المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
تعرّض سماحة السيد في هذه المحاضرة إلى ضرورة عدم التسرع في الحكم على الناس وتأثير النظرة المسبقة في ذلك، وهو صورة من صور عدم الواقعية في التعامل مع الناس، ثم تكلم أيضًا عن ضرورة عدم إظهار الإنسان نفسه أحسن مما هي عليه . وأن السلوك لا يكون إلا بموافقة الحكم الشرعي ، ثم يضرب مثالاً على ذلك أويس القرني الذي لم يخالف عهده لوالدته مع شوقه الشديد لرؤية الرسول، وهذا الأمر هو الذي أوصله إلى الكمال. ثم يتعرض لبيان معنى عيد الأضحى، وبيان حقيقة الأوامر الامتحانيّة التي كلّف بها إبراهيم عليه السلام ، وبعد ذلك تعرّض لمسألة كيف نستفيد من هذه القصة في حياتنا العملية، خاتماً كلامه ببيان المراد من الذبح العظيم الذي فدى الله به إسماعيل.
هو العليم
الإنصاف في التعامل مع الناس وحقيقة عيد الأضحى
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٢٣
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
وَأَمَّا اللَوَاتِي فِي الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً؛ وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَكَ؛ وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ والرَّعَاءِ.
هذا ما قاله الإمام عليه السلام لعنوان فيما يتعلّق بالحلم، وقد بيّن له مصاديقه.
تأثير النظرة المسبقة عن الشخص في التعامل معه
لقد تقدَّم الحديث في أنَّ هذه المواضيع التي يطرحها الإمام عليه السلام تدور حول محور واحد، ألا وهو: الكيفيّة التي يجب أن تكون عليها علاقاتنا بالآخرين، وعن كيفيّة تعاملنا معهم؛ فما هي المكانة التي نفترضها لأنفسنا، وما هي المكانة التي نعطيها للآخرين في تعاملنا معهم؟ وكيف يجب أن نتعامل مع هذه القضيّة؟
فما نشاهده من التعامل السائد حولنا هو إنَّه: إن كان لأحدهم تقييم خاص لرجل ما، وكان قد أخذ عنه نظرة معيّنة فيما مضى نتيجة ما سمعه عنه، نجده يتّخذ في نفسه موقفاً خاصّاً منه وبمجرّد سماع اسمه؛ وذلك لأنَّه كان قد رسم عنه صورة خاصّة في ذهنه، فيتّخذ موقفاً منه قبل أن يعرف ما الذي يريد أن يتكلّم به؛ فهل يريد الرجل أن يتّخذ موقفاً عدائياً منه، أم أنَّه يريد أن يمدحه؟! فيبدأ بردّة الفعل قبل أن يُكمل الرجل كلامه، فما إن يذكر الرجل مبتدأ الجملة ــ وهو لم يأتِ بخبرها بعد ــ إلاّ وترى الآخر قد اتّخذ موقفاً منه. هكذا هي طبيعة الناس، فهم يستعجلون الحكم على الآخرين، ويتّخذون مواقف سريعة وغير متأنّية منهم.
لقد تذكّرت الآن هذه الحكاية: لقد كان المرحوم العلاّمة يدعو أحد الوعّاظ لإقامة المجالس في العشرة الأولى من شهر محرّم، وفي بعض ليالي الجمعة وبعض المناسبات؛ وهو المرحوم الحلبي رحمة الله عليه، فقد كان رجلاً صالحاً وعالماً فاضلاً. وفي أحد الأيام تكلّم حول أنَّ الناس يتّخذون مواقف معيّنة في القضايا التي يواجهونها، بدون أن يقوموا بالتفحّص اللازم، بل وقبل أن ينتهي المتكلّم من إتمام كلامه. وذكر مثالاً على ذلك فقال: عندما يُذكر اسم النبي، يقوم الناس بالصّلاة عليه، فيحصل أحياناً أن يذكر الخطيب اسم محمّد، فترتفع أصوات الحاضرين بالصلوات دون أن يعلموا هل المقصود هو محمّد بن عبد الله أم محمّد بن زيد أو محمّد بن الأشعث. وأثناء حديثة قال مرّة: «وفي هذا الوقت قام محمّد.. بن الأشعث» فارتفعت الأصوات بالصلوات. فقال لهم: لم يمضِ الكثير من الوقت على ما كنت قد ذكرته لكم. فتصوّروا الموقف، فالناس يصلّون لذكر اسم محمّد بن الأشعث.إنَّ هذا يكشف لنا الكثير عن أحوال الناس؛ فهم أولئك الذين يصلّون على محمّد بن الأشعث! يا عزيزي اصبروا قليلاً لتعرفوا هل أنَّ المقصود هو محمّد بن عبد الله أم ابن الأشعث؟
لا يمكن أن تجري الأمور بهذا الشكل؛ وذلك بأن يجري المرء وراء أيّ صوت يسمعه أو أيّ صوت يرتفع! فما إن يسمع المرء اسماً، إلاّ ويصلّي عليه! وما إن يسمع صوتاً، إلاّ ويتبعه! بل تحقّق من هذا الصوت لتعرف هل هو صوت رحماني أم صوت شيطاني؟ فعليك أن تعرف مصدر هذا الصوت الذي تبعته على أقل تقدير! فهل من الصحيح أن ترى جمعاً من الناس يذهبون في اتجاه معين، فتسير خلفهم لمعرفة ما الذي يجري هناك؟ لعلّهم يتّبعون أمراً باطلاً، فلماذا تتبعهم لترى ما الذي يجري؟ هذا أمر في غاية الأهميّة، فعلى المرء أن يعلم كيف يجب عليه التفحّص وتحليل ما يجري من حوله، وعدم اتباع أيّة جهة هكذا!
على الإنسان أن ينتبه إلى هذه المسألة، وهي أنّه إن كانت لديه خلفيّة مسبقة عن أمر ما، لا تمنعه تلك الخلفية من اختيار الطريق الصحيح بل يبقى قادرًا على تشخيص طريقه وانتخاب الصالح. إنَّ هذا الأمر يحتاج إلى تمرين وإلى مراقبة، فعليه أن يبذل جهداً في هذه المسألة، يبذل من نفسه جهدًا فكريّاً وعصبياً، ويبذل من مكانته أيضاً، وبعد مدّة من هذا التمرين والجهد والتأمّل سوف يشعر بحصول تبدّل تدريجي في قلبه وفكره تجاه ما يجري من حوله من الأمور، وسيرى بأنَّ قلبه قد تخلّص من ذلك التشدّد والتصلّب والتحسّس السابق، ويرى أنّه بدلاً من أن ينظر إلى هذه الخلفيّة التي كوّنها وافترضها بدأ يتفحّص في محتوى الموضوع ومفهومه وما يعنيه، ثم يتّخذ قراره بناءً على ذلك.
ضرورة عدم إظهار الإنسان نفسه أحسن مما هي عليه
فأولئك الذين يفرضون لأنفسهم أرضيّة معيّنة، ويختلقون لذواتهم شخصيّات مفترضة، لا يمكنهم أن يحصلوا على أي تكامل ورقيّ، [إذا قلت له] أمراً ما عن شخصٍ معيّن.
-[يقول لك:] لا تتكلّم شيئاً عن هذا الرجل، فلا يمكنني أن أسمع شيئاً عنه!
[ولماذا لا تسمع؟] فلعل ما قيل عنه صحيح!
وإذا قيل بأنَّ فلاناً من الناس قد قام بهذا العمل.
- يقول: لا بدّ وأنَّه مرتبط [بالمعصوم] لذا قام بهذا العمل! فهل تفهم أنت الأمور أفضل منه؟! أم هو الذي يفهمها بشكلها الصحيح؟
- وإذا قيل بأنَّ فلاناً من الناس قد تكلّم بهذا الكلام الخاطئ.
- يقول: لا بدّ من إيجاد تبرير لما قاله.
فتراه لا يستطيع القبول بأنَّ هذا الرجل قد أخطأ، يا عزيزي! إنَّ المعصومين هم أربعة عشر لا غير، فلا يمكن أن يصل عددهم إلى خمسة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر أو عشرين، فإن كانوا أكثر من ذلك، فلا بدّ لنا من أن نعلم عددهم، فكم لدينا منهم؟ فهل لدينا سبعون أو ثمانون منهم؟ كلّا، إنَّ عددهم أربعة عشر فقط، وأمّا ما سواهم فهم أناس على مستويات مختلفة؛ فالجميع ابتداءً منِّي وإلى جميع الناس يمكن أن يخطؤوا؛ لأنَّنا بشر، كما أنَّنا قد نأتي بأعمال صحيحة وذلك لأنَّنا من البشر أيضاً، فقد يصدر منَّا كلا النوعين من الأعمال صحيحها وخطئها.
فلماذا لا يُفترض بنا أن نُظهر أنفسنا أمام الآخرين على ما نحن عليه؟ و نظهر أنفسنا في غير مقامنا؟ فها أنا أتكلّم معكم في هذه اللّحظة، تقولون في أنفسكم: بما أنَّ هذا السيد هو ابن العلاّمة الطهراني، فلا بدّ وأن يكون على مقام عالٍ! فما الذي تتوقعوه منِّي؟ لا بدّ وأنَّكم تعتقدون بأنَّني أنهض لأداء صلاة الليل في كلّ ليلة! إنَّ هذا توقّع غير صحيح منكم؛ لأنَّني قد لا أنهض للصلاة في بعض الليالي ولأسباب متعدّدة؛ كالمرض أو الصداع أو أي أمر آخر, إذ بإمكاني قضاؤها فيما بعد، فعندما أقول لكم الآن بأنَّني لا أصلي صلاة الليل في كلّ ليلة، فستقولون: يا للعجب! فإلى أين أتينا؟! وكلام من نريد أن نستمع؟ فهل يمكن ألاّ يصلي صلاة الليل كلّ ليلة؟ هذا السيِّد الطهراني الذي يجلس هنا ليتحدّث إلينا؟!
إنَّ مثل هذا التصوّر هو تصوّر خاطئ يأخذ مكانه في ذهن الإنسان ليصبح فيما بعد أصلاً من الأصول؛ فإن تحدّثنا عن الله وعن النبي وعن المعاد وعن كلّ شيء، فسيتمحور كل حديثنا حول هذا الأمر الخاطئ، وحول هذا الطرز الخاطئ من التفكير؛ وهو أنه لا بدّ للمرء أن ينهض لصلاة الليل كلّ ليلة، كلاّ، فإن لم تنهض في إحدى الليالي، فلن تكون قد ارتكبت ذنباً في هذه الحالة؛ إذ كثيراً ما يحصل وعندما أكون في البيت، فإنَّني أصلي صلاة الليل؛ أمّا إن قيل لي: عليك أخذ قسط من الراحة، وعدم القيام للصلاة، فإنَّني أرى نفسي أحياناً بأنَّني إن قمت للصلاة، سأكون قد خالفت تعليمات الطبيب، وعندئذٍ لن يقبل الله منِّي هذه الصلاة، لذا فأنا أعلمكم وبكلّ صراحة بعدم قيامي للصلاة في مثل هذه الحالات. أتلاحظون؟! فما دام الله قد رسم لنا طريقاً، فيجب علينا السير وفقاً لما أمرنا الله به، ولا يُفترض بالإنسان أن يُضيف أشياء من عنده، فيقوم بالزيادة أو النقصان عمّا أُمر به.
لا سلوك مع مخالفة الحكم الشرعي
كان هناك رجل متعلّق بالسيِّد الحداد رضوان الله عليه كثيراً؛ غير أنَّ والده ولأسباب معيّنة، ومهما كانت تلك الأسباب، فقد ارتحل عن الدنيا كان يُعارض سفر ابنه إلى العراق ومقابلة السيِّد الحداد، فعندما كان يذهب للعراق، كان المرحوم السيِّد الحداد يقول له: لماذا جئت إلى هنا بدون إذن والدك؟ مع أنّ السيِّد الحداد يعلم بمقدار تعلّق هذا الرجل به، وكان الرجل محبّاً حقيقياً وعاشقاً للسيِّد الحداد جدّاً، غير أنَّ ذلك الحبّ وتلك العلاقة يجب أن تكون متماشية مع المباني، فذلك العشق الذي لا يكون مبنيّاً على أساس تلك المبادئ ومتوافقًا مع الأوامر والتعليمات، والذي لا يكون مرضيّاً من قبل المعشوق والمحبوب، والأستاذ، ودليل الطريق، وهادي السبيل.. فذلك العشق لا يمكن أن يكون عشقاً رحمانيّاً، لما سيتسبّب به من أمور، ولما سيجرّ خلفه من تبعات، فمجرد أن يطرأ على ذهنه أنّ أباه.. ـ طبعاً الأب كان على علم بأنَّ هكذا سفر غير ممضى من قبل الأستاذ ـ فبمجرّد أن يخطر ببال والده بأنَّه ما هذا الأستاذ وهذا الطريق الذي يرتضي لسالكه السير فيه على الرغم من نهي الأب عنه؟! فلو كان هذا الطريق طريق حقّ وطريق صدقٍ وواقع، فكيف يمكن لهذا الابن، مع وجود نهي الأب أن يضع ذلك الملاك جانباً ويذهب لزيارة محبوبه؟!
التزام أويس بالحكم الشرعي هو الذي أوصله إلى الكمال
لم تأذن أمّ أويس له بالبقاء في المدينة لأكثر من نصف يوم لزيارة النبي؛ فسافر من اليمن قاصداً المدينة؛ وعندما وصل وجد بأنَّ النبي لم يكن فيها. انظروا كم هو أمر عجيب، فيجب أن يصل أويس المدينة في الوقت الذي لم يكن النبي موجوداً فيها!
أفعشقك للسيِّد الحداد أشدّ أم عشق أويس للنبيّ؟! لا شكّ بأنَّ عشق أويس هو الأشدّ، لذا فإنَّ أويس قد بلغ مقصده دونك، لقد وصل أويس إلى محبوبه ومعشوقه وإلى ما كان يجب أن يصل إليه؛ وذلك لأنَّه سار على خطىً مدروسة ووثيقة، فقد قال أويس: أنا جئت إلى هذا المكان لرؤية رسول الله، فهل كانت نيّتي هي رؤية سيمائه أم عينيه، أو لأجل الجلوس معه والتحدّث إليه؟ أم أنَّ هدفي هو الاتصال بمحبوبي؟ فأيّ النيّتين كانت لدى أويس؟ فهل كان الاتصال ليحصل على مجرّد الرؤية الظاهرية؟ [يقول:] لو أنَّني خالفت الشرط الذي اشترَطَتْه عليّ أمّي بعدم البقاء في المدينة لأكثر من نصف يوم، لتمكنت من رؤية محبوبي، غير أنَّ رؤيتي هذه لن تتجاوز رؤية سيمائه الظاهريّة ومحاسنه ولباسه وعمامته، ولن يكون لي نصيب يتجاوز هذا الحد.
لو بقي أويس في المدينة مدّة أطول لتمكّن من رؤية النبي، ففي النهاية لا بدّ أن يعود النبي إلى المدينة، فهو لا يمكث خارجها طويلاً، بل يغادرها لمدّة يوم أو يومين أو ثلاثة، وحتّى وإن طال سفره ليبلغ أسبوعاً، فسيعود بعدها إلى المدينة.. فلو أنَّه قال: سأمكث في المدينة حتّى يعود النبي، وإن طالت غيبته عنها.. فسوف يصل النبي إلى المدينة [ولسان حاله يقول:] لن أدعك تنتظر طويلاً، غير أنَّك قد خسرت كلّ شيء وقُضي الأمر.
أمّا لو قال: إنَّ قدومي إلى المدينة هو لكي ألتحق وأرتبط بالنبي، ولكي تمنحني رؤيته روحاً وتفتح قلبي.. فللرؤية الظاهرية أثرها الخاص بها أيضاً، وهذا مما لا شك فيه؛ فلا شكّ أنَّ للّقاء الظاهري تأثيره الخاص به. لذا نرى العظماء ومنهم المرحوم العلاّمة يوصون باستمرار بأن يزور الأصدقاء والإخوة بعضهم البعض لكي تتّصل قلوبهم؛ ولأنَّ هذا اللقاء الظاهري يبعث على انتقال المعاني والمطالب بين القلوب، ويعمل على إزالة العوائق من الطريق، فلموضوع اللقاء أهميّة كبيرة، غير أنَّ لكل شيء مكانه الخاص به، فعندما يأتي أويس إلى المدينة ويجد بأنَّ النبي قد غادرها، فهل سيبقى حتّى يعود، ويكون قد أخلّ بذلك العهد الذي عاهد به أمّه؟! عندما يفكّر بالأمر بينه وبين نفسه يرى بأنَّ عشقه يأمره بالبقاء، بل ويأمره بما هو أشدّ من ذلك؛ فحبّه للنبي ورغبته في رؤيته الظاهريّة يقول له: عليك أن تبقى في المدينة، أمّا عقله ودينه ومنهجه فتقول له: لقد عاهدّت أمّك بعدم البقاء، فإن بقيت فستكون قد نقضت عهدك ولم تفِ بالشرط الذي اشترطته عليك أمّك، فبأيّ شيء ستُجيب أُمّك؟ وبأيّ جواب ستُجيب وجدانك؟
ما تشتمل عليه كلمات الإمام الصادق عليه السلام ــ والتي سنتحدّث عنها في المجالس القادمة إن شاء الله ــ هو كيفيّة إجابة الإنسان على وجدانه، فضلاً عمّا يترتّب على هذا الأمر من أمور لدى الطرف المقابل ولدى المجتمع، فلذلك أثره الخاص به؛ لكن الأمر الأهم هنا هو كيفية تقديم الإنسان إجابة شافية لضميره وفطرته ووجدانه، فهذا ما يُشير إليه ويقصده الإمام عليه السلام في هذا المقام.
فبما أنّ حبّ أويس وعشقه وتعلّقه برسول الله كان صادقاً وصادراً من مصدر النور، ولم يكن مبنيّاً على مجرّد التخيّلات والأوهام والتصوّرات، ولم يكن يكتفي بالرؤية الظاهرية فقط.. لذا نرى كيف أخذ هذا الحبّ والعشق والتعلّق الصادق بيد أويس؛ فقال له: هل أنت متعلّق بالسيماء الظاهريّة للنبي أم بقلبه وضميره ونفسه ومسيره وروحه ومدرسته؟ أيّهما تعشق؟ ما الذي يملأ قلبك؟ ما الذي جاء بك من اليمن إلى هنا طاوياً لتلك الصحاري الشاسعة؟ فلم يكن أويس قد استقلّ طائرة ليصل إلى المدينة في ظرف ساعتين من الزمان، فلِمَ كان قد طوى كلّ تلك الصحاري وتحمّل تلك الحرارة الشديدة؟!
صبا به لطف بگو آن غزال رعنا را | *** | که سر به کوه و بیابان تو داده ای ما را( ۱ ) |
[يقول: أبلغ يا ريح الصبا تلك الغزالة الجميلة الفاتنة بلين ولطف، بأنَّكِ أنتِ التي جعلتيني أهيم في الصحارى والجبال].
ـ رحم الله الشيخ حافظ كيف يبيّن الحقائق بشكل إعجازي ـ فما الذي جاء بك من اليمن قاطعاً تلك الصحاري القفار؟ فهل جئت لترى جسد النبي أم قلبه وروحه وتلك العُلقة التي تربطك به، والتي جعلت قلبك وقلبه واحداً وامتزجت روحك بروحه فأصبحتا روحاً واحدة؟ فأيّ من هذين الأمرين قد جذبك إلى المدينة؟ وعندما وصلت المدينة الآن، فهل حصلت على شيء أم خسرت؟ لقد وصل إلى ما كان يبغي الوصول إليه، وأُنجز له في المدينة ما كان يطلب وعاد غانماً، فما إن وصل المدينة وقيل له: إنَّ النبي ليس موجوداً فيها، قال: أستودعكم الله، فأنا عائد من حيث أتيت، فلقد حصل لي ما كنت أبغي، فلِمَ أبقى في المدينة إذاً؛ فهل أريد أن أعمل على خلاف ما اشترطته عليّ أمّي؟ أمّا ذلك الذي يقول: سأصبر وسأبقى في المدينة حتّى يعود النبي وإن طال غيابه لأسبوع، فذلك قد خسر كلّ شيء. إنَّ هذا الموضوع في غاية الدقّة، وما أطرحه عليكم الآن ليس من كلامي، بل هو ما سمعته من المرحوم العلاّمة، وآمل ألاّ أكون وبمشيئة الله قد أضفت إليه شيئاً من عندي. وهذا الأمر يحصل للجميع، ولقد حصل له هو أيضاً، فهو مما يمكن أن يحصل للجميع.
حقيقة معنى عيد الأضحى
اليوم هو عيد الأضحى، فما الذي يعنيه عيد الأضحى؟ لقد كان في نيّتي أن أتكلّم اليوم عن موضوع آخر، ولكن عند الغروب، قلت في نفسي: اليوم هو يوم الأضحى، فلأشرح للإخوة شيئاً عمّا يعنيه هذا اليوم، وما هو سرّ حكاية نبي الله إبراهيم؟ فالله أمر نبيه إبراهيم بذبح ابنه، فمن يستطيع أن يفعل شيئاً كهذا؟! ومن يمكنه أن يتقبّل أمراً كهذا؟ وهل يريد الله أن يلهو بأن يأمر نبيه بذبح ذلك الشاب الجميل والذي لا يوجد له مثيل على وجه الكرة الأرضية؟ فهو النبي بعد إبراهيم، ورسول الله هو من نسل النبي إسماعيل، لقد كان شاباً يُضرب به المثل في جميع تصرفاته وأفعاله ومقامه ونورانيته، فمع كلّ هذا يأمر الله نبيه إبراهيم بذبح هذا الشاب الذي كان قد طوى كلّ تلك المراحل. أتلاحظون؟! فهذه هي القضية التي حصلت مع النبي إبراهيم.
أريد أن أُبيّن لكم طريقة تفكير البعض، وكم نحن بعيدون عن حقيقة ما يجري..
معنى الأوامر الامتحانيّة في قصة ذبح إسماعيل
عندما دخلت إلى الحوزة العلميّة لدراسة العلوم الدينيّة، جرى الحديث يوماً عن هذا الموضوع وعن الأوامر الامتحانيّة، إذ بعض الأوامر تكون من قبيل الأوامر الامتحانية، فالرئيس أو الآمر لا يريد في واقع الأمر تطبيق ما يَأمر به ، بل هدفه من الأمر اختبار المأمور ليرى هل هو جادّ فيما يدّعيه، أم لا؟ إذ يأمره السيّد بأمر معيّن، فما إن يعزم على القيام بما أُمر به، يأمره سيّده بالتوقّف ويقول له: لقد غيّرت رأيي فانصرف.. فيُقال لهذه الأوامر أوامر امتحانية، ويذكر كمثال على الأوامر الامتحانيّة قضيّة نبي الله إبراهيم في أمره بذبح ولده.
على أنَّ كلّاً من الأوامر الامتحانية والأوامر الإنشائية هي شيء واحد، فلا فرق بينهما، غاية الأمر أنَّ اسم الأول امتحان والثاني إنشاء وتنجيز، فكلاهما له نفس المعنى.
بالنسبة للأمر الامتحاني، فلو كان الممتَحن يعلم بأنَّ هذا امتحان ليس إلاّ، فلا فائدة من امتحان كهذا؛ إذ الجميع مستعدّ للتعرّض إلى هذا الامتحان، وسيكون حاله حال تلك الامتحانات التي تُجرى للدخول في الجامعات هذه الأيام، والتي يجري فيها تسريب الأسئلة إلى بعض الطلاب، فلا يُسمى هذا ـ والحال هذه ـ امتحاناً، بل سيكون عبارة عن تمرين على الخط وبمثابة تمرين منزلي. إذ يقوم البعض بتسريب الأسئلة مقابل حصولهم على مبلغ من المال، ثم يُطلق على هذه العمليّة اسم امتحان، فهذا النوع من الامتحان هو نوع راقٍ.. لو كان الامتحان الذي سيمتحننا به الله يوم القيامة من هذا النوع، ويحصل تسريب أجوبة الأسئلة إلينا مسبقاً، بحيث تكون إجاباتنا جاهزة عندما نُسأل من قبل منكر ونكير، فسنجتاز تلك المرحلة بسرعة.. بل علينا أن نكون حذرين، وأن نستعدّ لذلك اليوم ونقوم من الآن في هذه الدنيا بتهيئة الأجوبة المناسبة لما سنسأل عنه، فلا وجود لدفع المال وما شابه ذلك هناك، بل ستكون أسئلة منكر ونكير شاقّة، أتلاحظون؟!
فلو كان المأمور يعلم مسبقاً بأنَّ ما يتعرّض له الآن هو مجرد امتحان، فلا جدوى من هكذا امتحان، ولن يكون هنالك أمر، بل سيكون ذلك بحكم الهزل واللغو.
سمعت أنّ أحدهم كان يقول بأنَّ الأمر الصادر من جهة معينة ليس أمراً جاداً، وأنّ هنالك من يبرّر له ذلك ويقول: لقد كان ذلك من قبيل الأوامر الامتحانية. فقلت: لو كان من قبيل الأوامر الامتحانية، فلماذا امتثل الآخرون هذا الأمر؟
ما حصل في قضية نبي الله إبراهيم هو أنَّ الأمر قد تمّ في واقع الحال، والنبي إبراهيم أخذ الأمر على أنَّه أمر واقعي وحقيقي. ويكمن في هذه القضية الكثير من الحقائق؛ فالحقيقة الأولى الذي تبرز في هذه الحكاية هي: أنَّ موضوع حجيّة قول وفعل الولي الإلهيّ يتجلّى بشكل كبير هنا، فنبي الله إبراهيم مأمور بقتل ولده، والأمر ليس أمراً هزلياً، فلا يمكن إيجاد أي تبرير أو تغطية لهذا الموضوع. {قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى}(۱). فالنبي إبراهيم يقول لإسماعيل: إنِّي أرى ولم يقل له: إنِّي رأيت؛ أي إنِّي أرى في المنام وباستمرار بأنّي أذبحك. فما معنى هذا الكلام؟ معناه أنَّ هذا وحي يُوحى إليَّ. ثم انظروا إلى ذلك الشاب كيف يتلقّى هذا الكلام على أنَّه وحي، فلم يقل لأبيه لعل ذلك المنام كان بسبب كثرة الطعام قبل النوم، فهل رأيته ليلاً أم بعد الظهر أم عند طلوع الفجر؟! وهل كانت معدتك ممتلئة وكنت قد أكثرت من أكل الحساء أو اللبن قبل النوم.. بل تلقّى هذا المنام على أنَّه وحي إلهي، ويعلم بأنَّ هذا الأمر هو أمر إلهي.
ما أريد أن أقوله لكم الآن هو: ما الفرق بين ذبح النبي إبراهيم لولده وبين ما يحصل في الحروب التي كانت تجري في ركاب رسول الله أو في ركاب أمير المؤمنين أو في ركاب سيّد الشهداء. ألم يُخبر سيِّد الشهداء أصحابه في ليلة عاشوراء بأنَّ كلّ من يبقى معه سيُقتل في الغد؟! فذلك ما قاله الإمام الحسين في تلك الليلة. فأنا أقسم بالعبّاس بأنَّ جميع الرجال الذين كانوا مع الإمام الحسين في كربلاء في ليلة عاشوراء كانوا يعلمون بأنَّهم سيستشهدون في الغد؛ فلِمَ أقدموا على هذا العمل والحال هذه؟!
قد يشارك أحدهم في حرب من الحروب، وهو يحتمل بمقدار ثلاثين في المائة بأنَّه سيُقتل في تلك الحرب، ويحتمل بمقدار سبعين في المائة بقاءه على قيد الحياة، أمَّا إذا كانت الحرب حرباً واقعية، أي أنَّها حرب في طريق الحق وليست حرباً باطلة، فهل الذين كانوا مع سيّد الشهداء يعلمون يقيناً بأنَّهم سيستشهدون أم لا؟ بلى لقد كانوا على يقين من ذلك، فهذا أمر بديهي لا يقبل الشك؛ فالإمام الحسين بنفسه قال لهم: كلّ من يبقى معي سيُقتل! فهذا مما لا مزاح فيه؛ لكن لماذا بقوا مع ما لديهم من العلم اليقيني بالقتل؟ فما القضية إذاً؟ إنّها نفس قضية النبي إبراهيم وذبح النبي إسماعيل، فالأمر واحد غير أنَّه يأخذ صوراً مختلفة.
فعندما تكون مع سيِّد الشهداء أو مع الإمام الحسن، فأنت تُسلّم نفسك له وتقول: ها أنا ذا اذبحني! هذا هو معنى الأمر بكل بساطة، فلا يحتاج إلى الاستعانة بالرمل والاسطرلاب لمعرفة النتيجة. فكما حصل مع النبي إبراهيم وقضية ذبحه لابنه بأمر ووحي إلهي، فكذا الأمر وهكذا هو لسان حال مسلم بن عوسجة مع الإمام الحسين، وكذلك كان لسان حال حبيب مع الإمام الحسين، وكذا هو لسان حال الحرّ ـ على أنَّ الحرّ كان قد جاء فيما بعد، حيث جاء صباح ذلك اليوم ـ وهكذا كان لسان حال الجميع.. فأصحاب الإمام الحسين يقومون الآن بنفس ذلك العمل، فهم يقولون: خذ بنا إلى ساحة القتل، ليتحتّم علينا الوقوف أمامك والدفاع عنك، فالدفاع عن المعصوم واجب وإن أدّى إلى القتل؛ أي أنَّك إذا علمت بأنَّ حياة الإمام المعصوم في معرض الخطر، فمن الواجب عليك أن تحميه بنفسك حتّى تُقتل، وهذا مما لا شك فيه.
فالذين كانوا في خيمة الإمام الحسين تلك الليلة، كانوا يعلمون بأنًّهم سيُستشهدون في الغد، نفس حكاية النبي إبراهيم تتكرّر هنا الآن، فلَم يأت الله ليروي لنا قصة فقط [بذكره قصة الذبح]..
كان أمير المؤمنين قد قال في صفين: سيبايعني مائة رجل على الشهادة، فقيل له: ها قد بايعك تسعة وتسعون رجلاً، فقال عليه السلام: وها هو الرجل المائة منهم قادم. فظهر رجل قادم من بعيد، فلما اقترب، رأوا بأنَّه أويس القرني(۱)، فوصل وبايع على الشهادة وقاتل في المعركة واستشهد فيها؛ فلم يتأخر حتّى للحظة واحدة، فلم يجلس معهم على عشاءٍ أو غداءٍ أو لشرب شايٍ، بل ما إن بايع حتّى ذهب ووصل به الأمر إلى آخره.
فما معنى أن يأتي أحدهم ويبايع؟ إنَّه يقول: جئت لأكون مثل النبي إسماعيل عندما وضع نفسه تحت أمر أبيه؛ فها أنا أضع نفسي تحت اختيارك! أتلاحظون؟ فهذا الأمر قد تكرّر في صفين وفي أحد وفي بدر، فهو موضوع واحد. وها هو يتكرّر الآن أيضاً، غير أنَّه لا يكون بصورة القتل الظاهري، بل يظهر بصورة قتل النفس، فهذا هو الذي يجري اليوم، فلو أراد النبي إبراهيم أن يجلب شاباً من جيرانه أو من مدينة أخرى ليذبحه، لما كان له فضل، ولما كان قد فعل شيئاً.
يُقال بأنَّ بعض الدول وعندما يريدون أن يقمعوا شعوبهم للحفاظ على سلطتهم، يستعينون بجنود من بلدان أخرى، بحيث لا يكون لهؤلاء الجنود أيّة رابطة بهذا الشعب، إذ لا يتردّد الجنود في قتل الناس لعدم كونهم من جيرانهم أو مواطنيهم، لذا تراهم يستعينون بجنود من بلدان أخرى. وحيث كان هذا الجندي أجنبياً عن أهل البلد، فلن يتردّد في إطلاق النار عليهم وطرحهم أرضاً، أتلاحظون؟
افرضوا الآن بأنَّ الله كان قد أمر النبي إبراهيم بجلب طفل من بلدة أخرى وذبحه، فمع أنَّ هذا الأمر ليس بالأمر اليسير أيضاً، غير أنَّ الأمر المهم في المسألة والنقطة التي تتمركز حولها القضية هي القضاء على ذلك التعلّق. وهذا لا يحصل ما لم يكن بحق الابن، لذا يقول الله له: إنَّ جلبك لطفل من مكان آخر لكي تذبحه لا يفي بالغرض، بل لا بدّ أن تذبح ابنك أنت. لذا أقدم النبي إبراهيم على إنجاز هذا العمل! فهل كان النبي إبراهيم ـ مع ما له من مقام النبوة والعلم بالغيب ـ يعلم بأنَّ هذا الأمر لن يتحقّق؟ فلو كان يعلم ذلك، فلا فائدة من هذا الامتحان، فنبي الله إبراهيم لم يكن يعلم بما سيجري له، لذا نراه ينفعل عندما لم يحصل ما يحاول فعله [فكان يقول في نفسه:] لن أتمكّن من تحقيق ما أمرني الله به، فيشحذ سكينته بالحجر ويقول لها: لماذا لا تقطعي، ولماذا لا تنفذي هذا الأمر الإلهي؟ فتكلّمت السكين قائلة: الخليلُ يأمُرُني والجليلُ ينهاني(۱).
وهذا ما حصل له عند إلقائه في النار؛ حيث تبدّلت النار إلى حديقة خضراء باردة. فالنارُ نارٌ، غير أنَّها لا تُظهر حقيقتها الذاتية، فالنار لم تتبدّل إلى أشجار وأوراد من قبيل ورد الجوري مثلاً، كلاّ، بل يرى الناس أمامهم ناراً، فعندما نقول بأنَّها قد تبدّلت إلى حديقة، فلم تتبدّل النار إلى أوراد، بل هي ذات النار، ولها ذلك اللهب المعروف، غير أنَّ حرارتها قد تبدّلت إلى برودة نسيم منعش، فأصبحت النار تنفخ هواءً بارداً كالهواء الصادر عن مكيّف الهواء. وهذا ما حصل بالفعل، وهو ممكن. لكن الناس يقولون: كيف لا يحترق وهو في وسط النار؟ بل كان يقول النبي إبراهيم: إلهي أعطني معطفاً لألبسه، فقد ازدادت البرودة..
جاء في أحد الروايات في تفسير عبارة {بَرْداً وَ سَلاماً}(۱) بأنَّ الله لو لم يقل سلاماً لتجمّد النبي إبراهيم من شدّة البرد، فمعنى سلاماً هو: يا نار تبدّلي إلى برودة ولكن لا تكوني بتلك الدرجة [المؤذية]، فصفة النار الحارقة قد تبدّلت إلى برودة. ولقد حصل ويحصل الكثير من هذا القبيل، فلا ينبغي التعجّب لذلك.
الغاية من سرد قصّة الذبح هو الاعتبار بحقيقة الأمر الامتحاني وتطبيقه على واقعنا
ما هو الهدف من سرد هذه الحكاية؟ وما الذي يريد الله أن يقوله لنا هنا؟ وهذا الأمر ليس بأجنبي عن هذه المسائل التي نتحدّث عنها.. فعندما ترى بأنَّك تواجه أمراً مما [تهواه] النفس، فلا تتّبعه، بل انظر أين يكون الحق، فاتبع طريق الحق، ولا تتبّع نفسك، وقد تواجه أمراً مما لا ترغب النفس في متابعته، فلا تتخلّى عنه ولا تتبع هوى النفس، بل انظر ما الذي يريده الله ونبيّه منك، وما الذي تُطالبك به فطرتك ووجدانك فاتّبعه؛ فلو أمرك أحدٌ بما يتنافى مع فطرتك ووجدانك ومبادئ مدرستك، فعليك أن تعرض هذا الأمر على ميزان الحقّ والعدل، ولا تقوم بتنفيذه بناءً على مكانتك التي أنت عليها الآن، فأنت تفعل ذلك بسبب ما لك من المكانة في هذا الوقت، فلو أنَّ هذا الأمر قد حصل لك في ظرف آخر، فهل كنت ستنفّذه أيضاً، أم ستتغاضى عنه؟ هنا تأتي هذه القضايا الواحدة تلو الأخرى لتأخذ بتلابيبنا، وسيتمّ إيقافنا هناك حيث علينا أن نُجيب على ما يُوجّه إلينا من أسئلة، فسيُقال لنا: بالنسبة إلى هذا الأمر هل طبقته مع جميع الناس على نحو واحد، أم أنَّك قمت الآن به لأنّ ذلك الرجل كان غريباً عنك لا تربطك به رابطة؟ ولو كان قريباً لتركته [ليقوم بما يحلو له] ومضيت لشخص آخر؟ فهكذا يكون الأمر إذاً!
لذا نرى هنا كم تكون قصّة نبي الله إبراهيم قصّة عجيبة! فلو تمعنّا في تلك القصّة التي رواها لنا القرآن عنه؛ فما الذي يربطنا نحن بنبي الله إبراهيم؟ فلقد كان نبيّاً وله حسابه الخاص به، وقد مرّ بامتحانات وطوى مراحل في سيره، وكانت تلك الحادثة آخر تلك الامتحانات، كما ذكر ذلك المرحوم العلاّمة؛ حيث كان يقول بأنَّ ذبح ابنه كان آخر تلك الامتحانات، فما هي علاقتنا نحن بكلّ ذلك؟ فيقول الله: لقد ابتلينا إبراهيم بامتحانات كان آخرها امتحانه بذبح ابنه، ولقد اجتاز جميع تلك الامتحانات وبنجاح باهر، فمنحناه على أثرها ذلك المقام الذي يستحقّه؛ {وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}(۱). فالكلمات هنا تعني الحالات التي امتحن بها. فكلّ ذلك مما يخص النبي إبراهيم، فماذا بالنسبة إلينا نحن؟ فهل سيأمرنا الله بذبح أبنائنا؟ وهل يتوجّب علينا ولكي ننال ذلك المقام أن نذبح أبناءنا؟ حتماً لا يمكن أن يتمّ ذلك بهذا الشكل، نعم يُحتمل أن يحصل هذا الأمر [أن يقتل الإنسان نفسه أو ابنه] في عالم الظاهر ضمن الموارد التي ذكرتها لكم؛ كأن يكون ذلك في ساحة الجهاد في سبيل الله، وعندما يكون الإنسان مُكلّفاً به تكليفاً إلهياً سواءٌ كان هو أو ابنه، فعلى الإنسان أن يقدم على ذلك. أمّا في غير هذا المورد وحيث لا وجود للجهاد الظاهري والذي يكون حسب التكليف الإلهي، فهل ستنتفي وتذهب جانباً قصة نبي الله إبراهيم، ولن تكون مفيدة لنا ولا تعنينا شيئاً؟ كلاّ، فقصّة نبي الله إبراهيم تتفاعل معنا في كلّ يوم، وفي كلّ ساعة من ساعات عمرنا، وفي كلّ لحظة من لحظات حياتنا.
إنَّ قصّة نبي الله إبراهيم تتفاعل مع كلّ دقيقة من عمرنا، فهل عليك أن تقول الحق في هذه القضيّة التي تواجهك الآن، أم أنَّك ستميل إلى الباطل موافقةً لهوى نفسك؟ فإن قلت الحقّ، ستكون قد أنجزت عمليّة ذبح، وبالتالي ستتقدّم خطوة إلى الأمام. وعندما تواجه تلك القضيّة التي ستمرّ بك، فماذا سيكون دورك فيها؟ هل ستأخذ جانب الحق، أم أنَّك ستعمل بما تحفظ به منافعك الشخصيّة؟ فإن تصرّفت بما يخدم مصلحتك الدنيويّة فقد فشلت في هذا الامتحان، وإلا بأن تصرّفت بشكل مغاير ـ بالرغم مما ستتعرّض له من خسارة ـ فقد قمت بعملية ذبح، فتكون قد ذبحت نفسك هنا. وهكذا يكون الأمر في المواقف التي تواجهك في مختلف نواحي الحياة؛ فعندما يستلم الإنسان منصباً حكومياً أو قضائياً؛ فإن أراد أن يأخذ جانب الحق، فقد يؤدِّي ذلك إلى إلحاق الضرر به أو بمن يرتبط به، هذا في الوقت الذي يرى فيه بأنَّ الحق مع الجانب الآخر، فما الذي سيفعله والحال هذه؟ فهل سيتكلّم بالشكل الذي يُرضي فيه الطرف الآخر أيضاً؟ أم أنَّه سيصدع بالحق ويقول لهذا الطرف وبكل صراحة بأنَّ الحق مع الطرف المقابل وقد أخطأت أنت في تصرّفك. فإن قالها صراحةً، فقد قام بعملية ذبح، وإلاّ فقد خسر. وهكذا يكون الأمر في كلّ ما يواجه الإنسان من قضايا.
لذا فقد أصبحت قضيّة نبي الله إبراهيم اليوم رمزاً يقتدي به الإنسان في جميع أفعاله وتصرّفاته، فعلى الإنسان أن يأخذ هذا الأمر في نظر الاعتبار في كلّ ما يواجه من أمور، وهذا سيعمل على رقي وتكامل الإنسان؛ أي أنَّ قصّة نبي الله إبراهيم عبارة عن رسالة إلى جميع الناس تقول لهم: هذا هو ميدان السباق إن كان لديكم الاستعداد لذلك؛ على أنَّنا لا نطلب منكم أن تأخذوا سكيناً من المطبخ وتضعوا أبناءكم في زاوية الحديقة لذبحهم، فلقد كان ذلك مختصّاً بنبي الله إبراهيم، أمّا اليوم فلم يعد هذا الأمر مطلوباً منكم، فامتحانكم اليوم يتمثّل في: لماذا لم تقل الحق في هذه القضيّة؟ ولماذا لم تفصح عن واقع الأمر في تلك؟ ولماذا قمت بتوجيه التهمة للآخرين في هذا المورد؟ ولماذا قلت وعملت بخلاف ما تعلم في ذلك المورد؟
يمثّل هذا الموضوع الرسالة الموجّهة إلينا في عيد الأضحى والمتمثّلة بتوضيح قصّة عيد الأضحى وقضيّة نبي الله إبراهيم مع ابنه نبي الله إسماعيل.
المراد بالذبح العظيم هو سيد الشهداء عليه السلام
وأتذكّر بأنَّني كنت قد سألت أستاذنا في ذلك الوقت الذي كنت أدرس فيه عندما كان يتحدّث عن هذا الموضوع عمّا تعنيه الآية: {وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ}(۱). [فقد جاءت هذه الآية بعد الآيات:] {وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}(٢). أي أنَّك قد اعتقدت بأنَّ أمر هذه الرؤيا أمر واقعي. فلو كان النبي إبراهيم يعلم بأنَّ ذلك كان أمراً امتحانياً، لما بقي لتصديق الرؤيا محلّ هنا، فهو امتحان لا أكثر، فقد كان يعلم عندها بأنَّ السكين لن تقطع رأس ابنه، فلا فضل له والحال هذه، ولم يفعل شيئاً. فمعنى {قد صدّقت الرؤيا} هو: إنَّك قد أخذت الأمر بجديّة وسعيت لتحقيق أمر هذه الرؤيا في الخارج. فقال أستاذنا: إنَّ معنى الذبح العظيم هو الكبش الذي نزل من الجنّة، فبما أنّه جيء به من الجنّة لفداء إسماعيل، فلا بدّ وأن يكون ذبحاً عظيماً إذاً. فقلت له: إن كان الأمر هكذا، فلا بدّ وأن تكون طماطم وخيار الجنة عظيمةً أيضاً! فكيف يمكن أن يُسمى ذلك الكبش النازل من الجنّة والذي افتُدي به النبي إسماعيل وهو النبي الحائز على مقام الخلافة الإلهية.. يُسمى بذبحٍ عظيم؟!
بل المقصود من الذبح العظيم هو ذلك الرجل الذي سيخرج من صلب نبي الله إسماعيل، والذي سيقوم بتحقيق هذا الوعد الإلهي. فلئن لم تعمل السكين في قطع رقبة النبي إسماعيل، فسوف يُصيب ذلك الرجل الذي سينزل كربلاء من السهام ما يمزّق جسده بحيث لا يتمكّن الآخرون من التعرّف عليه عند سقوطه أرضاً، وسيتلقّى جسد ابنه من ضرب السيوف ما يجعل الآخرين يعجزون عن حمله عندما يسقط عن حصانه. أتلاحظون؟ وعندئذٍ سيكون الأمر عجيباً! فلماذا لم يحصل ذلك للنبي إبراهيم وحصل لسيّد الشهداء؟ هذا الأمر عجيب جداً، فلقد حصل ذلك مع كون النبي إبراهيم كان مستعدّاً لإنجاز ما أُمر به. إنَّ النبي إبراهيم لم يستوعب الأمر منذ المنام الأول، فهو لم ينتبه إلى أنَّ ذلك كان أمراً إلهياً إلاّ بعد أن تكرّر المنام لمرتين أو ثلاثة، وفي هذا الأمر نكتة مهمّة.
لكنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن كذلك، بل كان هو الذي يعمل على إيجاد تلك القضايا، فلم يكن لينتظر بأن يؤمر بأمر معيّن، بل كان يفعل ما يريده الله منه! فهو الذي أوجد بنفسه كلّ تلك الأحداث، وهو الذي قام بتنفيذ تلك الإرادة؛ لأنَّه وليّ ومُتصرّف وواسطة وهو حقيقة عالم الوجود، فكان سيِّد الشهداء هو الذي يُنجز كلّ ذلك ويعمل على إيجاده بنفسه؛ على أنَّ هناك فرقاً شاسعاً بين من يرى مناماً ـ. لا ينبغي أن نتوغّل في الموضوع أكثر من هذا؛ لأنَّ فهمه سيكون عسيراً على البعض ـ [وبين من يُوجد تلك الأمور بنفسه]، فالتفاوت بين الحالتين تفاوت كبير.
لذا نرى كيف أنَّ الله قد استعمل عبارة الذبح العظيم. فيقول الله: لقد صرفت النظر عن ذبح إسماعيل غير أنَّني سأنفّذ هذا الأمر بحقّ رجل آخر، فهو مما يليق بمقام العظمة، وهو مما يستحق أن يُطلق عليه ويُمنح لقب العظيم.
إنَّ هذه القضيّة ذُكرت لنا هنا، فعيد الأضحى أوصل إلينا هذا الخطاب، وهو: انتبهوا جيداً! فإنَّ ما حصل للنبي إبراهيم قد يحصل لكم أنتم أيضاً، فيقول الله: أنا لم أذكر هذه القصّة في القرآن عبثاً، ولم يكن هدفي من ذكرها هو لتضخيم حجم القرآن أو لكي أسرد عليكم القصص، بل في هذه الحكاية التي نقلتها لكم أسرار خفيّة، من هذه الأسرار هو: كما أنَّ النبي إبراهيم كان قد أُمر بذلك الأمر الإلهي من أجل قطع التعلّق [بابنه]، فعليكم ـ ولكي تصلوا إلى النتيجة المطلوبة ـ أن تقوموا بقطع تعلّقكم بالنفس وبتلك الحقيقة التي يُعبّر عنها بالعين الثابتة والتي ترجع إلى نفس هويتها، وأن تعبروا عنها. فإن كان على النبي إبراهيم أن يقوم بذلك، فهذا الأمر مُيسّر لكم أنتم أيضاً؛ غير أنَّ عليكم أن تشمّروا عن سواعدكم، وأن لا تتقاعسوا عن أيّ عملٍ تشعرون بأنَّه حقّ، وأنَّه يقع ضمن التكاليف الإلهيّة التي أنتم مكلّفون بإنجازها والتي تحرز رضا الله، فإن كنتم كذلك، فستكونون في نفس هذا المسير، وإلاّ فأن تكاسلتم وتقاعستم عن إنجاز ما هو مطلوب منكم، فستخسرون بنفس نسبة تكاسلكم؛ إذ درجات الناس ستكون متفاوتة في ذلك العالم.
من خلال التأمّل في كلمات الإمام الصادق عليه السلام تلك، سنصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّ الإمام يريد أن يقول شيئاً واحدًا من خلال جميع تلك العبارات وهو: كيف يجب عليك أن تفكّر وتتصرّف في تعاملك مع الآخرين، وفي تعاملك مع المسائل الاجتماعيّة التي تخصّك؟ وما هو الأسلوب الذي عليك اتّباعه؟ إنَّ هذا أمر في غاية الأهميّة، وسنتحدّث عنه في المجالس القادمة إن شاء الله.
فأهم قضيّة كان العظماء يؤكّدون عليها، والتي أشار إليها المرحوم العلاّمة في كتابه الروح المجرد كذلك وأكّد عليها بشدّة هي: كيفيّة التعامل مع ما يحيط بالمرء من قضايا اجتماعيّة، وفي ما يرتبط بعلاقته مع الآخرين؛ سواء كان ذلك في داخل البيت أم خارجه، وسواء كان في التعامل مع الأصدقاء أو مع سائر أفراد المجتمع.
نسأل الله أن يجعلنا من أولئك الذين حصل لهم التوفيق بالالتزام بهذه الأمور. فبيان هذه المواضيع وسماعها والتفكير فيها والتأمّل بشأنها سيفتح الطريق أمام الإنسان. ولقد رأيت مصاديق هذه الأمور في زمان المرحوم العلاّمة بنفسي، فلم يكن المرحوم العلاّمة ليتكلّم فقط، بل كنت أرى كيفيّة تعامله وكيفيّة حديثه حول المواضيع المختلفة، فعندما ترى تصرفاته تشعر وكأنَّه لا وجود للهوى النفسي في عمله، فلم يكن يفكّر في نفسه أبداً، ولم يكن ليزن الأمور من منظاره الشخصي، بل كان ينظر إليها بالمنظار الواقعي ليرى هل يكون الأمر صحيحاً أم لا. لم يفكّر أبداً في أن ذلك سيجلب له الضرر أو المنفعة، ولم تكن طريقة تفكيره بالشكل الذي يٌقيِّم فيها الأمور من ناحيته الشخصيّة، ويُفكّر بمصلحته الشخصيّة قبل التوغّل في محتوى القضية، فتلك حقيقة كنَّا نشاهدها منه بأنفسنا.
سنستعرض للإخوة في المجالس القادمة إن شاء الله ما يتعلّق بهذا الأمر ومصاديقه.
اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد