاد القبول بأنّ المراد من معنى أشْهَادٌ هو حضور شهادتهم على بني آدم. وبخصوص وأذْوَادٌ وحَفَظَةٌ يمكن القول بأنّهم يحفظون بني آدم من البلايا.
وفيما يخصّ كلمة مُنَاةٌ، كذلك يمكن القول: إنّها من مادّة مَنَي لَهُ، بمعنى قدّر له؛ نظير الآية الشريفة: فَالْمُدَبّرَاتِ أمْرًا، وعن رُوَّادٌ يمكن القول: إنّ فُلَانَةٌ رَائِدَةٌ، بمعنى أكثرت التردّد إلى بيوت جاراتها؛ وعلى هذا يكون معناها أنّ الملائكة طوّافون بالناس.
فلو سلّمنا بهذه الفرضيّات فكان بها؛ وإلّا فكما ترى فإنّ الإشكال واضح في كلّ عبارة من تلك العبارات.
الرابع: عبارة وفَاقِدَ كُلِّ مَفْقُودٍ؛ لأنّها تعني أنّ الله ليس واجداً لكلّ ما هو مفقود، وهذا كفر، وهذا معنى فَقَدَ الشَّيءَ؛ ولو كانت بلفظ وَاجِدَ كُلِّ مَفْقُودٍ لكان معناها أنسب وأقوم.
الخامس: عبارة وبُهْمِ الصَّافِّينَ؛ وجاءت في نصّ «المصباح»: والبُهْمِ بالألف واللام وهي أصحّ، لأنّ الظاهر أنّ الصَّافِّينَ صفة لـ البُهْمِ.
وعلى أيّة حال، فما معنى البُهْم؟ إلّا جمع بُهْمَة، وقد قال أبو عبيدة البُهْمَة الشجاع (أو الفارس) الذي يستبهم مأتاه على أقرانه؛ وفي هذه الحال يكون المراد هو الملائكة المجاهدة ضدّ الكفّار.
السادس: عبارة وأصْلِحْ لَنَا خَبِيئَةَ أسْرَارِنَا؛ وذلك أنّ الإصلاح يكون لشيء فاسد ولو قيل: وأصْلِحْ [لَنَا] مَا فَسَدَ مِن خَبيئَةِ أسْرَارِنَا لكان أفضل وأصحّ.
السابع: عبارة وبَارِكْ لَنَا في شَهْرِنَا هَذَا المُرَجَّبِ المُكَرَّمِ ومَا بَعْدَهُ مِنْ أشْهُرِ الحُرُمِ؛ لأنّ شهر رجب لم يوصف بأنّه شهر حرام، في حين وصف الأشهر التي تليه بالحُرُم؛ مع أنّ شهر رجب هو شهر حرام، بينما الأشهر التي تليه وهي شعبان ورمضان وشوّال هي ليست بأشهر حُرُم، والأشهر التي تأتي بعدها وهي ذي القعدة وذي الحجّة ومحرّم هي أشهر حُرُم. وعلاوة على ذلك فإنّ عبارة أشْهُرِ الحُرُمِ ليست صحيحة من ناحية الإضافة، لأنّ الحُرُم صفة وكان يجب القول: الأشْهُرِ الحُرُمِ؛ اللَهُمَّ إلَّا أن يُقَالَ: أنَّ في مِثْلِهِ يَصِحُّ الوَصْفُ والإضَافَةُ بِاعْتِبَارَيْنِ.
وفضلًا عن ذلك فإنّ هذا الخبر ضعيف السند بابن عيّاش: وقال النجاشي: لقد سمعتُ منه أشياء كثيرة؛ ولكنّني حين رأيتُ أنّ مشايخنا يُضعّفونه، فقد اجتنبتُ ولم أقم بنقل رواياته. ولا يوجد اسم خيبر بن عبد الله الذي يروي ابن عيّاش عنه، عن محمّد بن عثمان في الرجال.
وبالجملة فلو لم يكن في هذا الدعاء إلّا عبارة: لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ، لكانت دليلًا كافياً على أنّ هذا الدعاء موضوع؛ مع أنّه ذُكِرت أغلاط ومنكرات أخرى فيها وضعف سندها كذلك. انتهى ملخّصاً.
[ما يرد على ما أفاده من إشكالات وإيرادات]
أقول: لقد وقع الإشكال والخطأ في كلّ واحدة من إشكالات واعتراضات صاحب الكتاب، ويتبيّن بوضوح ممّا سنذكره هنا أنّ الفقرة الأولى حتى الفقرة السابعة ليست إلّا عنواناً وإيراداً للأخطاء وعرضاً للإشكالات بطريقة فنيّة؛ ولا تتجاوز تلك الإشكالات عن كونها كتلة من الثلج الزائل.
سيرة علماء الشيعة في باب الأدعية والزيارات كانت في حفظها وقراءتها
فأمّا ما يخصّ ضعف السند، نقول: أي الأدعية الواردة عن المعصومين لها سند صحيح؟ فمجموع الأدعية والزيارات الواردة ذات السند الصحيح قليلة جدّاً؛ وإذا تقرّر أن نكتفي بالأدعية والزيارات ذات السند الصحيح والمعروف فلن يبقى إلّا عُشر ما لدينا من الأدعية؛ ولأصبح كتابا «المصباح» و«البلد الأمين» للشيخ الكفعميّ، وكتاب «الإقبال» وكتاب «بحار الأنوار» في الأدعية والزيارات، كتباً جيبيّة ككتاب «التبصرة» للعلّامة، في حين أنّنا نعلم بأنّ هذا هو خلاف ما يقتضيه المذهب؛ فقد حافظ علماؤنا السابقون واللاحقون على هذه الأدعية واحتفظوا بها، وهم أنفسهم كانوا يردّدونها، وعلى هذا المنوال جرت سيرتهم العمليّة.
وقد أورد هذا الدعاء كلّ من الشيخ الطوسيّ في «مصباح المتهجّد» ص ٥٥٩، والشيخ الكفعميّ في كتابه «المصباح» ص ٥٢٩، وكتابه الآخر «البلد الأمين» ص ۱۷٩، والسيّد ابن طاووس في «الإقبال» ص ٦٤٦، والعلّامة المجلسيّ في «البحار» ج ٢۰، ص ٣٤٣، طبعة الكمبانيّ؛ وقد استحسنه جميعهم. والجدير بالذكر أنّ المرحوم المجلسيّ قد نقل هذا الدعاء بدون أي توضيح، والحال أنّه كان حسّاساً جدّاً إزاء أيّة عبارة تمتّ بصلة إلى العبارات التي يستخدمها الصوفيّة أو تشابهها، وكان يتفادى مثل تلك العبارات قدر الإمكان؛ ويتبيّن من ذلك أنّه كان يعتبر جميع إشكالات صاحب كتاب «الأخبار الدخيلة» هباء ولا تستحقّ التعليق.
ومن هنا يتّضح لنا أنّ السيرة والطريقة التي انتهجها علماؤنا في الماضي بالعمل بهذه الأدعية والزيارات هي عدم الالتفات إلى صحّة السند، كما هو مشهور اليوم، والذي تمّ ابتداعه منذ زمن العلّامة الذي قام بتصنيف الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف وموثّق؛ بل إنّهم كانوا يعملون بأيّ زيارة أو دعاء يثقون به وإن كانت بقرائن خارجيّة. وهذا المعنى هو الصحيح، وعلى هذا فإنّ اي دعاء وزيارة ضعيفي السند يكفيهما شهرة أن يعمل بها العلماء ويدوّنوها في كتبهم ممّا يزيل ضعفهما.
ولقد كنّا أثبتنا في الأصول أنّ أي خبر وإن كان صحيح السند، فإنّه لا يُعمل به إذا أحجم الأصحاب وأعرضوا عنه؛ بل كُلَّمَا زَادَ صِحَّةً زَادَ ضَعْفاً؛ وكلّ خبر ضعيف معمول به من قبل الأصحاب، يجب العمل به؛ فيكون عمل الأصحاب بذلك الخبر بمثابة سند له.
ومن هنا نرى أنّ كثيراً من روايات «الكافي» بل معظهما ضعيفة السند؛ ولو راجع أحدهم كتاب «مرآة العقول» وطالعه فإنّه سيلاحظ أنّ العلّامة المجلسيّ قد ضعّف أسناد أغلب رواة الحديث فيه أثناء بيانه لذلك، وذلك بالرغم من علمنا علم اليقين أنّ كتاب «الكافي» هو من الكتب المعتبرة عندنا؛ بل من أكثرها اعتباراً.
ويعود السبب في ذلك إلى أنّ درج الأحاديث في هذا الكتاب والكتب الأربعة الأخرى، مثل «من لا يحضره الفقيه» و«الاستبصار» و«التهذيب» من قبل شيوخ ثبتت وثاقتهم وورعهم وأمانتهم وعلمهم وتبحّرهم في علم الحديث وفي كونه مقبولًا أو مرفوضاً، وهم في منزلة عالية ومكانة سامية، يعتبر حجّة وباعثاً على الطمأنينة بصحّة صدوره.
ولهذا، فقد اعتبر الأخباريّون قاطبة وكثير من العلماء الأصوليّين جميع الروايات الواردة في الكتب الأربعة صحيحة والعمل بها واجباً، وأمّا نحن فنقول أنّ نفس عمليّة درج الأحاديث في هذه الكتب لا توجب العمل بها. ولا تجعلها صحيحة، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّها ترفع من درجة اعتبار الحديث بقدر ملحوظ، وتحيله إلى حديث صحيح ولازم الاتّباع بعد ضمّ شيء من القرائن الخارجيّة وقليل من الشواهد إليه.
فمع أنّ ابن عيّاش يعتبر شخصاً غير موثوق به عند النجاشي، إلّا أنّه لا يمكن القول بأنّ جميع روايات الشخص الضعيف (أيّ غير الموثوق به) غير صحيحة، بل أنّ كلام الشخص الضعيف قد يحتوي على أنواع الكلام؛ الصحيح والفاسد والكاذب والصادق والمردود والمقبول. وقد يكون بعض كلامه الصدق بعينه ولو بضمّ قرائن خارجيّة؛ وبهذا فإنّ روايات أشخاص ضعفاء قد تكون موضع قبول. ويمكن أن تكون رواية ابن عيّاش هذه من هذا القبيل. وكذلك قد لا يكون خير بن عبد الله أو خيبر بن عبد الله ـ راوي الحديث عن محمّد بن عثمان ـ من مشاهير الرجال والمعروفين في علم الحديث، والذي لم يُذكر اسمه في الرجال؛ لكنّه كان شخصاً عاديّاً ثقة، ومن هنا كانت روايته مقبولة۱.
جميع الموجودات مدعاة لظهور الحقّ، وهي كلماته تعالى
فأمّا الإشكال الأوّل من إشكالاته السبعة التي يقول فيها: ما معنى بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ؟
فنقول في جواب ذلك: بما أنّ جميع الموجودات هي ظهور للّه، إذاً جميعها كلام الله وحديثه. والكلام هو ما يُعبّر فيه عمّا في الضمير مزيحاً الستار عن الأسرار والمعاني الباطنة للنفس. ولأنّ كلّ الموجودات تستدعي ظهور الله وقدرته وعلمه وحياته مُخبرة عن ذلك الكنز الخفيّ، فإنّ جميعها كلمات للّه؛ كما ورد في القرآن الكريم: وَلَوْ أنَّمَا في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلَامٌ والْبَحْرُ يَمُدُّه مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ۱.
وورد كذلك: قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا٢.
وأمثال ذلك من الآيات الكثيرة التي تُعبّر عن الموجودات التكوينيّة بأنّها كلمة، مثل: ويَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ ويُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ٣.
إنّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ٤.
إنَّمَا الْمَسِيحُ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وكَلِمَتُهُ٥.
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحسنى عَلَى بَنِي إسْرَائيلَ بِمَا صَبَرُوا٦.
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ۷.
ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ۸.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ٩.
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ۱۰.
وكثير من الآيات الأخرى، بل أنّ جميع الآيات التي ذُكرت فيها كلمةُ الله مرادها الموجودات الفعليّة التكوينيّة الخارجيّة التي تُخبر عن الذات المقدّسة للّه والتي تستوجب ظهور الحقّ تعالى وبروزه.
به نزد آنكه جانش در تجلّى است | *** | همه عالم كتاب حقّ تعالى است |
عَرَض إعراب وجوهر چون حروف است | *** | مراتب همچو آيات وقوف است |
ازو هر عالمى چون سورة خاص | *** | يكى ز آن فاتحه ديگر چو إخلاص |
نخستين آيتش عقل كُل آمد | *** | كه در وى همچو باء بَسمَل آمد |
دوم نفس كُل آمد آيت نور | *** | كه چون مصباح شد در غايت نور |
سيم آيت درو شد عرش رحمن | *** | چهارم آيةُ الكرسى همى خوان |
پس از وى جرمهاى آسمانى است | *** | كه در وى سورة سبعُ المثانى است |
نظر كن باز در جرم عناصر | *** | كه هر يك آيتى هستند باهر |
پس از عنصر بود جرم سه مولود | *** | كه نتوان كرد اين آيات معدود |
به آخر گشت نازل نفس انسان | *** | كه بر ناس آمد آخر ختم قرآن۱ |
وعلى هذا، فإنّ جميع الموجودات هي كلام الحقّ تعالى، وكلّها منطوقة ذاته المقدّسة، وجميعها حديثه وكلامه.
وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وهُمْ لَا يُظْلَمُونَ٢.
إنّ عالم التكوين هو كتاب الله الناطق، فهو ينطق بالحقّ والصدق.
إنّ جلود أبدان المجرمين والظالمين يوم القيامة تنطق قائلة: قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَه الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ٣
إنّ مشيئة الباري تعالى هي صفة من صفاته، والصفات عينها كذلك هي أزليّة وأبديّة؛ أي إنّها غير متعيّنة بحدود أو متقيّدة بقدر. إنّ أسماء الذات المقدّسة وصفاتها غير متناهية. إنّ ظهورات الماهيّات في عالم الوجود هي التي تكسب مشيئة الحقّ تعالى شكلها وصورتها؛ وبعبارة أخرى تخلق وتوجِد. وإنّ أرقى أنواع الموجودات هي ملائكة الحقّ، كلآلئ متلألئة، وهي التي تقدّر تلك المشيئة الأزليّة وتُلبسها لباس التقدير؛ وعلى هذا، فهي تمنحها الظهور وتجعل من ذلك المعنى الخفيّ والمستور ظاهراً وبارزاً وناطقاً.
إنّ الملائكة ـ وهي الواسطة لإفاضة الفيض وتدبير الأمور في عالم الخلق ـ إنّما هي كلام وحديث مشيئة الله، وتحتوي على جهة توجِد بها الموجودات من العدم المطلق، بقدر معلوم؛ كما نرى في القرآن الكريم: فَالْمُدَبِّرَاتِ أمْرًا٤.
وعلى هذا فإنّ معنى: بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ واضح وجليّ؛ أي اللهمّ إنّي أسألك بحقّ الملائكة التي وصفت قدرتك وكشفت عن عظمتك، وأظهرت مشيّتك وأنطقتها؛ وبناء على هذا، فإنّ عالم الكثرة وعالم الخلق وُجدا بهذه الوسيلة.
استقامة الدعاء بلحاظ اللفظ والمعنى
وأمّا الإشكال الثاني وهو: إلى من يعود اسم الموصول في التي لَا تَعْطِيلَ لَهَا في كُلِّ مَكَانٍ، وأنّها لا تستقيم لا من حيث اللفظ ولا المعنى.
فنردّ على ذلك بقولنا: إنّ التردّد بين هذين الوجهين والشكّ بهما لا وجه له؛ لأنّ كلّ عارف بأسلوب الكلام يعلم أنّ نسبة ذلك إلى وُلَاةُ أمْرِكَ غير صحيحة، فيتعيّن إذاً نسبتها إمّا إلى آيَاتِكَ ومَقَامَاتِكَ؛ أو أنّها تخصّ مَقَامَاتِكَ. ومعلوم أنّ آيَاتِكَ معطوفة على أرْكَاناً وهي في الحقيقة مفعول ثانٍ لـ جَعَلْتَهُمْ؛ وكذلك الحال مع مَقَامَاتِكَ.
وعلى هذا، يكون محصّل المعنى: اللهمّ إنّك قد جعلت الملائكة آياتٍ ودلائلَ! وقدّرت وعيّنت مقاماتك التي لا تعطيل لها في كلّ مكان ومحلّ! بحيث لو أراد أحدهم معرفتك في أي مكان أو محلّ، فإنّه سيعرفك من خلال هذه الموجودات الملكوتيّة الطاهرة!
وهذا المعنى سهل وبسيط وواضح جدّاً؛ ولم نلاحظ عدم استقامته من جهة المعنى، فكيف تبيّن عدم استقامتها من جهة اللفظ؟
النظر الاستقلاليّ إلى الموجودات شرك ومجانبة للصواب
وأمّا الإشكال الثالث (الذي يقول فيه): إنّ ذلك يستلزم تساوي الملائكة مع الله، ووصفه بأنّه كفر محض، وأنّه من أهمّ الإشكالات؛ حيث ورد في الدعاء المذكور عبارة: لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهَا إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ.
فنقول في جوابنا: ليس لأيّ موجود من الموجودات ـ حتى الذرّات وليس فقط الملائكة ـ استقلاليّة؛ لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال. فجميعها آيات الحقّ وعلاماته ودلائله ومرايا ذاته المقدّسة ومجالاتها. وليس لها وجود أو أثر أو فعل من نفسها ولو قدر رأس دبّوس؛ بل أنّ نور الحقّ متجلٍّ فيها ولا شيء غير ذلك. وكلٌّ منها مستفيض من ذلك بقدر سعته الماهويّة واستيعابه الوجوديّ، وهي ظاهرة بظهور الحقّ.
أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا۱.
وليس لأيّ من المخلوقات من أوّل نور للحقّ، وهو أوّل ما خلق، إلى آخر موجود من عالم الكثرة والطبع، وهو الهيولى الأوّليّة والمادّة المبهمة، أي وجود أو كينونة من نفسها ولو قدر ذرّة؛ فالكلّ هو الحقّ وتجلّيه.
ولا يدلّ ذلك على معنى التساوي، بل يدلّ على تقارن الآية وذي الآية، والمرآة وصاحب الصورة، والمُجلّي والمُتجلّي، والمجاز والحقيقة.
فلو نظرنا إلى الشمس الساطعة المنعكسة على سطح الماء الصافي والراكد، أو على المرآة الشفّافة والمصقولة وقلنا أن: لا فرق أبداً بين الشمس الساطعة والصورة الواقعة في هذا المنظر، فهل يعني ذلك معنى التساوي!؟
إنّ معنى ذلك هو الآيتيّة والمرآتيّة؛ لا سلب صفة من ذات الحقّ وإسنادها إلى الموجودات، وكيف يُشتبه في تصوّر هذين المعنيينِ في حين أنّ الفرق بينهما شاسع جدّاً؟
وفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ | *** | تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدُ |
إنّ آي القرآن الكريم والتي تعتبر كلّ موجود آية، كلّها تُشير إلى هذه الحقيقة؛ وهناك أدعية كثيرة لا تُحصى من هذا القبيل، ومن جملتها الدعاء الشريف المسمّى بـ «السمات» حيث نُحلّف فيه الله بأسمائه ونتوسّل بالله بهذه الأسماء؛ وكذا التوسّل بالأنبياء والأئمّة الطاهرين.
فلسنا قائلين باستقلاليّتهم ولو مقدار ذرّة، وإن كان ذلك من باب الشفاعة، ونتوسّل بهم من هذه الزاوية؛ فهذا غلط وذاك صحيح، وهذا شرك وذاك توحيد.
نعم، إنّ هذه المسألة لم تتوضّح بعد لكثير من غير المتعمّقين في بحوث التوحيد والحكمة الإلهيّة؛ ولذا فإنّهم يحتارون حين يصادفون جملًا كهذه تمثّل حقيقة التوحيد المحضة، فيعمدون فوراً، كما هو الحال مع الضعفاء إلى التكفير مستندين إلى مستواهم الفكريّ والعلميّ، وإن كانوا بعيدين كلّ البعد عن البحوث العقليّة، وينعتونها بالكفر المحض.
وغافلون كذلك عن أنّهم كانوا يتلون هذه الأدعية – ولا زالوا – من أساطين المذهب؛ واعتبار هذه العبارات كفراً يستلزم تكفير رجالٍ من أمثال الشيخ الطوسيّ والشيخ الكفعميّ والسيّد ابن طاووس والعلّامة المجلسيّ الذين أوردوا تلك الأدعية في كتبهم وأيّدوها.
ولو أنّنا تجنّبنا الدخول إلى أيّ علم أو مسألة لا تقع ضمن دائرة اختصاصنا وأوكلناها إلى أهلها، أو أرجعنا حقيقتها إلى الراسخين في العلم والأئمّة الأطهار كما يفعل الكثير من العلماء والأفاضل لكان ذلك أفضل.
وأمّا لفظة أعْضَادٌ والتي حسبها أعضاداً للّه بمعنى «مساعدون» و«أعوان»؛ واعتبر ذلك من الكفر أيضاً [فيُلاحظ عليها:]
أوّلًا: واضح جدّاً أنّه ليس المقصود بذلك مساعدة الله، وذلك بقرينة عطف مُنَاةٌ وأذْوَادٌ وحَفَظَةٌ ورُوَّادٌ؛ بل المقصود بذلك المعنيّون والموكّلون في عالم الكثرة والطبيعة بتقدير وحفظ وصيانة أيّ موجود، ممّا تخفيه الأقدار، وبحفظ الإنسان بالخصوص، من الآلام والآفات والعاهات. ومعلوم كذلك أنّ كلّ صنف من الملائكة موكّل بمهمّة خاصّة لإفاضة الفيض من لدن الله على عالم الكثرة، وهم أسباب الرحمة الأزليّة وتقديرها، ونشرها في عالم الإمكان. والواقع أنّ هذه العبارات تبيّن صفات وأفعال الملائكة ومهامها وتوضّحها تماماً؛ وكلّها تعتبر آية ومرآة، وظهوراً ومظهراً للنور الظاهر للحقّ تعالى وتقدّس.
بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ۱.
وثانياً: في الآيات التي تُنسب نصرة الله إلى المؤمنين؛ من مثل الآية الكريمة التالية: إن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أقْدَامَكُمْ٢.
أو نسبة القرض مثلًا إلى ذاته المقدّسة؛ كالآية:
مَن ذَا الذي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَه لَهُ٣.
فإلى أي معنى تشير كلمة النصرة والإقراض وما شابههما في هذه الآيات والآيات الكثيرة المشابهة الأخرى. ألا تشيران إلى نفس معنى أعضاد ومُناة؟
الفقدان بمعنى الفناء والعدم، لا الغيبة وعدم الصحبة
وأمّا الإشكال الرابع: وهو إطلاق عبارة: فَاقِدَ كُلِّ مَفْقُودٍ على الحقّ تعالى. وكلمة فاقد تعني الغائب وغير الواجد مثل قوله تعالى: قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ؛ لأنّ أصحاب عزيز مصر قالوا لإخوة يوسف: نحن نفقد صواع الملك؛ وهذا المعنى لا يناسب كذلك ذات الحقّ المقدّسة.
فنجيب على ذلك بقولنا: تعني كلمة فقدان في اللغة العربيّة العدم؛ وهي تقابل كلمة وجدان وهي من مادّة وجود، وتعني التحقّق كذلك؛ وَجَدَهُ بمعنى أوجده، وهو من باب إفعال ويأخذ مفعولين: أوْجَدَهُ الشَّيءَ بمعنى أوجد له الشيء. وكذا الحال مع مادّة عَدِمَهُ وفَقَدَهُ، لأنّ هاتين المادّتين لهما معنى واحد وهما مترادفتان.
عَدِمَهُ بمعنى أعدمه وأفناه، وأعْدَمَهُ الشَّيءَ من باب إفعال، أفقده إيّاه وأفناه؛ وفَقَدَهُ بمعنى أعدمه، وأفْقَدَهُ الشَّيءَ أعدمه إيّاه ورفعه عنه.
فَقَدَ وأفْقَدَ، ثلاثيّ مجرّد ومزيد فيه، وهما متعدّيان ولكنّ الأوّل متعدّ إلى مفعول واحد، والثاني إلى مفعولين؛ والحقيقة أنّ الأوّل يعني سلب الشيء على نحو سلب بسيط، والثاني سلب الشيء عن الشيء على نحو مركّب.
فَقَدَهُ معناه عدمه؛ مثل عَدِمَهُ. وأفْقَدَهُ الشَّيءَ معناه أعدمه إيّاه؛ مثل أعْدَمَهُ الشَّيءَ.
ولكنّ من يعدم شيئاً فإنّ ذلك الشيء يكون غائباً عنه بالطبع، ولذا فإنّ معنى الغيبة في هذه الصورة لازم لمعنى العدم. وتُستخدم فَقَدَ وعَدِمَ أحياناً في لزوم معنى الموضوع له؛ مثل الآية المباركة نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ.
وبمراجعتنا لمعاجم اللغة تتبيّن لنا هذه الحقيقة بجلاء.
ففي «أقرب الموارد» جاء في مادّة فَقَدَ ما يلي: فَقَدَهُ فَقْداً وفِقْدَاناً وفُقْدَاناً وفُقُوداً: غَابَ عَنْهُ وعَدِمَهُ فَهُوَ فَاقِدٌ وذَاكَ فَقِيدٌ ومَفْقُودٌ. وأفْقَدَهُ اللهُ الشَّيءَ: أعْدَمَهُ إيَّاهُ.
وقال في مادّة عَدِمَ: عَدِمَ المَالَ عَدْماً وعَدَماً: فَقَدَهُ فَهُوَ عَادِمٌ والمَالُ مَعْدُومٌ. وأعْدَمَ اللهُ فُلَاناً الشَّيءَ: جَعَلَهُ عَادِماً لَهُ.
وقال صاحب «المصباح المنير»: فَقَدْتُهُ فَقْداً (مِنْ بابِ ضَرَبَ) وفِقْدَاناً: عَدِمْتُهُ فَهُوَ مَفْقُودٌ وفَقِيدٌ.
وفي «مجمع البحرين»: نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ، هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَقَدْتُ الشَّيءَ فَقْداً (مِنْ بابِ ضَرَبَ) وفِقْدَاناً: عَدِمْتُهُ فَهُوَ مَفْقُودٌ؛ ومِثْلُهُ افْتَقَدْتُهُ.
وقال في «لسان العرب»: فَقَدَ الشَّيءَ يَفْقِدُه فَقْداً وفِقْدَاناً وفُقُوداً فَهُوَ مَفْقُودٌ وفَقِيدٌ: عَدِمَهُ؛ وأفْقَدَهُ اللهُ إيَّاهُ.
وهكذا فقد تبيّن لنا جليّاً معنى فَاقِدَ كُلِّ مَفْقُودٍ، وهو أنّ الله مُفْقِدُ كلّ مفقود على نحو السلب المطلق؛ في مقابل واجِدُ كُلِّ مَوْجودٍ.
ولقد اعتقد مؤلّف كتاب «الأخبار الدخيلة» المحترم أنّ معنى الغيبة يطابق مادّة فقدان، وبما أنّ غيبة الشيء عن الله لا معنى لها، ولذا فلا يمكن اعتبار الله فاقِد والحال أنّ هذا الاعتقاد خاطئ، وتعني كلمة فقدان الإعدام وليس الغيبة وعدم المصاحبة.
والطريف هنا أنّه لو كان ابن عيّاش واضعاً لهذا الدعاء المرويّ، وهو العالم بفنون الشعر والأدب والمنشد للشعر الجزيل والفصيح والضليع المتعمّق في الأدب بشهادة النجاشي السابقة فكيف يُتصوّر جهله معنى فَاقِد فيشوّه دعاءً عالي المضامين كهذا بخطأ أدبيّ كهذا؟!
الإجابة على الإشكالات الثلاثة الأخيرة في أمر الدعاء
وأمّا الإشكال الخامس الذي قال فيه: إنّ عبارة والبُهْمِ الصَّافِّينَ لا تحتوي على معنى مناسب. إلّا اعتبارنا كلمة بُهْم جمعاً لكلمة بُهْمة؛ التي تعني الفارس الذي يُستبهم مأتاه على أقرانه. وأنّ ذلك كناية عن الملائكة التي تعين المجاهدين وتدعمهم في المعركة.
فجوابنا على ذلك أنّ: البُهْم جمع أبْهَم، وهو الأصمت والأعجم؛ ومثله الحُمر والصُّفر والسود وهي جمع أحمر وأصفر وأسود.
و لأنّ العالم العلويّ، أي عالم الملكوت، هو عالم الهدوء والسكون والسكوت، خلافاً لعالم الطبع الذي هو عالم الحركة والكلام والضجيج والضوضاء؛ فقد عُبّر عن المأمورين الصافّين والمصطفّين لأداء مهامّ الله وتنفيذها بـ البُهْم، والذي يدلّ على سكوتهم وهدوئهم.
وأمّا الإشكال السادس وهو اعتباره جملة وأصْلِحْ لَنَا خَبِيئَةَ أسْرَارِنَا ناقصة وغير كاملة، وأنّ ذلك إنّما يقال في إصلاح الأمور الفاسدة؛ وأمّا الأسرار المخفيّة نفسها فلا معنى للقول (في الدعاء): اللهمّ أصلحها! إذا لم تكن مقيّدة بالفساد.
فنقول في ذلك: أنّ أي شيء قابل للفساد، يتطلّب الدعاء له بالصلاح والإصلاح له، وإن لم يكن فاسداً بالفعل؛ لأنّ طروء الفساد عليه ونفوذه إليه ممكن، ثمّ دُعي بعد ذلك بعدم جعل هذه الأسرار الخبيئة عرضة للفساد وأقرنها بالصلاح دوماً! ويمكن العثور على نظائر هذا الدعاء والطلب في كثير من الأدعية والمحاورات العرفيّة والإنشاءات.
وأمّا الإشكال السابع الذي قال فيه: إنّ جملة وبَارِكْ لَنَا في شَهْرِنَا هَذَا المُرَجَّبِ المُكَرَّمِ ومَا بَعْدَهُ مِنْ أشْهُرِ الحُرُمِ غير صحيحة؛ لأنّ شهر رجب هو شهر حرام والشهر الذي يليه ليس حراماً.
فجوابنا هو: أنّ العلّة في عدم التصريح بحرمة شهر رجب هي البيان والدعاء والطلب نفسه في شهر رجب، حيث يقول: وبارك لنا في شهرنا المرجّب والأشهر التي بعده والمشتركة معه في الحرمة؛ ومعلوم أنّ المراد من البَعديّة هنا هو البَعديّة الإضافيّة لا الحقيقيّة، وكم له من نظير. ومعلوم أنّ الأشهر الحُرُم ذي القعدة وذي الحجّة ومحرم هي تالية لشهر رجب.
باعتقاد الحقير: أنّ مثل هذه الإشكالات الواهية لم تكن مُبهمةً لدى المؤلّف المحترم لدرجة يصعب فيها الجواب عليها؛ لكن بما أنّ جملة: لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ، كانت ثقيلة جدّاً وغير قابلة للهضم، كما صرّح بذلك هو في نهاية كلامه، فإنّ هذه الإشكالات إنّما طُرحت لتضخيم نقائص الدعاء وإظهارها بمظهر مبالغ فيه. ولكن وللّه الحمد والمنّة فقد تبيّن واتّضح أنّ هذه الجملة تعبّر عن عين التوحيد والمعرفة۱.