المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم القرآن والحديث والدعاء
المجموعة نور ملكوت القرآن
التوضيح
هذه المجموعة في القسم الأول من دورة أنوار الملكوت (الشاملة لنور ملكوت القرآن، نور ملكوت المسجد، نور ملكوت الصلاة، نور ملكوت الصيام، ونور ملكوت الدعاء).
وقد دونت مجموعة (نور ملكوت القرآن) في أربعة مجلدات، جرى البحث خلالها عن هداية القرآن إلى أفضل مناهج وسُبل السلام، خلود أحكام القرآن، عدم نسخ القرآن، التطبيق العملي لآحاد آيات القرآن في كل عصر، الرد على نظرية تحديد النسل، دور القرآن وموقعه بعنوان كتاب سماوي، نقد ومناقشة بعض الأفهام الخاطئة للآيات القرآنية الكريمة، والإشكالات الواردة على مقالة (بسط وقبض نظرية الشريعة) وكتاب (الفكر والقيم).
ومن العناوين الاُخرى لهذه المجموعة: منطق القرآن توحيديّ، بيان القرآن لأخطاء التوراة والإنجيل، أحكام القرآن في الجهاد، القتل، الاستعباد، والفدية، سير القرآن في آيات الأنفس والآفاق، بيان محكمات القرآن ومتشابهاته، كيفيّة قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، تأثير القرآن في تربية الإنسان الكامل، عظمة أخلاق القرآن، بيان كيفية خلقة الإنسان والسيّارات في القرآن، دعوة الآيات الآفاقية إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، العربية وإعجاز القرآن، لزوم التكلم بالعربية لجميع المسلمين والرد على مسألة إحياء اللغات الفارسية القديمة، عظمة القرآن الكريم وأصالته، تأثير القرآن في الحضارة العظيمة الإسلامية، تفوّق علوم الإسلام على اليونان، بيان كيفية كتابة القرآن وطباعته، تأريخ التوراة والإنجيل الحاليّين، قاطعية القرآن وشموله، عموميّة القرآن الكريم وامتناعه على التغيير، كيفية جمع القرآن وتدوينه.
المقَدَّمَةُ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
و بعد، تمثّل مطالب هذا الكتاب خلاصة و ثمرة لما ألقيته بعد فريضة العصر من شهر رمضان المبارك سنة ألف و ثلاثمائة و تسعين هجريّة في مسجد القائم في طهران بين جمع من أخلّاء الروح و إخوة الإيمان. و لأنّ الكلام قد دار بين خمسة مطالب، هي. أهمّيّة القرآن الكريم، أهمّيّة الصلاة، الصيام و آداب المسجد، و أهمّيّة الدعاء و شروطه، فقد أدرجت هذه المطالب في كتاب باسم «أنوار الملكوت» يضمّ: «نور ملكوت القرآن»، «نور ملكوت المسجد»، «نور ملكوت الصلاة»، «نور ملكوت الصيام» و «نور ملكوت الدعاء».
تضمّنت طريقة البحث تفسير آيات القرآن الكريم و الروايات الوارده عن الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم في هذه المسائل مع شرح وجيز.
و كان من الألطاف الخاصّة للحضرة الأحديّة أن وُفِّقتُ في ذلك الشهر المبارك من إعداد الآيات و الروايات التي كانت مدار البحث، و كتابة شروح أساسيّة مختصرة لتلك الأبحاث، لتكون تذكرة لي عند مراجعتها فيما بعد،
لذا فلم يخلُ طبعها بتلك الصورة من نقص، كما أنّ أشغالي العلميّة قد منعتني طيلة هذه المدّة من مراجعتها و إعادة كتابتها.
و للّه الحمدُ و له المنّة، فقد حالفني التوفيق لمراجعتها مرّةً اخرى و إعادة كتابها و تقديمها بشكل مناسب للأصدقاء و الأحبّة و أهل الفكر. و كما هو معلوم فإنّ إعادة كتابتها بعد مضي ثمان عشرة سيضفي عليها زيادات كثيرة منبثقة عن إعجاز القرآن و إجاباته على المسائل المستحدثة؛ و أسأل الباري المنّان توفيق العلم و العمل لنفسي و لجميع الناظرين و المطالعين و شيعة مولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليه السلام.
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ.۱
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.٢
۱٤ شوّال المكرّم ۱٤۰۸ هـ.
البلدة الطيّبة للمشهد المقدّس الرضويّ على ثاويها آلاف التحيّة و الإكرام، و الصلاة و السلام.
عبده الفقير: السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
البَحْثُ الأوّل: القُرآنُ هُوَ الدَّلِيلُ إلَى الدِّينِ وَ النِّظَامِ الأقْوَمِ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَي سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِى العَظِيمِ
القرآن كتاب هداية و بشارة و إنذار
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ، وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.۱
لو تأمّلنا في مفهوم الآية الكريمة فسنحصل على ثلاثة مطالب:
الأوّل: أنّ القرآن الكريم كتابٌ يهدي المجتمع البشريّ و يرشده لأمتن و أتقن الأديان و الأساليب و المذاهب و المسالك و أرسخها، و هو معنى يستحقّ التأمّل و الدقّة لأهمّيّته البالغة، إذ منذ زمن أبي البشر آدم إلى يومنا هذا فكلّ ما جاء به الأنبياء و ما نطقوا به عن الله الحيّ القيّوم كان لإرشاد البشر و هدايتهم، و كذا الكتب المنزَلة إليه م كانت من أجل الدعوة إلى التوحيد، و بيان الحقائق و إرشاد الناس إلى منزل السعادة و تجاوز العقبات المهلكة و تحذيرهم من الأمراض الروحيّة و الخلقيّة، و كذا ما جاء
به الحكماء الإلهيّون الحقيقيّون الذين مجّدهم الإسلام كلقمان الحكيم و سقراط و أفلاطون و آخرين غيرهم، و ما بحثه هؤلاء و ما سطّروه من كتب أو أسّسوه من مدارس فكريّة، و ما قدّموا للعالم الإنسانيّ من تلامذة مقتدرين، و كذلك ما يقوم به العلماء و المفكّرون المتألّهون و غير المتألهين اليوم سعياً لتحقيق سعادة المجتمعات، و ما وضعوه من العلوم المستقلّة باسم علم الاجتماع و علم النفس و الفلسفة و دراسة الاسس الأخلاقيّة و الاسلوب الواقعيّ السليم لسعادة البشر و الحياة في ظلّ الهدوء و الطُّمَأنينة و السلام و الاستمتاع بجميع مواهب الإنسانيّة، و كذا ما اكتظّت به الجامعات و الكلّيّات من البحوث و الدراسات الدقيقه.
و كّل ما جاء بعد ذلك نتيجة للتكامل العلميّ و البحث و التحقيق و تأليف الكتب و تقديم فلاسفة جدد للعالم، و الجلوس على
الطاولات المستديرة، أو البيضاويّة أو المستطيلة أو المسدّسة، و الصعود إلى الفضاء و تسخير كواكب المرّيخ و الزهرة و عطارد سعياً لتخطيط أفضل برنامج للسعادة و الرقيّ؛ و مع سعة المجال و رحبة، و شمول النظرة إلى الأديان السماويّة و الوضعيّة، فالقرآن - نعم، هذا القرآن الذي نضعه في جيوبنا و نقرأ فيه - هو الأقوم و الأكثر سداداً و أصالة، و الأكثر جدارة في قبوله كهادٍ للمجتمع البشريّ إلى الصلاح العامّ و السعادة المطلقة و الحياة النظيفة المفعمة بالفائدة و العيش الرغيد.
و هذا المطلب مهمّ جدّاً، لأنّ هذه الآية - التي تُذاع اليوم من إذاعات الدول الإسلاميّة و الكافرة - تُظهر علناً أنّ برنامج القرآن هو الأفضل، و أنّ طريقة هديه و إرشاده هي أكثر من كلّ الطرق سداداً، و أنّ سكّان المعمورة على اختلاف ألوانهم و مناطقهم و معايشهم لو اجتمعوا و بحثوا في آداب و تقاليد و أهداف و عقيدة و نهج الحياة و اسلوب العيش و الاستفادة من أرقى
الطرق و المذاهب التي وضعوها نصب أعينهم ثمّ قارنوها مع أحكام القرآن من الكسب و التجارة و النكاح و العبادة و الصلاة و الصيام و الحجّ و الجهاد و القوانين التوحيديّة و البيانات العرفانيّة و المواعظ الأخلاقيّة و التعاليم العمليّة، لرأوا بامّ أعينهم أنّ الإسلام هو الأفضل بكثير و الأرفع و الأسمى و الأرقى، لأنّه يوصل البشر إلى تكاملهم الإنسانيّ بأقصر طريق، و يخطو في توظيف قوي الإنسان و طاقاته باسس حكيمه راسخة.
الثاني: أنّه يبشّر المؤمنين و المعتقدين بالحضرة الإلهيّة و المعترفين بالرسالة و المقرّين بالولاية بأنّ الخالق المنّان قد كتب لهم الأجر و الثواب الجزيل جزاء جهدهم المتواصل و سعيهم الجادّ و جهدهم في العمل و السلوك للوصول إلى النجاح و النجاة و الخلاص من هواجس النفس و نيل الدرجات العالية و المقامات السامية. فالقرآن إذاً، هو. كتاب بشارة و أمل و سرور و توفيق.
الثالث: أنّه يُحذّر منكري الخالق و الرسالة و الولاية، و بالتالي منكري الآخرة و يوم الثواب و العقاب، و يخوّفهم من العذاب الأليم العسير جزاء كفرهم و عقاب عدم إيمانهم. لذا يُعدّ القرآن كتاب تحذيرٍ و إنذار و تنبيهٍ و إيقاظ.
فالقرآن كتاب أمل و بشارة، و كتاب إنذار و تخويف، في نفس الوقت الذي يُعدّ برنامجاً لحركة الإنسان، بل هو أقوم البرامج وصولًا إلى أصدق الأديان و أصحّ المناهج و التطلّعات.
و نجد لهذه المطالب الثلاثة أمثلة كثيرة في القرآن الكريم، كما في صدر سورة النمل. طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ ، هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ.۱
و في سورة الكهف، حيث يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ، ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ، وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً٢ ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.٣
و القرآن مليء بالآيات المبشِّرة للمؤمنين و المنذرة و المخوِّفة للكافرين باعتباره أكمل كتاب و أفضل و أوضح طريق للتربية و التكامل مُحلِّقاً بجناحَي الخوف و الرجاء. لذا نرى أنّ الذين مثّلوا و جسّدوا الأمل و الرجاء المحض كعيسى ابن مريم، أو الذين مثّلوا الخوف المحض كيحيى ابن زكريّا، على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام، لم يمتلكوا درجة و مقام و شمول و جامعيّة رسول الله، الذي تمثّل و تجسّد فيه كلا الرجاء و الخوف، فلهذا كان طلّاب هذا الدين أوسع و أشمل و أكمل.
خطبة «نهج البلاغة» في وصف القرآن الكريم
و قد اعتبر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام - بهذا النظر - شخص الفقيه منحصراً بالشخص الذي يجمع هاتينِ الصفتينِ معاً، كما جاء في «نهج البلاغة». وَ قال عليه السلام: الفَقِيهُ كُلُّ الفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّط النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ؛ وَ لَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللهِ؛ وَ لَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللهِ!٤
و كذلك فقد عَدَّ في «نهج البلاغة» القرآنَ ربيعاً لقلوب الفقهاء فقال عليه السلام: وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الفُقَهَاءِ. لذا فمن الجليّ أنّ كتاباً كهذا من شأنه أن يجلو و يصقل قلوب الفقهاء الحقيقيّين و العارفين بالله الجامعين لصفتَي الرجاء و الخوف و يُحيي قلوبهم و يملؤها بالطراوة و البهجة، كهبوب نسائم الربيع على الورود.
و قد ورد هذا التعبير في خطبةٍ بدأت بعنوان يَعْلَمُ عَجِيجَ الوُحُوشِ في الفَلَواتِ، وَ معَاصِي العِبَادِ في الخَلَوَاتِ، وَ اخْتِلَافِ النِّينَانِ في البِحَارِ الغَامِرَاتِ، و بعد بيانٍ وافٍ في الموعظة و الأمر بالتقوى و مدح بالإسلام، و الثناء على عظمة و جلال النبيّ الأكرم محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم، يصل إلى وصف القرآن. الكتاب النازل على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فيقول:
ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَا مَصَابِيحُهُ؛ وَ سِراجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ؛ وَ بَحْرَاً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ؛ و منْهَاجاً لَا يُضَلُّ نَهْجُهُ؛۱ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلَمُ ضَوْؤُهُ؛ وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ؛ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أرْكَانُهُ؛ وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أسْقَامُهُ؛ وَ عِزَّاً لَا تُهْزَمُ أنْصَارُهُ؛ وَ حَقَّاً لَا تُخْذَلُ أعْوَانُهُ.
فَهُوَ مَعْدِنُ الإيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ، وَ يَنَابِيعُ العِلْمِ وَ بُحُورُهُ، وَ رِيَاضُ العَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ، وَ أثَافِي الإسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ، وَ أوْدِيَةُ الحَقِّ وَ غِيطَانُهُ، وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ المسْتَنْزِفُونَ، وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الماتِحُونَ، و منَاهِلُ لَا يَغْيضُها الوَارِدُونَ، و مَنازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا المسافِرُونَ، وَ أعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا
السَّائِرُونَ، وَ أكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا القَاصِدُونَ.
جَعَلَهُ اللهُ رَيَّاً لِعَطَشِ العُلَمَاءِ، وَ رَبِيعَاً لِقُلوبِ الفُقَهَاءِ، وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحاءِ، وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ، وَ نُورَاً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ، وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ، وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ، وَ عِزَّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ، وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ، وَ هُدى لِمَنْ ائْتَمَّ بِهِ، وَ عُذْرَاً لِمَنْ انْتَحَلَهُ، وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ، وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ، وَ حَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ، وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أعْمَلَهُ، وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ، وَ جُنَّةً لِمَنْ اسْتَلأمَ، وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى، وَ حَدِيثَاً لِمَنْ رَوَى، وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى.۱
نعم، إنّ البرنامج القرآنيّ خير برنامج للوصول إلى أفضل الأديان و الأنظمة و أمثلها، و لابدّ - لإثبات هذا المدّعى - من أن نأخذ قوانين و أساليب و آداب و عادات و أخلاق المجتمعات سواءً في ذلك المجتمعات القديمة أو الحديثة، و الامم المتحضّرة أو المتوحّشة، و ما جاء به أصحاب المذاهب الإلهيّة و أصحاب المذاهب المادّيّة و الطبيعيّة كلًّا على انفراد، ثمّ نقارن ذلك القانون و البرنامج الخاصّ بموضوعٍ معيّن مع ما جاء في القرآن الكريم، لتتّضح ميزة الحكم القرآنيّ و سموّه و تفوّقه في ذلك الموضوع.
جزاء السبّ السبّ فقط، أو العفو عنه
و على سبيل المثال، لو صدر من أحد الرعايا في عصر معيّن - حتّى لو كان من الرعاع السوقة - جسارة و وقاحة تجاه السلطان ذلك العصر و حاكمه المطلق، كأن يسبّه و يشتمه و يلعنه، فسيحكم عليه حسب القوانين المتداولة بعقاب خاصّ من حبسٍ و تعذيب و نفيٍ و جَلد و قتل. أمّا الإسلام فيقول: المسلمون سواسيةٌ كأسنان المشط، لا فضل للحاكم على المحكوم،
و لا للراعي على الرعيّة، و لا للسطان على من انضوى تحت سلطانه؛ فلو صفع أحدٌ الحاكمَ فللحاكم أن يقتصّ منه صفعةً بصفعة لا أكثر، و له كذلك أن يعفو عن ذنبه و يتجاوز عن إساءته، فذاك أولى و أجمل.
وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.۱
و لقد شاهدنا في زمن الحكم الإسلاميّ العادلة أنّ الأمر كان بهذه الكيفيّة حقّاً، و أنّ هذا الحكم القرآنيّ الرفيع كان يُطبّق على الشريف و الوضيع، و الغنيّ و الفقير، و الحاكم و المحكوم على حدٍّ سواء فَحَبَّذَا بِهَذَا المنْهَاج.
ورد في «نهج البلاغة» أنّ أحد الخوارج سبّ أميرَالمؤمنين عليه السلام، فوثب أصحاب الإمام ليقتلوه، فمنعهم و بيّن أنّ جزاءه سبٌّ بسبّه، أو عفو و إغضاء عن ذنبه.
يقول السيّد الرضيّ جامع «نهج البلاغة». وَ رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ جَالِسَاً في أصْحَابِهِ، فَمَرَّتْ بِهِمُ امْرَأةٌ جَمِيلَةٌ فَرَمَقَهَا القَوْمُ بِأبْصَارِهِمْ، فَقال عليه السلام: إنَّ أبْصَارَ هَذِهِ الفُحُولِ طَوَامِحٌ، وَ إنَّ ذَلِكَ سَبَبُ هَبَابِهَا. فَإذَا نَظَرَ أحَدُكُمْ إلَى امْرَأةٍ تُعْجِبُهُ فَلْيُلَامِسْ أهْلَهُ. فَإنَّمَا هي امْرَأةٌ كَامْرَأةٍ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الخوَارِجِ: قَاتَلَهُ اللهُ كَافِرَاً مَا أفْقَهَهُ! فَوَثَبَ القَوْمُ لِيَقْتُلُوُهُ.
فَقال: رُوَيْدَاً؛ إنَّمَا سَبٌّ بِسَبٍّ، أوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ.٢
و نلاحظ في هذا المورد أنّ الإمام عليه السلام كان في زمن خلافته
و في أوج قدرته الظاهريّة، لكنّه لم يتخطّ حين سبَّه الرجلُ الخارجيُّ القانونَ القرآنيَّ قيد شعرة، و أوضح أنّ جزاءه السبّ بالمثل لا غير، ثمّ جعل العفو في المرتبة العليا و الفضلي.
فقد أجرى عليه السلام نفس هذا الحكم القرآنيّ في الواقعة التي انهال بها ابن ملجم المراديّ على مفرق رأسه الشريف، و التي خُتمت باستشهاده، إذ يقول عليه السلام في وصيّته بعد إصابته:
أنَا بِالأمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَ اليوم عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَ غَدَاً مُفَارِقُكُمْ، إنْ أبْقَ فَأنَا وَلِيُّ دَمِي، وَ إنْ أفْنَ فَالفَنَاءُ مِيعَادِي، وَ إنْ أعْفُ فَالعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.۱
و يقول: يَا بَنِي عَبْدِالمطَّلِب! لَا ألْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ المسْلِمِينَ خَوْضَاً، تَقُولُونَ قُتِلَ أمِيرُالمؤمِنِينَ. ألَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إلَّا قَاتِلِي، انْظُرُوا إذَا أنَا مُتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ، فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ؛ وَ لَا يُمَثَّلُ بِالرَّجُلِ، فَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يقول: إيَّاكُمْ وَ المثْلَةَ وَ لَوْ بِالكَلْبِ العَقُورِ.٢
و هذا من أرقى القوانين القرآنيّة و أسماها، لأنّه يعطي لوليّ الدم حقّ القصاص بالمثل و لا غير، ثمّ يضع العفو أمام أنظاره و يرغّبه فيه، ولو قُدّر لأميرالمؤمنين عليه السلام أن يشفي و يُعافي من ضربته لعفي كما قال، إذ العفو خير؛ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ؛۱ و حين يكون العفو المنبثق عن أفضل الصفات النفسيّة و الكمالات الروحيّة أفضل لعموم المسلمين، فمن المسلّم أن يكون لأميرالمؤمنين عليه السلام - و هو السابق إلى الإيمان - أفضل
و أولى. لكنّ العفو كان بِيَدِ الإمام الحسن المجتبى وليّ دم أبيه بعد رحيله، ولو اقتضت الظروف لعمل هو أيضاً وفق برغبة أبيه و تبعاً للأولويّة القرآنيّة لعفى، لكنّ أوضاع ذلك الوقت، من خروج الخوارج، و شقّ معاوية و أعوانه عصا الطاعة على أميرالمؤمنين، كانت ستجعل عفو وصيّ الأب عن جانٍ خطر كابن ملجم، محمولًا على وهن قدرته و ضعف حكومته، لذا فقد رجّح الإمام الحسن عليه السلام القصاص، و طبقاً لوصيّة أبيه، فقد أنزل به ضربة واحدة فقط.
حكم القصاص في القرآن حكم حيويّ
إ نّ القصاص الذى يطبّق في الجرائم العمديّه، من قتل القاتل مقابل القتل، و قطع يد الضارب مقابل قطع اليد، و قطع اللسان باللسان، وفقأ العين بالعين، يعدّ من أرقى القوانين القرآنيّة.
إذ أوّلًا: يأخذ للمجني عليه حقّه الفطريّ و العقليّ و الشرعيّ، بعد ارتكاب الجناية العمديّة، و تهديد حياته الإنسانيّة و سلامته، و سلب نعمة عمره أو جميع أعضائه، إذ يقابَل الجاني بالمثل، أي يطبّق بحقّه بنفس ما قام به ضدّ المجني عليه.
و ثانياً: القصاص مانع للجريمة، فلو علم الناس أنّهم سيُجزون بمثل ما ارتكبوه عمداً، أي أنّ القاتل سيُقتل، و الصافع سيُصفع، و مَن كسر عظم شخص فسيُكسر منه نفس العظم، و مَن صلم اذن شخص فإنّ اذنه ستُصلم، عندها سوف لن يجرؤ أحد بالإقدام على الجريمة.
لكنّ حكم القصاص إن لم يُقرّ كقانون، و اكتُفي بجعل عقاب الجريمة الحبس أو التبعيد أو الدية، فسيفتح ذلك الطريقَ للناس بارتكاب الجريمة و إنزال الأذى بأعدائهم قتلًا أو ضرباً، و خاصّةً الطبقات الغنيّة المرفّهة التي تمتلك المال الكثير و التي لا يضيرها دفع الدية. و بهذه الحال، سيذهب دم المظلوم هدراً، و سيحلّ من جرّاء ذلك التفكّك في الحياة الاجتماعيّة
و اسسها.
لذا فقد ورد في القرآن الكريم بهذا الخصوص:
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.۱
و قد وردت هذه الآية المباركة بعد آية تحدّثت هي أيضاً عن القصاص، تقول:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.٢
حكم التوراة و الإنجيل في القصاص يطابق حكم القرآن
علماً أنّ حكم القصاص و الثناء على العفو الواردينِ في القرآن الكريم، هما بعينهما حكم القصاص و العفو اللذان نزلا في شريعة موسى في التوراة، و في شريعة عيسى في الإنجيل على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام، ثمّ احكما و اقِرَّا في القرآن الكريم.
أمّا في التوراة، فيقول الله سبحانه:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ، وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.۱
ما نراه في الآيتين هو. أنّ حكم القصاص حقّ للمجنى عليه، و العفو - الذي هو أمر مقبول - قد وُضِعَ في اختياره. و قد ورد هذا المطلب بعينه في التوراة المتداولة حاليّاً، حيث جاء في الإصحاح الحادي و العشرين من سفر الخروج من التوراة أنّه:
(۱٢) مَن ضرب إنساناً فمات يُقتل قتلًا.
(۱٣) و لكنّ الذي لم يتعمّد، بل أوقع الله في يده، فأنا أجعل له مكاناً يهرب إليه.
(٢٣) و إن حصلت أذية تعطي نفساً بنفس، و عيناً بعين، و سنّاً بسنّ، و يداً بيد، و رجلًا برجل، وكيّاً بكيّ، و جرحاً بجرح، و رضّاً برضّ.٢
و جاء في الإصحاح الرابع و العشرين من سفر اللاويين أنّه:
و إذا أماتَ أحدٌ إنساناً فإنّه يُقتل، و من أمات بهيمةً فإنّه يعوّض عنها نفساً بنفس، و إذا أحدث إنسانٌ في قرينه عيباً، فكما فعل كذلك يُفعل به، كسرٌ بكسر، و عينٌ بعين، و سنٌّ بسنّ، كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يُحدث فيه.٣
و أمّا في الإنجيل فلأنّ الله عزّ و جلّ بعد الآيات السابقة يقول:
وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ، وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ.۱
و نرى في هذه الآية أنّ الله سبحانه جعل عيسى مصدّقاً للتوراة و جعل كتابه الإنجيل أيضاً مصدّقاً لها، و يلاحظ أنّ جملة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ - التي تكرّرت مرّتين - لم تكن تأكيداً، بل أفادت تصديق الإنجيل للتوراة إضافة إلى تصديق المسيح لها.
لذا، فكتاب الإنجيل تابع لشريعة كتاب التوراة، و لم يأت حكم في التوراة إلّا و قد أمضاه الإنجيل و دعا الناس إليه، عدا بعض محرّمات التوراة التي أحلّها المسيح، كما نطق الله سبحانه بلسانه.
وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ.٢
و بناءً هذا، فحكم القصاص و العفو من وجهة نظر السيّد المسيح و تعاليم الإنجيل هو نفسه عند موسى و كتاب شريعته. التوراة.
و أمّا في القرآن الكريم، فلأنّ الله سبحانه يقول بعد هذه الآية:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ، وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
لَفاسِقُونَ.۱
و ما بحثناه هنا في حكم القصاص و العفو، طبقاً لدلالة هذه الآيات المباركة، فإنّ شرائع النبيّ محمّد و المسيح و موسى عليهم الصلاة و السلام تتطابق و تتّفق بشأنه، و أنّ ما يُشاهد في الإنجيل المتداول حاليّاً أن «إذا صفعك أحد على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر، و إذا أرادوا انتزاع عباءتك فهَبْ لهم معها ثوبك»!
إمّا أن تكون عبارات مُختلقة نُسبت للمسيح عليه السلام، أو أنّه عليه السلام أراد أن يمتدح العفو و المسامحة و يثني عليهما، و أن يؤكّد على إعمال صفة الإغضاء و كرم الأخلاق، و أن يُثير في الناس بشكلٍ مبالغٍ فيه مشاعر العفو و المسامحة بعد فرض قانون القصاص و صيرورته بين الناس في حكم المسلّم، و إلّا فإنّ إجبار الناس على هذا الاسلوب من العفو سيؤدّي لا إلى تعطيل قانون القصاص و عدم الاهتمام بأمر العفو فحسب، بل ستصل رغبة المسيحيّين في الانتقام و إذلال الآخرين بقسوة و عدوانيّتهم و تعطّشهم لسفك الدماء إلى الحدّ الذي برزت نماذجه في الحروب الصليبيّة و في الحروب العالميّتينِ، حيث سوّدت فظائعهم و قسوتهم و عنفهم صفحات تأريخ المسيحيّة.
انتقاد وِل ديورانت لقانون الإنجيل لعدم فرض القصاص
يقول وِل ديورانت. لم يدعُ الإسلام إلى مقابلة الإساءة بالإحسان، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ،٢
وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ،۱ تلك أخلاق تليق بالرجال، شبيهة بما جاء في العهد القديم، فهي تؤكّد فضائل الرجولة كما تؤكّد المسيحيّة فضائل الانوثة، و ليس في التأريخ دين غير دين الإسلام يدعو أتباعه على الدوام إلى أن يكونوا أقوياء، و لم يُفلح في هذه الدعوة دين آخر بقدر ما أفلح فيها الإسلام.
و يُستَشَمّ من تعبير ديورانت بانوثة أخلاقيّة تعاليم الإنجيل رائحة انتقاده لها، و عزى ذلك إلى الضعف و القوى الانفعاليّة، على العكس من الإسلام الذي تصدر قوانينه ناشئة من القوّة و الموقف الراسخ، و قوى الفعل.
إ نّ عدم تطبيق الحدود و فقدان قانون القصاص عند أتباع الكنيسة في شريعة الإنجيل الفعليّة قد أدّى إلى شيوع الفحشاء و المنكرات و العلاقات المنحرفة بينهم أكثر من شيوعها بين إليه ود و الامم الاخرى؛ و لقد كشف شاعر ظريف عن معنى عميق في هذا الشأن و في أمثاله بأبياتٍ أنشدها باسلوب الملحة و الطريفة، قال:
كشيشي را شنيدم در كليسا | *** | سخن ميگفت از أحكام عيسى |
كسي تان گر زند سيلي به رخسار | *** | مياشوبيد بر وي هيچ، زنهار٢ |
اگر بر راست زد چپ پيش داريد | *** | وگر چپ، راست را نزديكش آريد |
ز جا برخاست ماهي عنبرين موي | *** | گشود از يكدگر لعل سخنگوي |
كه بهر سيلي اين حكم مبين است؟ | *** | و يا در بوسه هم حكم اين چنين است؟۱ |
أجل، فتماسك المجتمع الإنسانيّ، و قوام الحضارة البشريّة، و الوصول إلى معارج الحياة إنّما هو في فرض حكم القصاص الذي يردع الناس خوفاً و حذراً عن ارتكاب الجريمة، ممّا يؤدّي إلى امتناع تحقّق هذا الحكم عمليّاً في الخارج، أمّا إذا ما ارتُكبت جريمة ما، و وجد لهذا الحكم مصداق يجعله يتحقّق فعلًا، فإنّ حكم القصاص سيمنح - على أيّة حال - المجتمع حياةً و قدرة و يهبه عزّة و استقلالًا سهل المنال.
تطبيق حكم القصاص، يمنع ارتكاب الجريمة في المجتمع
و أهمّ من هذا كلّه فالقصاص يدعو إلى ترك الجريمة، ممّا يؤدي إلى عدم تحقّقه في الخارج، أي أنّ هذا الحكم في عموميّته و شموله سيؤدّي إلى انتفاء تحقّق مصاديق له في الامور الجزئيّة، و يمتلك كلّ واحد من الأحكام الجزائيّة فائدة في عدم تحقّق الجريمة في المجتمع فينتج عنهعدم تحقّق ذلك الحكم الجزائيّ نفسه.
فالإسلام الذي قال: يجب قطع يد السارق، إنّما قال ذلك لمنع السرقة و حفظ الأيادي من القطع، و إذا لم نشاهد في المجتمع الإسلاميّ يداً
مقطوعة، فلا ينبغي أن نقول إنّ حكم قطع يد السارق منسوخٌ لا يجري تطبيقه، بل يجب القول. إنّ إجراء الحكم و تطبيقه بالشكل الكامل و الدقّة المتناهية قد و أد السرقةَ في مهدها فانتفت، فتعذّر وجود يد مقطوعة لأحد.
و حين قال الإسلام. بإمكان وليّ دم المقتول أن يقتصّ من القاتل فيقتله، كان ذلك من أجل أن ينتفي القتل و ينعدم وجود قاتل كي يُقتل قصاصاً، و لم يقل الإسلام ذلك لكي يستمرّ حدوث القتل و يُعدم القتلة قصاصاً، فهذا الحكم هو الطريق الأفضل و الحلّ الأمثل لتجنّب القتل.
و نستنتج من ذلك. سخافة و بطلان تساؤل البعض. أي جدوى تعود من قطع يد السارق غير إضافة رجلٍ أجذم إلى المجتمع؟ لقد قَتَلَ القاتلُ أحد أفراد المجتمع و ألحق بالمجتمع خسارة بهذه الجسامة، فإذا ما قتلنا القاتل نكون قد أعدمنا فرداً آخر من المجتمع و خسرنا في النتيجة فردينِ من أفراده.
نحن لا نقول هنا. إنّ قطع يد الساق أمام مرأى الناس سيجعل الآخرين يرتدعون، بل نقول. إذا ما تقرّر قطع يد السارق فإنّ أحداً لن يُقدم على السرقة، و لذا فإنّ العلاج الوحيد لمنع ارتكاب السرقة و حالة القلق و الاضطراب في المجتمع، و لطمأنة هواجس الامّهات النائمات في ظلمة الليل البهيم عند أطفالهن الرضّع، إنّما يكمن في تجسيد هذا الحكم عمليّاً، و إلّا فالتوقيف و السجن و الغرامة و النفي لا تفي بالغرض، لأنّ السجون و الحال هذه سوف لن تمنع من السرقة، بل ستكون بؤراً لإعداد اللصوص.
فعلى أساس إجراء حكم القصاص بالنسبة للقاتل، سوف لن يكون هناك مقتول لينال القاتل قصاصه، و عليه فسوف لن نفقد الفرد الأوّل و لا الفرد الثاني، بل سيعيش الاثنان سالمينِ عمراً طويلًا يتمتّعان بمواهب
الحياة، أمّا في حالة عدم إجراء حكم القصاص، فسيحدث القتل الأوّل بكلّ تأكيد، و سيرتكب هذا القاتل المتجرّئ أعمال قتل عديدة اخرى - كما أكّدته التجربه - مضافاً إلى فإنّ عدم القصاص من القاتل سيشجّع بقيّة أفراد المجتمع على ارتكاب القتل.
فعدم القصاص من القاتل - الذي يمثّل فرداً واحداً - سيجعلنا نشاهد قتل عدّة من الأفراد، و بدلًا من فردٍ واحد فإنّ الكثيرين سيموتون و يرحلون عن عالم الوجود بلا ذنب أو جرم.
هنا، تتجلّى عبارة القرآن الكريم المدهشة العميقة متلألئة أن:
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.۱
(أي. يا اولي الألباب! يا من تخوضون في عالم العلم و المعرفة! إنّكم قد سقتم المجتمع نحو الحياة الواقعيّة و لمستم حقيقة العيش و الحياة في ظلّ إجراء حكم القصاص؛ و إنّ الغاية من جعل هذا الحكم لأجل إبعادكم عن القتل و عدم تلويث أياديكم بالجريمة، و لحفظ و صيانة أفراد مجتمعكم من التعرّض لجرائم قتل العَمْد).
الرد على الأطباّء الذين تردّدوا في قطع يد السارق
زارني ذات يوم في البيت مجموعة من أطبّاء مستشفى القائم في مدينة مشهد المقدّسة، حيث قضي هذا الحقير مدّةً هناك للعلاج نشأت فيها بيننا علاقات تعارف و مودّة، و خلال المباحثة قال أحدهم. لقد جاءوا يوماً بسارقٍ إلى المستشفى ليقطعوا يده، فقلنا إنّنا ارتدينا لباس الطبابة الأبيض لنعالج الأصابع المقطوعة فنخيطها و نصلها بيدها التي قُطعت منها لا أن نعمد إلى أصابع سالمة فنقطعها و نفصلها بالمبضَع و السكّين؛ ثمّ تساءل. أكان كلامنا صائباً أم لا؟
فأجبت. لقد كان خاطئاً بالتأكيد، إنّ قولكم هذا هو مغالطةٌ و كلامٌ شاعريّ ينبع من أوهام و تخيّلات واهية و لا يرتكز على أساس من البرهان و التعقّل.
و قد دهش الجميع لقولي - و كانوا بحدود خمسة عشر طبيباً، بينهم عدّة جرّاحين و رئيس و نائب رئيس المستشفى - و تأهبّوا للدفاع عن مقولتهم.
فقلت. أسألكم أوّلًا، ألا تقطعون إصبعاً أو أصابعاً سالمة بأيّوجهٍ من الوجوه؟ فلو اصيبت - مثلًا - أصابع مريض ما بالجدري أو بالتعفّن و التلف أفلا تقطعونها؟ أوَ لم يحتمّ واجبكم الطبّيّ قطعها في هذه الحالة؟!
قالوا: عند إصابة الأصابع بأيّ مرض معدٍ يؤدّي إلى انتشار العدوي و سريانها إلى باقي الأعضاء و تهديد حياة المريض و سلامته، فتستلزم الحالة هنا قطع الأصابع و استئصالها.
فقلتُ. الجواب هو ما تفضّلتم به، و الشرع الإسلاميّ يقطع أصابع السارق لا أصابع الشخص الأمين، و إن لم تُقطع أصابع السارق فإنّ مرض السرقة سيسري إلى أيدي و أكتاف و جميع بدن المجتمع، و سيؤدّي إلى مرض و فساد المجتمع بأسره، و سيجعل السرقة تبدو أمراً هيناً سهلًا. و مضافاً إلى إعداد السارقين، فإنّه سيهدّد راحة و أمن الرجال و النساء بكلّ وقاحة و يعرّض أموالهم و مكاسبهم و ثمرة أتعابهم للسلب و المصادر سرّاً.
فهو أوّلًا يمثّل تضييعاً و هدراً بلا داعٍ لرصيد عمر الأفراد بالقهر و الاعتداء. و هو ثانياً سيدعهم يتجرّعون الحسرة و يعيشون حالة إلى أس بدلًا من الحياة المعتدلة التي كانوا يعيشوها كعريسينِ قد أثّثا حديثاً غرفةً و فرشاها و شرعا حياتهما الجديدة، و هو ثالثاً يسلب راحة البال و النوم الرغيد و الأمن من أفراد المجتمع. و رابعاً فإنّ السارق الذي كان ينبغي أن
يكون فرداً مؤمناً ملتزماً قد آل مصيره إلى شخص جانٍ مجرم، فصار عضواً فاسداً زائداً، و بدلًا من مساهمته في خدمة المجتمع قد تحوّل إلى عالةٍ عليه، فهو يتلف ثرواتهم غصباً و عدواناً، و يلوّث نفسه و يُسقطها من حدّ الإنسانيّة إلى مستوى البهيميّة و السبُعيّة التي لا تفقه إلّا الافتراس و لا تعرف إلّا النهب و الإتلاف.
أفلا تعدّ هذه المفاسد بحكم الجدري الذي تقتضي الوقاية منه إلى الإسراع في قطع الأصابع للحدِّ من عدم انتشار الوباء؟
إ نّ واجب الطبيب و الجرّاح قطع الجزء الفاسد و الجرح المهلك، و استئصال غدد المخّ و الغدد السرطانيّة، فإذا كانت أصابع السارق في نظر الشارع الحكيم بمثابة الغدّة المهلكة، فعلى كلّ طبيب ملتزم أن يسارع لاستئصالها إبقاءً على كيان المجتمع من التلف.
و من وجهة نظر فلسفة و حكمة تشريع قطع يد السارق يقول الله الحكيم في القرآن الكريم:
وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا۱ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.٢
أي أنّ هذه العقوبة المعيّنة إنّما كانت لاتّعاظه و اعتباره، فإذا ندم السارق و تاب من جرمه، فالربّ العطوف سيتجاوز عن ذنبه يوم القيامة
و يتغمّده بعفوه، و الله غفور رحيم.
شروط إجراء حكم قطع يد السارق
أمّا من جهة خصوصيّات و شروط إجراء هذا الحدّ، فيجب العلم أنّ هذا الحكم لا يجري على كلّ سرقة، و بأيّ صفة و كيفيّة، بل إنّ قطع يد السارق إنّما يتمّ عند استيفاء اثني عشرة شرطاً مجتمعين.
الأوّل: أن يكون السارق قد وصل سنّ البلوغ، فلو سرق الصبيّ غير البالغ لا يحدّ، بل يكتفي الحاكم الشرعيّ بتعزيره.
الثاني: أن يكون السارق عاقلًا، فإن سرق المجنون في حال جنونه، فلا حدّ عليه.
الثالث: الاختيار، فلا تُقطع يده مَن اجبِر على السرقة.
الرابع: أن يكون قد سرق من حِرز، أي إذا دخل موضعاً مقفلًا محرزاً؛ فلو سرق شخص من صحراء و جادّة و حمّام و مسجد و نظيرها من الأماكن التي يطرقها الناس بغير إذن فلا تُقطع يده.
الخامس: أن يكون الهاتك للحرز نفس السارق، كأن يكسر قفلًا أو ينقب جدار بيت، فإن كسر شخصٌ آخر القفل فسرق السارق المال فلا تُقطع يد السارق.
السادس: أن لا يكون السارق في معرض شبهة الملكيّة و المأذونيّة في التصرّف، فلو توهّم أنّ المال الفلانيّ ملكه، أو أنّ له الإذن في التصرّف به، أو حصل للحاكم الظنّ بذلك فلا حدّ عليه.
السابع: أن يكون مقدار المال المسروق ربع دينار من الذهب الخالص المسكوك أو ما يُعادله، فلو نقص عن ذلك، فلا تُقطع يده.
و ربع الدينار بالقيمة الحاليّة - حيث إنّ (سكّه آزادي)۱ تعادل ستّة
عشر۱ ألف توماناً - يبلغ ألفَي تومان، إذ إنّ صاحب «الجواهر» في كتاب الزكاة من كتابه «الجواهر» قد ادّعى الإجماع على أنّ الدينار الواحد ذهباً يزن مثقالًا شرعيّاً واحداً - انتهى.٢
و معلو م لدينا أنّ المثقال الصيرفيّ المتداول في أسواقنا أثقل من المثقال الشرعيّ بمقدار الثلث، أي.
أنّ المثقال الصيرفيّ يعادل (+۱) المثقال الشرعيّ، و المثقال الشرعيّ المثقال الصيرفيّ.
و باعتبار أنّ المثقال الصيرفيّ وزنه ٢٤ حمصة، فيصبح وزن المثقال الشرعيّ ۱۸ حمصّة (من الذهب المسكوك).
و من جهة اخرى فقد عيّنوا۱ الوزن الدقيق لـ «سكّه آزادي» ٢٥/ ٣٦ حمّصة، أي مثقالًا و نصف المثقال و ربع حمّصة صيرفيّ، و على هذا فإنّ وزن «سكّه آزادي» واحدة يعادل مثقالين و ربع حمّصة شرعيّاً.
«سكّه آزادي» واحدة = ٢٥/ ٢ مثقالًا شرعيّاً.
و باعتبار المثقال الشرعيّ يزن ۱۸ حمّصة، لذا فإنّ.
«سكّه آزادي» واحدة = ٢ ٢٥+ ۱۸/۰ حمّصة أي ٣٦ حمّصة تقريباً.
وزن المثقال الشرعيّ = = ۱۸ حمّصة تقريباً.
قيمة المثقال الشرعيّ = ۸۰۰۰ تومان.
قيمة ربع المثقال الشرعيّ (أي ربع دينار) = ٢۰۰ تومان.
و على هذا الحساب، فلو سرق السارق ما قيمته أقل من هذا المقدار، فلا يُحَدّ.
الثامن: أن تكون السرقة سرّاً، فلو سرق السارق شيئاً علناً بحضور مالكه، فلا تقطع يده.
التاسع: أن لا تكون السرقة، سرقة أب من مال ولده، حيث إنّ الحكم لا يُجري في هذه الحالة.
العاشر: أن لا تكون السرقة، سرقة عبدٍ من مال مولاه، إذ لا تقطع يد العبد في هذه الحالة.
الحادي عشر: أن يكون إرجاع السارق للحاكم بناءً على طلب الغريم أي صاحب المال المسروق، فلو عفي صاحب المال و لم يُرجع السارق للحاكم لا يُقام عليه الحدّ.
الثاني عشر: أن لا تكون السرقة في عام مجاعة أو قحط، عندها لاحدّ عليه.
هذه هي الشروط التي ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة، لذا فإنّ قطع يد السارق إنّما يتحقّق في موارد نادرة فقط، و ذلك حين تجتمع الشروط الاثنا عشر و تثبت سرقة السارق عند الحاكم الشرعيّ، أي المجتهد الجامع للشرائط بإقرار السارق و اعترافه، أو بقيام البيّنة و شهادة رجلين عادلين، و إلّا فالحاكم لا يقيم الحدّ على السارق.
أمّا حكم القطع فعبارة عن قطع أصابع اليد إلى منى فقط. الخنصر و البنصر و الوسطى و المسبّحة (السبّابة)، و تُترك راحة اليد و الإبهام.
مناظرة شعريّة بين المعرّي و عَلَم الهدى في قطع يد السارق
جاء في «روضات الجنّات» في شرح حال و ترجمة أبي العلاء المعرّيّ أنّه كان يأتي من الشام إلى بغداد للحضور في مجلس عَلَم الهدى السيّد المرتضى، فاعترض يوماً على السيّد المرتضى رضوان الله عليه و أنشأ يقول بمقتضى إلحاده شعراً:
يَدٌ بِخَمْسِ مَئينٍ عَسْجدٍ وُدِيَتْ | *** | مَا بَالُهَا قُطِعَتْ في رُبْعِ دِينارِ |
فأجابه السيّد المرتضى بهذا البيت:
عِزُّ الأمَانَةِ أغْلَاهَا، وَ أرْخَصَها | *** | ذُلُّ الخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ البَارِي۱ |
و في رواية:
حَرَاسَةُ الدَّمِ أغْلَاهَا وَ أرْخَصَهَا | *** | حَرَاسَةُ المالِ فَانْظُرْ حِكْمَةَ البَارِي |
و أجابه رجل آخر من أهل المجلس بقوله:
هُنَاكَ مَظْلُومَةٌ غَالَتْ بِقِيمَتِهَا | *** | وَ هَا هُنَا ظَلَمَتْ هَانَتْ عَلَى البَارِي |
و قال رجل آخر. لَمَّا كَانَتْ أمِينَةً كَانَتْ ثَمِينَةً؛ فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ.
و نظم آخر هذا المعنى بقوله:
خِيَانَتُهَا أهَانَتْهَا وَ كَانَتْ | *** | ثَمِينَاً عِنْدَمَا كَانَتْ أمِينَا۱ |
و على هذا البيان فإنّ القوانين الجزائيّة ترادف القوانين العباديّة و الاجتماعيّة و المدنيّة في ضرورتها و وجوبها للمجتمع، و واجب الطبيب أن لا يتخلّف عن مسؤوليّته في إجراء كلا القانونين، إذ إنّهما أشبه بجناحَي طائر لا يمكنه التحليق إلّا بهما معاً، و سيعجز هذا الطائر عن الطيران بجناحٍ واحد و يصبح غنيمةً باردة للصياد و ملهاةً لأطفال الحارة، و ستتبدّل حياته موتاً و تفوّقه و سعادته شقاءً و ذلًّا و مسكنة.٢
و من هنا فقد عبّر القرآن الكريم عن القصاص بكلمةٍ. الحياة، ما أعجبها من كلمة تأخذ بالألباب.
في مفهوم و لطائف آية: وَ لَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ
و قد قال الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف في تفسير هذه الآية المباركة القرآنيّة: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ،۱: إشارة إلي حكمة التشريع، و دفع ما ربّما يتوهّم من تشريع العفو و الدية، و بيان المزيّة و المصلحة التي في العفو، و هو نشر الرحمة و إيثار الرأفة، أنّ العفو أقرب إلي مصلحة الناس، و حاصله أنّ العفو ولو كان فيه ما فيه من التخفيف و الرحمة، لكنّ المصلحة العامّة قائمة بالقصاص، فإنّ الحياة لايضمنها إلّا القصاص دون العفو و الدية و لا أي شيءٍ ممّا عداهما، و كلّ من كان ذا لبّ لا يحكم إلّا بذلك، و قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أي القتل، و هو بمنزلة التعليل لتشريع القصاص.
و قال أيضاً. و قد ذكروا أنّ الجملة، أعني قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ (الآية)، على اختصارها و إيجازها و قلّة حروفها و سلاسة لفظها و صفاء تركيبها من أبلغ آيات القرآن في بيانها و أسماها في بلاغتها، فهى جامعة بين قوّة الاستدلال و جمال المعنى و لطفه و رقّة الدلالة و ظهور المدلول. و قد كان للبلغاء قبلها كلمات في القتل و القصاص يعجبون ببلاغتها و جزالة اسلوبها و نظمها، كقولهم: قَتْلُ البَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. و قولهم: أكْثِرُوا القَتْلَ لِيَقِلَّ القَتْلُ. و أعجب من الجميع عندهم قولهم:
القَتْلُ أنْفَى لِلقَتْلِ، غير أنّ الآية فاقت الجميع و نفت الكلّ: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ، فالآية أقلُّ حروفاً و أسهل في التلفّظ و فيها تعريف الْقِصاصُ و تنكير الحياة ليدلّ على أنّ النتيجة أوسع من القصاص و أعظم، و هي مشتملة على بيان النتيجة و على بيان حقيقة المصلحة و هي الحياة، و تتضمّن إيصال معنى حقيقة غاية و فائدة القصاص، فالقصاص هو المؤدّي إلي الحياة دون القتل، فإنّ من القتل ما يقع عدواناً ليس يؤدّي إلي الحياة، و هي مشتملة على أشياء اخر غير القتل تؤدّي إلي الحياة، و هي القصاص في غير القتل، و هي مشتملة على معنى زائد آخر، و هو معنى المتابعة التي تدلّ عليه كلمة القصاص بخلاف قولهم القتلُ أنفى للقتل، و هي مع ذلك متضمّنة للحثّ و الترغيب، فإنّها تدلّ على حياة مذخورة للناس مغفول عنها يملكونها فعليهم أن يأخذوا بها، نظير ما تقول. لك في مكان كذا، أو عند فلان مال و ثروة، و هي مع ذلك تشير إلي أنّ القائل لا يريد بقوله هذا إلّا حفظ منافعهم و رعاية مصلحتهم من غير عائدٍ يعود إليه حيث قال: وَ لَكُمْ، فهذه وجوه من لطائف ما تشتمل عليه هذه الآية، و ربّما ذكر بعضهم وجوهاً اخرى يعثر عليها المراجع، غير أنّ الآية كلّما زِدتَ فيها تدبّراً زادتك في تجليّاتها و جمالها و غلبتك بحُورُ أنوارها. وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا.۱
أجل، فقد كان الكلام بشأن القصاص و انتصاف الحقّ، حيث اعتبر القرآن الكريم العفوَ و السماح اسلوباً مرضيّاً و شيمةً حسنة حمدها و حثّ عليها، و اعتبر - في الوقت نفسه - حقّ الانتقام مقابل المعتدي على حياة الإنسان أو ماله أو شرفه و كرامته و عرضه حقّاً طبيعيّاً مسلّماً، و قد عبّر بلفظ
الشهيد عمّن يُقتل في طريق الدفاع عن حقوقه و إحقاقها و استعادتها.
روى السيوطيّ في «الجامع الصغير» بسندٍ حسن، عن سعيد بن زيد، عن كتاب «مسند أحمد بن حنبل»، و «صحيح البخاريّ» و «صحيح مسلم»، و «صحيح الترمذيّ»، و «صحيح ابن حَبَان»، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال:
مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ،۱ وَ مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَ مَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَ مَنْ قُتِلَ دُونَ أهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.٢
مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ
روى الكلينيّ في «الكافي» في باب قتل اللصّ بسنده عن أبي بصير قال: سألتُ أبا جعفر الباقر عليه السلام عن الرجل يُقاتِل عن ماله فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهِيدٍ (الحديث).٣
و روى الكلينيّ أيضاً في باب مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ بسنده المتّصل، عن عبدالله بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ٤.
و روى بهذا الإسناد، عن أبي مريم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله. مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ شَهِيدٌ. ثمّ قال: يا أبا مريم! هل تدري ما دون مظلمته؟
قلتُ. جُعلت فداك. الرجلُ يُقتل دون أهله و دون ماله و أشباه ذلك.
فقال: يَا أبَا مَرْيَمَ! إنَّ مِنَ الفِقْهِ عِرْفَانُ الحَقِّ.۱
و روى السيوطيّ أيضاً في «الجامع الصغير» عن سنن النسائيّ؛ و عن ضياء، عن سويد بن مقرن بسند صحيح أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَظْلَمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ.٢
(يا أبا مريم! الفقيه مَن عرف مواضع القتال - في أمثال هذه الموارد - ثمّ يتعرّض لها. لذا، ينبغي ترك التعرّض في بعض الموارد.)
هذا من جهة، و من جهةٍ اخرى فقد أهدر الإسلام دمَ من كان بصدد الاعتداء على أموال الناس، أو بصدد الفجور بأعراضهم، و قد أعفي في حكمه صاحب البيت الذي يتصدّى للسارق دفاعاً عن ماله أو عرضه فيقتله في صراعهما، إذ إنّ دم هذا المعتدي مهدور لا قيمة له.
و قد روى الكلينيّ بسنده المتّصل، عن الإمام أبي الحسن موسيبن جعفر الكاظم عليه السلام في رجلٍ دخل على دار آخر للتلصّص أو الفجور فقتله صاحب الدار أيُقتل به أم لا؟ فقال:
اعْلَمْ أنَّ مَنْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ فَقَدْ أهْدَرَ دَمَهُ؛ وَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.٣
(اعلم. أنّ من دخل بيوت الآخرين للسرقة أو الفجور، فقد أهدر
دمه. و في هذه الصورت فليس على صاحب البيت من شيء في قتله لذلك الرجل، و لا تشغل ذمّته في قصاص أو دية أو ما شابه ذلك.)
و من هذا الطريق فقد أجاز القرآن الكريم للمظلوم قول السوء و بيان عيوب و سيّئات الظالم، و رخّص له أن يصرخ جاهراً بسيّئات الظالم في ظلمه الذي ألحقه به، و أن يحطّ من شأنه و كرامته أمام المجتمع، و هذا في الواقع المقام الأكبر الذي أقرّه القرآن الكريم للمظلوم لدفع ظلم الظالم، حيث أقرّ القرآن الكريم أن:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ، إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.۱
تفسير آية: لَّا يُحِبُّ اللهُ الجهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلَّا مَن ظُلِمَ
قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف في تفسير هذه الآية: يُستفاد من الجملة البَعديّة التي ترغّب في العفو عن السوء أنّ قوله إِلَّا مَنْ ظُلِمَ استثناء منقطع، إذ يُستفاد من المستثنى منه أنّ الله سبحانه لا يحبّ من المظلوم و غير المظلوم الجهر بالسوء من القول للظالم و لغير الظالم، و بشكل كلّيّ فلا ينبغي الجهر بالسوء من الجميع، و يستفاد من هذه الجملة عدم المحبوبيّة، و لأنّ استثناءً قد ورد عليها فإن كان مفاده استثناءً متّصلًا فإنّه يفيد محبوبيّة الجهر بالسوء من المظلوم فيمن ظلمه، و باعتبار أنّ في الآية التي تلتها قد ورد امتداح و محبوبيّة العفو. الإغضاء عن كلّ سوء، فيُعلم أنّ الاستثناء كان منفصلًا، و مفاده الجواز و عدم الحرمة لا المحبوبيّة و الاستحباب أو الوجوب. و على هذا فالجهر بالسوء غير محبوب على الدوام إلّا ممّن ظُلم فلا بأس به.
و يُستدلّ من القرائن المقاميّة أنّ المراد بالجهر بالسوء من القول. أوّلًا أن يكون في خصوص الظلم الذي ألحقه الظالم بالمظلوم لا مطلق كلّ مساوئ الظالم. و ثانياً أنّ هذا الجهر بالسوء يجب أن يكون للدفاع و منع الظلم لا مطلق الجهر بالسوء و إظهار المساوئ و العيوب.۱
و رأينا في زماننا انموذجاً بارزاً لهذا الجهر بالسوء من القول و بيان و تعديد مساوئ و عيوب الظالم، و الذي حكى و جسّد علناً نداء المظلوم و صرخته أمام عدوان الظالم.
تلك هي قصّة النساء المؤمنات اللاتي هرعن في حجابهنّ و وقارهنّ إلي الشوارع عند سقوط و انهيار حكم العائلة البهلويّة الجائرة التي لم تتأبّ و تتورّع عن إلحاق مختلف أنواع الظلم و الجناية و الخيانة بأرواح و أموال و مقدّرات و أعراض الشعب المسلم، و من بين ذلك إلغاؤه حجاب النساء المسلمات و فرضه و نشره السفور و الفحشاء و الرذيلة و الأعمال المنافية للعفّة و الشرف على الشعب المسلم بالقوّة و العنف.
فلقد جاءوا بعدّة من النساء العاريات المتهتّكات من اللواتي عشن في الغرب فبُهرن به و شُغفن، و قدّموهن - بنواياهم و أفكارهم الفاسدة القذرة - باسم انموذج التحضّر و مثال التحرّر، و وضعوا تحت تصرّفهنّ زمام الإعلام في المدارس، و وسائل الإعلام و ميزانيّة الماليّة و الأوقاف، و قدّموهنّ على أنّهنّ نساء إيران الأصيلات المتحرّرات، و حاولوا عرض إيران على أنّها خالية من الحياء و العصمة و العفّة، خاوية من العلم و الأدب و الفنّ و الدين و الأخلاق، و أنّ النساء المؤمنات المتديّنات المتعلّمات المحجّبات
لا يُمثّلن إلّا أقلّيّة لا مكان لها إلّا قعر البيوت و مجالس العزاء و بعض المحلّات الفقيرة المستضعفة و البعيدة عن الرقيّ و التحضّر، و أنّ العلم و الأدب و الثقافة و التحضّر يختصّ باولئك المتهتّكات و لا يقاسمهنّ فيه غيرهنّ!
و لقد حبسوا أنفاس الناس في صدورهم بالإرعاب و الإرهاب و تشديد السياسة الغربيّة المتسلِّطة، بحيث إنّ أحداً لم يكن ليجرؤ أن يتفوّه بكلمة؛ و لم يكن لنساء إيران المسلمات اللاتي ربّين في حجورهنّ لألف سنة - و يتعاهدن حاليّاً بنفس النهج و الاسلوب - الشجعان و العلماء و الرجال الناجحين المثمرين، لم يكنّ يمتلكن مطلقاً حقّ الكلام و المناقشة و الدفاع عن حقوقهنّ الأوّليّة المسلّمة، و كانت تلك الزمرة المتهتّكة قد أمسكت زمام الامور للدرجة التي جعلت المدارس منحصرة بين أيديهنّ بالشكل الذي كان يسوق جميع بنات و حفيدات تلكم النساء الأصيلات قهراً إلى الجانب الآخر و يربّيهنّ و يُنشّئهنّ تنشأةً على أساس المدنيّة الغربيّة و الثقافة الاستعمارية الكافرة.
لقد كان هذا ظلماً، و كان عدم السماح للنساء المسلمات بالدفاع عن حقوقهنّ ظلماً آخر يُضاف إليه، فقد كان عليهنّ أن يتحملنّ هذه المظالم و أن يُحر منَ الحقّ في التحدّث و الكلام و الدفاع عن الحقوق، و هكذا فقد تدفّقت النساء المسلمات إلي الشوارع و الأزقّة في ثورة الناس و النهضة الشاملة ضدّ الحكومة الجائرة، و أعلنَّ بالصرخات الجَهوَريّة الغاضبة مساوئ الحكومة البهلويّة، و أزحن الستار عن الظلم الذي تجرّ عنه غصصاً طيلة السنين الخمسين الماضية، و أعلنّ بصفوفهنّ مُلائهنّ السوداء و حجابهنّ الوقور أنّ الغالبيّة الساحقة لنا، و أنّ الدين و الإيمان و الحياء
و العفّة و العلم و الأدب و التحمّل و الصبر في تنظيم امور البيت و تربية النسل المسلم من شأننا.
إ نّ الإسلام لا يرتضي صرخات النساء، و لا يسيغ جهرهنّ بالسوء من القول، و لا يقرّ لهن الخروج من البيت و تشكيل التظاهرات و التجمّعات، و الهتاف بالشعارات، فهي تمثّل في نظر الإسلام أعمال إساءة لطائفة النساء.
لكنّ التظاهر و الهتاف بالشعارات في حالة الدفاع عن حقوقهنّ، أو لاستعادة حقوقهنّ المهدورة، و لرفع المظالم التي لحقت بهنّ فهو مصداق حقيقيّ لـ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، و تصبح الصراخات الهدّارة المدوّيه مقبولة و أمراً جائزاً يقرّه الإسلام و يُمضيه.
و بشكلٍ عامّ، فإنّ هذه الآية المباركة هي الدليل القرآنيّ الأفضل على جواز التمرّد و الانتفاض على الحكومة الظالمة الجائرة من قبل الرجال و النساء برفع الشعارات و بالصرخات القويّة التي تكسر شوكة ظلم الظالمين و تردّ فساد المفسدين؛ لأنّ الجهر كما يقول الراغب الأصفهانيّ في مادّة (جَهَرَ) يُقال لظهور الشيء بإفراط حاسّة البصر أو حاسّة السمع، أمّا البصر فنحو. رَأيْتُهُ جهاراً، قال الله تعالى. لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.۱
و: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً؛٢ إلي أن يقول: وأمّا السمع فمنه قوله تعالي: سَوَآءٌ مِّنكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ٣
لذا فإنّ أيّ تظاهر وهتاف بشعار لدفع ظلم الظالم وعَدِّ تجاوزاته ومظالمه يمتلك أساساً وأصلاً قرآنيّاً، ولكن يجب العلم فيما يخصّ النساء أنّ الحجاب والعفّة وإدارة شؤون البيت والاءنجاب وعدمرفع الصوت عند الاجنبيّ تعدّ كلّها من الاُمور الحسنة المحمودة، وأنّ الجهر بالسوء من قبلهنّ مع أنّه يندرج تحت عنوان السوء والقبح إلاّ أنّه قد استثني بشكل خاصّ وارتفع عنه عنوان القبح والسوء إن تعلّق ببيان مساوي الظالم.
أي أنّ للمرأة الحقّ ـ بشكلٍ استثنائيّ وبعنوانٍ ثانوي ّـ أن ترفع صوتها مقابل الرجال بشتم الظالم جهراً للظلم الذي ألحقه بها، لاأن يكون لها الحقّ في كلّ وقت ومكان ، وفي مختلف الظروف والشروط أن تشارك في المسيرات وأن تلقي الخطب وأن تخطو مع الرجال كتفاً لكتف، فهذا العمل يُخالف الإسلام ويتناقض مع بُنية المرأة وكيانها الخلقيّ والفطريّ ويتعارض مع مصالحها ومنافعها.
إنّ جهر المرأة بصورتها ـ في الظروف العاديّة ـ في التحدّث بين الرجال، وإلقاء الخطب ومشاركتها في مجالس الرجال ومحافلهم، أو في الحفلات المختلطة، خلاف النصوص الصريحة الواردة في الاءسلام۱
استثناء خطب الزهراء و زينب و فاطمة بنت الحسين بين الرجال
و يجب علينا الدقّة و الانتباه كي لا نخطو في طريق تقدّمنا و تكاملنا الإسلاميّ خطواتٍ - لا سمح الله - تعيدنا إلي الوراء و تسوقنا القهقرى إلى الجاهليّة، و بدلًا من أن نقتطف معطيات الحياة الإسلاميّة الجميلة و ثمارها
الحلوة إلى انعة، و نستريح في ظلّ شجرتها الغزيرة الثمر، بدلًا من ذلك تظهر فينا - لا قدّر الله - أعمال و أساليب الكفر و الآداب الجاهليّة و البربريّة و الغربيّة تلك باسم الإسلام و باسم القائدة الرشيدة الشجاعة، و المرأة المتفرّدة في عالم البشريّة، و اللبوة الشجاعة في ساحات الجهاد مع الكفر و الإلحاد، أي زينب الكبرى سلام الله عليها! فندفع نساءنا في الظروف العاديّة للمشاركة في مجالس الرجال للتربية و التعليم، أو للتفسير و التأريخ، أو للموعظة و الخطابة ثمّ نقول. أي مانعٍ في هذا؟ لقد ذهبت فاطمة الزهراء عليها السلام إلي المسجد و ألقت خطبتها أمام الرجال، و خطبت أيضاً ابنتها زينب في شوارع الكوفة أمام جمع من الرجال المحتشدين، ثمّ خطبت في الشام في مجلس يزيد أمام الرجال و تكلّمت و حاورت، و كذا الأمر في حفيدتها المكرّمة فاطمة بنت الحسين التي خطبت في الكوفة.۱
...۱ و هو خطأ فادح و خبط لا يُعذر يرد على أذهاننا، و نوع من المغالطة
أساسها تسلّط هوى النفس و الأفكار الشيطانيّة التي تحتلّ مكان البرهان في فنّ المخاطبة.
ألا يقول أحد لأصحاب الهراء هؤلاء، الذين يدّعون فهم الإسلام و دركه، إنّ خطابة المرأة و حديثها لو كان جائزاً في الظروف العاديّة فلِمَ لَمْ تتحدّث ابنة رسول الله الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليها في حياة أبيها رسول الله في المسجد و لو لمرّةً واحدة؟
لِمَ لَمْ تعقد مجلساً للدرس في المسجد أو في غير المسجد؟
و لماذا لم تبيّن للأصحاب - رجالًا و نساءً - تفسير القرآن و سيرة أبيها المصطفى صلّى الله عليه و آله و سلّم؟
لِمَ لَمْ يُعهد عنها، أو عن غيرها من نساء المدينة حديث واحد بين الرجال؟
و لماذا لم يشاهد عنهنّ أو عن نساء مكّة أو نساء الكوفة و البصرة مجلس درس واحد للموعظة و الحديث و التفسير؟
تبصّر أيّها العزيز و لا تُخدع، فلقد كان من المطالب التي اتّضحت عند بحثنا و بياننا حول الآية القرآنية لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. إنّ خطبة الزهراء سلام الله عليها في المسجد كانت فقط للدفاع
عن حقّها إثر الظلم الذي لحقها من الجهاز المدّعي لخلافة أبيها رسول الله، و لقد جهرت بصرختها و أثارت الضجّة و الجَلَبة في المسجد على الظالم، و أدانت أبابكر و عمر و فضحتهما بالشكل الذي يجعلنا - بعد مرور أربعة عشر قرناً - حين نقرأ كلمات خطبتها في كتب المخالفين أيضاً، نُثني علي قدرها و عظمتها و متانة منطقها و برهانها القويم.
و لقد كان عملها عملًا قرآنيّاً، منبثقاً من أساس قرآنيّ، هو أنّ لكلّ أحد الحقّ - رجلًا كان أم امرأة - حين يلحقه ظلم أن يتصدّى لظالمه و يعدّد جهاراً سيّئات و قبائح ظلمه الذي ألحقه به، و لقد فعلت هذا، و خطبت خطبتها جهاراً، و أثبتت دعواها ثمّ رجعت إلي بيتها و لم يُسمع منها بعد ذلك خطبة أو يُعهد عنها أنّها جهرت بصوتها بين الرجال.
فكيف يمكن لأحد أن يتجرّأ على القول إنّ هذا العمل الاستثنائي لسيّدة نساء العالمين دليل على جواز تحدّث النساء في محافل الرجال في الظروف العاديّة غير الاستثنائيّة؟
و أمّا بالنسبة إلي ابنتها فخر نساء العالم زينب، التي خطبت و تحدّثت في الكوفة في محمل الأسر بلهجة شديدة، طليقة اللسان، و عدّدت مظالم حكومة بني اميّة و ذلّ و حقارة و صَغار أهل الكوفة، فقد كان من الواجب عليها أن تتكلّم و تخطب و تذيع مساوئ بني اميّة على رؤوس الأشهاد و تُثبّت حقّ أخيها الرشيد و إمامها بالحقّ و توصله إلي أسماع العالم. و هذا حقّ قد أعطاها إيّاه القرآن، و رسالة كُلِّفت بها من قِبَل أخيها في هذا السفر الخطير المهول.۱
ثمّ يُراد مقارنة هذا الموقف الخطير العظيم و هذا الدفاع عن الحقّ و فضح العائلة الأمويّة المعادية للدين و الإنسانيّة و الظلم الذي ارتكبوه بذلك الاسلوب الفظيع المفجع في صحراء كربلاء، يُراد مقارنته مع حديث و كلام الجنس النسويّ اللطيف في مجالس الحفلات بصوتهن الرقيق و لحنهنّ المليح الذي يختطف الأفئدة!
أبداً أبداً! فهذا قياس مع الفارق، لكنّه ليس بفارقٍ واحد، بل بألف فارق.
لقد كان عمل زينب سلام الله عليها عملًا استثنائيّاً، عندما تكلّمت في الكوفة و في الشام في مجلس يزيد بسليط القول، و لم يُعهد و لم يُعرف عنها قبل ذلك و لا بعده كلام و حديث بين الرجال، إذ كيف يكون لها ذلك و هي ربيبة أسد الرجال و ابنة معدن العفّة و الحياء!
كيف يكون لها ذلك و قد ارتضعت من ثدي الزهراء الطاهر و كبرت في حجرها! لقد كان لزينب الكبرى حين حطّت الرحال في صحراء كربلاء خمساً و خمسين سنة - كانت تصغر سيّدالشهداء عليه السلام بسنتين - و باعتبار وفاتها في شهر رجب لسنة اثنتين و ستّين بعد واقعة عاشوراء بسنة و نصف، فقد عاشت ما يقارب عمر أخيها الحسين عليه السلام.۱
و قد عاشت سلام الله عليها هذا العمر المديد في المدينة لم يرها أحد من الرجال، و لم يعهد عنها أنّها شاركت في مجالس الرجال أو تحدّثت بينهم أو تكلّمت في بيان التفسير و الحديث في مجالس ضمّت الرجال و النساء، مع كونها عالمة أهل البيت، فقد قال لها السجّاد عليه السلام:
يَا عَمَّتَاهُ! أنْتِ بِحَمْدِ اللهِ عَالمةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٌ وَ فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَةٌ۱.
ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم | *** | ماذا صنعتم و أنتم آخر الاممِ |
بأهل بيتي و أولادي و تكرمتي | *** | منهم اسارى و منهم ضرّجوا بدمِ |
ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكم | *** | أن تُخْلِفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ |
إنّي لأخشى عليكم أن يحلّ بكم | *** | مثل العذاب الذي أودى على إرَمِ |
لقد كان لزينب سلام الله عليها مجالس معروفة لتعليم نساء المدينة القرآن و الحديث و التفسير و الأخلاق، فإن كانت خطبتها حال الأسر في الكوفة و الشام دليلًا على جواز مطلق الكلام و الموعظة و الخطابة، فلِمَ لَمْ يقع لها نظيرٌ و مثيل واحد في تلك المدينة الكبيرة التي كانت آنذاك مركزاً للعلم، ولو لمرّةٍ واحدة؟ و كذا الأمر بالنسبة لخطبة فاطمة بنت الحسين في الكوفة أمام الآلاف بعد خطبة عمّتها زينب.
و يبدو أنّ اكتشاف جواز تحدّث النساء في محافل الرجال من قبل هؤلاء السادة المتخصّصين بعلوم الإسلام قد جاء متأخّراً بعض الشيء، ولو كان أكثر إسراعاً في مجيئه لأورد النساء في محافل الرجال و مجالسهم و لأنقذ الرجال من هذه المحروميّة!
قيل إنّ رجلًا ذهب في سفر، فلمّا عاد وجد زوجته على فراش المرض و أنّ امّه قد توفّيت، و نتيجة المواصلة و المضاجعة تحسّن حال الزوجة، فكان يتأسّف و يتحسّر قائلًا. وصلتُ متأخّراً و إلّا لكنتُ شفيتُ والدتي أيضاً.
ترسم نرسى به كعبه أى أعرابي | *** | كين ره كه تو ميروي به تركستان است۱ |
خطب الزهراء و زينب في المدينة و الكوفة و الشام دفاعٌ عن حقّ المسلمين
و بغضّ النظر عن كلّ هذا فإنّ مخاصمة و احتجاج و خطبة سيّدة نساء العالمين و ابنتها زينب الكبرى عليهما صلوات الله في مسجد النبيّ و في الكوفة و الشام لم تكن بسبب تضييع و إهدار حقّهما الشخصيّ كي تغضّا عنه الطرف و تقدّما العفو لسجايا الأخلاق و محاسن الصفات الإنسانيّة.
كانت تلكم الخطب على أساس المصلحة العامّة و إيقاظ أذهان المجتمع و أفكاره في ذلك الجيل و في الأجيال التي تليه و لبيان أنّ خيانةً قد ارتكبت في حقّ نظام الإسلام بعد رحيل رسول الله، في المدينة و في سقيفة بني ساعدة، محلّ انتخاب الخليفة، و عارضت بشكل صريح القرآن و سُنّة رسول الله و نهجه، و حاربت كلّ جهود و مساعي النبيّ في حياته.
أمّا في كربلاء، فإنّ نظام بني اميّة العدوانيّ الظالم قد مرّر شفرة سيفه على إمام الزمان و أولاده و أرحامه و أصحابه بجرم المناداة بالحقّ، ثمّ ساق أهله سبايا في الصحاري، و فوق ذلك فقد دعوا سيّدالشهداء عليه السلام بالخارجيّ المتمرّد المتطاول على أوامر الحكومة المركزيّة، و باهوا و تفاخروا بإغارتهم عليه و على عياله.
لقد افتقد العفو هنا معناه، بل كان للسكوت حكم الإقرار و الإمضاء و الرضى بتلك الجرائم، فالسكوت مقابل الظلم و التجاوزات بمثابة الحكم بصحّتها و إعطاء الصورة الحسنة لعملهم القبيح.
كان الواجب هنا هو الصراخ و الاعتراض و تعداد الجنايات، و لقد
تحرّكت العقيلة، ليس فقط في الشوارع و الأزقّة، و إنّما من كربلاء إلى الكوفة، و من الكوفة إلي الشام، و من الشام إلي المدينة، ثمّ لم تهدأ في المدينة و لم يقرّ لها قرار، فقد كانت تجمع النساء حولها كلّ يوم و تعدّد الوقائع و الأخبار واحدة واحدة بأدقّ تفاصيلها إلي الحدّ الذي لم يكد يمرّ على واقعة كربلاء زمن طويل حتّى أرسل حاكم المدينة أن. يجب أن ترحل زينب عن المدينة و إلّا هدمنا سقوف بيوت ولد عليّ و عياله على رؤوسهم.۱
أجل، فهذا مصداق للعمل بالقرآن و وسيلة لبيان أصالة و خلود تعاليمه، فحين تقتضي الامور عدم العفو و المسامحة يتوجّب على الإنسان التصدّي للمعتدي بكلّ ما اوتي من قوّة، بقبضته بأسنانه و أظفاره، و بالصراخ و النواح و إثارة الجَلَبَة، فعليه أن يفعل ذلك.
في مفهوم آية: خُذِ الْعَفْوَ وَ أمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ
أمّا حين يكون الضرر و الخسارة شخصيّاً لا يتعلّق بمصلحة أو مفسدة عامّة فإنّ السكوت في هذه الحالة لن يؤثّر في إقرار الظلم و الظالم، بل إنّ الجهر بالجناية لن يكون له تأثير إلّا الحطّ من سمعة الإنسان و كرامته و يكون مدعاة لنشوب الخلافات و النزاعات الشخصيّة و العائليّة، و لذلك فالعفو أولى من جهر الإنسان بالسوء بالقول في أمثال هذه الامور، عصمةً للّسان من التلوّث بالسوء، و حفظاً للنفس الشريفة من الاضطراب و الجدال و النزاع بلا طائل، و حينذاك ستستقرّ حلاوة العفو و المسامحة في أعماق النفس، و يجد صاحبها ينعها و حلاوتها و طراوتها كما لو كانت تلك الطراوة و الحلاوة معه يتلذّذ بها على الدوام.
و قد واجه هذا الحقير موارد كثيرة كانت مصداقاً لهذه الآية المباركة، كنتُ في بعضها بصدد الدفاع و الجهر بالقول، و قدّمتُ في البعض الآخر العفوَ بتوفيق الله و منّه، و أعرض لإخواني الأعزّاء في ختام هذا البحث موردينِ من الموارد التي آثرتُ فيها العفو و تذوّقت ثمرته.
المورد الأوّل: كانت علاقة والدي بي حميمة، و كان يمتدحني أمام الجميع، ثمّ جعلني وصيّه و وهبني كذلك مكتبته أيّام حياته، و كنتُ آنذاك في الخامسة و العشرين من العمر، حيث أنهيت دراستي و إقامتي في الحوزة العلميّة في قم و عزمتُ على التشرّف بالذهاب للنجف الأشرف لمواصلة الدرس و التحصيل حين التحق والدي برحمة الحقّ الأبديّة، فاجبر هذا
الحقير للّبث في طهران مؤقّتاً لتصفية الامور و تنفيذ الوصيّة بنيّة السفر بعد إتمام ذلك.
و لقد تدخّل الشيطان في هذا الظرف و شتّت الامور المتّسقة و أهدر مساعيّ لتنفيذ الوصيّة، و أوجد ثغرات يصعب سدّها و عراقيل يصعب اجتيازها، و كان السبّاق مع كلّ خطوة تُخطى للإصلاح و التوفيق، يسدّ الطريق و يُحبط الجهود و يجعل حركاتي و سكناتي و نواياي في معرض الاتّهام و سوء الظنّ، إلى الحدّ الذي عجزتُ بعد إقامة سنة في طهران عن تنظيم الامور، و اضطررتُ من ثمَّ لغضّ النظر عن سهم الإرث فشددتُ الرحال مع الوالدة المكرّمة إلى النجف الأشرف.
و كانت المعارضة و المواجهة مع هذا الحقير شديدة عنيفة إلى الحدّ الذي جعل مسألة توديعي للمعارضين عند عزمي على السفر أمراً لم أستطع تقبّله و تحمّله.
و بعد أن مرّت سنتان أو ثلاث على هذا الأمر، ثمّ سمعتُ عند موسم الحجّ أنّ أحد هؤلاء المعارضين، و كان رجلًا مسنّاً يعدّ من جهة العمر بمثابة أبي، قد جاء إلى النجف الأشرف بنيّة السفر بعد ذلك إلى بيت الله الحرام. و لم يُطق وجداني أن أمتنع من رؤية هذا الرجل المحترم المسافر إلى الله، مع أنّ لقاءه و رؤيته كانا بالنسبة لي يبعثان على الالم و الأذى. لكنّي ذهبتُ مع ذلك لرؤيته و رفقائه، و كانوا قد حلّوا في أحد الفنادق المحيطة بالمرقد المطهّر قرب مدرسة آية الله العظمى البروجرديّ، و سلّمتُ عليه و عانقته و رحّبتُ به فقال إنّهم جاءوا لعدّة أيّام لزيارة العتبات المقدّسة على أن يسافروا بعدها جوّاً من بغداد إلى جدّة، فأظهرتُ السرور و هنّأتُه، ثمّ ودّعته بعد حوالي نصف الساعة وعدتُ إلى المنزل.
و في الساعة الثالثة بعد الظهر من اليوم التالي، حيث تصل حرارة أجواء النجف إلى أوجها، طُرق باب المنزل! و كان الطارق هو ذلك الرجل المسنّ المحترم المعارض، قد جاء بمفرده ليردّ زيارتي له بالأمس، فسلّمتُ عليه و رحّبتُ به و أدخلته المنزل، فقال إنّه يريد أن يودّع والدتي أيضاً، فأخبرته أن لا مانع من ذلك (كانت الوالدة في هذا النزاع بسبب قربها و علاقتها بالحقير مورداً للاتّهام و سوء الظنّ).
جاء و وقف مقابل الوالدة و سلّم و قال: عزمتُ على الذهاب إلى بيت الله، فسامحيني.
ردّت الوالدة. لن أعفو عنك أبداً.
قال: يجب أن تسامحيني.
فردّت. هذا مُحال.
فقال: اقسم بالله لئن لم ترضِ عني فسأعود إلى طهران و أترك الحجّ.
فتدخّلتُ قائلًا. أيّها السيّد! لقد سامحتك والدتي و ستسامحك، فاطمئن فسارضيها عنك، و ستوفّق إن شاء الله في سفرك و تعود مقضيّ المرام. فودّعنا و خرج.
ثمّ ذهبتُ صباح اليوم التالي لرؤيته في الفندق، حيث كان من المقرّر أن يسافر مع رفقائه ذلك الصباح بالسيّارة إلى مدينة الكاظميّة، و كان الجوّ حارّاً، و كان جالساً مع رفقائه في باحة الفندق على أرائك صُفّت بمحاذاة الجدار و قد حزموا حقائبهم.
قالوا: سنسافر بعد نصف ساعة. و جعلنا نتجاذب أطراف الحديث كأنّنا لم يسبق أن تنازعنا و ترافعنا! و حين أكمل رفقاؤه في السفر جميع أمتعتهم في السيّارة و تحرّكوا لأخذ أمكنتهم التفتَ هذا السيّد من على
الأريكة إلى قائلًا.
أيها السيّد محمّد الحسين! سئل المعصوم عن تفسير هذه الاية خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.۱
معنى. صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَ أعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَ اعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ
فقال المعصوم: ثَلَاثَةُ أشْيِاءَ: صِلْ مَنْ قَطَعَكَ! وَ أعْطِ مَنْ حَرَمَكَ! وَ اعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ.٢
...۱أيّها السيّد محمّد الحسين! أنتظرُ منك أن تعاملني طبقاً لتفسير هذه
خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي | *** | وَ لَا تَنْطِقِي في سَوْرَتِي حِينَ أغْضَبُ |
الآية:
انقلب حالي، و لم أستطع مغالبة دموعي فانهمرت، و قلت: لم يكن ما حصل بالمهمّ، فكن مطمئنّاً أن لا شيء بيننا يحتاج لمثل هذا الاعتذار، فأنا ابنك و خادمك. ثمّ تعانقنا هناك، و ركبوا سيّارتهم و رحلوا.
ذهبتُ على الفور للتشرّف بالحرم المطهّر، و أدّيت مراسم الزيارة نيابةً عنه وصليّتُ ركعتَي الزيارة، ثمّ دعوتُ. أيّها الإله الرحيم الذي يؤلِّف بين القلوب! عبدُك هذا لا يجد في قلبه ضغناً على هذا الرجل، و لقد عفوتُ عن كلّ ما مضى، و لقد أتاك قاصداً إليك و زائراً حرمك، فاعفُ عنه و اقرن سفره بالخير و الرحمة.
و لقد كانت حلاوة تلك الصلاة و الدعاء و العفو عند حرم أميرالمؤمنين عليه السلام ذكري لا تُنسى.
مواجهة مع بعض المتطاولين الذين يعبّر عنهم القرآن بالملإَ
المورد الثاني: كان الحقير بعد العودة من النجف الأشرف و عملًا بالتكليف الإلهيّ يقيم صلاة الجماعة مع بيان الأحكام و المعارف الإلهيّة و تفسير القرآن الكريم و الموعظة و الدروس العلميّة في أحد مساجد طهران، و قد سعيت ما أمكنني من أجل تربية الناس بشكل قويم لا أمَتَ فيه و لا عوج و لا تزوير، بلا تفكير في مصلحة أو مراعاة لأحد، و قد جهدت في بيان ما أراه في الاصول الدينيّة بما وصل إليه الفكر ضمن حدود دائرة عملي، و اعتبرتُ التعامل مع الناس له حكم السفارة الإلهيّة أو كالنبوّة في نطاق حدودي، إذ ينبغي أن تُلتزم بدقّة حدود الشرع و الدين
و الحقّ و الحقيقة و الواقعيّة و لا يمكن التعدّي عليها و لو قيد شعرة.
و كنتُ أتدخّل في جميع امور المسجد بشكل مباشر و أستشير المصلّين و أهل المحلّة في مسألة إدارة امور المسجد و أستأنس بوجهات نظرهم، لكنّ القرار النهائيّ بيدي، إذ مع التبصّر و التفقّه بأمر الدين و التخصّص في هذا الفنّ، فلم أكن لأقدرَ أن ابعد عن نظري المستقلّ مسألة زمام أمر المسجد في مسألة دعوة الوعّاظ و المدّاحين الذين كان ينبغي أن يكونوا معروفين عندي و أن تتمّ دعوتهم بعد موافقتي، و كذا مسألة نصب مكبّرات الصوت بأصواتها المرتفعة في الشوارع و تسبيب الأذى للناس، و إذاعة صوت الأذان من جهاز التسجيل أو من المذياع، و تشكيل المجالس المتعدّدة لقراءة الفاتحة و أخذ وجوه المال من الناس عن هذا الطريق، و كذا فسح المجال واسعاً لمن يستخدم العمامة للاستجداء و إهدار الكرامة و السمعة، و مسألة الفوضى في المسجد و تحويله إلى مركز للتجمّع أو محلّ لتردّد الناس اللا مبالين، ثمّ إقامة مجالس العزاء المتعلّقة برجال المملكة و البلاط، و أخيراً عشرات، بل مئات من أمثال هذه المسائل التي كنّا نواجهها كلّ يوم.
و لم أكن لُاوافق على أن أترك هذه المسائل بأيدي أفراد غير جديرين لكونهم أقوياء المحلّة و وجهاؤها الأثرياء المتنفّذين لتسيير امور المسجد و توجيهها حسب وجهة نظرهم، و أن يحوّلوا إمام الجماعة مع امتلاكه المقام العلميّ إلى تابعٍ و مُطيع لهم، و يسعون بالسلام و الصلوات و احتلال واجهة المجالس، و بالدعوة إلى حفلات الضيافة، و قراءة خطب العقد في حفلات الزواج و التردّد على مجالس الفاتحة، و تشييع و اتّباع الجنائز بما لا يُرضي الله، بهذا و غيره يسعون إلى جعل إمام الجماعة مورد هزئهم
و سخريتهم و إلى إصابته بمرض تقليد العوامّ و انسياقه لهم.
و نُقل عن أحد أئمّة الجماعة في محلّتنا قوله: إنّ أصحاب السوق يريدون أن يمسكوا بشعيرات لحية إمام جماعتهم، كلٌّ يمسك بشعرةٍ منها و يجرّه باتّجاه غايته و هدفه.
فجهدتُ خلال مدّة طويلة - دامت أربعاً و عشرين سنة بعد عودتي من النجف الأشرف إلى زمان الهجرة لأرض القدس الرضويّ عليه السلام - ما أمكنني لجعل هذا المسجد بوضعٍ يُرضي الله سبحانه، هادئاً بعيداً عن الرياء، و إلى تحويله إلى محلّ للتفسير و الموعظة و الأخلاق و المعارف الإلهيّة.
و للّه الحمد فقد تحقّق ما كنت أتطلّع إليه، فقد طُبّقت تعاليم الدين و برامجه في هذا المسجد أفضل بكثير من مساجد اخرى يُشار إليه ا بالبنان.
و لم يكن مستبعداً أنّ سلوكاً و منهجاً كهذا سيكون له مخالفون يسعون إلى المعاكسة، و بالطبع فإنّ نظام الحكم الجائر لم يكن ليسيغ هذا النهج، بل كان العكس هو المتوقّع منه. و لم يكن بالسهل لهم أن يتدخّلوا بصورة مباشرة في امور المسجد، فسعوا إلى تحقيق أهدافهم عن طريق هؤلاء المعارضين الموجودين في هيئة إدارة المسجد باعتبارهم من أهل المحلّة، لذا فقد كنّا دوماً في محنة و نزاع معهم، محنة و صراع ساحق و مُرهق، يُنهك و يُتعب و يهدّ، و كان أمامي في تلك المرحلة ثلاثة خيارات.
الأوّل: ترك الحقّ و الصدق و مسايرة الوضع و مماشاة رغبات اولئك المعارضين ممّا يستلزم بيع الدين بالدنيا و استبدال الواقعيّة بالامور
الاعتباريّة الموهومة.
الثاني: ترك العمل و التنحّي جانباً، و هذا يستتبع إيداع المسجد بِيَدِ أفراد يريدون إدارة امور الدين طبق رضا الشيطان و هواه.
الثالث: العضّ على الجراح و الصبر على المشكلات و تحمّل المشاقّ، بل ما لا يُطاق.
و لقد اختار الله لنا الأمر الثالث، و للّه الحمد و له الشكر فما خسرنا كان من دنيانا، حيث ضاعت سلامة المزاج، و سُلِبَ الهدوء و راحة البال، لكنّ القلب كان عامراً بالإيمان و القناعة بصواب طريق الثبات و عدم الاستسلام لرغبات اولئك، و كان الباري هو المعين، و المرشد و الدليل، و هو واهب القوّة و مانح الشجاعة و الجرأة.
و حصل في أحد مراحل المنازعات و المناوشات النفسيّة بين هذا الحقير و أحد أهل المحلّة أن حدثت مواجهة بيننا في أمرٍ كان لا يُرضي الله عزّ و جلّ، و لم تكن مواجهة علنيّة و نزاعاً ظاهراً، بل بقيت في إطار المواجهة الباردة و النفسيّة.
و قد عمد ذلك الشخص إلى طباعة صفحة كبيرة يخاطبني فيها بجملات يكرّر فيها حضرة آية الله، حضرة آية الله، و يعدّد سيّئاتي حسب نظره، و يذكرني و أبي بالسوء، و لم يتورّع عن نسبة كلّ قبيح و سيّئ إلى، و خلاصة الأمر أنّ رسالته قد حوت - عدا شتم الامّ و الاخت - كلّ ما يمكن تصوّره، حتى أنّه كتب يقول:
إنّكم تريدون بهذه الأعمال منعي من التدخّل في امور المسجد و هذا محال، و سأبقى لأحملك شأن أبيك إلى مقرّك الأخير ذاك و أدفنك فيه، ثمّ أعود لأقف مكاني و أستمرّ في أعمالي، ثمّ وقّع بيده أسفل الرسالة
و وضعها في مظروف و أرسلها إلي.
كانت ليلةً شتائيّة، و كنتُ في غرفة الاستقبال و قد اتّخذت كرسيّاً،۱ ففتحتُ الرسالة و قرأتها فلم أصدّق عيني لأوّل وهلة، فما الذي تعنيه هذه الكلمات؟! هذا الرجل الذي كان ينحني دوماً ليقبّل يدي. و لم أكن بالطبع لأدعه و لا غيره ليفعل ذلك، لماذا إذاً أصبح هكذا؟ أكان هذا نفاقاً؟ أوَ هل يمكن للنفاق أن يصل بحيث يعدّدوا محاسن و محامد كذائيّة كاذبة للشخص في الظاهر، ثمّ يكشفون في الباطن عن السيّئات و السرائر هكذا؟
لقد قرأتُ الرسالة على كلّ حال مرّات و مرّات و رأيتُ في طيّاتها أحْقَاداً بَدْرِيَّةً وَ خَيْبَرِيَّةً، ثمّ عزمتُ أن اصوّر منها نسخاً فارسل بعضها للأصدقاء من أهل المحلّة و المعارف الذين كانوا يصرّون على ذهابي إلى المسجد و أن أضع الرسالة نفسها جنب الباب الداخليّ للمسجد عند باحته، ثمّ أعمد يوم الجمعة لذلك الاسبوع حيث تقام مجالس الموعظة قبل الظهر في المسجد و تنتهي عند صلاة الظهر، إلى إلقاء خطبة في الجمع الحاضر، أذكر فيها شيئاً من المشاقّ و المعاناة التي تحمّلتها خلال هذه الفترة الطويلة لإعمار المسجد معنويّاً، غير الخافية على الجميع، ثمّ أشرح مفاد الرسالة و ليحصل ما حصل، سواء أجبره عملي على التنحّي أم على الخروج من طهران أم أي احتمالٍ آخر، إذ إنّ الشبّان الغياري و الذين تربّوا بالتربية الإسلاميّة و جميع المحبّين سوف لن يتحمّلوا مثل هذه الأعمال.
لقد كان هؤلاء البسطاء المساكين حسني الطويّة إلى درجة خُيِّلَ إليه م
معها أنّ هذه الاحترامات و التجليلات و التكريمات و الاستفسارات و الوقوف على اهبة الاستعداد، و إبداء الموافقات كانت تنبع من الصدق و الصفاء، غافلين عن أنّها كانت دكّاناً للارتزاق مقابل الدكاكين الاخرى، و فخّاً لصيد الدين و العقل و مكارم الأخلاق و شرف الإنسانيّة.
و بقيتُ تلك الليلة في السُّهاد، لم تذق عينيّ من النوم إلّا قليلًا، و فتحت القرآن مرّة أو مرّتين فكانت آيات تتحدّث عن موسى عليه السلام و أذى فرعون و أتباعه، و الدعوة للصبر و الاستقامة و الثبات.
ما إن بزغت الشمس و انتشر الضياء حتى برق خاطر في القلبي جعلني أتنحّى عمّا عزمت عليه في كشف محتويات الرسالة أمام الناس؛ و حاكيت نفسي.
إ نّ ما سأنفّذه سيحطّم الطرف الآخر و يستأصله بلا شكّ، ولكن ألِلّهِ فيه رضا؟ و هل سيعقب كمالي المعنويّ أم أنّ عاقبته السقوط و الانحطاط؟
استخرت الله و فتحت القرآن، و إذا بي أمام آية؛ و يا لها من آية! حيث كانت.
القرآن يتكشف في آية: وَ لَا تَسْتَوِى الحسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِيهِيَ أحْسَنُ
وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.۱
قلت. سُبحان الله، هذا هو إعجاز القرآن، و هذا هو القرآن الخالد و الأقوم، إنّ الله سبحانه يقول: لا تفكّر بالانتقام، لا تجزي السيّئة بالسيّئة، فإنّ طريق تعليم النفوس و تربيتها هو الصبر و التحمّل أمام الصعاب
و المشاقّ و استماع الكلام الفارغ و غير المستساغ. إنّ واجبك ليس الانتقام بل الصبر، ثمّ المقابلة بحسن الخلق، و غلبة الطرف الآخر و قهره بالأخلاق و بتناسي قبائحه و الإغضاء عن إساءاته، و كأنّ هذه الآية العجيبة كانت توحي معنى جديداً و تستبطن مفهوماً بديعاً بكراً، و كأنّني لم أقرأ هذه الآية قبل اليوم و لم استوعب معناها.
هذا من جهة، و من جهة اخرى فقد كنت أنظر إلى الناس جميعاً على حدٍّ سواء بعين التربية و الهداية، و أعتبر واجبي تكليفاً إلهيّاً و فرعاً شبيهاً بالنبوّة في مجالي المحدود و محلّ دائرة إرشادي و تبليغي، و كنتُ أعتبر نفسي لحدّ الآن مسؤولًا ملتزماً لأمر الله بأنّ الجميع يجب أن يُربّوا و يُنذروا، و أن يعتبر الجميع كلماتي و نصائحي و مواعظي نابعة من قول الله، عليهم أن يعملوا لتطبيقها. فما الذي حدث كي يخرج هذا الرجل الان و يتخلّى عن تلك المسؤوليّة و الالتزام؟
الم يكن من الأفضل أن يبقى هذا الرجل منضوياً في هذا الصفّ و أن يبقى الجميع - حسنهم و سيّئهم - يؤدّون أعمالهم و وظائفهم، عسى أن تشملنا رحمة الله جميعاً؟
عجباً! فهذا هو الاسلوب الأفضل و الطريقة المثلى و القانون الأعلى و الحكم الإنسانى الأرفع و الأسمى.
كانت هذه الآية كالماء القراح المنهمر، فأخمد النار الملتهبة في الأعماق، و بدّد مشاعر الحقد و الطمع و العجب و استحسان الرأي الشخصيّ و طلب الجاه و المقام التي تتجلّى بغطاء مزيّف من أحاسيس حبّ الاستقلال و عزّة النفس. و كانت هذه الآية أشبه بمشرط جرّاحٍ حاذق يضعه فوق الدُّمَّل فيخرج القيح و الأقذار و يستأصلها.
أمسكتُ بالهاتف في تلك اللحظة و اتّصلت به، و سلّمتُ عليه و سألتهُ إن كان باقياً في المنزل فأنا راغب أن أذهب إليه و أكون في خدمته.
قال: كلّا كلّا أيّها السيّد! سأحضر في خدمتك على الفور.
فقلتُ. سآتي أنا، فأنا جاهز للخروج.
فأجاب. و أنا الآخر جاهز بملابس الخروج قرب الباب، فقد أردتُ المجيء لأ كون في خدمتكم.
و خلاصة الأمر، فلم تمرّ سوى دقائق معدودة حتى جاء، ففتحتُ الباب و تعانقنا و بكينا، ثمّ دخلنا الغرفة فجلس تحت الكرسيّ و لم نتحدّث بشأن ما كان بيننا ولو جملة واحدة، كلّ ما حصل أنّني ناولتُه رسالته و قلت: خُذ هذه، فكأنّك لم تكتب و كأنّي لم أقرأ، فأخذ الرسالة و وضعها بجانبه و ذرف الدموع لبعض الوقت، ثمّ ودّعني و ذهب.
لقد أردتُ من ذكر هذه القضيّة و التي سبقها الاستشهاد بأنّ تعاليم القرآن خالدة أبديّة، لها حكم الدواء الذي يشفي فوراً و يُنجي المريض من عناء الالم و الوجع، لا يرتوي الإنسان من شرابه الشافي مهما عبّ منه، بل يزداد إليه لهفة و رغبة، و ستحصل نفسه على سكينتها و تجد روحه حلاوتها، و لأنّ هاتين القضيّتين قد وقعتا فعلًا لهذا الحقير، و تذوّقتُ حلاوتها و تحسَّستُ شفاءها العاجل، فقد أحببت ذكرها للقرّاء المحترمين ليروا كيف أنّ هذه التعليمات و القوانين تمثّل الاسلوب الأمثل و النهج الأفضل.
الأوّل: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ.
الثاني: لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
كما أنّ جميع آيات القرآن الكريم على هذا النحو، فلا انحصار لهذه الصفة و المزيّة في آية أو آيتينِ، فإذا ما طبّقنا القرآن و نَهِجْنا نهجه في ممارساتنا إلى وميّة و في برنامجنا العمليّ فسنرى - كما شاهدنا في النهج الذي ذكرناه - كيف أنّ كلّ آيةٍ منه دواءٌ لعلّة و مسكّن لالم و محنة، و مهدِّئ لاضطراب قلب، تسكن القلوب و تشفي الأرواح و النفوس في ضوء تعاليمها و شعاع هَدْيها.
و عرفنا هنا معنى شفاعة القرآن حين يُقال للقرآن شَافِع و شَفِيع،
معنى شفاعة القرآن في الدنيا، و ظهورها في الآخرة
فالشَّفْع بمعنى الزوج مقابل الوتر بمعنى الواحد و الفرد، فحين يعجز المرء عن أداء عملٍ ما بمفرده فإنّه يلجأ عادة لطلب مساعد و معين، و يدعى هذا المعين و المساعد بالشافع و الشفيع، أي أنّه عند اقترانه بذلك الأمر فإنّ الإنسان يأخذ منه القوّة و يمكّنه بفضل معونته و انضمامه أن ينجز ذلك العمل.
إنّ الإنسان بعقله و طبيعته و إرادته و حسّه و اختياره قاصر بمفرده عن طيّ طريقه إلى الله، و سيَضِلُّ ويتيه فلا يهتدي، و سيُنهكه التعب و النصب، و ستذلّه و تقهره المشاكل المادّيّة و المعنويّة. و القرآن هو الذي يأتي فيضاعف قدرة الإنسان و قوّته، و يمدّه بالعون في سيره ليطوي طريقه؛ تماماً كما تعجز القاطرة عن سحب القطار فيُستعان بقاطرة اخرى تقرن بها، فهذه القاطرة الثانية تدعى شفيعاً، أي أنّها القرين و المساعد في سحب القطار، و كالعجلة التي يعجز الفَرَس عن سحبها فيُقرن به آخر يشفع به فيسحبانها سويّاً، و كالعامل الذي ينوء بحمل عمود حديديّ ثقيل فيستعين بشفيع و شافع يعينه على حمله.
إنّ آيات القرآن التي تمتلك جميعاً خاصّيّة الدلالة و الهداية و الدواء
و النور و الشفاء و الغذاء المعنويّ، تدخل في كلّ مرحلة من مراحل الحياة فتأخذ بِيَدِ الإنسان العاجز المتهالك و تُعينه على إنجاز عمله و الوصول به إلى مقصده و غايته.
و هذه الشفاعة في الدنيا تظهر نفسها في اليوم الآخرة، و في ذلك الموقف فإنّ القرآن يشفع بعنوان الشفيع و يُعين هناك مَن اعتاد الاستعانة به في الدنيا فيعبر به مراحل الظلمات و جهنّم.
روى الكلينيّ في «الكافي»؛ و محمّد بن مسعود العيّاشيّ في تفسيره، كلًّا بسنده عن الصادق عليه السلام عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أيُّهَا النَّاسُ! إنَّكُمْ في دَ ارِ هُدْنَةٍ؛۱ وَ أنْتُم عَلَى ظَهْرِ سَفَرٍ؛ وَ السَّيْرُ بِكُمْ سَرِيعٌ، وَ قَدْ رَأيْتُمْ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ يُبْلِيانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ وَ يَأتِيانِ بِكُلِّ مَوْعُودٍ، فَأعِدُّوا الجِهَازَ لِبُعْدِ المجَازِ!
قال: فَقَامَ المقْدَادُ بْنُ الأسْوَدِ فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَا دَارُ الهُدْنَةِ؟ فَقال: دَارُ بَلَاغٍ وَ انْقِطَاعٍ. فَإذَا الْتَبَسَتْ عَلَيْكُمُ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المظْلِمِ فَعَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ فَإنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَ مَاحِلٌ مُصَدَّقٌ. وَ مَنْ جَعَلَهُ أمَامَهُ قَادَهُ إلى الجَنَّةِ، وَ مَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إلى النَّارِ. وَ هُوَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى خَيْرِ سَبِيلٍ، وَ هُوَ كِتَابٌ فِيهِ تَفْصِيلٌ وَ بَيَانٌ وَ تَحْصِيلٌ، وَ هُوَ الفَصْلُ وَ لَيْسَ بِالهَزْلِ. لَهُ ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ. فَظَاهِرُهُ حُكْمٌ وَ بَاطِنُهُ عِلْمٌ. ظَاهِرُهُ أنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ. لَهُ تَخُومٌ وَ عَلَى تَخُومِهِ تُخُومٌ. لَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تُبْلَى غَرَائِبُهُ. فِيهِ مَصَابِيحُ الهُدَى وَ مَنَارُ الحِكْمَةِ وَ دَلِيلٌ عَلَى المعْرِفَةِ لِمَنْ عَرَفَ الصِّفَةَ.
إلى هنا نهاية رواية العيّاشيّ في تفسيره، و أضاف لها في «الكافي» هذه التتمّة:
فَلْيَجْلُ جَالٍ بَصَرَهُ، وَ لْيَبْلُغِ الصِّفَةَ نَظَرَهُ، يَنْجُ مِنْ عَطَبٍ، وَ يَخْلُصْ مِنْ نَشَبٍ، فَإنَّ الفِكْرَ حَيَاةُ قَلْبِ البَصِيرِ كَمَا يَمْشِي المسْتَنِيرُ في الظُّلُمَاتِ بِالنُّورِ.
فَعَلَيْكُمْ بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ وَ قِلَّةِ التَّرَبُّصِ.۱
مقام الإمام و الولاية هما تحقق الوجود الخارجيّ للقرآن
إ نّ الولاية هي أعلى مقام، و الإمام هو الذي. عُجِنَ القرآن و امتزج بتمامه مع نفسه الشريفة، و انطبقت عليه كلّ الآيات بتمام معانيها و مفاهيمها و لَمَسها و مَسَّها من بَاءِ «بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» إلى سِين «مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ»، الإمام في حقيقةِ وجوده هو القرآن الخارجيّ، و واقعيّته تكبيرٌ و تسبيح و تحميد و تهليل و تمجيد للحقّ تعالى.
يقول أبوالفداء ابن كثير الدمشقى في تأريخه. و ممّا قرأه الحاكم أبو عبدالله النيسابوريّ عن مقتل الحسين عليه السلام عن بعض المتقدّمين هذه الأبيات.
جَاؤُوا بِرَأسِكَ يَا بْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ | *** | مُتَزَمِّلًا بِدِمَائِهِ تَزْمِيلَا |
وَ كَأنَّمَا بِكَ يَا بْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ | *** | قَتَلُوا جِهَارَاً عَامِدِينَ رَسُولَا |
قَتَلُوكَ عَطْشَانَاً وَ لَمْ يَتَدَبَّرُوا | *** | في قَتْلِكَ القُرْآنَ وَ التَّنْزِيلَا |
وَ يُكَبِّرُونَ بِأنْ قُتِلْتَ وَ إنَّمَا | *** | قَتَلُوا بِكَ التَّكْبِيرَ وَ التَهْلِيلَا۱ |
فقتلُ الإمام يُمثّل قتلًا لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و قتلًا للقرآن، إذ إنّ الإمام هو القرآن الحيّ الناطق.
لقد كان الإمام السجّاد عليه السلام تجسيماً و تمثيلًا حيّاً للقرآن، لكنّهم أسروه و جلسوا يتلون أمامه القرآن!
يقول السيّد بن طاووس. و سار القوم برأس الحسين و نسائه و الأسرى من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنت امُّ كلْثُوم من شمر - و كان من جملتهم - فقالت له. لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك؟
قالت: إذا دخلتَ بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظارة و تقدّم إليه م أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل و ينحّونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلى نا. فأمر في جواب سؤالها أن يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه و كفراً، و سَلَكَ بهم بين النظارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقامالسبي.٢
عفو السجّاد عن الشيخ الشاميّ الذي شتم أسرى آل محمّد
و يروي الشيخ الصدوق في «الأمالي» عن حاجب ابن زياد في حديث
مفصّل إلى أن يقول: فاقيموا (الأسرى) على درج المسجد حيث يُقام السبايا و فيهم عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ و هو يومئذٍ فتى شابّ، فأتاهم شيخٌ من أشياخ الشام فقال لهم: الحَمْدُ للَّهِ الذي قَتَلَكُمْ وَ أهْلَكَكُمْ وَ قَطَعَ قُرُونَ الفِتْنَة! فلم يألُ عن شتمهم.
فلمّا انقضى كلامه قال له عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ عليه السلام: أمَا قَرَأتَ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ؟ قال: نعم.
قال: أما قرأتَ هذه الآية: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى؟۱
قال: بلى.
قال: فَنَحْنُ اولَئِكَ، ثمّ قال: أما قرأتَ: وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ؟٢
قال: بلى.
قال: فَنَحْنُ هُمْ، قال: فهل قرأت هذه الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.٣
قال: بلى.
قال: فَنَحْنُ هُمْ، فرفع الشاميّ يده إلى السماء ثمّ قال: اللَهُمَّ إنِّي أتُوبُ إليك، ثلاث مرّات، اللَهُمَّ إنِّي أبْرَا إليك مِنْ عَدُوِّ آلِ مُحَمَّدٍ وَ مِنْ قَتَلَةِ أهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، لَقَدْ قَرَأتُ القُرْآنَ فَمَا شَعَرْتُ بِهَذَا قَبْلَ اليوم.٤
قال السيّد ابن طاووس. ثمّ وضع (يزيد) رأسَ الحسين عليه السلام بين يديه و أجلس النساء خلفه لئلّا ينظرن إليه، فرآه عليّ بن الحسين عليه السلام فلم يأكل بعد ذلك أبداً من رأس غنم أو غير ذلك، و أمّا زينب فإنّها لمّا رأته أهوت إلى جيبها فشقّته، ثمّ نادت بصوتٍ حزين يفزع القلوب:
يَا حُسَيْنَاه! يَا حَبِيبَ رَسُولِ اللهِ! يَا بْنَ مَكَّةَ وَ مِنَي! يَا بْنَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ! يَا بنَ بِنْتِ المصْطَفَي!
قال الراوي. فأبكت و الله كلّ من كان في المجلس و يزيد عليه لعائن الله ساكت. ثمّ جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد لعنه الله تندب على الحسين عليه السلام و تنادي:
يَا حُسَيْنَاهُ! يَا سَيِّدَ أهْلِ بَيْتَاهُ! يَا بْنَ مُحَمَّدَاه! يَا رَبِيعَ الأرَامِلِ وَ إلى تَامَي! يَا قَتِيلَ أوْلَادِ الأدْعِيَاءِ!
قال الراوي. فأبكت كلَّ مَن سمعها.
وَ مِمَّا يُزِيلُ القَلْبَ عَنْ مُسْتَقَرِّهَا | *** | وَ يَتْرُكُ زَنْدَ الغَيْظِ في الصَّدْرِ وَارِيَا |
وُقُوفُ بَنَاتِ الوَحْيِ عِنْدَ طَلِيقِهَا | *** | بِحَالٍ بِهَا يُشْجِينَ حتى الأعَادِيَا |
ثمّ دعا يزيد عليه اللعنة بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسين عليه السلام، و كان عنده أبو برزة الأسلميّ فقال له.
يا يزيد! ارفع قضيبك فو الله لطال ما رأيتُ رسولالله يقبّل ثناياه.۱
و قال ابن الجوزيّ في كتابه «الرَّدُّ عَلَى المتَعَصِّبِ العَنِيدِ».
ليس العجب من فعل عمر بن سعد و عبيدالله بن زياد، و إنّما العجب من خذلان يزيد و ضربه بالقضيب على ثنية الحسين عليه السلام و إغارته على المدينة، أفيجوز أن يفعل هذا بالخوارج؟ أوَ ليس في الشرع أنّهم يُدفنون؟ أمّا قوله أن أسبيهم فأمرٌ لا يقنع لفاعله و معتقده باللعنة، ولو أنّه احترم الرأس حين وصوله و صلّى عليه و لم يتركه في الطست و لم يضربه بقضيب ما الذي كان يضرّه و قد حصل مقصوده من القتل؟ ولكن أحقاد جاهليّة، و دليلها ما تقدّم مِن إنشاده.
لَيْثَ أشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا | *** | جَزَعَ الخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأسَل۱ |
قال سبط ابن الجوزيّ. قال جدّي. ليس العجب من قتال ابن زياد الحسين عليه السلام و تسليطه عمر بن سعد على قتله و الشمر، و حمل الرؤوس إليه، و إنّما العجب من خذلان يزيد و ضربه بالقضيب ثناياه، و حمل آل رسول الله سبايا على أقتاب الجمال، و عزمه على أن يدفع فاطمة بنت الحسين إلى الرجل الذي طلبها كأمَةٍ، و إنشاده أبيات ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدرٍ شهِدوا | *** | ... |
البَحْثُ الثاني: القُرْآنُ هُوَ الهَادِي إلى سُبُلِ السَّلَامِ وَ المخْرِج مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ وَ المؤَدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ و تفسير آية قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ
تفسير آية: قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللهِ نُورٌ وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم.
قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.۱
و قد كان مطلع الآية الاولى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.
قال آية الله العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي في تفسير هاتين الآيتين. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ. ظاهر قوله: قَدْ جَآءَكُم مِّنَ اللهِ كون هذا الجائي قائماً به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبيِّن و المتكلم، و هذا يؤيّد كون المراد بالنور هو القرآن؛ و على هذا فيكون قوله وَ كِتَابٌ مُّبِينٌ معطوفاً عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعاً القرآن.
و قد سمّي الله تعالى القرآن نوراً في موارد من كلامه، كقوله تعالى: وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ،۱ و قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا،٢ و قوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.٣
و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم على ما أفاده صدر الكلام في الآية قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا؛ و قد عدّه الله تعالى نوراً في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ، وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً.٤
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللهُ، أي أنّ الله يهدي بسببه، و معلوم أنّ هذا السبب من الأسباب الظاهريّة، فحقيقة الهداية قائمة به تعالى، و هو الذي يسخّر إمّا رسوله أو قرآنه لأمر الهدآية:
و معنى السلام، و السلامة هو التخلّص من كلّ شقاء يختلّ به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فأمر الهداية الإلهيّة يدور مدار اتّباع رضوان الله، و قد قال تعالى: لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ،٥ و قال: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ.٦ و يتوقّف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى الله سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهيّة بقوله: وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.۷
فالآية؛ أعني قوله: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ؛ تجري مجرى قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ.۱
قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، في جمع الظلمات، و إفراد النور إشارة إلى أنّ طريق الحقّ لا اختلاف فيه و لا تفرّق و إن تعدّدت بحسب المقامات و المواقف، بخلاف طريق الباطل؛ و الإخراج من الظلمات إلى النور إذا نُسب إلى غيره تعالى كنبيٍّ أو كتابٍ فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه، كما قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ،٢ فقيّد إخراجه إيّاهم من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببيّة، فإنّ السبب الحقيقيّ لذلك هو الله سبحانه؛ و قال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ٣ فلم يقيّده بالإذن لاشتمال أمر «أخرج» على معنى الإذن، و إذا نُسب الإذن إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذن إخراجهم بعلمه كما في الآية التي نبحثها وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، أي بعلمه يخرج الله سبحانه تعالى الناس، و قد جاء الإذن بمعنى العلم في كثير من الآيات القرآنيّة، يُقال أذِنَ به أي عَلِمَ به، و من هذا الباب قوله تعالى: وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ،٤ أي إعلام من الله و رسوله، و الآية: فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ،٥.
و قد جيء بالسُّبُل بصيغة الجمع كما جيء بالصراط بصيغة المفرد، لأنّ سُبُل السلام إلى الله مختلفة و كثيرة، أمّا الصراط المستقيم الذي يُنسب إليه تعالى فهو طريقٌ له الهيمنة على جميع تلك السبل، فكلُّ سبيلٍ إلى الله يتّحد مع الصراط المستقيم بمقدار خلوصه.۱
لقد وصف الله تعالى القرآن في الآية التي أوردناها مطلع الكلام بصفتينِ، الاولى أنّه نُورٌ، و الثانية أنّه كِتَابٌ مُبِينٌ، و بيّن له آثاراً ثلاثة.
الأوّل: الهداية إلى سبل السلام.
الثاني: الإخراج من عالم الظلمات إلى النور بإذن الله.
و الثالث: الإرشاد إلى الصراط المستقيم و الطريق الحقّ.
و سنتحدّث بحول الله و قوّته بما يسعه فكرنا في هاتين الصفتين و هذه الآثار الثلاثة.
في معنى نور القرآن
أمّا أنّ القرآن نور، فلأنّ آياته جاءت من عالم النور، و لم تقصر أو تعجز أبداً عن تشخيص أمراض البشر و طريقة علاجها الناجع، فكلّ ما يقوله يُبيّنه لتكامل أفراد البشر، إنّما هو محض العلم و البصيرة و الوصول اليقيني إلى النتيجة و الهدف، لا الجهل و الشقاء و الوصول الاحتماليّ.
النور في اللغة هو الظَّاهِرُ في نَفْسِهِ وَ المظْهِرُ لِغَيْرِهِ، فالشمس مثلًا نور، لأنّها ظاهرة بنفسها و مظهرة للأشياء بإشراقها و ضيائها، و هي لا تحتاج إلى مُظهر تكتسب من خلال إنارته قابليّة الظهور و التجلّي، فهي مضيئة مشرقة بنفسها، و لها نور و إشراق لا ينفكّ عنها تضيء به
الموجودات الواقعة في معرض إشعاعه.
بَيدَ أنّ غير الشمس، كالقمر و النجوم، و الأرض و ما أقلّت، من صحاري و جبال و محيطات بمحتوياتها، مظلمٌ داكن، و لو مضي عليها ملايين السنين و دون أن يصلها نور الشمس فستبقي غارقةً في الظلام الدامس المحض بلا ظهور و لا تجلّ.
و بإشعاع النور يري الإنسان الأشياء، لا يخفي عليه منها شيء، لكنّه يري النور نفسه بلا حاجة إلي مُظهر له أو دليل عليه، إذ النور نفسه مُظهر لنفسه دليل عليها، علي العكس من الظُّلمة التي هي عبارة عن الإبهام و الجهل ذاتيّاً، مضافاً إلي منعها رؤيةَ الموجودات الماثلة فيها القابعة تحت افقها.
القُرْآنُ نُورٌ، لأنّه دليل علي نفسه و معرّف لها، فلا يمكن لأيّ كتاب أو قائل غير القرآن أنّ يُعرّف القرآن كما يليق به أو يُبيّن واقعه و حقيقته، لأنّ جميع الكتّاب و القائلين إنّما يعرّفونه وفق افق فكرهم و مستوي إدراكهم الذي يتضاءل و يقصر حين يقاس بعلوم القرآن و فكره، اللهمّ إلَّا إذا وصلوا إلي مقام الطهارة المطلقة و نظروا إليه من نافذة القرآن و من منبع نزوله، إذ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ،۱ و هو مقام يختصّ بأولياء الله المقرّبين، أمّا غيرهم من العالم أجمع فإنّ علومهم تعدّ مقابل القرآن محدودة قاصرة مقرونة بالإبهام و الجهل.
و علي هذا، فإنّ أي إبهام يرد بخصوصه ينبغي اللجوء في رفعه إلى القرآن نفسه و الاستنارة بنوره و ضيائه، فهو كتاب واضح و موضّح، و كتاب نور و إشعاع، و كتاب ظهور و إظهار، كما أنّ لدينا الكثير من الأخبار التي
تشير إلي أنّه إذا عُرِض عليكم حديث منّا فلم تتبيّنوا صحّته من سقمه فاعرضوه علي كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فدعوه.
و الآن و بعد أن تبيّن معني و مفهوم النور، و حقيقة أنّ القرآن نور، فنذكر الآيات التي وردت في القرآن و عبّرت عنه بالنور، كآية: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.۱
و هذه الفقرة تتمّة آية مطلعُها. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.
فإنّ المراد من النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ؛ أي مع رسول الله؛ هو القرآن الكريم.
و كالآية المباركة: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.٢
و الآية المباركة: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً.٣
و بالطبع فإنّ النور الذي هو حقيقة القرآن مطلق عامّ و شامل ينطوي على كلّ نور، لذا فقد جاء بألف و لام الجنس في بعض الآيات. وَ النُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنا؛ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، أمّا في التوراة و الإنجيل، فرغم كونهما من الكتب السماويّة أيضاً؛ فقد عبّر عن نورها بلفظ النكرة، فقد قال في الآية ٤٤، من السورة ٥. المائدة. إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ، و قال في الآية ٤٦ من نفس السورة. وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ.
و يلاحظ في هاتين الآيتين ورود فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ و هو تعبير يغاير تعبير فيه الهدى و النور الذي يفيد الاستغراق و العموميّة.
النور مقابل الظلمه كالعلم مقابل الجهل و الإبصار مقابل العمي
إ نّ فضل النور و ميزته على الظلمة، أي العلم على الجهل، يعدّ من الأوّليّات و المسلّمات لوضوحه، لذا عدّ القرآن تساويهما من الامور بديهيّة البطلان، و بيّن على نحو الاستفهام الاستنكاريّ.
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ.۱
وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ ، وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ ، وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ ، وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ، إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ.٢
فيكون الفارق - وفق هذا المقياس - بين المؤمنين المعتقدين بالقرآن، المقتدين في امورهم بنهجه، المقتفين خطاه في معاملاتهم، و بين المعرضين عنه و المخالفين لنهجه، كالفرق بين البصير و الأعم ى، و العالم و الجاهل، و الحيّ و الميّت، و السميع المدرك و مَن هو راقد في القبور.
فالمجموعة الاولي تتمتّع بجميع مظاهر الحياة، و الثانية في حكم الأموات، حيث لا روح لهم و لا بصر و لا سمع و لا علم و لا إدراك.
هذا هو البيان و المنطق القرآنيّ في تعريفه لهذا الكتاب السماويّ، و هذه المائدة الإلهيّة المعنويّة و الروحيّة التي تمنح عالم البشرية الإشراق و النور، و تخرجه من الجهل و الظلمة المطبقة المطلقة إلى العلم و النور المطلق.
خطب من نهج البلاغة عُبِّرَ فيها عن القرآن بالنور
و قد عبّر مولانا أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلّين في عدّة موارد عن القرآن الكريم بلفظ النور، فمرّة يقول: وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، أرْسَلَهُ بِالدِّينِ المشْهُورِ، وَ العِلْمِ المأثُورِ، وَ الكِتَابِ المسْطُورِ، وَ النُّورِ السَّاطِعِ، وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ، وَ الأمْرِ الصَّادِعِ.۱
و اخرى يقول: أفِيضُوا في ذِكْرِ اللهِ فَإنَّهُ أحْسَنُ الذِّكْرِ؛ وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ المتَّقِينَ فَإنَّ وَعْدَهُ أصْدَقُ الوَعْدِ، وَ اقْتَدُوا بِهَدْى نَبِيِّكُمْ فَإنَّهُ أفْضَلُ الهَدْ ى، وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإنَّهَا أهْدَى السُّنَنِ!
وَ تَعَلَّمُوا القُرْآنَ فَإنَّهُ أحْسَنُ الحَدِيثِ وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإنَّهُ رَبِيعُ القُلُوبِ، وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَ أحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإنَّهُ أحْسَنُ القَصَصِ!
فَإنَّ العَالم العَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالجَاهِلِ الحَائِرِ الذي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ أعْظَمُ، وَ الحَسْرَةُ لَهُ ألْزَمُ، وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ ألْوَمُ.٢
حيث يصرّح الإمام في هذه الخطبة أن: وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ.
و مرّة يقول:
وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ فَإنَّهُ الحَبْلُ المتِينُ؛ وَ النُّورُ المبِينُ؛ وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ وَ الرَّيُّ النَّاقِعُ، وَ العِصْمَةُ لَلْمُتَمَسِّكِ؛ وَ النِّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ.
لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامُ؛ وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبُ، وَ لَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَ وُلُوجُ السَّمْعِ. مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ؛ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ.۱
و في موضع آخر يقول: أرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ؛ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الامَمِ؛ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ المبْرَمِ. فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَ النُّورِ المقْتَدَى بِهِ. ذَلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ. وَلَكِنْ اخْبِرُكُمْ عَنْهُ. ألَا إنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأتِي؛ وَ الحَدِيثَ عَنِ الماضِي، وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ؛ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ.٢
كان ما تقدّم بحثاً عن النور و معناه و نورانيّة القرآن الكريم طبقاً لما ورد في الآيات القرآنية و «نهج البلاغة».
معنى الكتاب المبين و الإمام المبين و مرور أبي ذ رّ بوادي النمل
أمّا الصفة الثانية التي نعتَ القرآن الكريم نفسه بها في الآية التي تقدّم بحثها فهي صفة كِتَابٌ مُبِينٌ، أي كتاب واضح جليّ، باعتبار أنّ مادّة أبَانَ يَبِينُ إبَانَةً تستعمل متعدّية، نحو أبَانَ الشَّيْءَ إذا أظهره و أوضحه، أو لازمة نحو أبَانَ الشَّيْءُ إذا ظهر و اتّضح، لذا فإنّ اسم الفاعل مُبِينٌ باعتبار مجيئه صفة للكتاب و عدم أخذه مفعولًا فإنّه يعطى معنى اللازم، فـ كِتَابٌ مُبِينٌ، أي كتاب ظاهر بيّن جليّ.
و قد وردت لفظة الكتاب المبين كثيراً في القرآن الكريم، مثل.
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.۱ و تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ،٢ كما ورد القسم به، مثل. حم ، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ.٣
و كان المقصود بالكتاب المبين هو هذا القرآن اللفظيّ، أو القرآن المكتوب المتلو، أو حقيقته التي كانت في عالم أعلى و أسمى يحكي عنها هذا القرآن اللفظيّ في مقام النزول، كما قال: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.٤
و معلوم أنّ حقيقة الموجودات ليست بوجودها العينيّ في القرآن اللفظيّ، بل في عالم واسع و محيط يعبّر عنه بعالم لَوْحٍ مَحْفُوظٍ أو أُمُّ الْكِتابِ، فأصل الكتاب المبين هو ذلك العالم، و آياته هي القرآن الحاكي بآياته عن ذلك العالم، و هكذا فقد عبّر عنه بـ إمَامٍ مُبِينٍ باعتبار تحقّق وجوده النفسيّ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ،٥ و المراد من إمَامٍ مُّبِينٍ حقيقة النفس الملكوتيّة لمقام الولاية التي احصى فيها كلّ شيء.
و على هذا فإنّ القرآن الكريم سيكون وجودَه اللفظيّ و الكتبيّ، و الكتاب المبين وجودَه العينيّ و الخارجيّ، و الإمام المبين وجودَه النفسيّ الذي له العلم و الإحاطة بكلّ الموجودات و الهيمنة على وجودها و حياتها.
روى عن الشيخ الطوسيّ في كتاب «مصابيح الأنوار» عن أبِي ذَرٍّ
الغِفَارِيٍّ قال: كُنْتُ سَائِرَاً في أعْرَاضِ أمِيرِالمؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذْ مَرَرْنَا بِوَادٍ وَ نَمْلُهُ كَالسَّيْلِ سَارٍ. فَذَهَلْتُ مِمَّا رَأيْتُ، فَقُلْتُ: اللهُ أكْبَرُ؛ جَلَّ مُحْصِيهِ!
فَقَالَ أمِيرُالمؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ يَا أبَاذَرٍّ! وَلَكِنْ قُلْ. جَلَّ بَارِيهِ! فَوَ الذي صَوَّرَكَ إنِّي احْصِي عَدَدَهُمْ وَ أعْلَمُ الذَّكَرَ مِنْهُمْ وَ الانْثَى بِإذْنِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.۱
و روي عن عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أنّه قال: كُنْتُ مَعَ أمِيرِالمؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ؛ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ مَمْلُوٍّ نَمْلًا. فَقُلْتُ: يَا أمِيرَالمؤمِنِينَ! تَرَى يَكُونُ أحَدَاً مِنْ خَلْقِ اللهِ يَعْلَمُ كَمْ عَدَدَ هَذَا النَّمْلِ؟!
قال: نَعَمْ يَا عَمَّارُ! أنَا أعْرِفُ رَجُلًا يَعْلَمُ كَمْ عَدَدَهُ؟ وَ كَمْ فِيهِ ذَكَرٌ؟ وَ كَمْ فِيهِ مِنْ انْثَي؟!
فَقُلْتُ: مَنْ ذَلِكَ يَا مَوْلَايَ الرَّجُلُ؟!
فَقال: يَا عَمَّارُ! مَا قَرَأتَ سُورَةَ يَس. «وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ»؟!
فَقُلْتُ: بَلَى يَا مَوْلَايَ!
قال: أنَا ذَلِكَ الإمَامُ المبِينُ!٢
و روى عن الشيخ الصدوق ابن بابويه القمّيّ، بسنده المتّصل، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ «وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» قَامَ أبُوبَكْرٍ وَ عُمَرُ مِنْ مَجْلِسَيْهِمَا فَقَالا. يَا رَسُولَ اللهِ! هُوَ التَّورَاةُ؟
قال: لَا.
قَالا: هُوَ الإنْجِيلُ؟ قال: لَا.
قَالا: فَهُوَ القُرْآنُ؟ قال: لَا.
قال: فَأقْبَلَ عَلِيٌّ أمِيرُالمؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ. هُوَ هَذَا! إنَّهُ الإمَامُ الذي أحْصَى اللهُ تَبَارَكَ وَ تعالى فِيهِ عِلْمَ كُلِّ شَيءٍ.۱
و قد ورد في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في تفسير هذه الآية أنّ الإمام المبين هو الكتاب المبين، و هو محكم. و روى عن ابن عبّاس، عن أميرالمؤمنين صلوات الله عليه أنّه قال:
أنَا وَ اللهِ الإمَامُ المبِينُ؛ ابَيِّنُ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ؛ وَرِثْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.٢
أمّا جهة تسمية القرآن بالكتاب المبين و الواضح، فلخلوّه من الالتواء و الاعوجاج في الفهم، و الإبهام في المعن ى، و تعقيد المطالب و تعسّر تحصيلها و دركها؛ فهو كتاب بيّن واضح سهل المؤنة خالٍ من الألغاز في التعبير، و العيّ و الالتواء في البيان، و اسلوبه في الكلام بديع، إذ لا يُتعب القارئ و لا تزيده القراءة إلّا نشاطاً، و لا تزيده كثرة الأخذ من ماء معينه و نبع حياته الزلال إلّا ارتواءً.
الآيات الدالّة على أنّ القرآن واضح بيّن بلا إبهام
و ذكّرت بهذه الحقيقة العديد من آيات القرآن الكريم، منها.
أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.۱
وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.٢
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.٣
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.٤
وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.٥
وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ.٦
و قد عبّر في «نهج البلاغة» عن كتاب الله بالكتاب الناطق، أي المبين المستبين، البيان و التبيان، لا يحتاج في إحكامه و إتقانه إلى مفسِّر و مبيِّن.
إنَّ اللهَ بَعَثَ رَسُولًا هَادِيَاً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ؛ وَ أمْرٍ قَائِمٍ، لَا يَهْلِكُ عَنْهُ إلَّا هَالِكٌ.۷
و قال عليه السلام بشأن تحكيم الحكمين في وقعة صفّين: إنَّا لَمْ نُحَكِّمِ
الرِّجَالَ؛ وَ إنَّمَا حَكَّمْنَا القُرْآنَ. وَ هَذَا القُرْآنُ إنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ. لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ؛ وَ لَابُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ. وَ إنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ.۱
و المراد بقوله (لا ينطق بلسان)، كما أوضح عليه السلام، هو هذه الخطوط المستورة المحفوظة بين الدفّتين التي ينبغي أن يكون هناك مَن يعرفها و يُبيّنها؛ كما قال عليه السلام: ذَلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنطِقُوهُ وَ لَنْ يَنْطِقَ وَلَكِنْ اخْبِرُكُمْ عَنْهُ.٢
علاقة القرآن بالإنسان الكامل و الإنسان الكامل بالقرآن
و خلاصة ما ذُكر أنّ القرآن المقروء و المكتوب إنّما هو الصوت الخارج من الحنجرة، و المداد المنشور على صفحات الورق، بَيدَ أنّ حقيقة القرآن تتمثّل في ذلك الإنسان المرتقي في مدارج سلوك الطريق الإلهيّ، الواصل حيث ينهل من منبع نزول القرآن، و الواقف و المهيمن على حقائقه و أسراره و معارفه و أحكامه و قصصه. و هو مقام رفيع و مرتبة سامية لا تنال ذروتها الشامخة يدُ نائل، إلّا أصحاب مقام الولاية الكلّيّة الإلهيّة - جعلنا الله فداهم و رزقنا من بحور علومهم، آمين، بمحمّدٍ و آله الطاهرين - و هو الإمام المبين، و الكتاب المبين، الحاوي لكتاب التكوين في اللوح المحفوظ؛ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.٣
و قد شرح الشيخ محمود الشبستريّ؛ في أبياته؛ كتاب التكوين هذا، المخطوط بيد الحقّ تعال ى، فقال:
به نزد آنكه جانش در تجَلَّي است | *** | همه عالم كتاب حقّ تعالى است |
عَرَض إعراب و جوهر چون حروف است | *** | مراتب همچو آيات وقوف است |
ازو هر عالمي چون سورهاي خاصّ | *** | يكي زان فاتحه، ديگر چو إخلاص |
نخستين آيتش، عقلِ كُل آمد | *** | كه در وي همچو بآء بِسْمِل آمد |
دوم نفس كل، آمد آيت نور | *** | كه چون مصباح شد در غايت نور |
سيم آيت درو شد عرش رحمن | *** | چهارم آية الكرسي همي خوان |
پس از وي جِرْمهاي آسماني است | *** | كه در وي سورة سَبْعُ المثَانِي است۱ |
نظر كن باز در جِرم عناصِر | *** | كه هر يك آيتي هستند باهر |
پس از عنصر بود جِرم سه مولود | *** | كه نتوان كردن اين آيات معدود |
به آخر گشت نازل نفس إنسان | *** | كه بر ناس آمد آخر ختم قرآن۱ |
و قال مولى الموالي الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في الأشعارالمنسوبة له.
دَوَاؤُكَ فِيكَ وَ مَا تَشْعُرُ | *** | وَدَاءُكَ مِنْكَ وَ مَا تُبْصِرُ |
وَ تَحْسَبُ أنَّكَ جِرْمٌ صَغِيرٌ | *** | وَ فِيكَ انْطَوَى العَالم الأكْبَرُ |
وَ أنْتَ الكِتَابُ المبِينُ الذي | *** | بِأحْرُفِهِ يَظْهَرُ المضْمَرُ |
فَلَا حَاجَةَ لَكَ في خَارِجٍ | *** | يُخَبِّرُ عَنْكَ بِمَا سُطِّرُ٢ |
عينيّة نفس الإمام الملكوتيّة مع حقيقية القرآن
و قد كشف أميرالمؤمنين عليه السلام عن هذه الحقيقة في مواضع عديدة من «نهج البلاغة»؛ فمرّة يقول:
إنَّ أوْلِياءَ اللهِ هُمُ الذين نَظَرُوا إلى بَاطِنِ الدُّنْيَا إذَا نَظَرَ النَّاسُ إلى ظَاهِرِهَا؛ وَ اشْتَغَلُوا بِآجِلِهَا إذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ بِعَاجِلِهَا. فَأمَاتُوا مِنْهَا مَا خَشُوا
أنْ يُمِيتُهُمْ؛ وَ تَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أنَّهُ سَيَتْرُكُهُمْ؛ وَ رَأوْا اسْتِكْثَارَ غَيْرِهِمْ مِنْهَا اسْتِقْلَالًا؛ وَ دَرَكَهُمْ لَهَا فَوْتَاً. أعَداءُ مَا سَالم النَّاسُ؛ وَ سِلْمُ مَا عَادَى النَّاسُ! بِهِمْ عُلِمَ الكِتَابُ؛ وَ بِهِ عُلِمُوا؛ وَ بِهِمْ قَامَ الكِتَابُ؛ وَ بِهِ قَامُوا. لَا يَرَوْنَ مَرْجُوَّاً فَوْقَ مَا يَرْجُونَ؛ وَ لَا مَخُوفَاً فَوقَ مَا يَخَافُونَ.۱
و في مسألة تحكيم الحكمين في صفّين يقول:
وَ إنَّ الكِتَابَ لَمَعِي. مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ. و ذلك في خطبة طويلة خطبها على جيش الخوارج حين أصرّوا على إنكار تحكيم الحكمين، يصل فيها إلى القول:
الم تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ المصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً، و مكْرَاً وَ خَدِيعَةً. إخْوانُنَا وَ أهْلُ دَعْوَتِنَا اسْتَقَالُونَا وَ اسْتَرَاحُوا إلى كِتَابِ اللهِ سُبْحَانَهُ، فَالرَّأيُ القَبُولُ مِنْهُمْ وَ التَّنْفِيسُ عَنْهُمْ؟
فَقُلْتُ لَكُمْ. هَذَا أمْرٌ ظَاهِرُهُ إيمَانٌ، وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ. وَ أوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ. فَأقِيمُوا عَلَى شَأنِكُمْ، وَ الْزِمُوا طَرِيقَتَكُمْ، وَ عَضُّوا عَلَى الجِهَادِ بِنَوَاجِذِكُمْ. وَ لَا تَلْتَفِتُوا إلى نَاعِقٍ نَعَقَ! إنْ اجِيبَ أضَلَّ، وَ إنْ تُرِكَ ذَلَّ.
وَ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الفَعْلَةُ، وَ قَدْ رَأيْتُكُمْ اعْطَيْتُمُوهَا. وَ اللهِ لَئِنْ أبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا؛ وَ لَا حَمَّلَنِي اللهُ ذَنْبَهَا.
وَ وَ اللهِ إنْ جِئْتُهَا إنِّي لَلْمُحِقُّ الذي يُتَّبَعُ؛ وَ إنَّ الكِتَابَ لَمَعِي، مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ (الخطبة).٢
إلى هنا، نري أنّ الإمام يعتبر نفسه مع كتاب الله لا ينفكّ عنه و لا يفارقه
في أي مرحلة من مراحله النفسيّة، و أنّ حقيقة هذه المقالة و لبّها هي إحاطته النفسيّة للكتاب الإلهيّ.
و في الآية المبحوثة: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ؛ إذا ما اعتبرنا المراد بالنور هو القرآن، و اعتبرنا الكتاب المبين عطفاً تفسيريّاً له، أو إذا أخذنا بالاحتمال الآخر الذي ذُكر بقرينة الآية السابقة عليها، فإنّ المراد بالنور هو رسول الله، و الكتاب المبين هو أيضاً عطف تفسيريّ عليه؛ ففي كلتا الحالتين لا يمكن إرجاع الضمير المفرد في بِهِ في التعبير يهدي به إلى النور أو الكتاب، إذ لابدّ من إرجاعه إلى جامع ذلك، أي المفهوم الجائيّ المستخرج من كلمة قد جاءكم، كأن نقول: أعْطَيْتُ زَيْداً القَلَمَ وَ القِرْطَاسَ لِيَكْتُبَ بِهِ، أي ليكتب بما أعطيته، أي الجامع بين القلم و القرطاس.
و في الاحتمال الثاني، حيث المراد من النور رسول الله، فينبغي أن يكون المراد من كِتَابِ مُبِين عطفاً تفسيريّاً أيضاً، أي أنّ رسول الله هو الكتاب المبين الإلهيّ، و يكون الباري المتعال قد عبّر هنا عن شخص رسول الله بعنوان كِتَاب مُبِين.
أمّا إذا كان المراد من النور رسول الله و المراد من الكتاب القرآن الكريم فهذا خلاف الظاهر، مع أنّنا لن نواجه عندئذٍ مشكلةً من جهة إرجاع ضمير بِهِ إلى الجامع.
أجل، كان هذا بحثاً عن الصفة الثانية التي ذُكرت للقرآن الكريم في الآية الشريفة السالفة.
أمّا الآثار الثلاثة التي ذُكرت له فهي أوّلًا: الهداية الإلهيّة للناس بواسطة القرآن إلى سبل السلام و النجاة: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. فالله سبحانه و تعالى يهدي الناس بوسيلة القرآن و سببه إلى
سبل النجاة، و كانت الباء في يَهْدِي بِهِ للآلة؛ أي أنّه يهدي بسببٍ و آلةٍ هي القرآن، كما في كَتَبْتُ بِالقَلَمِ.
و معلوم أنّ جميع الأسباب تحت إرادة و مشيئة الحقّ تعالى مسبّب الأسباب، فالقرآن إنّما هو وسيلة للهداية الإلهيّة، وسيلة لا استقلال لها في العمل، بل هي محكومة تابعة لأمر الحقّ تعالى. و هذه الهداية الإلهيّة إلى سُبل السلام - كما في هذه الفقرة من الآية - تنحصر في الأفراد الفائزين برضا الله التابعين سبل نيل رضوانه و قبوله، لا أن تعمّ هدايته الناس بلا قيد أو شرط.
أي أنّ القرآن ليس كتاب هداية لمن لا يسعى في تحصيل رضا الله و يسلك طريق القربة إليه، و هنا نكتة مهمّة جدّاً، و حاصلها أنّ القرآن لا يسوق الناس قهراً و اضطراراً إلى سبيل الهداية، بل إنّه يهدي و يرشد و يوصل إلى الغاية مَن كان بصدد تهذيب نفسه و تزكيتها.
إ نّ جميع الأنبياء و المرسلين و كلّ الكتب السماوية المنزلة لم يكونوا ليسعوا إلى تغيير ماهيّات الناس و سوقهم للانقياد بالإكراه و الإجبار، ولو حصل ذلك لفقد التكليف معناه، و لما كان للجنّة و النار، و الملك و الشيطان، و النفس المطمئنّة الملهمة و النفس الأمّارة، و السعادة و الشقاء أي معن ى و مفهوم.
فالإنسان - إذاً - يمتلك إختياراً فطريّاً متأصّلًا في سجيّته، معجوناً في جبلّته، ينشأ منه طريق السعادة و الشقاء، فيصبح به شكوراً أو كفوراً:
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً.۱
و أعجب من ذلك! أنّ القرآن الكريم لا تنعدم فيه خاصيّة الشفاء
و الرحمة فحسب - حين يتعلّق الأمر بالظالمين - بل إنّه يتحوّل إلى كتاب خسران و ضرر، و سيزيد في تمرّدهم و جرأتهم على العصيان، و سيسوقهم سريعاً إلى جهنّم زمراً.
وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.۱
الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.٢
تتمثّل أهمّيّة هذا المطلب في كيفية كون القرآن كتاب - الذي ارسل إلى جميع أفراد البشريّة إلى قيام الساعة - سبباً للرحمة لقومٍ و للنقمة لآخرين؟!
و يتّضح هذا المعنى بالإمعان في الآيات القرآنيّة التي وصفت القرآن و عرّفته، ذلك لأنّه ليس كتاباً مجازيّاً أو كتاب ترف و طقوس و مراسم يسعى على أساس الخيال ليقبل الناس من شتّى الأصناف و الطبقات بأيّ شكلٍ و عنوان، و أن يُمضي أعمالهم و يقرّها، بل هو الفرقان الذي يفصل بين الحقّ و الباطل. شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ.٣
و هو الفاصل و المفرّق بين سبيل السعادة و طريق الشقاء، و بين النور و الظلمة، و هو الحادّ بين الحقيقة و المجاز، و الواقع و الاعتبار. إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.٤
و عليه، فهو المبيّن الصريح للصراط المستقيم، و لسبيل الإنسانيّة الحقّة، و لانتهاج طريق التوحيد، و الخروج من تسلّط هوى النفس، و هو الغذاء الروحيّ للذين يتلقّون تلك المطالب بانشراح صدر و يَقْتَفُون سبيلها، فيمنحهم القوّة و القدرة على الدوام ليبلغوا غايتهم إلى السعادة المطلقة.
أمّا المعرضون عن قبول أحكام القرآن و معارفه و تعاليمه، الخاضعون لهوى أنفسهم و المعرضون عنه، فإنّ شقاءهم و تعاستهم نتيجة هذا الإعراض ستتّضح و تظهر، و مكنونات أنفسهم ستبدو للعيان أوضح و أجلى، و إصرارهم على الظلم و الاستكبار و التجرّي سيزداد، ممّا يعقبهم زيادة في الخسران. لقد شاءوا بمحض إرادتهم عدم متابعة النبي صلّى الله عليه و آله و سلّم و الإيمان به، و أبوا أن يهاجروا من أنفسهم إلى دار الإسلام و التوحيد، و أن يردوا فضاء المعرفة الواسع الفسيح:
وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ، وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.۱
فمن أين يتأتّى لُاولئك الذين ظلّوا حبيسي أسوار المال و الجاه و الهوى و الشهوة و الغرور و الامور التافهة الاخرى منكبّين لا يُقلعون، لكي ينساقوا لمتابعة رسولالله حين كان يتلو القرآن مشيراً إلى فضاء فسيح و لطيف من حدود الإنسانيّة و الارتباط بالله و الفناء في ذاته و هو مستغرق في ذلك العالم؟!
لذا، يعبدون المادّة و يقبعون في سجنها الضيِّق المظْلم.
حركة المؤمنين بتلاوة القرآن مع النبيّ في العروج المتعالي للأسماء
لقد كان النبيّ الأكرم يحلّق في الفضاء الأقدس، تعرج به آيات القرآن
إلى عالم الأسماء و الصفات الإلهيّة اللامتناهي، و تحلّق به همّته المتعالية بعيداً في أعلى أجواء المعرفة و الصفاء و النور؛ فكيف سيمكن لهذا المسكين الحبيس في بئر الهوى و الهوس، المتخبّط في شراك الأباطيل و الشيطنة، أو لتلك الذبابة قصيرة النظر، بطيئة الطيران، سريعة الأذ ى و التعب، أن تحلّق إلى ذلك المكان الفسيح أو ترقى لتلك الذروة المنيعة، أو تنال تلك القمّة الرفيعة؟!
و هذا هو الحجاب الصلد، و السدّ الحديديّ بين العامل بالقرآن و تاركه، الذي سيوجد فيحجب، شاء المرء أم أبى.
فالمؤمن دوماً في عروج و ارتقاء، و مَن لا يؤمن بالآخرة، ممّن لا يتجاوز ظاهر الحياة الدنيا، و يفهم العيش و اللذة في الإطار الضيّق لأسوار الهوى و المادّة و سراديبها المظلمة، فهو في حال سقوط و تردٍّ أبديّ:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.۱
الطواغيت يريدون قرآناً وفق هوى أنفسهم
إ نّ هؤلاء يخسرون دوماً صفاتهم الإيجابيّة، و يغيّرون الثروات و النِّعَم الإلهيّة من العمر و الحياة و العقل و القدرة، و يستبدلونها بلذّات متغيّرة فانية، فهم في حال هبوط دائميّ في درك النفس و نار جهنّم و عذاب الجحيم.
فأيّ حجابٍ أشدّ من هذا؟ و أي سدّ و حاجزٍ أقوى و أكثر إحكاماً؟
إنّهم يخافون كلمة اللهُ أكْبَرُ و عبارة لَا إلَهَ إلَّا اللهُ فيهربون منها، لأنّهم يكرهون أن يصف النبيّ ربّه بالوحدانيّة، و كلّما ورد في القرآن التوحيد فوصف الخالق به، و بالتفرّد في الذات و الصفة و الفعل، أو قيل إنّ كلّ الأمر و النهي و الحكم و الطاعة للّه وحدة، ولّوا على أدبارهم نفوراً من كلمات الحقّ الصادعة هذه. لأنّهم اتّخذوا أرباباً من دون الله من أب و امّ و شريك
و رفيق، و زوجة و ابن، و حاكم و محكوم، و راعٍ و رعيّة، و ثروة و تجارة و زراعة، و حرفة و صنعة، و ... فصارت هذه آلهتهم و أربابهم، فكيف سيتأتّي لهم أن يعرضوا صفحاً عن آلهتهم هؤلاء، و أن يسدلوا عليهم ستار النسيان ليؤمنوا بكلّ وجودهم بالله الواحد القهّار؟!
كيف يمكنهم تجاهل نوازعهم النفسيّة، و طموحاتهم اللامشروعة، و آمالهم المتعارضة مع الإنسانيّة، الهادمة صرحها و المستأصلة جذورها، لكي يصبحوا تابعين طيّعين يعملون طبقاً لتعاليم القرآن الكريم بالعدل و القسط في المجالات الفرديّة و الاجتماعيّة؟
لكلّ هذا، لم يكن هؤلاء ليقبلوا تعاليم الإسلام القائمة على أساس الوحدة التي لا تتساوق مع الحياة الشيطانيّة، و لا تنسجم مع القصور القائمة في دنيا الخيال و الوهم و عشق المجاز.
فالقرآن كتاب حقّ، يدعوهم إلى الحقّ، و هم يصرّون على الباطل، بل يقولون جهاراً. يا أيّها النبيّ! بدّل قرآنك هذا، أوِ ائتنا بغيره ينسجم و هوى أنفسنا، و يقرّنا على تجاوزاتنا، و يتركنا في فوضى و إطلاق العنان من أجل تحقيق رغباتنا!
ائتِ بقرآنٍ يقيم وزناً لوجهائنا و كبرائنا و يميّزهم، و لا يجعل الغنيّ و الفقير في المعاملة على حدٍّ سواء.
ائتِ بقرآنٍ يجعل الناس يهوون سجّداً على أعتاب قصورنا، يديم هيمنتنا و تسلّطنا على رقاب الضعفاء.
ائت بقرآن لا يدعونا إلى الصلاة و التضرّع، و لا يأمرنا بالصوم و الحجّ و الجهاد، و لا يسألنا الإنفاق و الإيثار و بذل الأموال، بل يرخي لنا العنان في ركوب الشهوات، و الاعتداء على أعراض الناس و نواميسهم، و اغتصاب حقّ ذوي الحقوق، و سلب أتعاب الضعفاء و المساكين، و في معاقرة الخمرة
و الكذب و القمار و الرشوة.
و باختصار، فإنّنا نريد أن تأتينا بقرآن يكفل رغباتنا النفسيّة، و يُشبع نوازعنا في الإسراف و التبذير، لا أن يحدّ و يقيّد تبعيّتنا لأهوائنا النفسيّة، أو يضع الحواجز الرادعة أمام ما ينتابنا من نوازع و هواجس.۱
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ٢
قُل لهم أيّها النبيّ: إنّ القرآن كتاب التوحيد الذي جاء ليجتاز بكم مرحلة البهيميّة إلى افق الإنسانيّة المشرق الوضّاء، و هو كتابٌ أرسله الله، لم يكن من صنع يدي أو من بنات أفكاري، لم آتِ به من عند نفسي أو أنشئه وفق رغبتي كي اغيّر فيه برأيي و ذوقي، بل إنّ قلبي كالمرآة مقابل أنوار الحقّ تعال ى، يوحي إليه ما يشاء، ولو خطر لي مخالفة، مهما صغرت، لمسّني في ذلك العذاب الأليم. و دليلي الواضح على صدق دعواي هذه عيشي فيكم أربعين سنة اعاشركم و تعاشرونني، لم تسمعوا عنّي طيلتها جملةً من كلامٍ كهذا. فاعلموا، إذَاً، أنّ القرآن ليس من كلامي، بل هو وحي الله الذي نزل و امرت بتلاوته عليكم و تبليغه لكم.
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ ، وَ ما لا تُبْصِرُونَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ، وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ ، وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.۱
و الخلاصة فقد ظلّ العديد لا يُقلعون عن متابعة هوى النفس الأمّارة، و لا ينقادون للآيات القرآنيّة الكريمة، لتسلّط الغرائز الشيطانيّة و الملكات، سواء ما ورثوه أم ما اكتسبوه، و هولاء و أمثالهم لا يزيدهم عرض القرآن عليهم إلّا إصراراً على الجحود و الإنكار ممّا يتمّ الحجّة عليهم و يعقبهم شقاءً و خسراناً، و هو معنى زيادة الخسران وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.
بَيدَ أنّ جماعة اخرى امتلكت الروح الطاهرة النزيهة، و الغرائز الرحمانيّة، و الملكات الحسنة الموروثة، و التربية الصالحة، فسمت فوق
كلّ إنّيّاتها و شخصيّاتها فقادتها في طريق الحقّ، مسلمة منقادة لأوامر الله في قرآنه الكريم، اولئك الذين تترك الآيات الإلهيّة في أنفسهم و أرواحهم دوماً بصماتها الإيجابيّة، فيقوى بها الإيمان و تسعد بها الأرواح؛ و هذا هو معنى الشفاء و الرحمة الخاصّة بالمعتقدين بالقرآن:
كان نزول آيات القرآن للمؤمنين بهجة و سروراً
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.۱
و لهذا فقد كان المؤمنون يتساءلون بينهم في حياة رسول الله حين تنزل عليهم آية: ما مدى تأثيرها عليكم؟ و كم زادت من إيمانكم؟
وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ.٢
إ نّ مثل القرآن كالشمس الساطعة المتألّقة، تشرق فتملأ الفضاء نوراً و حرارة، و يصل نورها و حرارتها الأرض فيغترف منهما كلّ موجود ما يقوّي به ذاته و طينته.
و حين تحزم الشمس أمتعتها و ترحل عن نصف الكرة الأرضيّة، مختفية وراء الافق، فلن يتضوّع عندئذٍ عبير الأزهار، كما لن تفوح الروائح الكريهة الخبيثة للنجاسات و الأقذار المتعفّنة. أمّا حين تعود الشمس فتطلع، و تلامس بنورها و دفئها الزهور الغافية، فستتفتّح البراعم في حدائق الورد و تعطّر الهواء بعبقها، و سيمرّ النسيم اللطيف لحدائق الورد تلك على مشامّ الأرواح فيمنحها حياةً جديدة.
و ستصل أشعة الشمس - من جانب آخر - إلى المزبلة فتفوح النجاسات بروائحها هي الاخر ى، و تملأ فضاء المزابل و مستنقعات المياه القذرة بالرائحة الحادّة العفنة.
إذاً، لم يكن الذنب ذنب الشمس، إذ الإشعاع و التوهّج من لوازمها، و الإشراق و منح الدفء و الحرارة من آثارها و صفاتها، بل يكمن الذنب في الذات الخبيثة لهذه الموجودات التي انطوت على الموادّ المتعفّنة.
فلو لم تشرق الشمس، و لم تصل الحرارة و الدفء، لما كان هناك أثر لأيّ موجود، و سيكون الكلّ عندئذٍ بمنزلةٍ سواء، فلا ميزه للورد عل ى الأقذار، و لا فرق بين روضة الأزهار و اتُّون الحمّام!
إ نّ المطر الربيعيّ المليء بالخصب و البركة ينهمر من السماء فتخضرّ له كلّ البذور في الأرض، بذور الثمار الحلوة اللذيذة و بذور الحنظل المرّ؛ و ليس في طبع المطر انتخاب القبح و الرداءة، و المرارة و الرائحة السيّئة للنباتات و الأوراد و الثمار و البذور، فهو يصبّ رحمته سواءً دفعة واحدة على أرض الله الواسعة، فتنمو هنا وردة و يطلع هناك علف و حشائش، و تكبر في جهةٍ شجرة خضراء يانعة و تشتدّ في اخرى أشواك المغيلان المؤذية؛ و تستفيد من لطافته البلابل و طيور الكناري في ناحية، و تستفيد منه الأفاعي و العقارب و الزنابير اللاسعة في ناحية اخر ى.
باران كه در لطافت طبعش خلاف نيست | *** | در باغ لاله رويد و در شورهزار خس۱ |
شمشير نيك از آهن بد چون كند كسي؟ | *** | ناكس به تربيت نشود أي حكيم كس |
إ نّ الأوراد العطرة و الثمار الحلوة تتبدّل في فم النحلة إلى عسل، في حين تتحوّل في فم الأفعى إلى سمّ زعاف قاتل؛ و الغذاء الصحيح يُهضم في معدة إنسانٍ سالم فيصير سكّراً في الدم يمثّل مادّة حيويّة، لكنّه يستحيل نفسه في بدن مريض بالحصبة إلى مادّة سامّة قاتلة.
و على هذا القياس فإنّ ما يصل من القرآن هو محض الرحمة؛ فتتبدّل بركته و عافيته و نور هدايته في نفس المؤمن إلى انشراح و سعة و تجرّد و نور، و تستحيل في نفس الكافر المعاند إلى أهواء ضالّة و أفهام و آراء زائغة.
لقد قسّم القرآن حين نزوله البشر إلى صنفين. أصحاب إلى مين (السعداء)، و أصحاب الشمال (الأشقياء التعساء)، مؤمن و كافر، من أصحاب الجنّة و من أتباع الجحيم، موحّد و مشرك، عادل و فاسق، مُتّقٍ و منحرف؛ تشخّص هؤلاء و تميّزوا على إثر إبلاغ القرآن، و هذا هو معنى فصل القرآن و فرقانه الذي لا يبقى مجالًا لأحد ليدّعي ادّعاءً فارغاً، أو أن يضع المنحرفون و المتجاسرون أنفسهم في مصاف أولياء الله و يعتبرون أنفسهم على أنّهم النخبة و الصفوة في العالم.
القرآن لهداية و إرشاد من يخشى الله
نقرأ في مطلع سورة البقرة:
الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.۱
و من هنا نرى أنّه قد دعى القرآن بكتاب هداية المتقين و دلالتهم إلى الغاية:
طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى.٢
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ.٣
وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.٤
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.٥
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ.٦
كان هذا بحثاً عن تفسير عبارة يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ، و قد أصبح واضحاً أنّ الهداية القرآنيّة تختصّ بأصحاب هذا المعنى، أي اولئك الذين هم في صدد كسب رضا الخالق الحقّ جلّ و عزّ.
معنى السلام و تفسير آية: يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُو سُبُلَ السَّلَامِ
و اعلم! أنّ هداية القرآن لهذه المجموعة إنّما هي إلى سُبل السلام و النجاة: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. و علينا أن نعرف ما معنى السلام؟ و سبل السلام؟ و كيف يهدينا القرآن لتلك السبل؟
من الواضح أنّ السبل التي تربط أفراد البشر بالله تعالى ليست من جنس الطرق و السبل الطبعيّة و الطبيعيّة الموجودة في الخارج، بل هي سُبل
نفسيّة و روحيّة؛ فكلّ شخص له في أعماقه و نفسه سبيل إلى الله، و هذه السبل كثيرة تتعيّن و تتشخّص تبعاً لفطرة الإنسان و جبلّته و خلقه و إرادته و اختياره التي يمارس بها أعماله، فكما تختلف الأبدان و الأجسام الطبيعيّة للناس بعضها عن البعض الآخر، فإنّ نفوسهم هي الاخرى مختلفة متباينة، و كما نعجز أن نجد في العالم كلّه من عصر آدم إلى يوم القيامة فردينِ متماثلين متطابقينِ في البناء الجسميّ، من شكلٍ و شمائل و وجه و وزن و مقاييس و سائر الجهات الطبيعيّة، فسنعجز أيضاً أن نجد فردينِ يتماثلان و يتطابقان في جوانب الأخلاق و الصفات و الغرائز و الملكات من جميع جوانبها.
لذا فإنّ النفوس تختلف بعضها عن البعض الآخر، لأنّ اختلاف الأخلاق و الصفات، بل و تباين الأجساد و الأبدان، إنّما ينشأ من اختلاف النفوس، و بعبارةٍ اخرى فإنّ لكلّ شخصٍ شاكلةً و خصوصيّات صِيغت تبعاً لها نفسه و مثاله و ذهنه و بدنه، و أوجب هذا الأمر - من ثمّ - اختلاف النفوس فيما بينها.
و قد علمنا أنّ السبيل إلى الله ينبغي طيّه من قبل النفس، فتوجّب أن تكون الطرق و السبل إلى الله بعدد نفوس الخلائق أي أنّ كلّ فرد من أفراد البشريّة مِنْ آدَمَ إلى الخَاتَمِ، مِنَ الخَاتَمِ إلى يَومِ القِيَامَةِ له إلى الله سبيل يختصّ به، لا يشركه فيه غيره.
و إليه ذا أشارت الرواية التي وردت عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق.۱
لكنّ هذه الطرق تكوينيّة، أي أنّها طرق وُضعت و اقرّت على أساس
الفطرة و الخلقة؛ و لأنّ النفوس كانت في حالة من الإبهام و البساطة، و عليها أن تطوي طريق الله بالتربية و التزكية، أي أنّ عليها من الناحية التشريعيّة أن تهذّب هذه الطرق النفسيّة و تصقلها بالمجاهدة والرياضة، و أن تخطو خطوات في طريق تكاملها الفعليّ، و تصل من مرحلة القابليّة و الاستعداد إلى مرحلة و مقام الفعليّة، لذا فإنّ ما يؤثّر على مسيرة تربيتها و تكاملها له عنوان السلام.
و قد كان عليهم أن يتحاشوا الصفات التي تضرّهم في الدنيا و الآخرة و تحشرهم في دائرة الاضطراب و القلق النفسيّ، ليدخلوا في السلام و السلامة، و يستفيدوا من نفوسهم على النحو الأحسن، و يبقوا مصونين من أذى وسوسة شياطين الجنّ و الإنس، و يصلوا إلى حيث منزل الأمن و الأمان و الراحة و الاستقرار.
سبيل السلام: هو طريق تقويم الغرائز و الصفات الإنسانيّة و تصحيحها، و هو الطريق الوسط بين طريقى الإفراط و التفريط.
سبيل السلام: تحكيم القوى الفطريّة و العقليّة و تغليبهما على القوى الواهمة و الشهويّة و الغضبيّة.
سبيل السلام: السيطرة على النفس الأمّارة و تطويعها و كبح جماحها، ثمّ استخدامها في متابعة الأوامر الحقّة الصحيحة النابعة من التدبّر و التفكير و سيطرة العقل و الإدراك.
سبيل السلام: طريق الوحدة و الورود في عالم الأنوار الإلهيّة، و الخروج من الكثرة و الاعتبار و الأوهام.
سبيل السلام: هو الخروج من النفس وآثارها، و الورود في حرم العزّ الكبريائيّ، و حريم الأمن و الأمان الإلهيّ.
سبيل السلام: طريق العبور من النزاعات و المحن و الضربات القارعة
المدمّرة التي تواجه كلّ فرد، و الدخول في عالم السلام الذي هو اسم من الأسماء الكلّيّة الإلهيّة.
سبيل السلام: طريق الدخول و الفناء في صفة و اسم السلام الذي هو من الأسماء الجماليّة للحضرة الأحديّة.
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.۱
و قد ذُكر الله تعالى في هذه الآيات باسم السَّلَام، وعُدّ هذا الاسم من الأسْمَاءُ الْحُسْنَى.
و ورد في الدعاء: اللَهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ، وَ مِنْكَ السَّلَامُ، وَ إليك يَعُودُ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا مِنْكَ بِالسَّلَامِ (الدعاء).٢
نعم، إنّ السلام اسم من أسماء الله تعالى، و الدعاء بالسلام إنّما هو طلب و رجاء منه أن. يا إلهيّ أدخلني - أو خاطبني بالسلام - في عالم السلام الذي هو اسمك.
و كما أنّ لكلٍّ من الأسماء الإلهيّة عالم خاصّ و آثار و علائم و ميزات خاصّة به، فإنّ اسم السلام له أيضاً أثره و خاصيّته، و هي السلامة من جميع
الجهات و النجاة من وساوس شياطين الجنّ و الإنس و الأبالسة المغوين المضلّين الذين يثيرون القلق و الاضطراب و يجعلون الافق يبدو مكفهرّاً مظلماً؛ و الدخول في السلامة و النجاة المحضة، و نيل راحة البال و هدوء الخاطر و نيل مقام الاطمئنان و الوصول إلى السكينة الإلهيّة التي هي لازمة التوحيد و معرفة الله و لا تنفكّ عنه.
و لأنّنا بحثنا هذه المسألة في موضوع «معرفة المعاد»،۱ فلا نطيل،
الآيات القرآنيّة الداعية إلى سبل السلام
و نعرض هنا نماذج من آيات القرآن التي يقود العمل بها إلى السلام و السلامة و يستتبع ورود عالم السلام، أو في الحقيقة دخول سبيل السلام، كمثالٍ لتعريف سبل السلام:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ، وَ قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ، وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ، رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً.٢
فهو يشير في هذه الآيات إلى سبيل من سبل السلام، ألا و هو احترام الأبوين و إكرامهما في سنّ الكهولة، و فوق ذلك في سنّ الهرم حين يبدأ التهالك و الضعف بالهجوم على بدنيهما إثر الشيخوخة و الهيمنة التدريجيّة لجيوش الموت، و ربّما سيبدر منهما في تلك السنّ - بلا قصد - الكلام
الخشن و العبارات غير الجميلة المسبّبة عن الإرهاق و عدم تحمّل المشاكل و المزعجات من الامور.
و يصدر القرآن هنا تعاليمه فيأمر الولد أن يبّر والديه و يعاملهما باحترام و أدب، و ببذل المساعي الجميلة في تأمين حوائجهما، و بخفض جناح الذلّ و الخضوع، بلا إكراه أو إجبار، و لا لحسابات مصلحيّة أو من باب احتياط، بل لمحض الصدق و الإخلاص و عين الرحمة و الرأفة، بل إنّ عليه - مضافاً إلى تحمّل المشاق من أجلهما - أن يدعو لهما بطلب الرحمة و المغفرة من الله تعالى.
و نلاحظ أنّ الإسلام قد اعتبر برّهما الذي يقترن بمجاهدة النفس و رياضتها، من أهمّ تعاليمه التي جعلها جزءاً من الوظائف العمليّة للإنسان.
إ نّ الإنسان يتحمّل المشاق منهما فيطهر من هوى النفس، و يصبر على ما يكره منهما فيجُزى الأجر الجزيل، و يكتسب سعه الروح و الصدر، و يرضي والديه فيدعوان له بالخير؛ و سيصبح هذا المجتمع العائليّ الصغير من الأبوين و الأولاد مركزاً للمحبّة و الإخلاص، فالابن يبرّ والديه و يسعى في خدمتهما، و هما المحبّان اللذان يلهجان له بالدعاء، حتى تذوى حياتهما و تنطوي شيئاً فشيئاً فيُودعان الثرى بإعزاز و احترام و دعاء لهما بالغفران، ثمّ تمضي الحياة فيصبح الأبناء أنفسهم آباءً و امّهات، ثمّ يضعفون و يهرمون فيعاملهم أبناؤهم بما عاملوا به والديهم.
بكاشتند و بخورديم و كاريم و خورند | *** | چو نيك بنگري همه برزيگران يكدگريم۱ |
مقارنة تعاليم القرآن بالتمدّن الأجوف للشرق و الغرب الناشئ من الكفر
لكنّ الثقافة الضالّة و الحضارة الغربيّة و الشرقيّة لا تقيم وزناً للإنسان
و لا تعترف له بشخصيّة و لا أصالة، بل هو في نظرها ليس إلّا وسيلةً من وسائل العمل، و أداةً للحصول على المقاصد المادّيّة و الموارد الاقتصاديّة.۱
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا | *** | دين و آخر دين لا عقل له |
فالأبوان يمتلكان المقام و المنزلة في المجتمع مادام في إمكانهما العمل و درّ المنافع المادّيّة، لكنهما حين يعجزان عن العمل أو قضاء أعمالهما الخاصّة بنفسيهما للمرض أو لضعف الشيخوخة و فتورها، يصبحان في نظر المجتمع و القانون، و حتى في عرف الناس، عالتينِ لا قيمة لهما و لا أهمّيّة و لا اعتبار، فيعمد أولادهما إلى التعاقد مع
المستشفيات الخاصّة فيبيعون - مقدّماً - أعينهما و كليتيهما، فيعمد إليه ا عند نزعهما و احتضارهما فتنتزع العيون من أحداقها بالسكّين، و تُبقر البطون فيستأصل القلب و الكلي، و يمثّل بالبدن و يمزّق تمزيقاً، ثمّ يتركانهما للدولة لتتولّى مسألة دفنهما.
لقد مثّل الآباء و الامّهات دور الأبقار الحلوب، تُحلب ما درّت ضروعها، حتى إذا ما كبرت و هرمت و انعدمت عوائدها عدّت عضواً زائداً شاذّاً في المجتمع، فُينقل الآباء و الامّهات - طوعاً أو كرهاً - بعيداً عن المجتمع إلى محلّ خاصّ بين المدينة و المقابر هو بالسجن الواسع أو المستشفى الأبديّة، يدعونه فندق الكبار أو دار استراحة العجزة و المسنّين.
لا انس لهم هناك و لا أنيس، و لا صديق و لا دار و لا ديار، بل هي الوحدة، و الوحدة المرّة القاتلة، و الفراغ المميت و الوحشة الرهيبة حتى الموت.
إنّهما الأبوان اللذان قضيا عمرهما وضيّعاه من أجل هذا الولد، و أنفقا من أجله وجودهما و مالهما و حياتهما؛ لكنّهما حين تخطّاهما الزمن فكبرا و عجزا عن تأمين متطلّباتهما الخاصّة أصبحا عبئاً متعباً ثقيلًا للابن!
و الأسوأ من ذلك أنّ زوجة ابنهما لم تعد لتسمح ببقائهما في المنزل، بل تعتبرهما جراثيماً ضارّة، لربّما أمرت فخُصّص لهما غرفة الخدم، أو أشارت فالقي بهما إلى الخارج، فينقلان إلى دار العجزة و المسنّين.
لقد صار الابن عبداً طيّعاً لزوجته، لقد انغمر في الشهوات، و ذاب في عشق الجمال الظاهريّ فقدّم إرادتها في امور الحياة، حتى صار بإشارة بسيطة منها تكفيه ليسعى بمنتهى الجدّ لتنفيذها مهما كلّف الثمن أو كانت التضحيات.
عشق هائي كز پي رنگي بود | *** | عشق نبود عاقبت ننگي بود۱ |
لقد تخلّى الابن لزوجته عن مسؤوليّة إدارة امور المنزل، بل و مسؤوليّة تسيير اموره الشخصيّة، و كذا ما يتعلّق منها بخارج المنزل، فصارت فعّالة لما تشاء حاكمة بما تريد عليه.
إ نّ الزعامة في الامور، و التفويض و حرّيّة الاختيار حين تصبح في يد النساء، فمن الواضح أين سيسقن الرجال و في أي طريقٍ سيوردونهم، و من أين سترد الضربة القاصمة للمجتمع السليم و للسلام. و هنا تشرق هذه الآية المباركة من افق الغيب فتهتك الستر الخفيّ هاتفةً: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ.٢
و لا ينقضي العجب من أنّ الكلام كثيراً ما يدور هذه الأيام حول آية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، فيعتبرها مدّعو معرفة الإسلام قانوناً أصيلًا يعدّ من مفاخر القرآن، بَيدَ أنّهم لا يأتون بذكرٍ لآية الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، أو لجملة فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ، أي لمسألة لزوم طاعة النساء للأزواج، كأنّهم جزّأوا الإسلام فقبلوا منه بعضاً و رفضوا بعضاً، مع اعترافهم اللفظيّ الشكليّ بجميع القرآن و إقرارهم الكلّيّ بجميع أحكامه.
إ نّ الفتاة التي لا تقبل قيمومة الرجل على المرأة، و وجوب طاعته و التسليم له، و كان في نيّتها أن تُخضع الزواج لسيطرتها بعد الزواج، فتأمره
و تنهاه، و أن تتسلّط على الامور بالحيلة و المكر بمختلف الوسائل؛ و بشكلٍ عامّ فلو كانت تعتقد أنّ المرأة ينبغي أن تتسلّط على الرجل أو تتدخّل في اموره، فهي في الحقيقة ترفض هذه الآية و لا تقبلها، حتى لو احترمت القرآن و بجّلته و التزمت بفتحه أمام أعينها في مجلس العقد، و سيكون عقد زواجها في هذه الحالة باطلًا، لأنّه لم يجرِ وفق شريعة رسول الله و وفق كتاب الله. و للّه الحمد و له الشكر فقد كتبنا «رسالة بديعة. الرِّجالُ قَوَّامُونَ»۱ و طُبعت ترجمتها أيضاً، و انتشرت، و حريّ بالجميع - رجالًا و نساء - أن يقرأوا هذه الرسالة ليتعرّفوا على روح الإسلام و سمو نظرته بشأن حكمة المجتمع، و الواجبات المهمّة للرجال و النساء، و أجل تشكيل مجتمع صالح يقوم على أساس التعاليم القرآنيّة لا الأوهام الشخصيّة أو الأفكار الجاهليّة.
لطائف و نكات ظريفة في تفسير آية: وَ اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
لقد رفع الإسلام مسألة وجوب احترام الوالدين و إجلالهما للحدّ الذي عدّ القرآن الكريم احترامهما و مصاحبتهما بالمعروف في الامور الدنيويّة أمراً واجباً ولو كان الأبوان مشركينِ، مع أنّه حرّم متابعتهما في الشرك أو إطاعتهما في المسائل المخالفة للدين، و في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، و أغلق طريق متابعتهما بشكل كامل في هذا المجال.
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.٢
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.۱
لقد كان الفتيان إليه ود و النصارى يقدمون إلى المدينة فيُسلمون ثمّ يعودون إلى ديارهم فيصبح سلوكهم و معاملتهم مع آبائهم و امّهاتهم الخارجين عن دينهم أفضل و أجمل، ممّا كان يثير عجب آبائهم و امّهاتهم و دهشتهم، فيتساءلون. كنّا نظنّكم - و قد تبعتم دين محمّد - تتركوننا و شأننا، لكنّنا نرى محبّتكم و عطفكم قد زادا، و سعيكم في حوائجنا و برّكم لنا و وقفكم أنفسكم على خدمتنا صار أكثر!!
فيجيبونهم. إنّ هذه المعاملة من أوامر و تعاليم الدين الإسلاميّ؛ فكان الأبوان يأتيان المدينة فيُسلمان، و تسلم معهم قبائلهم و طوائفهم.٢
روى في «اصول الكافي» بسنده المتّصل عن أبي ولّاد الحنّاط، قال: سَألْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عَلَيه السَّلَامُ عَنْ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»٣، مَا هَذَا الإحْسَانُ؟
فَقال: الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ صُحْبَتَهُمَا، وَ أنْ لَا تُكَلِّفْهُمَا أنْ يَسْألَاكَ
شَيْئَاً مِمَّا يَحْتَاجَانِ إليه وَ إنْ كَانَا مُسْتَغْنِيَيْنِ، إلى سَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»؟
ثُمَّ قَالَ أبُوعَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَ أمَّا قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما»، قال: إنْ أضْجَرَاكَ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا افٍّ، وَ لَا تَنْهَرْهُمَا إنْ ضَرَبَاكَ وَ تَدْفَعُهُمَا عَنْكَ.
قال: «وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» قال: إنْ ضَرَبَاكَ فَقُلْ لَهُمَا. غَفَرَ اللهُ لَكُمَا. فَذَلِكَ مِنْكَ قَوْلٌ كَرِيمٌ، قال: «وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» قال: لَا تَمْلأ عَيْنَيْكَ مِنَ النَّظَرِ إليه مَا إلَّا بِرَحْمَةٍ وَ رِقَّةٍ، وَ لَا تَرْفَعُ صَوْتَكَ فَوقَ أصْوَاتِهِمَا، وَ لَا يَدَكَ فَوْقَ أيْدِيهِمَا، وَ لَا تَقَدَّمْ قُدَّامَهُمَا.۱
و كذلك فقد أورد في «اصول الكافي» بسنده المتّصل عن الصادق عليه السلام أنّه قال: لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئَاً أدْنِى مِنْ افٍّ لَنَهَى عَنْهُ، وَ هُوَ مِنْ أدْنَى العُقُوقِ، وَ مِنَ العُقُوقِ أنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلى وَالِدَيْهِ فَيُحِدَّ النَّظَرَ إليه مَا.٢
انظر إليه ذا التعاليم و التربية العالية، و إليه ذا الاسلوب و المنهج الملكوتيّ الذي يهدي به القرآن من اتّبعه إلى سُبل السلام، و قارنها بتعاليم الامم الكافرة و اسلوب معاملة بعض الشباب المغرور الذي سافر إلى اوروبّا و أمريكا فأضلّه بريق المدنيّة الزائف، فصعّر خدّه، و تقدّم على أبيه في المجالس و المحافل، لا يبالي؛ و قد شاهدت بنفسي دكتوراً أخصّائيّاً سبق أباه في الدخول لأحد المجالس و والده يتبعه و يسير خلفه، و نُقل أعجب من هذا عن دكتورٍ شابّ عاد من بلاد الكفر فجاءه رفقاؤه و أصحابه القدامى لزيارته، و كان أبوه العجوز واقفاً يستقبل القادمين و يقوم بخدمتهم، فالتفت
هذا الدكتور لشدّة غروره و عجرفته قائلًا لضيوفه. هذا الرجل مستخدم جئنا به للخدمة في البيت.
أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.۱
حقّاً! إنّ الإنسان إذا قال افٍّ لأهواء و أفكار هؤلاء المستكبرين الذين حازوا على مقام و مركز حديثاً، ولو قال افٍّ ثمّ بصق عليهم و على فكرهم و اسلوبهم و نهجهم لما تجانف عن الحقّ و لكان في ذاك محقّاً مصيباً. أفهذه الأعمال تصدر من امّةٍ قال نبيّها: الجَنَّةُ تَحْتَ أقْدَامِ الامَّهَاتِ؟!٢
كان ما سبق بحثاً علميّاً و تفسيريّاً للآية المبحوثة، و من جانب آخر فإنّ البحث الوجدانيّ و الشهوديّ عن تأثير دعاء الوالدينِ في حقّ ولدهما، و ما له من القدرة على رفعه في معارج الكمال و مدارجه، و الشواهد و التجارب المشهودة في ذلك هي من الكثرة بحيث لا يسعها هذا الكتاب.
قصّة بائع جوّال قد كشف له حجاب الملكوت لبرّه بامّه
و أنقل هنا فقط ملاقاةً لي مع شخصٍ ارتقى إلى مقام عال إثر خدمته لُامّه، و حدث له كشف الحُجب الملكوتيّة.
حدث أن ذهبت في طهران يوماً إلى المكتبة الإسلاميّة الواقعة في
مادران راست خلد زير قدم | *** | اين چنين گفت خواجه عالم |
جنّت كه بهشت ما در آن است | *** | در زير قدوم مادران است |
شارع (بوذر جمهري)، و كان الحاجّ السيّد محمّد الكتابجيّ، و هو أحد المشاركين في هذه المؤسّسة، مشغولًا في مخزن الشركة الواقع في انتهاء شارع (بامنار) قرب شارع (بوذر جمهري) الذي تقع فيه المكتبة، و كان هذا السيّد المذكور من بين الإخوة المتصدّين لمسؤوليّة إدارة مخزن الكتب و إرسال طلبات الكتب إلى المدن الاخرى، و بيع الكتب بالجملة. و قد زرته لرؤيته في ذلك المخزن لما بيننا من رابطة صداقة قديمة، و كنت أذهب إليه غالباً لشراء ما أحتاج من كتب.
كان الوقت صباحاً، و لم يكن لأذان الظهر بعد سوى أربع ساعات، و كان هناك رجل جاء لشراء بعض الكتب، و قد بسط حزامه الجلديّ على الأرض و صفّ عليه بعض الكتب التي ابتاعها كالقرآن و «مفاتيح الجنان» و «كليلة و دمنة» و بعض القصص و الرسائل العمليّة، منتظراً ليجمع باقي الكتب التي تلزمه. و أخيراً و بعد إتمام هذا العمل حزم كتبه - و كانت بحدود الخمسين كتاباً - في حزامه الجلديّ و تهيّأ للخروج، ثمّ قال فجأة. الله حبيبي، الله طبيبي، مُعيني معيني، روحي روحي.
نظرتُ إليه فكان وجهه قانياً جدّاً و قد لمعت حبّات من العرق على جبهته، و كان غارقاً في الوجد و السرور بلا حدّ.
قلتُ: أيّها العزيز! أيّها الدرويش العزيز! ليس من طبائع الأدب أن تنفرد بالمائدة فلا تشارك أحداً!
فبدأ بالدوران حول نفسه، و دار دورة واحدةً، ثمّ ترنّم بصوت عالٍ فيه حرقة بهذه الأبيات للشاعر بابا طاهر العريان، و كان صوته فصيحاً حزيناً.
اگر دِل دلبِر دلبرْ كدام است | *** | و گر دلبردلِ دل را چه نام است؟ |
دل و دلبر بهم آميته وينُم | *** | ندونُم دل كه و دلبر كدام است؟ |
***
دلي ديرُمْ خريدار محبّت | *** | كز او گرم است بازار محبّت |
لباسي بافتم بر قامتِ دل | *** | ز پود محنت و تار محبت |
***
غم عشقت بيابون پرورم كرد | *** | هواي بخت بي بال و پرم كرد |
بمو گفتي صبوري كن صبوري | *** | صبوري طُرفه خاكي بر سرم كرد |
***
به صحرا بنگرُم صحراتَه وينُم | *** | به دريا بنگرُم دريا تَه وينم |
بهر جا بنگرم كوه و در دشت | *** | نشان از قامت رعناته وينم۱ |
***
ثمّ سكت في هذه الحال، و بكي بشدّة، ثمّ أشرق وجهه بالسرور و البهجة فضحك.
قلتُ. أحسنت أحسنت، أنا حقير فقير عاجز، أنتظر دعاءك لي، فبدأ يقرأ هذه الأبيات.
موازِ قالوا بلي تشويش ديرُم | *** | گنه از برگ و بارُون بيش ديرُم |
اگر لَا تَقْنَطُوا دستم نگيره | *** | مواز يَا وَيْلَتَا أنديش ديرُم |
***
بورَه سوتَه دلان تا ما بناليم | *** | ز دست يار بي پروا بناليم |
بشيم با بلبلِ شيدا به گلشن | *** | اگر بلبل نناله ما بناليم |
***
بورَه سوتَه دلان گردِ هم آئيم | *** | سخن واهم كريم غم وانمائيم |
ترازو آوريم غمها بسنجيم | *** | هر آن غمگينتريم است سنگينتر آئيم۱ |
قال: طريقك سليم و الحمدللّه، دعني و شأني أيّها السيّد، فأنا فقير عاجز، و لا تضع حملًا آخر على كاهلي.
ثمّ قال: جئتُ يوماً لأبتاع كتباً، و كان العلّامة (دهخدا)۱ قد جاء أيضاً، فتحدّثنا لبعض الوقت ثمّ قلتُ له. من الإنصاف القول بأنّك بذلت جهداً ضخماً و تحمّلت معاناة كبيرة، ولكن لا تظنّ أنّ الأمر قد انتهى بذلك، فأيّ شيءٍ كان العمر سيُثمر لو صُرف في طرق اخرى؛ يا للأسى؟ و أي شيءٍ كان سُينتج؟
هاتِ ما عندك الآن لنرى، تعالَ لنَر ما في يدك الآن!
تَه كه ناخواندهاي علم سماوات | *** | تَه كه نابردهاي ره در خرابات |
ته كه سود و زيان خود نزوني | *** | به يارون كي رسي هيهات هيهات٢ |
فاهتز العلّامة، ثمّ غرق في التفكير لبعض الوقت، و امتقع وجهه قليلًا، و لم ينبس ببنت شفة.
أمّا أنت فأنا أعرفك، فأنت تصلّي في مسجد القائم، و قد جئتُ إلى ذلك المسجد و سآتي فيما بعد فلا مكان معيّن لي، في الليل لا يغمض لي جفن، أطوف مناطق (طهران بارس) و (طهران الجديدة) و (طرشت)، أذهب هنا و هناك و أدور على المقاهي، و قد كان منزلي السابق في بوّابة (شميران)، لكنيّ منذ وفاة والدتي لا أذهب هناك إلّا نادراً.
قلتُ: لقد نلتَ عنايات من الله تعالى، أفكان هناك حسب الظاهر سبب خاصّ - حسب اعتقادك - لهذه العنايات التي وُهبتَها؟
قال: نعم، كان لي والدة عجوز مريضة و عاجزة، ثمّ أصبحتْ مُقعدة منذ سنوات، و كنت إلى خدمتها بنفسي و أؤمّن احتياجاتها و أعدّ غذائها و احضر عندها ماءَ وضوئها، و خلاصة الأمر فقد كنتُ حاضراً عندها انفّذ رغباتها بصبر و تحمّل؛ و كانت حادّة المزاج و سيّئة الخلق، تشتمني أحياناً فأتحمّل و أبتسم في وجهها بحنوّ.
و آثرتُ من أجلها العزوف عن الزواج مع أنّي قد جاوزت الأربعين، إذ كنتُ سأعجز عن إبقاء زوجتي مع أخلاق والدتي تلك، و حسب علمي أنّ اختياري الزواج يعني أنّ حياتي ستستحيل جحيماً لا يُطاق، و أنّني ساجبر على ترك والدتي، و كان هذا الأمر بالنسبة لعاطفتي و ضميري أمراً غير ممكن، لذا تحمّلت مسألة عدم زواجي و لقّنتُ نفسي الإقتناع بها.
و كان يومض في قلبي فجأة؛ إثر تحمّل المصاعب و المشاكل التي تواجهني معها؛ اشعاع و نور كالبرق يضيء للحظة فيملأ القلب بهجة، لكنّه كان سريعاً ما يخبو و يخمد.
حتّى جاء أحد أيّام الشتاء، و كان الجوّ بارداً، و قد بسطتُ فراشي قريباً من والدتي في غرفتها كي لا تبقى وحدها و لا تحتاج لندائي بصوتٍ عالٍ إن أرادت شيئاً، و كنتُ في تلك الليلة قد أعددتُ إناء الماء بجانبي كي أناولها الماء حالما تطلبه منّي.
و قد نادتني في الليل فطلبتْ ماءً، فنهضتُ من فوري و سكبتُ الماء في إناء و قدّمته لها و قلت: خذي يا امّاه فدتك روحي. لكنّها كانت مثقلة بالنعاس فلم تفطن إلى سرعة عملي و ظنّت أنّي تأخّرت في إحضار الماء، فشتمتني شتماً غريباً و ضربت بالإناء على رأسي، فأعدتُ ملأ الإناء و قلتُ:
خذي يا امّاه العزيزة و اعفي عنّي فأنا أرجو غفرانك.
ثمّ لم أفهم ما حدث فجأة،
برّ الامّ بسقيها ليلًا و كشف الحجاب الملكوتيّ
و باختصار. لقد تحقّق ما كنتُ أصبو إليه، و تبدّلت تلك الومضات إلى عالم نورانيّ يضيء كالشمس، لقد كلّمني حبيبي و معيني و إلهي و حبيبي، و لم يقطع نجواه عنّي، و قد دامت هذا الحال و لم تنقطع بعد مرور سنوات عليها.
ثمّ سحب حذاءه بسرعة و حمل كتبه على عاتقه و ودّع قائلًا. سأجيء عندكم إن شاء الله؛ و تحرّك للخروج من باب المخزن ثمّ التفت إلى نا في هذه الحال بوجهه و أنشد هذه الأبيات بذلك اللحن نفسه:
منم كه گوشه ميخانه خانقاه منست | *** | دعاي پير مغان وِرد صبحگاه منست |
گرم ترانه چنگ و صبوح نيست چه باك | *** | نواي من به سحرآهِ عذرخواه منست |
ز پادشاه و گدا فارغم بحمد الله | *** | گداي خاك درِ دوست پادشاه منست |
غرض ز مسجد و ميخانهام وصال شماست | *** | جز اين خيال ندارم خدا گواه منست۱ |
از آن زمان كه برين آستان نهادم روي | *** | فراز مسند خورشيد تكيهگاه منست |
مگر به تيغ أجَل خيمه بركنم ورنه | *** | رميدن از در دولت نه رسم و راه منست |
گناه اگر چه نبود اختيار ما حافظ | *** | تو در طريق أدب باش و گوگناه منست۱ |
ثمّ لم نره بعد ذلك، و حدث أن كنتُ ذاهباً إلى المسجد قبيل الغروب مستقلًّا سيّارة اجرة، فتوقّفت السيّارة عند ضوء المرور الأحمر قرب بوّابة (شميران) عند انتهاء شارع (فخر آباد)، فرأيته مارّاً من هناك، فحيّاني من خلف زجاج نافذة السيّارة و أشار بإصبع السبّابة أن (ها، لقد رأيتُك)،٢ فسلّمتُ عليه بدوري و تحرّكت السيّارة. و لقد قصصت حكايته على بعض الأصدقاء من سكنة بوّابة (شميران) فقالوا إنّهم يعرفونه، و إن والدته توفّيت قبل سنوات، و إنّهم يعرفونه كذلك بتلك الأخلاق و الحالات.٣
أمّا الحاجّ السيّد محمّد الكتابجيّ، فقال في إيضاح حاله إنّه بائع جوّال
يشتري بعض الكتب منّا بقدر ما يمكنه بيعه، ثمّ يضعها على رصيف الشارع فيبيع ما يحتاجه الناس منها، و هو رجل أمين في معاملته، يأتينا يوميّاً بقائمة الكتب التي يحتاجها فنعدّها له، ثمّ يأتي بثمنها عصراً بعد بيعها، و تنتابه أحياناً حالات تجاهل حتى لا يعرفه أحد، و قد شاهدنا منه حالات عالية.
نعم، كان المراد من ذكر هذه القضيّة بيان النتائج المعنويّة لخدمة الامّ التي حين تفتح قلبها فإنّ أبواب السماء تُفتح معه؛ قلب الامّ مستودع الحبّ الإلهيّ و خزينة السرّ الإلهيّ، إن اغلق اغلقت معه أبواب السماء، و إن فتح فُتحت معه.
و قد رأينا الكثير ممّن سلكوا طريق الله تعالى و أمضوا مدّة بالتهجّد و قيام الليل و صيام النهار و الرياضات المشروعة، لكنّ معاملتهم مع أبويهم كانت سيّئة فلم يوفقّوا و لم يقطفوا ثمرة جهودهم، أو يحصلوا على حاصل أتعابهم، و لم يحصل لهم كشف باب أو يُفتح لهم بشيء بعد مرور الأعوام المتمادية.
لكنّ أفراداً؛ كهذا الرجل؛ لم ينشغلوا كثيراً بالرياضات و النوافل و ترك المكروهات، لكنّهم إثر مراعاة الامور المتعلّقة بنفوس الناس؛ كترك تسبيب الأذى لمن تحت يدهم و سلطتهم، و تحمّل أذى الناس و الصبر عليه، و توقير ذوي الحقوق من الوالدين و الكبار و الأولياء و إكرامهم؛ قد نالوا مقامات عالية و درجات سامية.
نعم، فمن البحث في هذه الآية الكريمة و بيان هذه القضيّة فقد اتّضحت كيفيّة هداية القرآن إلى سُبل السلام، و كيف اعطيت البصيرة و اليقين للبائع المتجوّل المعدَم الحامل لبضاعته المزجاة يوميّاً على عاتقه، الجارّ قدميه جرّاً فوق الأرض؛ بحيث يعجز عقلاء العالم عن إدراك أمره، فصار يضحك ساخراً من كلّ هذه التعيّنات و الامور الاعتباريّة، عابراً في
هذا العالم بوعي و بصيرة ملكوتيّة، مترحّماً على الناس العميان عن إدراك الحقائق و المعنويّات، معتبراً أنّه يتصدّر عالم الإمكان في مقامٍ صار مسند الشمس العالي متّكأه.
الآيات الدالّة على أنّ من يرى القرآن يراه حقّاً و أنّ من لا يرى الحقّ، أعمي
و علينا أن لا نعجب هنا من دعوة القرآن هؤلاء بأصحاب اليقين و الحقّ، و اعتبار مخالفيهم عمياناً، فيدعو هؤلاء باولي الألباب و أصحاب العقل و الفهم و البصيرة، و يلعن مخالفيهم و يحذّرهم من العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم:
أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ، وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ، وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ، وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.۱
و من جملة الآيات الهادية إلى سُبل السلام هذه الآيات الكريمة:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.٢
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ.۱
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.٢
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.٣
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.٤
و قد نزلت الآيات الأخيرة بعد الفتح، و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله يبايع على هذه الشروط جمعاً من النساء اللاتي جئن للبيعة، و قد روى الواقديّ في «المغازي» عن عبدالله بن الزبير، قال: لمّا كان يوم الفتح أسلمت هند بنت عتبة، و أسلمت امّ حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، و أسلمت امرأة صفوان بن اميّة. البغوم بنت المعَذِّل من كنانة، و أسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، و أسلمت هند بنت منبّه بن الحجّاج، و هي امّ عبدالله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوة من
قريش، فأتين رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالأبطح فبايعنه، فدخلن عليه و عنده زوجته و ابنته فاطمة و نساء من بني عبدالمطّلب، فتكلّمت هند بنت عتبة۱ فقالت:
يَا رَسُولَ اللهِ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي أظْهَرَ الدِّينَ الذي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ لِتَمَسُّنِي رَحْمَتُكَ؛ يَا مُحَمَّدُ! إنِّي امْرَأةٌ مُؤْمِنَةٌ بِاللهِ مُصَدِّقَةٌ!
ثمّ كشفت عن نقابها ف قالت: هند بنت عتبة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مرحباً بك!
ف قالت: و الله يا رسول الله ما على الأرض مِن أهل خباء أحبّ إلى أن يُعَزّوا من أهل خبائك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: و زيادة أيضاً.
ثمّ قرأ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عليهنّ القرآن و بايعهنّ، فقالت هند من بينهن. يا رسول الله نُماسحك؟
فقال رسول الله: إنِّي لَا اصَافِحُ النِّسَاءَ! إنَّ قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأةٍ مِثْلُ قَوْلِي لِامْرَأةٍ وَاحِدَةٍ.
و يقال: وَضَعَ على يده ثوباً ثمّ مسحنَ على يده يومئذٍ.
و يقال: كان يؤتي بقدحٍ من ماء فيُدخل يده فيه ثمّ يدفعه إليهنّ
فيُدخلن أيديهنّ فيه. و القول الأوّل أثبتها عندي: إنّي لا اصافح النساء۱.
قصّة بيعة نساء مكّة، مع شرط عدم قتل أولادهنّ
و نقل الطبريّ في تاريخه عن الواقديّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمر يوم فتح مكّة بقتل ستّة نفر و أربعة نسوة من بينهنّ هند بنت عتبة، فأسلمت و بايعت و نجت من القتل. حتى يصل إلى القول. فلمّا فرع رسول الله صلّى الله عليه و آله من بيعة الرجال بايع النساء، و اجتمع إليه نساء من قريش فيهنّ هند بنت عتبة متنقّبة متنكّرة لحدثها و ما كان من صنيعها بحمزة، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بحدثها ذلك، فلمّا دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
تُبَايِعْنِي [تبايعنني] عَلَى أنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئَاً!
فقالت هند. و الله إنّك لتأخذ علينا أمراً ما تأخذه على الرجال و سنؤتيكه.
قال: وَ لَا تَسْرِقْنَ!
قالت: و الله إن كنتُ لُاصيبُ من مال أبي سفيان الهنة و الهنة و ما أدري أكان ذلك حلًّا لي أم لا؟
فقال أبوسفيان - و كان شاهداً لما تقول - أمّا ما أصبتِ فيما مضى فأنتِ منه في حلّ.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: وَ إنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ؟!
فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عمّا سلف، عفا الله عنك.
قال: وَ لَا تَزْنِينَ! قالت: يا رسول الله! و هل تزني الحُرّة؟!
قال: وَ لَا تَقْتُلْنَ أوْلَادَكُنَّ!
قالت: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارَاً وَ قَتَلْتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كِبَارَاً، فَأنْتَ وَ هُمْ أعْلَمُ.
فضحك عمر بن الخطّاب من قولها حتى استغرب.
قال صلّى الله عليه و آله و سلّم. وَ لَا تأتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِيْنَهُ بَيْنَ أيْدِيكُنَّ وَ أرْجُلِكُنَّ!
قالت: و الله إنّ إتيان البهتان لقبيح و لبعض التجاوز أمثل.
قال: وَ لَا تَعْصِينَنِي في مَعْرُوفٍ.
قالت: ما جلسنا هذا المجلس و نحن نريد أن نعصيك في معروف.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعمر: بايعهنّ؛ و استغفرَ لهنّ رسول الله، فبايعهنّ عمر، وَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ وَ لَا يَمُسُّ امْرَأةً وَ لَا تَمُسُّهُ إلَّا امْرَأةٌ أحَلَّهَا اللهُ لَهُ؛ أوْ ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْهُ.۱
و روى عن أبان بن صالح أنّ بيعة النساء قد كانت على نحوينِ فيما أخبره بعض أهل العلم؛ كان يوضع بين يَدَي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إناء فيه ماء فإذا أخذ عليهنّ و أعطينه غمس يده في الإناء ثمّ أخرجها فغمس النساء أيديهنّ فيه، ثمّ كان بعد ذلك يأخذ عليهنّ فإذا أعطينه ما شرط عليهنّ قال: اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ! لا يزيد على ذلك.٢
حرمة قتل النفس و منها حرمة إسقاط الجنين في الإسلام
و قال العلّامة الطباطبائيّ مدّ ظلّه العالي في تفسير. وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ قال: بِالْوَأدِ وَ غَيْرِهِ وَ إسْقَاطِ الأجِنَّةِ.٣
عَدَّ القرآنُ الكريم قتلَ المسلم عمداً - بلا إباحة من الشرع من قصاصٍ أو إجراءٍ لحدّ - واحداً من الذنوب الكبيرة توعّدَ عليه التخليد في جهنّم، و لا تردّد في هذا الأمر و لا شبهة، فقد أقام علماء المسلمون في كتاب الجهاد على حرمته أدلّةً أربعة. الكتاب، السنّة، الإجماع و العقل، و ذكر القرآن الكريم للقتل الخطأ و العمدي أحكاماً خاصّة:
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ، وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً.۱
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.٢
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.٣
وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.۱
وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً ، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ، إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.٢
و مضافاً إلى التعميمات التي ذُكرت و التي عُدَّ فيها محرّماً قتل النفس المحترمة - بشكل عامّ - سواء كان القتيل من ولد الإنسان أم لا، فقد وردت آيات كثيرة تنهى بشكلٍ خاصّ عن قتل الأولاد و تحرّمه، منها:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ.٣
و آية: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ.٤
و آية: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً.٥
و كذلك آية: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.٦
كلّها آيات تدلّ على حرمة قتل الولد، كبيراً كان أم صغيراً، ذكراً أم انثى، ناقص الخلقة و مشوهاً كان أم تامّ الخلقة و كاملًا، و عليه فإنّ الطفل
الذي يُولد أعمى أو أصمّ أو مجذوذ اليد أو ناقص العقل مجنوناً أو مبتلى بأيّ نقص أو عيب، فليس لأحدٍ الحقّ في القضاء عليه، لا أباه و لا امّه، و لا الحاكم و لا الدولة، و لا الهيئة الطبّيّة و لا غيرهم، لا فرق في ذلك أكان قتله بوسيلة قاتلة، أو بإعطائه مصلًا سامّاً أو غازاً سامّاً، أو إذابته بالحوامض، أو باستعمال الأشعّة المهلكة، أو أيّة وسيلة اخرى ربّما ستكتشف فيما بعد؛ فهو مخلوق من مخلوقات الله، لم يرخّص أو يأذن في قتله لأحد.
و هذا العمل قتل للنفس فالله خالق الإنسان لم يفرّق فيه بين نفس الإنسان الكامل و الناقص، الرجل و المرأة، السليم و المريض، العاقل و المجنون، الصغير و الكبير، بل وعد سبحانه على قتل النفس العمديّ الخلود في نار جهنّم.
الانتحار قتل للنفس و هو محرّم في الإسلام
و فوق ذلك، فالإنسان ليس حرّاً في التصرّف بنفسه، فالانتحار حرام ولو كان مسبّباً عن فقر شديد و ضيق ذات اليد، أو عن السجن لأعوام طويلة، أو لورود المصائب و المحن المختلفة، فمَن انتحر كان مصيره جهنّم خالداً فيها وفق وعد الآية القرآنيّة الآنفة.
إ نّ عموم الآيات و إطلاقها الدالّ على حرمة القتل العمديّ يشمل قتل الإنسان نفسه و قتله غيره، فالآية الكريمة:
أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً،۱ لها دلالة على حرمة الانتحار أيضاً، علاوة على الآية الكريمة التي توضّح هذا المعنى:
وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.۱
لذا فليس للإنسان الحقّ في ابتلاع أقراص السمّ القاتلة على الفور عند اعتقاله و تعذيبه من قبل العدوّ للحصول على اعترافه، ولو كان انتحاره هيناً لا الم فيه و لا أذى، أو كان التعذيب شديداً لا يطاق و يجرّ إلى قتل فظيع يُقَطَّعُ الإنسان فيه إرباً إرباً، فليس للإنسان أن يفرّ - باختياره - بالانتحار السهل السريع من القتل الأشدّ، فلو سجنه عدوّه في غرفة بنيّة إلقائه في البحر و إغراقه، فليس له الانتحار بفتح صمّام الغاز و استنشاق الغاز المسموم مثلًا، ولو كان هذا الموت أخفّ وطأةً من ذاك.
و كذا الحال للجنود المسلمين على ظهر سفينة متأهّبة لقتال الكفّار فرماها الكفّار و أحرقوها بالنفط و البنزين، أو بالصواريخ و سائر الأسلحة المحرقة، فرأى المسلمون بامّ أعينهم موتهم الحتميّ حرقاً، فليس من حقّهم مع ذلك الفرار من الاحتراق برمي أنفسهم في البحر ليموتوا غرقاً حسب اختيارهم.
و كذا في حالة مريض بمرض مستعصٍ مُهلك، كبعض أقسام السرطان الذي تصبح الحياة معه مرارةً ليس إلّا، فليس من حقّ هذا المريض أن ينهي حياته بالانتحار، أو أن يطلب من صديقه الدكتور المعالج أو ممرّضه و صديقه الحميم أن يعجّلا في موته بإعطائه مصلًا يقضي عليه فيموت قبل أجله الطبيعيّ، فهذه كلّها تعدّ قتلًا للنفس محرّمةً ممنوعة.
و سرّ ذلك أنّ الإنسان ليس مالك نفسه بالحقيقة ليمكنه اتّخاذ القرار بنفسه في مسألة حياته أو موته، بل إنّ مالكه و خالقه و ربّه و محييه و مميته هو الله عزّ و جلّ الذي أغلق جميع هذه الأبواب أمامه، و كلّفه أن يسعى بكلّ
ما اوتى من قوّة في إدامة حياته و تأمين بقائه حتى يأتيه الموت الذي لابدّ منه.
و ذلك لأنّ الإنسان و حقيقته و وجوده ليست بقيام بدنه و جسمه، ليكون له الخيار في تركه و الفكاك منه، بل إنّ واقعيّته و حقيقته في نفسه الناطقة و روحه، و هي لا تموت بموت بدنه، و عليه أن يبقى في هذه الدنيا مادام لم يصل بعدُ إلى كماله، مهما تجشّم المصاعب و المشكال، إذ ربّما كانت هذه المصاعب أيضاً من موجبات تكامله الروحيّ؛ و الانتحار هو الموت قبل الموعد الطبيعيّ، و هو قطف الثمرة الفجّة من الشجرة قبل نضجها، و خلع ثوب النفس الناطقة و انتزاعها من البدن قبل فعليّتها و هي لا تزال في نطفة الاستعداد و القابليّة.
و على هذا الأساس فلا يُشاهَد وقوع الانتحار بين المسلمين أبداً، و إذا ما حصلت كلّ سنة حادثة أو حادثتان من هذا القبيل فهى ناجمة من جهل هؤلاء بهذه المسألة، و بتخيّلهم الخلاص من هذه الدنيا و محنها و آلامها و مصائبها، غافلين عن أنّ نار جهنّم أشدّ من هذه المحن و الآلام و أكثر إحراقاً و صهراً.
أمّا في بلاد الكفر، و خاصّة اوروبّا و أمريكا فالانتحار من الشيوع للحدّ الذي صار يشكّل رقماً ملحوظاً كلّ يوم من الوفيّات في المدن، فهم ينتحرون بمجرّد الاصطدام بعقبة أو مشكلة، و هم لهذا السبب ضعيفو الإرادة قليلو الصبر و التحمّل، لا يمتلكون قدرة تحمّل مشاكل الأمراض الصعبة، و الاختلافات الشديدة بين الأزواج، أو مع الجيران، و مشاكل الفقر و الفاقة، و الفشل في الامتحانات النهائيّة، و امتحانات القبول في الجامعات و غيرها؛ فهم يقدمون على الانتحار بمجرّد وقوع بعض هذه المشاكل.
و قد سمعتُ مراراً أنّ في إنجلترا؛ حيث يندر أن يرى الناس
المحرومون هناك إشراق الشمس طوال أيّام السنة، و يقضون أغلب أوقاتهم في تلك الجزيرة الصغيرة ذات السواحل المطلّة على البحار، في جوٍّ غائم مكفهرّ بالغيوم السوداء والهواء الرطب القادم من البحر، لذا فإنّ الخروج خارج المدن للنزهة و المتعة في الأيام المشمسة النادرة يعدّ مهمّاً جدّاً، و حين تشرق الشمس يوماً يبدو و كأنّ حياةً جديدةً قد نُفخت فيهم؛ في مثل هذه الأجواء، لو وُعد الفتيان هناك بإخراجهم للنزهة خارجاً في يوم مُشمس، فإنّهم سيُقدمون على الانتحار لو بقيت الشمس غائمة ذلك إلى وم! و هم يقدمون على الانتحار إثر النزاعات العائليّة الطفيفة التي نشاهد و نعاني ما هو أشدّ منها بيننا!
لقد صار واضحاً من هذه الآيات في القرآن الكريم و التي بيّنت النهي عن قتل الولد، أنّ هناك نوعين رائجين لقتل الأولاد بين عرب الجاهليّة، و قد منع الباري سبحانه على يد رسول رحمته كلا النوعين بنحوٍ أكيد و قاطع.
الأوّل: قتل الأولاد عموماً، الذكر منهم و الانثى، الذي تدلّ عليه آيات وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، أو قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ التي ورد ذكرها، و يستنتج منها أنّ عرب الجاهليّة إذا مرّ عليهم عام قحط و مجاعة فإنّهم كانوا يقتلون أولادهم لئلّا يرونهم يعانون شظف العيش و شدّة الجوع و المسكنة.
و قال العلّامة الطباطبائيّ في تفسيرها. الإملاق. الإفلاس من المال و الزاد، و منه التملّق، و قد كان هذا كالسنّة الجارية بين العرب في الجاهليّة لتسرّع الجدب و القحط إلى بلادهم، فكان الرجل إذا هدّده الإفلاس بادرَ إلى قتل أولاده تأنّفاً من أن يراهم على ذلّة العدم و الجوع.
و قد علّل النهي بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ، أو نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَ إِيَّاكُمْ، أي إنّما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم، و لستم رازقين لهم، بل الله يرزقكم و إيّاهم جميعاً فلا تقتلوهم.۱
الثاني: قتل البنات بالخصوص، و كانوا يدفنوهنّ أحياءً، كما دلّت عليه آية: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، لأنّ معنى الموؤدة البنت التي تُدفن حيّة؛ فقد كان الغزو و القتل يكثر في الجاهليّة بين العرب، و كان يحدث أن تصبح بناتهم أسيرات في أيدي أعدائهم، فكان هذا الأسر غاليا عليهم و صعباً لا يُحتمل، إذ كانوا يخشون أن تصبح أعراضهم في بيوت و أيدي أعدائهم يفعلون بها ما يشاؤون، و هو أمر لم ترتضِه حميّتهم و غيرتهم، فكانوا يقتلون بناتهم كي لا يكون لهم بنت قد تصبح في الحرب و الغارة طعمةً بِيَدِ منافسيهم و أعدائهم.
قال في «مجمع البيان»: الموْءُودَةُ مِنْ وَ أدَ يَئِدُ وَ أدَاً، و كانت العرب تئد البنات خوف الإملاق.
قال قتادةك جاء قيس بن عاصم التميميّ إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: إنّي و أدتُ ثمان بناتٍ في الجاهليّة، فقال: فأعتق عن كلّ واحدةٍ رقبة.
قال: إنّي صاحب إبل.
قال: فاهدِ إلى مَن شئتَ عن كلّ واحدة بدنة.
قال الجبائيّ: إنّما سُميّت موؤدة لأنّها ثقلت في التراب الذي طُرح عليها حتى ماتت؛ و هذا خطأ، لأنّ الموؤدة من و أدَ يَئِدُ معتلّ الفاء و في الثقل آده يؤده. أثقله و هو معتلّ العين، ولو كانت مأخوذة منه لقيل مؤودة
على وزن معوودة.
و روى عن النبيّ أنه سُئل عن العزل فقال:
ذَاكَ الوَأدُ الخَفِيُّ.۱
و ورد في «مجمع البيان» أيضاً أن الموؤدة هي الجارية المدفونة حيّةً، و كانت المرجئة إذا حان وقت ولادتها حفرت حفرة و قعدت على رأسها، فإن ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة، و إن ولدت غلاماً حبسته.٢
قال الشيخ الطنطاويّ. الْمَوْؤُدَةُ المدفونة حيّاً؛ و كان العرب يدفنون بناتهم أحياءً خوف الفقر و العار. و سميّت موؤدة لأنّها تثقل في التراب الذي يُطرح عليها حتى تموت.٣
و قد منع صعصعة بن ناحية قومه من هذا العمل، لذا أنشد الفرزدق، و كان من تلك القبيلة، يفتخر.
وَ مِنَّا الذي مَنَعَ الوَائدَا | *** | تِ وَ أحْيَا الوَئِيدَ فَلَمْ تُوأدِ٤ |
عرب الجاهليّة يئدون البنات خوف العار و الأولاد و البنات خوف الفقر
و قد قال العلّامة الطباطبائيّ. و كانت العرب تئد البنات خوفاً من لحوق العار بهم من أجلهنّ؛ كما يشير إليه قوله تعالى:
وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ.٥
و المسؤول بالحقيقة عن قتل الموؤدة، أبوها الوائد لها لينتصف منه و ينتقم، لكن عدّ المسؤول في الآية هي الموؤدة نفسها، فسُئلت عن سبب قتلها كنوعٍ من التعريض و التوبيخ لقاتلها و توطئةً لأن تسأل الله الانتصاف لها من قاتلها حتى يُسأل عن قتلها فيؤخذ لها منه.۱
دية الولد و البنت، و مقدار دية الجنين حسب مراتب الحمل
كان ما بيّناه مشروحاً مسألة قتل الأولاد التي عُدّت من الذنوب الكبيرة غير القابلة للعفو؛ و بالإضافة إلى ذلك فإنّ على الأب الذي يقوم بقتل أولاده أن يدفع ديتهم، و كذا الأمر بالنسبة للُامّ، و عُيّنت دية الولد ألف دينار شرعيّ ذهباً و دية البنت بنصف ذلك؛ و دفع الدية من قبل الأب و الامّ يحدث في حال كون الجناية عمديّة، فتُدفع لغير القاتل من سائر الورثة، الأقرب فالأقرب بنحو الإرث.
فإن كان القاتل الأب خاصّة فإنّ الدية بتمامها تدفع إلى الامّ، و لا يُقتل الأب بولده، لكنّ الدية تؤخذ منه، إلّا إذا نزلت الامّ عن حقّها في تمام الدية أو بعضها، حيث لا يبقى - على هذا الفرض - في ذمّة الأب شيء.
أمّا إن كان القاتل خصوص الامّ، فإن أصرّ الأب على القصاص فإنّها تُقتل بولدها، ابناً كان أم بنتاً، أمّا إن عفي الأب عن حقّه في القصاص و رضي بالدية فإنّ عليها أن تدفع له عن قتل ولدها ألف دينار ذهباً، فإن كان القتيل بنتاً دفعت نصف ذلك، إلّا إذا نزل الأب في الحالَينِ عن حقّه في تمام الدية أو بعضها و عفي عن الامّ، فتصبح الامّ إذ ذاك بريئة الذمّة ليس عليها شيء.
و في جميع هذه الحالات المذكورة فإنّ الأب القاتل، أو الامّ القاتلة، يلزمهما دفع الكفّارة أيضاً، و هي تحرير رقبة مؤمنة في سبيل الله، أمّا إن
كانت الجناية على الولد من أبيه أو امّة خطاً غير عمديّ، فلا دية عليهما، بل تلزم العاقِلة، و العاقلة هم أقارب الولد القتيلِ من قِبَلِ أبيه، فيدفعون ديته كلٌّ حسب قرابته من جهة مراتب الإرث. و يتوجّب كذلك في هذه الجناية غير العمديّة على الأب أو الامّ تحرير رقبة مؤمنة في سبيل الله.
فلو تواطأ الأب و الامّ كلاهما فأوردا جنايةً عمديّةً على ولدهما فإنّ عليهما دفع الدية إلى سائر ورثة الابن، الأقرب فالأقرب؛ (يجب إعطاء الجدّ و الجدّة من جهة الأب و الامّ، و كذلك إخوة و أخوات القتيل، أي أبناء و بنات هذين الأبوين)، و يجب كذلك تقسيم الكفّارة أيضاً.
كان هذا بياناً لمسائل تتعلّق بقتل الولد، عمداً أو خطاً، و علينا الآن مناقشة مسألة قتل الجنين التي تعدّ هي الاخرى من الذنوب الكبيرة، سواءً كان الجنين في مراحل الحمل الاولي أم في آخرها، قدّر لها - بمختلف أشكالها - العذاب الأليم، و اوجب عليها دفع الدية كذلك، فإن كان الجنين ذا روح لزمت الكفّارة أيضاً مضافاً إلى الدية.
و نُورد لإيضاح المطلب خلاصة بيانَ المرحوم المحقّق الحلّيّ في كتاب «شرائع الإسلام»، و الشهيد الثاني: زين الدين العامليّ في كتاب «الروضة البهيّة» كتاب الديات، باب دية الجنين، نظراً لأهمّيّة الموضوع.
قيمة النطفة عشرة دنانير ذهباً، يزن كلّ دينار منها مثقالًا شرعيّاً واحداً؛ فمن أفزع مجامعاً فعزل، فعلى المفزع عشرة دنانير ذهباً (دية ضياع النطفة) يدفعها لهما فيقسمانها أثلاثاً، للرجل ثلثان و للمرأة ثلث واحد.
ولو أفزعت المرأة الرجلَ، حال الجماع، فأراق منيّه خارج الرحم، فعليها أن تدفع له تمام الدية، أي عشرة دنانير ذهباً؛ و إن أفزع الرجلُ المرأةَ فاريق المني خارجاً، فعلى القول بحرمة عزل الرجل اختياراً، على الرجل أن يدفع الدية للمرأة، و أمّا على القول الأقوى بأنّ العزل اختياراً غير حرام
على الرجل، فلا دية عليه.
فإن اريقت النُّطْفَةُ فاستقرت في الرحم، فإنّ ديتها و قيمتها عشرون ديناراً ذهباً، يتوجّب دفعها على من تسبّب بإسقاطها.
فإن كان المسبّب المرأة، فعليها أن تدفع للرجل عشرين ديناراً، و إن كان المسبّب الرجل، فعليه أن يدفع ذلك للمرأة، و أمّا إذا تسبّبا سويّاً في ذلك، فعليهما أن يدفعا للجدّ و الجدّة و لإخوة و أخوات هذه النطفة التي تشكّل مبدأ خلق الطفل.
فإن صارت النطفة عَلَقَةً، صارت ديتها أربعين ديناراً، فالنطفة حين يمرّ عليها زمن تتحوّل فيه إلى علق كعلق الدم تدعى على إثر تحوّلها و تبدّلها عَلَقَةً.
فإن صارت العلقة مُضْغَةً صارت ديتها ستّين ديناراً، فحين يمرّ زمن على العلقة تصبح كمضغة اللحم الذي يؤكل و يُمضغ تدعى مُضْغَةً.
فإن نشأ في المضغة عظم (أي ابتداء تكوّن و خلق العظام من هذه المادّة) صارت ديتها ثمانين ديناراً.
فإن اكتمل خلق الجنين فاكتست العظامُ لحماً و شقّت جوارحه و صار خلقاً سويّاً قبل أن تلجه الروح، صارت ديته مائة دينار، ابناً كان الجنين أم بنتاً.
و دليل هذا التفصيل و مستنده أخبار كثيرة، من جملتها صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر عليه السلام، و هناك بالطبع روايات اخرى وردت في هذا الموضوع، من جملتها رواية أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام تدلّ على أنّ دية الجنين كيفما كان سبب الإسقاط غُرَّة،۱ سواءً
كانت الغرّة غلاماً أم وصيفة يُشترط أن تكون غير عجوز و لا صغيرة، لها أقلّ من سبع سنين؛ لكنّ الرواية الاولى أصحّ سنداً، و الشهرة الفتوائيّة على أساسها أكثر.
و حالات قتل الجنين السابقة جميعها لا تستلزم الكفّارة (أي تحرير رقبة مؤمنة في سبيل الله)، إذ إنّ لزومها مشروط بحياة القتيل، و قد افترضنا حتى الآن أنّ الجنين لم تلجه الروح بعد، فلا كفّارة.
حرمة إسقاط الجنين و وجوب الدية و الكفّارة عند التعمّد
أمّا إن ولجت الروحُ الجنين، صارت ديته دية إنسان كامل، فإن كان ابناً صارت ديته ألف دينار شرعيّ، تعدل ألفي مثقال شرعيّ من الذهب المسكوك، أمّا إن كان الجنين المسقط بنتاً فديتها خمسمائة دينار شرعيّ يدفعها من تسبّب بهذا الإسقاط عمداً إلى الوارث الآخر، أي للأب إن كان القاتل هو الامّ، أو للُامّ إن تسبّب الأب بالقتل، أو إليه ما إن كانت الجناية من غيرهما.
و على الفرض الأخير فإنّ الأب و الامّ يقسمان دية الابن القتيل بينهما بنسبة الثلثان و الثلث على الترتيب.
فلو تعذّر تشخيص هوية الجنين ابناً كان أم بنتاً، كما لو مات في بطن امّه و ماتت امّه أيضاً، فيؤخذ من الجاني قاتل الجنين في هذه الحالة نصف مجموع دية الولد و البنت، أي سبعمائة و خمسون ديناراً
= ۷٥۰
و كثيراً ما يتّفق وقوع هذا الفرض، كأن يقدم الجاني في جناية على الامّ و جنينها، أو على الجنين ثمّ تموت الامّ موتاً طبيعيّاً، و ينبغي في هاتين الحالتين دفع مبلغ سبعمائة و خمسين ديناراً لتعذّر معرفة هوية الجنين.
و ينبغي في هذه الحالة العلم أنّ موت الجنين قد وقع بعد حياته في رحم الامّ، لأنّ موته قبل الامّ أو بعدها لا تأثير له في اشتباه حاله، بل إنّ المؤثّر في
تردّد حاله بين الذكورة و الانوثة هو موته بعد حياته، عند افتراض عدم خروجه من بطن امّه و افتراض و لوج الروح فيه قبل الجناية، حيث تصبح ديته نصف مجموع دية الولد و البنت.
و في هذه الكيفيّة من قتل الجنين فالكفّارة أيضاً ستلزم القاتل، عمديّاً كان القتل أم خطاً، و على فرض التعمّد فإنّ الدية ستلزم القاتل و تكون في ذمّته، فينبغي عليه دفعها مضافاً إلى الكفّارة أمّا على فرض القتل خطأ، فعليه الكفّارة فقط، و تلزم الدية العاقلة (أقربا أب الجنين)، يدفعونها الأقرب فالأقرب.
كان هذا خلاصة أقوال المحقّق و الشهيد الثاني في الدية و كفّارة سقط الجنين.
و ينبغي العلم أنّ المؤثّر في الذنب و الدية و كفّارة سقط الجنين هو القضاء على الجنين في بطن امّه، مهما كانت الوسيلة إلى ذلك؛ سواء كان ذلك نتيجة حمل شيء ثقيل أم ابتلاع دواء، أم استعمال بعض الموادّ، أم زيادة تناول بعض الأغذية المحلّلة أكثر من المتعارف ممّا يؤدّي إلى إسقاط الطفل؛ كأن يقال مثلًا إنّ تناول الزعفران أكثر من الحدّ المتعارف في ابتداء الحمل يؤدّي إلى إسقاط الجنين؛ و سواءً كان ذلك بعمليّة جراحيّة أم بأمثال استنشاق بعض الغازات، أم العبور من بعض أقسام الأشعّة المستعملة في المجالات الطبّيّة، فإنّ إسقاط الجنين قتلٌ في كلّ الأحوال و ذنبٌ من الذنوب الكبيرة و محرّم من أعظم المحرّمات الإلهيّة.
إ نّ على الأطبّاء و الجرّاحين الذين يمزّقون الطفل حيّاً بالعمليّة الجراحيّة إرباً إرباً فيخرجونه، أن يترقّبوا العذاب الإلهيّ الأليم، و هو الخلود في نار جهنّم، و عليهم دفع الدية و الكفّارة أيضاً. فإن كانت الروح قد ولجت الطفل، و كان الطبيب الجاني امرأة، فإنّ لحاكم الشرع - إن طلب وليّ القتيل
القصاص - أن يُعدم تلك الطبيبة الجانية، سواء كان الطفل البريء ابناً أم بنتاً.
أمّا إذا تصدّى لهذا العمل المنكر القبيح طبيب رجل، فلحاكم الشرع، بناء على طلب وليّ الطفل القصاص، أن يُعدم الطبيب إن كان القتيل ولداً، فإن كان بنتاً فله إعدامه بها و يبقى على ورثة الطفل القتيل دفع نصف الدية الكاملة (أي خمسمائة دينار شرعيّ مسكوك) إلى ورثة الطبيب.
و في حال عدم طلب وليّ الطفل القتيل القصاصَ، فلحاكم الشرع عند ثبوت الجناية لديه أن يُعزّر الطبيب بالشكل الذي يراه مناسباً، بحبس أو جلد، ليكون ذلك رادعاً عن هذا العمل القبيح غير اللائق.
إ نّ على الآباء الذين يجبرون نساءهم على إسقاط جنينهنّ، و الامّهات اللاتي يقمن بأنفسهن بإسقاط الجنين، أن ينتظروا الذلّ و الانتقام و العقاب الأليم الذي سيُنزله الله الخالق بهم بقتلهم هذا الطفل المظلوم، و سيطوي - عاجلًا أو آجلًا - ملفّ حياتهم الجميلة فما الذي سيحلّ بهم في البرزخ، و في يوم القيامة؟ الله وحده يعلم.
قانون الدول الكافرة يقرّ الإسقاط، و الإسلام يحرّمه و إن كان من نطفة الزنا
و نُلاحظ ممّا قيل سابقاً إلى أي حدّ انغمرت الدول الكافرة في الضلالة و الغيّ و نهج الذلّ و الحياة التعيسة البائسة، بحيث اعتبروا إسقاط الجنين في محاكمهم و قوانينهم عملًا مشروعاً فأقرّوا بذلك علناً حكم قتل البشر.
فهم يعدمون - رأي العين - الطفل البريء، أي زينة حياتهم و عيشهم و أحلى ثمار عالم وجودهم، ثمّ يسمّون أنفسهم بالبلاد المتمدّنة المتقدّمة، بل وصلوا إلى ادّعاء حمل لواء المدنيّة و الرقيّ، في حين أنّ أعمالهم هذه لا تختلف أبداً مع أعمال عرب الجاهليّة، فاولئك كانوا يقتلون أطفالهم و يئدونهم أحياءً، و هؤلاء يقومون بالعمل نفسه باسلوب آخر، لكنّهم في النهاية يمتدحون أعمالهم و يباركونها و يلعنون أعمال عرب الجاهليّة
و يتنفّرون منها؛ تَبّاً لَهُمْ وَ لِمَا عَمِلَتْ أيْدِيهُمْ وَ لُعِنُوا بِمَا فَعَلُوا وَ بِمَا قَالُوا.
و نستخلص هنا أيضاً أنّ هذا النوع من الحضارة، و كلمة الحضارة هذه، ليست إلّا بربريّة و وحشيّة و همجيّة، لكنّها احتلّت في كتب اللغة صفة و أسماء الحضارة و المدنيّة و المدينة، ثمّ وضعت بالتزوير و الخداع أقنعة برّاقة جميلة لأعمالها المنكرة القبيحة، و حاولت فرض همجيّتها على العالم بالتزوير و بالأضواء التي تخطف أبصار العوامّ الغافلين.
نعم، ليس من البعيد أن يصبح إسقاط الجنين و ما شابهه قانونيّاً في بلد كإنجلترا حيث يُعتبر عمل اللواط مشروعاً، تجيزه المحاكم و تصوّب قانونيّته في مجلسَي العموم و الشيوخ، فهي جميعاً امور يشبه بعضها البعض تستند على أساس برنامج الحيوانيّة، بل أضلّ سبيلًا و أكثر تخريباً و أشدّ ظلمة، فلم يُشاهَد أبداً عمل اللواط أو إسقاط الجنين العمديّ بين الحيوانات؛ و يتّضح هنا جيّداً معنى الآية القرآنيّة الشريفة: بَلْ هُمْ أَضَلُ،۱ أو أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلًا.٢
إ نّ إسقاط الجنين محرّم في الإسلام حتى لو انعقدت نطفته عن طريق الزنا؛ فلو زنت امرأة أو وُطئت بشبهة٣ فحملت فلا حقّ لها في إسقاط
جنينها، ولو شهد الشهود عند الحاكم على أنها زنت فعلى الحاكم الصبر حتى تضع حملها ثمّ ينفّذ حكم الزنا عليها من حدٍّ أو رجم، لأنّ إجراء الحدّ عليها حال حملها سيؤدّي إلى تضرّر الجنين أو إسقاطه، و هو أمر غير جائز.
لا ريب أنّ الإنسان حين يمعن في هذه الأحكام المتقنة المحكمة سينكشف لديه معنى يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ. انظروا أ ى طرق سلام و سلامة و عافية مطلقة و اجتناب لكلّ فساد و ضياع قد أشار القرآن إليه ا و قاد أتباعه نحوها.
إ نّ النطفة إذا استقرّت في الرحم فلا يجوّز إخراجها لأيّ سبب، إذ يعدّ إخراجها بأيّ وسيلة سِقطاً يستلزم أداء عشرين ديناراً.
مفاسد العزل و استعمال أدوية منع الحيض و منع الحمل
و العَزْل۱، يمنع استقرار النطفة في الرحم، لا إخراجها بعد الاستقرار، لكنّه يبقى مع ذلك محلّ إشكال، و على فرض الحرمة فهو يوجب أداء ديته عشرة دنانير.
و الإشكال في العزل أنّ الزوجة بالعقد الدائم هي صاحبة الحقّ في النطفة، فلا يجوّز للرجل العزل بغير رضاها، و عليه أن يدفع لها كلّما عزل عنها دية ذلك.
و كما رأينا فإنّ إراقة النطفة في الرحم حقّ للرجل أيضاً، فليس للمرأة - دائميّة كانت أو منقطعة - أن تجبر الرجل بأيّ وجهٍ من الوجوه على العزل.
النطفة في الحقيقة هي المادّة الأوّليّة لأصل الإنسان و طينته، كما هو الأمر في بيضة الدجاجة أو في بذور التفّاح بالنسبة إلى الدجاجة أو شجرة التفّاح، فبعد أن تطوي المراحل و المنازل المختلفة نشوءاً من التراب،
تُمزج بعدها بالماء و تطوي الدرجات و المراتب في سير استعدادها الطبعيّ و الطبيعيّ حتى تتمّ لها قابليتها لتكون مبدأ تكوين الإنسان، و بعد مسير مدارج الحركة الجوهريّة في الرحم تتبدّل إلى إنسان كامل.
فالعزل يعني إهدار و تضييع هذا الاستعداد و القابليّة قريبة الوصول من مرحلة الفعليّة، و إفساد و إتلاف مبدأ خلقة و طينة إنسان و إيداعها في بوتقة الإعدام؛ و قد رأينا في هذا الأمر وفقاً للرواية الواردة في «مجمع البيان» عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله أنه قال: العَزْلُ هُوَ الوَأدُ الخَفِيُ،۱ أي أنّ العزل في الحكم و الاسلوب هو نفس وأد الطفل، غاية الأمر أنّ النتيجة في العزل خفيّة مستورة، و في الوأد ظاهرة بيّنة.
إ نّ للعزل ضررين رئيسيّين للرجل و المرأة، و بالطبع فإنّ الكلام حول الأضرار البدنيّة و المزاجيّة، و هي غير الأضرار الاخرى الروحيّة التي يسبّبها؛ فهو بالنسبة للرجل يؤدّي إلى ضعف الأعصاب و خمولها الذي يصل بالتكرار إلى الحدّ الذي يصبح علاجه صعباً و مستعصياً.
أمّا بالنسبة للمرأة فيسبّب تهييج الرحم إلى غذائه، أي النطفة، ثمّ تركه بلا إشباع من الغذاء، و هذا التهيّج سيؤدّي إلى نشوء مرض في الرحم باسم الورم الليفيّ، و ربّما سبّب أحياناً مرض سرطان الرحم. كما أنّ تناول الدواء لمنع الرحم من قبول النطفة و منع حمل النساء، الذي يتداول
هذه الأيّام بشكل أقراص منع الحمل، له أضرار بالغة على مزاج المرأة، و يُعقب ضعف الأعصاب و يؤدّي بعض الأحيان إلى الجنون و الهستيريا.
و مضافاً إلى ذلك، فهو يؤدّي إلى ضعف القلب،۱ و سرطان الرحم، و اختلالات في الدورة الدمويّة، و فقدان انتظام العمل الطبيعيّ للغدد، و إلى الإفرازات الزائدة، و إلى أمراض كثيرة اخرى أصبحت تمسك بتلابيب المجتمعات البشريّة الفقيرة.
إن تناول هذه الأدوية بأيّ شكل و كيفيّة، و بأيّ تركيب صنعت، سيؤدّي إلى قطع جريان الحيض في أوقات معيّنة و محدّدة، ممّا يؤدّي إلى عدم تقبّل الرحم للنطفة، لكنّه يمتلك عواقب وخيمة، لذا فقد كانت دائرة الصحّة في زمن الطاغوت - و من خلال عدم اهتمامها بأوضاع الفقراء و مصالحهم - تضع مقادير كبيرة من هذا الدواء في المستوصفات الحكوميّة العامّة في متناول أيدي النساء بشكل مجّاني لتشجيع الناس على منع الحمل و العقم.
و كانت النساء المسكينات يراجعن تلك المستوصفات فيأخذن من ذلك الدواء و يستعملنه فيصبحن أسرى مفاسده و تبعاته، أمّا النساء الثريّات من الأشراف فلا يقربن هذا الدواء أبداً، و خير مصداقٍ يوضّح هذا الأمر
هو مَثَل. الموتُ حقّ ... ولكنْ للجار.
يعمد الكثير من النساء المؤمنات إلى استعمال هذه الأقراص عند زيارة المشاهد المشرّفة، و في موسم حجّ بيت الله الحرام لاجتناب الطمث الذي يحصل لها في كلّ شهر و التمكّن من أداء الأعمال التي يُشترط فيها الطهارة، فيُصبن - من ثمّ - بالضعف و الأمراض الجسميّة، و تنتابهن أحياناً الأمراض النفسيّة، علاوة على احتمال حدوث اضطراب في أيّام طمثهنّ، فيصبحن حسب القول المعروف (مُبعدات هنا ... و قاعدات هناك)، قد أحبطن عملهنّ من جهة، و حُرمن من نيل المكتسبات الروحيّة و المعنويّة في هذه الزيارة و هذه المناسك.
لقد وضع الشارع المقدّس للإسلام تكليفاً خاصّاً للنساء الحائضات يصحّ باتّباعه حجّهن و تصحّ عمرتهنّ أيضاً، فلماذا نتدخّل في تدبيره؟ ذلك التدخّل الذي كثيراً ما يُبطل العمل و يُحبطه!
و لقد أمر النبيّ بعض زوجاته بأعمال الحجّ و العمرة الصحيحة المطلوبة، فقمن بها حسب تعليمه، فلماذا نُشكّك في هذه الأعمال و نلوّثها بأيدينا و تصرّفاتنا، فنأتي بالعمل المتيقّن بشكل عمل مشكوك لا يقين فيه؟!
إ نّ سلامة بدن المرأة و روحها إنّما هي في الإنجاب، في الحمل و الإرضاع، فطوبى للنساء اللواتي ينشّئن الأطفال في بطونهنّ، و اللاتي يحملنهم على صدورهنّ ليُرضعنّهم، فهذه هي الجنّة، و هذه هي سُبل السلام.
لقد خلق الله خالق الوجود مزاج المرأة بشكلٍ يُكَوَّن في بدنها دوماً - من زمن البلوغ إلى مرحلة إلى أس - غذاءً خاصّاً يناسب مزاج الطفل و يلائمه، و هو دم الحيض الذي يصبح في زمن الحمل غذاء الطفل في رحم
الامّ، و السبب في أنّ النساء لا يعهدن غالباً الطمث زمن الحمل هو أنّ هذا الدم يُصرف في تغذية الجنين في الرحم.
و حين تضع النساء حملهنّ فإنّ هذا الدم يتبدّل إلي حليب أبيض لذيذ سائغ، مريح و ملائم لمزاج الطفل الوليد، ثرّاً متدفّقاً من الأثداء؛ لذا فإنّ النساء لا يرين - غالباً - الطمث أيّام الرضاع أيضاً، أمّا عند عدم الحمل و الإرضاع فسيبقي هذا الغذاء بلا استعمال، فيُبعد عن الرحم خارجاً.
أي أنّ المرأة ستسبّب - بعدم الحمل و الإرضاع - بإهدار و تضييع جزء من قواها البدنيّة التي جعلها الله في هيئة الدم، لذا فهي بعيدة عن رحمة الله، لن يمنحها خالقها في هذا الحال رخصة العبادة و الخشوع و الخضوع، الحاصلة بالصلاة و الصيام و الطواف.
إ نّ علي المرأة؛ شأنها شأن الرجل؛ أن تطوي دوماً طريق التقرّب إلى الله تعالى، و ذلك يحصل حين تشترك مع الرجل فتصلّي و تصدم و تطوف، و هذا يتأتّى لها فقط حين تكون حاملة أو مرضعة، فهي في هذه الحال قرينة رحمة الله، فهي غير حائضة، و قد مُنحت رخصة الركوع و السجود و القيام و الطهارة، و منحت إجازة الصيام، و اعطيت الرخصة في الطواف بالكعبة.
لذا فإنّ على النساء أن يكنّ دوماً إمّا حاملات أو مرضعات ليواكبن الرجال في قافلة الإنسانيّة و الحركة. نحو المعبود و المحبوب و قبلة المشتاقين و كعبة العاشقين و المنضمّين إلى حرم و حريم أمنه و أمانه.
يحصل طمث النساء حين يتخلّفن عن هذه القافلة، و يعجزن عن المسير فيتوقّفن، فالقاعدة و الأصل عند النساء إذاً هي العبادة، أي أنّ القاعدة و الأصل عند النساء هي الحمل و الإرضاع؛ و الطمث عندهن؛ أي عدم الحمل و عدم الإرضاع يمثّل خروجاً عن الأصل و خلافاً للقاعدة، فتأمّل في هذه النكتة الدقيقة.
لقد قلتُ يوماً لأحد الأطبّاء الحاذقين الماهرين و المتديّنين،۱ حين جرى ذكر هذا الموضوع. إنّ سلامة المرأة و سعادتها في أن تكون إمّا حاملة أو مرضعة لطفل على صدرها.
فتأمّل قليلًا ثمّ قال: أيها السيّد! إنّ هذه المقولة تطابق و توافق آخر النتائج للمؤتمرات الطبّيّة التي عقدت هذا العام في أمريكا، و قد قدّمتُ بحث شهادتي للدكتوراه في هذا الموضوع.
ثمّ قال: طبقاً لآخر الإحصائيّات و الوثائق، فإنّ الفتيات اللاتي يلدن قبل سنّ الثامنة عشرة لا يُصبن بمرض سرطان الثدي، و كلّما تأخّرن في الولادة عن هذه السنّ فإنّ احتمال إصابتهن بهذا المرض سيصبح أكثر، بحيث إذا مرّ عليهنّ ثلاثين سنة لم ينجبن فيها طفلًا فإنّ احتمال إصابتهنّ بهذا المرض سيتصاعد بشكل مضاعف، أمّا النساء اللاتي لم يتزوجّن أصلًا و لم يُنجبن، فإنّ احتمال الإصابة بسرطان الثدي لديهنّ كبير جدّاً.
هذه المطالب تمثّل عين الحقيقة، فقس ذلك بدعايات و إعلام الاستعمار الكافر الذي يكتب على الجدران و الأبواب: حياةٌ أجمل مع أولاد
أقلّ، أو أولاد: واحد فقط أو اثنان، و في صفحة الإعلانات أو الملصقات الجداريّة يرسمون صورة لرجل يجرّ امرأة و في أيديهما بنت واحدة أو ولد واحد، و هم يسيرون في بهجة و مرح، و هو رافع يده إلى منى مشيراً بالإصبع - السبّابة و الوسطى - بشكل مفتوح إلى الأعلى، ليشيروا أوّلًا إلى أنّ الأطفال يجب أن يكونوا اثنان فقط، و ليشيروا ثانياً إلى ذلك بحرفV الذي يعدّ رمزاً للنجاح و الموفّقيّة.
ملصقاتV هذه توضع في كلّ إدارة و مركز، و خصوصاً في قاعات المستشفيات و المستوصفات و الأماكن العموميّة، فيراها الناس، و يصدّقها المساكين بالطبع فيعمدون إلى تحديد النسل، و تذهب النساء فرحات أفواجاً إلى المستوصفات ليأخذن أقراص منع الحمل كهديّة، غافلات عن أنّ هذه الأقراص، كقرص الاستركنين، إنّما هي سمّ قاتل طُلى بطلاء حلو لذيذ.
و يساهم الأطبّاء غير الملتزمين، و المأجورون في إثارة الدعاية لهذا الموضوع أيضاً في مختلف وسائل الإعلام، و قد قال أحدهم يوماً لسيّدة ذهبت إليه للعلاج. أيتها السيّدة! إنّ رحم المرأة له حكم الشجرة، فكم ستستطيع الشجرة أن تعطي ثمراً؟! فعادت هذه السيّدة إلى بيتها و بدأت في وضع العقبات أمام حملها من زوجها.
و قد جاءني الزوج إلى المسجد و شكاها و نقل كلام الدكتور لها، فقلتُ. لقد غالط هذا الدكتور في كلامه هذا، و باصطلاح العامّة فقد استعمل الاحتيال و الخديعة في كلامه.
اذهب إلى منزلك و قل لأهلك. إنّ الشجرة المثمرة تهب الثمر مادامت حيّة بمجرّد أن تصل إلى مرحلة البلوغ؛ بعض الأشجار تبدأ بالعطاء في السنة الثانية، و شوهد في بعضها أنها تبدأ بإعطاء الثمر من السنة الاولى!
إنّ الأشجار المثمرة تعطي الثمار بشكل منتظم كلّ سنة، لا تنقطع ثمارها أبداً إلّا حين تصاب بآفة فتنخر الديدان جذورها، و هي في هذه الحال لم تعد شجرة مثمرة بل صارت قطعة من الخشب مصيرها القطع ليس إلّا.
بسوزند چوب درختان بي بر | *** | سزا خود همين است مر بي بري را۱ |
كثرة فوائد حمل النساء، و كثرة أضرار ترك الإنجاب
إ نّ الطفل هو أطرى و أجمل ثمار الحياة و أفضلها، و أعلى ثمار الحياة في روضة الإنسانيّة و أعطر أزهار حديقة البشريّة. فكم قد تخلّفت عن قافلة التقدّم و الرقّي تلكم النساء اللواتي أعرضن عن تربية الأطفال و تنمية براعم الريحان الآدميّ هذه، و انصرفن عن هذا العمل الجميل السليم إلى العمل خارج البيت؟ فالعمل الذي سيُنجزنه، و المقام الذي سيشغلنه، و الفنّ و الحرفة التي سيتعلّمنها، و شهادات الطبّ و الهندسة و سائر الفنون التي سيجمعنّها - فرضاً - فيزيّنَّ بها غرفهنّ، و السعي الذي سيسعينه إلى آخر عمرهنّ بنوايا صادقة فعلًا لخدمة المجتمع، فكلّ هذا لا يعادل قيمة أو أهمّيّة إنجاب طفل واحد و إرضاعه و تنشئته و تربيته و تقديمه إلى المجتمع، لدليلينِ و سبينِ.
الأوّل: أنّ هذه السيّدة التي ملأت غرفتها بشهادات البكالوريا و البكالوريوس و الدكتوراه، مهما كان المقام الذي تشغله، ولو فرضنا أنها زادت ذلك مائة ضعف، هذه السيّدة نفسها لو خُيِّرت بين فقدانها لولدها - مع حفظها لشهاداتها و مقاماتها - و بين فقدانها لذلك كلّه و احتفاظها بولدها،
لكان جوابها الفوريّ. كلّ ذلك فداء لولدي، فهو عندي أغلى منها جمعياً.
أيتها السيّدة التي اكتفيت بواحد أو اثنين من الأولاد و أشغلت نفسك بالأعمال الاخري! اعلمي أنّ الأولاد الذين كان يُفترض أن تأتي بهم - فلم تأتِ بهم - هم كولدك الحالي و قد فقدتيهم و خسرتيهم و لم تحظِ بالفوز بهم، و أي فوز عظيم!
لقد ضحّيتِ بأولادك اللطيفين الرائعين فداء هذه الأعمال و المشاغل، بل فداء هذه الشواغل و الامور البسيطة باعترافك أنتِ، فما أعظمه من خسران، و أشدها من فاقة و فقر.
و علّة هذا اللغز و مفتاحه هو أنّ الولد له حياة و وجود يشبهك، فهو في الحقيقة يمثّل امتداد بقائك، لم يكن لأيٍّ من الأموال و التجارات و الصناعات و المقامات قيمة كقيمته، و لن يكون لها ذلك، لأنّ أساس حياتك و عيشك يمثّل عندك قيمة أعلى من كلّ مقام و رصيد و وجاهة.
و الثاني: أنّ إنجاب الأطفال هو تكثير المثل، أي أن تأتي المرأة بموجودات تماثلها و تشابهها من بنين و نبات، فلو ولدت ستّة أطفال فقد جاءت في الخارج بستّة أشباه لها، ولو ولدت عشرة صار لها عشرة أشباه و أمثال، هذا إن كان ولدها بناتاً، أمّا إذا ولدت بعضهم بنيناً فقد أتت في الخارج بموجودات أقوى و أكثر طاقة و قدرة.
كلّ من هؤلاء الأولاد سيصبح بدوره، إثر جهود الامّ و أتعابها في تربيتهم و إكمال رشدهم، إنساناً شبيهاً بالامّ يماثلها من جميع الجوانب، و ربّما أقوى منها و أكثر فاعليّة، و سيكونون في مجال الخدمة و الفاعليّة و التأثير في المجتمع الإسلاميّ نظير امّهم، و ربّما كانوا أفضل و أكثر فاعليّة و تأثيراً.
فانصرافُ المرأة إلى إنجاب الأطفال و تربيتهم و تقديمهم إلى
المجتمع، بدلًا من دخولها و مشاركتها في الأعمال و الفنون و الصناعات الاجتماعيّة، سيرفع من خدمات وجودها إلى الدرجة العليا بنسبة عدد أولادها؛ فلو أنجبت ثمانية أولاد فقد ضاعفت خدمتها للمجتمع ثمان مرّات، ولو امتنعت - اختياراً - عن الإنجاب و التربية فقد أنزلت و أسقطت مستوى خدماتها بتلك النسبة.
و في الحقيقة فإنّ السيّدات من هذا النوع حين يدخلن المجتمع فيعتبرن أنفسهن خادمات مخلصات له، فإنهنّ بهذه النسبة قد أبعدن أنفسهن عن المجتمع و أزحن عبء مسؤوليّة خدمته عن أكتافهنّ.
و بغضّ النظر عن هذا كلّه، فإنّ كسب الكمالات المعنويّة و العلوم الإلهيّة و الدراسة الجامعيّة التي تفيد النساء، كتعليم إدارة أمُور البيت، و الخياطة، و فنون الطبخ، و حفظ الصحّة و المسائل الصحيّة و الطبّ النسائيّ، و علوم تربية الأولاد، و كثير غيرها ممّا لا منافاة بينها و بين مسألة تربية الأطفال، بل إنّ لها منتهى الانسجام و الملائمة.
و ممّا تقدّم، يمكننا الاستنتاج أنّ النساء اللاتي يعمدن إلى إغلاق أنابيب الرحم لديهنّ بعمليّة جراحيّة يتلفن و يفسدن في الحقيقة أهمّ أجهزة وجودهنّ، أي الانوثة.
إ نّ رحم المرأة؛ شأنه شأن العين و اليد و الرجل و القلب؛ واحد من أعضاء البدن، بل من الأعضاء المهمّة جدّاً، يُحفظ بحفظه و سلامته وجود المرأة و أنوثتها، و تتبدّد و تتلف بفنائه و إتلافه و مرضه انوثة المرأة.
إغلاق أنابيب رحم المرأة محرّم و إن كان برضاها و رضى زوجها
و ليس للطبيب و الجرّاح الحقّ في إغلاق أنابيت الرحم، ولو كان ذلك بطلب الزوجين أو موافقتهما، لأنّه يستتبع نقصان عضو، و تسبيب نقصان العضو حرام شرعاً و عقلًا.
فكما أنه ليس لأحد الحقّ أن يقول للجرّاح. اقطع يدي، أو اذني أو
رجلي، فليس له الحقّ كذلك أن يقول: اغلق أنابيب الرحم. نعم، إنّ الإنسان لا يمتلك حرّيّة التصرّف بأجزاء و أعضاء بدنه، و ليس له الحقّ في إتلافها و إفسادها، فمالك الإنسان هو الله، و هو لم يُجز له عقلًا و لا شرعاً هذه التصرّفات. على أنّ المراة التي تغلق أنابيب رحمها تصبح عقيماً غير ولود بالمرّة، و بفرض إمكان إعادة فتح هذه الأنابيب بعمليّة جراحيّة اخرى فإنّ إمكان حصول حمل مجدّد لديها سيكون ضئيلًا جدّاً، ولكن إن اعتقدت النساء اللاتي قمن بإغلاق الأنابيب بجهالة منهنّ أو من أزواجهنّ، بإمكان فتحها مجدّداً بعمليّة جراحيّة جديدة، فإنّ الواجب الشرعي يحتّم عليهن - عند إمكان ذلك و عدم وجود محذور - أن يُبادرن إلى إجراء تلك العمليّة و إعادة فتح أنابيب الرحم.
لقد أصبح إغلاق الأنابيب في زمن الطاغوت اسلوباً و تقليداً بين الطبقات الغنيّة المرفّهة، و قد أفاق بعضهم على عاقبة خطأهم بعد فوات الأوان، فعاشوا بقيّة أعمارهم يحلمون بالحصول على طفل.
قيل: إنّ الكلام كان يدور حول إعقام و إخصاء الرجال الفقراء المعدمين الذين غالباً ما يكونون كثيري الأولاد، بحيث يصبح هذا العمل قانونيّاً، كما هي حال رجال الهند الذين كانت حكومتهم تجبرهم على الإخصاء.۱
عندئذٍ لن يتبقّى في البلد رجل و لا امرأة! فالنساء يعمدن إلى ابتلاع
الأقراص و إلى سدّ أنابيب الرحم، و يلجأ الرجال إلى سحق الخصيتين لإعقام أنفسهم، و هذا هو معنى الذلّ و الأسر و الاستعباد، هذا هو معنى الاستثمار الحقيقيّ، و هذا هو مفهوم الاستحمار و الاستعباد الواقعيّ، فهم يفعلون بنا ما لم يُفعل بالعبيد زمن الجاهليّة.
يقولون: إنّ الأرض لا تتّسع لكلّ هؤلاء الأفراد، و إذا ما استمرّ سيل المواليد في الزيادة فسيأتي الوقت الذي تغصّ الأرض بهم و تضيق؛ افٍّ لَكُمْ وَ لأوْهَامِكُمْ الخَالِيَةِ وَ آرَائِكُمْ البَالِيَةِ وَ أهْوَائِكُمُ الكَاسِدَةِ!
لقد ضمن الله تعالى في قرآنه سعة الأرض لعيش الأحياء و لدفن الأموات، أفتشعرون بالأسى للّه و تخشون أن تثقل أرضه فلا تتّسع لحمل الأحياء و دفن الأموات؟
أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَ أَمْواتاً.۱
يقرب عدد نفوس إنجلترا من ستّ و خمسين مليوناً، و يقربون في فرنسا من خمس و خمسين مليوناً، و في المانيا يقربون من سبع و سبعين و نصف مليوناً، و تعادل مساحة إيران مجموع هذه الدول الثلاث، فكيف خرج سهم قرعة البؤس و عدم السعة و الاستيعاب عليه، في الوقت الذي بلغ عدد السكّان بعد زيادتهم خمسين مليوناً؟!٢
هذا، مع أنه يُعدّ من أفضل بلاد العالم في معادنه و ذخائره الدفينة، و في ملائمة أراضيه للزارعة و تربية الدواجن، في حين أنّ تلكم البلاد لا تمتلك معدناً و لا زراعة، للحدّ الذي صارت البطاطس غذاءهم الرئيسيّ؛ لكنّ القُرعة حادت عنهم و لم تخرج باسمهم!! بل كان سهم الحظّ و المؤاتاة دوماً في جانبهم، و ما خرج باسمهم كان سهم الحياة و السلامة و الصحّة؛ و هذا سرّ مستور و لغز خفيّ لا يُظَنُّ أنّ أحداً سيطّلع على حقيقته مادام الكفّار يسيّرون امورنا و يوجّهونها.
راز درون پرده ز رِندان مست پُرس | *** | كاين حال نيست زاهد عالميقام را۱ |
حثّ الإسلام على الزواج بالنساء الولودات دون الجميلات
فقارنوا هذه الحياة المتدنّية المقرونة بالمصيبة و الذلّة، المطبوعة بالعبوديّة، مع تعليم القرآن و هدايته إلى سبل السلام و طرق العزّة و الكرامة و العافية، حين يأمر المالكين و المتمكّنين أن لا يتزوّجوا لوحدهم زوجات دائميّة مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ٢ فينجبوا الكثير من الأولاد، بل إنّ عليهم تهيئة
أسباب و مستلزمات زواج الأيتام و الفقراء و المستضعفين كذلك.
وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.۱
يروي الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ، عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ، و عن الشيخ الطوسيّ، و عن الشيخ الصدوق في «التوحيد» بإسناد عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: تَزَوَّجُوا الأبكَارَ! فَإنَّهُنَّ أطْيَبُ شَيءٍ أفْوَاهَاً؛ قال: (و في حديث آخر) وَ أنْشَفُهُ أرْحَامًا، وَ أدَرُّ شَيْءٍ أخْلَافَاً (أحْلَامَاً) وَ أفْتَحُ شَيءٍ أرْحَامًا. أمَا عَلِمْتُمْ أنِّى ابَاهِي بِكُمُ الامَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى بِالسِّقْطِ يَظلُّ مُحْبَنْطِيَاً عَلَى بَابِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ. ادْخُلْ! فَيقول: لَا أدْخُلُ حتى يَدْخَلُ أبَوَايَ قَبْلِي! فَيَقُولُ اللهُ تعالى لِمَلَكٍ مِنَ الملَائِكَةِ. ائتِنِي بِأبَوَيْهِ، فَيَأمُرُ بِهِمَا إلى الجَنَّةِ، فَيقول: هَذَا بِفَضْلِ رَحْمَتِي لَكَ.٢
و روى كذلك الشيخ الحرّ العامليّ، عن الكلينيّ، بسنده المتّصل عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال:
تَزَوَّجُوا بِكْرَاً وَ لُودَاً، وَ لَا تَزَوَّجُوا حَسْنَاءَ جَمِيلَةً عَاقِرَاً! فَإنِّي ابَاهِي
بِكُمُ الامَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.۱
و روى كذلك عن الكلينيّ بإسناده عن الإمام الرضا عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: تَزَوَّجْهَا سَوَاءً وَ لُوداً! وَ لَا تَزَوَّجْهَا جَمِيلَةً حَسْنَاءَ عَاقِرَاً! فَإنِّي ابَاهِي بِكُمُ الامَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ! أمَا عَلِمْتَ أنَّ الوِلْدَانَ تَحْتَ العَرْشِ يَسْتَغْفِرُونَ لآبَائِهِم يَحْضِنُهُمْ إبْرَاهِيمُ؛ وَ تُرَبِّيهِمْ سَارَةٌ في جَبَلٍ مِن مِسْكٍ وَ عَنْبَرٍ وَ زَعْفِرَانٍ.٢
و روى عن الكلينيّ أيضاً، بسنده المتّصل، عن خالد بن نجيح أنهم تذاكروا الشؤم عند الإمام الصادق عليه السلام، فقال:
الشُّؤمُ في ثَلَاثٍ. في المرْأةِ وَ الدَّابَّةِ وَ الدَّارِ، فَأمَّا شُؤمُ المرْأةِ فَكَثْرَةُ مَهْرِهَا وَ عُقْمُ رَحِمِهَا.٣
روى كذلك عن الكلينيّ، بسنده المتّصل، عن جابر بن عبدالله الأنصاريّ أنه قال: كنّا حضوراً عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: إنَّ خَيْرَ نِسَائِكُمُ الوَلُودُ الوَدُودُ العَفِيفَةُ ... (الحديث).٤
و روى أيضاً عن الصدوق، بإسناده، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: مَا يَمْنَعُ المؤْمِنُ أن يَتَّخِذَ أهْلًا لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقُهُ نَسَمَةً تَثْقُلُ الأرْضَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللهُ.٥
و يروي عن الصدوق أيضاً بإسناده، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: مَا بُنِيَ بِنَاءٌ في الإسْلَامِ أحَبُّ إلى اللهِ
عَزَّ وَ جَلَّ مِنَ التَزْوِيجِ.۱
و ورد عن الصدوق أيضاً، في «الخصال» في حديث الأربعمائة عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: تَزَوَّجُوا فَإنَّ التَزْوِيجَ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَإنَّهُ كَانَ يقول: مَنْ كَانَ يُحِبُّ أنْ يَتَّبِعُ سُنَّتِي فَإنّ مِنْ سُنَّتِي التَّزُوِيجُ. وَ اطْلُبُوا الوَلَدَ! فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الامَمَ غَدَاً وَ تَوَقُّوا عَلَى أوْلَادِكُمْ مِن لَبَنِ البَغِيِّ مِنَ النِّسَاءِ وَ المجْنُونَةِ فَإنَّ اللَّبَنَ يُعَدِّي.٢
أجل، يُعلم من هذه المطالب مدى الأهمّيّة التي يوليها الدين الإسلاميّ المقدس لأمر التزويج و النكاح، و شدّة ترغيبه و تشجيعه على زيادة النسل و إنجاب الأولاد و إكثار الذرّيّة.
إ نّ على حكومة الإسلام أن تفتح أبواب الزواج على مصراعيها أمام الناس، و أن تحلّ مشاكل الشباب من الجنسينِ في هذا الأمر وفق برامج صحيحة تمكّن أي فتى و فتاة للزواج في بداية البلوغ لينجبا الأولاد و يشرعا في ذات الوقت، بتحصيل العلوم الضروريّة أيضاً، بالشكل الذي لا يصبح الزواج فيه معيقاً للتقدّم و الرقي، و تصبح مسألة امتلاك الأطفال أمراً طبيعيّاً و عرفاً متداولًا لا يتعارض مع الصناعة و الفنّ و الحرفة و العلم.
و هناك في حكومة الإسلام رجال نالوا درجة الشهادة في معركة الجهاد و الحرب، ينبغي تنظيم برنامج صحيح لتزويج نسائهم فور انقضاء عدّتهنّ، كي لا يبقين بلا زوج أو معيل، و لينجبن أطفالًا يشغلون محلّ المجاهدين
الخالي.
فالرغبة الجنسيّة من الغرائز التي لايمكن تجاهلها و الوقوف بوجهها بأيّ شكل، غاية الأمر أنّ إشباعها يجب أن يحصل بالطريق الصحيح و النكاح المشروع، و إلّا فإنّ عواقب غير محمودة ستنجم عن ذلك لا سمح الله، و سيكون أمام الفتاة الشابّة التي استشهد زوجها أن تبقى تتحمّل - مع رغبتها بالزواج - المحن و الحياة العسيرة بلا زوج؛ أو أن ينجرّ الأمر - طوعاً أو كرهاً - إلى اتّخاذ الأخدان في مسيرة مخالفة للشريعة.
پرى رخ تاب مهجوري ندارد | *** | و در بستي ز روزن سر برآرد۱ |
و وفقاً لتقرير إدارة الإحصاء فإنّ في إيران حاليّاً ما يقرب من أربعة ملايين و سبعمائة ألف امرأة بدون زوج، و يجب التفكير بحال هؤلاء الأبرياء و تنظيم برنامج زواجهم بأحسن وجه، و وضع مخصّصات ماليّة لهذا الأمر؛ كما هو الحال في إدارة التعبئة و الحرس الثوريّ و دائرة رعاية عوائل الشهداء؛ إدارة مستقلّة و واسعة و مهمّة لتنظيم و تهيئة أمر زواجهنّ بلا مشقّات و عراقيل:
آيات قرآنيّة اخرى هادية إلى سبل السلام
و من بين الآيات التي تهدي إلى سبل السلام هذه الآيات الكريمة:
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ، وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً.٢
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ
أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.۱
و منها: وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ.٢
و منها: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.٣
و منها: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.٤
الطلاق هو طريق العلاج عند عدم توافق الحكمين
و من جملة الآيات هذه الآية الكريمة:
وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.٥
و نلحظ في هذه الآية الأمر الإلهيّ للرجل بالتريّث عند احتمال حدوث الشقاق و الطلاق بين الزوجينِ و أن لا يلجأ إلى الطلاق فوراً، بل على الزوجينِ أن يختارا عنهما رجلينِ معتمدينِ من ذوي الخبرة و العقل و الدراية كحكمينِ، يجلسان فيتدارسان الأمر و يقلّبان وجوهه، هذه المناقشات
و المباحثات كثيراً ما حلّت الخلافات، فأقرّ الله بين اولئك الأزواج بإصلاح الحَكَمينِ الصلح و التفاهم، و وفّق قرار الحكمينِ و رأيهما فقد تبدّلت حياتهما من الاضطراب إلى الصلح و الصفاء و استعادت نشاطها و نضارتها التي انفرطت و تهدّمت بسبب الخلافات الناجمة عن عدم تفاهمهما و عن بعض الأفكار و الآراء الواهية.
كما أنّ القرآن الكريم لا يرتضي الطلاق المقرون بالنزاع و الضرب و تبادل العبارات الخشنة القاسية و الكلمات القبيحة الوقحة، الذي يحدث بين الكثير من الناس، و ينهى بحزم عن أي تعامل و أقوال من هذا النوع.
فالطلاق يمثّل في المنطق القرآنيّ طريق الخلاص الوحيد عند تعذّر التفاهم و الانسجام، ممّا يحيل حياة الزوجينِ إلى حياة مليئة بالغصّة و مقرونة بالالم و القلق و الاضطراب و تشتّت الأفكار، و في هذه الحالة يصبح الطلاق بصورته المثلي الحسني الطريقَ الوحيد للعلاج الالم و مداواته و شفائه.
لذا، ينبغي أن تسرّح المرأة بإحسان، فيُبذل لها و يحسن إليه ا عند تسريحها و فراقها، كما أنه لو اريد ردّها و معاشرتها فيجب رعايتها بشكل حسن مقبول و تمتيعها بالشكل الكامل.
وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ.۱
دعوة القرآن للصلح و تحذيره من جميع مساوئ الأخلاق
و من جملة الآيات الكريمة:
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.۱
و منها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.٢
و نلاحظ في هاتين الآيتين الأخيرتين أنهما قد حرّمتا على المؤمنين ستّة أعمال و صفات تقارن و تلازم الحركة باتّجاه الشقاق و النفاق و التفرقة و العداوة و قلق النفس و الاضطراب الذهنى و انفصام عرى المحبّة و المودّة، ودعتهم إلى سبل السلام التي تخالف هذه الصفات و الأعمال و تعاكسها تماماً.
الأوّل: السخرية بأيّ شكل و كيفيّة كانت، فلو سخر أحد من أحد - مهما كانا - لكان ذلك حراماً و قبيحاً مستهجناً.
الثاني: اللمز و ذكر عيوب الآخرين، الذي يتحوّل باعتبار وحدة المجتمع الإسلاميّ و اشتراك المسلمين في الهموم و الآلام و الديانة، إلى لمز الإنسان نفسه، لذا بيّن ذلك بتعبير وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ.
الثالث: التنابز بالألقاب و مناداة البعض للبعض الآخر و ذكرهم لهم بالعناوين و الألقاب غير الجميلة، و هو حرام.
الرابع: الظنّ بالآخرين سوءاً، و هو حرام؛ فبالرغم من أنه ليس عملًا خارجيّاً بل هو مجرّد فعل نفسيّ، لكنّه مع ذلك حرام، و يتوجّب على المؤمن أن ينزّه فكره و ذهنه عن التلوّث بالأوهام و التصوّرات غير الصحيحة عن المؤمنين، و أن يُزيل صدأ الكدورة عن قلبه بصفاء و جلاء الإيمان بالله سبحانه.
الخامس: التجسّس و التفتيش في عمل الآخرين. لماذا يذهبون؟ و ماذا يعملون؟ أيرتكبون ذنباً و إثماً في بيوتهم أم لا؟ و بشكل عامّ فإنّ أي تجسّس و تفتيش في أعمال الناس حرام.
السادس: الغِيبة، و هي ذكر المؤمن بسوء حال غيابه، و وصفه بعبارات و أوصافٍ لو سمعها و اطّلع عليها لأحزنه ذلك و أغمّه و ضايقه.
سيدلّنا التمعّن في هذه الآيات و هذا النمط من التعاليم، بنحو اللزوم و الوجوب الذي أوجبه القرآن الكريم على المؤمنين، أي عالم مليء بالصفاء و المودّة و راحة البال و طمأنينة الخاطر، و أي حياة مقرونة بسلامة الجسم و الروح و الأخلاق كان القرآن الكريم يقود باتّجاهها المجتمع البشريّ، ثمّ يورده في خاتمة المطاف في اسم سلام الحضرة الأحديّة.
جميع آيات القرآن تدعو إلى سبل السلام
و ينبغي العلم أنّ جميع الآيات المباركة في القرآن الكريم تدعو إلى سبل السلام، لا اختصاص في هذا الأمر لآية دون اخرى، و قد أوردنا هذه الآيات المعدودة كمثال مع مقارنتها مع بعض المناهج البشريّة التي تؤدي الإنسان في النتيجة إلى الضلال؛ و إلّا فإنّ الآيات التي تدعو إلى التوحيد، و الإخلاص في العمل، و التوجّه التامّ للّه و أسمائه الحسنى و صفاته العليا، هي من أظهر و أوضح مصاديق الدعوة إلى السلام، نظير آية:
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ.۱
و كآية: وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً.٢
كان هذا شرحاً مختصراً لمعنى السلام و كيفيّة هداية القرآن إلى سبل السلام، و طرق الاطمئنان و سكون الخاطر و راحة البال؛ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؛٣ و هو الشيء الأوّل الذي يهدي له القرآن أتباع طريق الرضوان الإلهيّ.
الظلمة ناشئة من الشرك و الثنويّة، و نور التوحيد واحد
و أمّا المورد الثاني الذي كانت الآية المتقدّمة بصدد إثباته، فقد كان الإخراج من ظلمات النفس الأمّارة و كدورة الباطن، و قيادتهم بإذن الله إلى عالم النور و الوحدة و التجرّد و البساطة: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ.
و ينبغي العلم أن جميع الأعمال الحسنة و الأخلاق الفاضلة و الصفات الحميدة و الملكات المحمودة و العقائد المطهّرة هي كلّها نور؛ و في المقابل فإنّ جميع الأعمال السيّئة و الأخلاق الرديئة، و الصفات الذميمة و الملكات القبيحة و العقائد الفاسدة كلّها حلكة و ظلام.
لذا فإنّ القرآن الكريم يخرج المؤمنين في هذه الأودية الخطرة المظلمة صعبة العبور، التي تكتنفها الظلمات من كلّ حدبٍ و صوب، و يدخلهم في أعلى المقامات و الدرجات و الأمكنة المتّسعة الرحبة،
المنبسطة المنيرة التي تتدفّق الأنوار عليها من كلّ جانب؛ أي أنّ العمل بالقرآن، و المواظبة على ذلك، سيؤدّيان إلى أن تُخلي الصفات السيّئة الذميمة مكانها شيئاً فشيئاً لتَحِلّ الصفات الحسنة الحميدة، فالشخص الذي يعمل بالقرآن و يسعى لجعله أساس تحرّكه و قدوة و اسوة و برنامجاً حقيقيّاً له في العلم و العمل، سيجد أنّ تلك الصفات القبيحة ستطوي شيئاً فشيئاً من نفسه التي اتّخذتها منزلًا و مسكناً؛ شاء ذلك أم أبى؛ فتحلّ محلها الصفات الحميدة مثل ضيوف جدد لطاف يأنس بهم.
إ نّ شأن السيّئات الأخلاقيّة كشيطان مهيب اتّخذ منزلًا في زوايا النفس الإنسانيّة و هو لا يريد بأيّ وجه من الوجوه أن يخليه، و بمرور الزمان فإنّه سيتخذ من هذا المحلّ (السرقفليّ) كمسكن خاصّ له، و كمركز لتردّد و هجوم و حملات جنده و عساكره.
و هي في الحقيقة ظلمات حالكة خطرة كاسرة طاحنة و مهلكة، تجرّ الإنسان من كلّ صوب إلى الضلال و الهلاك و الضياع، و تريق دمه فتشربه على مائدتها السوداء القذرة، بشكل لا يبقى أثراً لشخصيّته و موضوعيّته و إنسانيّة، فيمّحي بمرور الزمن اسمه من قائمة العابدين و المؤمنين.
إ نّ الحقد و البخل و الحسد و التكاثر في الأموال و حبّ الجاه و الرياسة، و الانشغال بملاهي الدنيا، و على رأسها جميعاً الشرك بالله و النزوع إلى عالم الكثرة، هي حقّاً ظلمات شديدة متراكمة؛ و في قبالها النور الذي يمثّل عين التوحيد؛ و من لوازمه و شروطه طهارة القلب و صفاؤه من لوث الكدورات، و هو نور في الحقيقة، لا شبيهاً بالنور، و لا مسمّى بالنور مجازاً و كناية و استعارة، بل هو نور بتمام معناه الحقيقيّ و الواقعيّ، و هذا النور الحقيقيّ أقوى و أشدّ إضاءة بآلاف المرّات من النور الما دّ يّ الطبيعيّ، كما قد جاء:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.۱
و قد وردت بشأن القرآن روايات مستفيضة بل متواترة تشير إلى أنه نور، و قراءته نور، و تلاوته نور، و الاستشفاء به نور، و هو نور فيما بعد الموت يعبر بالإنسان العقبات و المنعطفات المظلمة الحالكة، كما أنّ التعاليم غير القرآنيّة ظلمة، و الظلم و الجور ظلمة.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الظُّلْمُ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.٢
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ.٣
لقد نُسبت الظلمات هنا إلى الشرك و الكفر و الفسق و الوثنيّة و الثنويّة و عبادة الأصنام بأيّ شكل كانت، في حين نُسب النور إلى التوحيد. لذا فكلّما ورد لفظ الظلمة في القرآن جيء به بصيغة الجمع، لأنّ الظلمات الناشئة من الشرك و الكفر مثار للكثرة، على عكس التوحيد الذي هو نور، و نور واحد، و لهذا فقد عبّر دوماً عن النور بصيغة المفرد و لم يستعمل لفظ أنوار، لأنّ النور مَثار الوحدة.
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٤
فالكمذّبين في نظر القرآن صمّ و بكم حقيقةً، كما عدّهم في بعض الآيات عمياً حقيقة، قد اركسوا - مضافاً إلى عماهم - في الظلمات:
أو مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً.٢
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ.٣
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ، رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.٤
كانت هذه بعضاً من الآيات القرآنيّة الكريمة الدالّة على ظلمانيّة الشرك حقّاً و نورانيّة التوحيد حقّاً، و من هنا فقد اشتقّ الظُلم؛ أي الجور و الاعتداء و الانحراف عن طريق الحقّ؛ و الظُّلمة؛ أي الحلكة؛ من مادّةٍ واحدة ظَ لَ مَ، و يمكن من هذا الطريق فهم حقيقة الظلمة و الحلكة، و هي الظلم و الجور، و يمثلّ الشرك بالله أجلى و أظهر مصاديقه.
لقد وُضعتْ الألفاظ للمعاني العامّة، فالظُّلمة و العمى و الصمم و الموت و ما شابهها تطلق حقيقةً على ظلمة الروح و الشرك و الكفر، بل إنّ أوضح و أفضل مصاديقها هي المعاني الملكوتيّة و النفسيّة؛ و هذه الظلمات المادّيّة رشحة من تلك الظلمة و مثال منها.
و تعابير كهذه كثيرة في القرآن، و قد ورد في موضعين من القرآن هاتين الآيتين:
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.۱
دعا الله سبحانه في الآيتين منكري و جاحدي الحقّ بالموتى و العمى و الصمّ.
و قد عبّر في سورة الممتحنة عن الكفّار الأحياء بالموتى في القبور:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.٢
و الأهمّ من ذالك أنّ القرآن الكريم لا يعتبر هذه الظلمات المادّيّة ظلمة، و لا يعتبر الموت و العمى و الصمم و البكم المألوفة فناءً و فقداناً لحواسّ البصر و السمع و النطق، فهو يقول إنّ العيون لا تعمى أصلًا، بل إنّ ما يعرض عليه العمى هو القلوب التي في الصدور: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.٣
فدعى في هذه الآية القلوبَ التي لا تتعقّل بالقلوب الميّتة لا روح فيها و لا إدراك، و الآذانَ التي لا تعتبر بالمواعظ بالآذان الصمّاء، و استدلّ في بيان
هذا المدّعى بأنّ العمى يعرض في الأصل لعين القلب، و لعين الذهن و الإدراك، لا للعين المادّيّة الطبيعيّة الموجودة في رأس الإنسان.
فلا ينبغي أن يطلق اسم الأعمى على الذين فقدوا هذه العين، بل الأعمى من عميت عين باطنه و حقيقة بصيرته.
أفراد عميان يتلون القرآن بموهبة إلهيّة
و على هذا، فكم شوهد هنالك من عميان يقرأون القرآن، أي أنهم كانوا عمياناً بتمام المعنى لكنّهم كانوا يتلون القرآن بموهبة إلهيّة و يشيرون إلى مواقع آياته.
لقد جاء سماحة آية الله الشيخ محمّد تقي بهجت الفومنيّ الرشتيّ مدّ ظلّه العالي صبح يوم الجمعة ۱٥ جمادي الاولي ۱٤۰۸ ه - لزيارة هذا الحقير في مدينة قم المقدّسة في منزل ولدي الحاجّ السيّد أبي الحسن، و كان من جملة مذاكراته و إفاداته أنه قال:
كان هناك في أيّام شبابنا رجل أعمى يفتح القرآن فيدلّ على أي آية تراد منه، و يضع إصبعه عليها، و قد أردتُ أيّام الشباب ممازحته و معاكسته، فقلتُ. أين الآية الفلانيّة؟
ففتحَ القرآن و وضع إصبعه على الآية المعيّنة.
فقلتُ. ليس هذا صحيحاً، فهذه آية اخرى.
فردّ عليّ. أوَ أعْمَى أنْتَ؟! أفَلَا تَرَى؟!۱
ديد در بغداد يك شيخ فقير | *** | مصحفي در خانة پيري ضرير |
پيش او مهمان شد او وقت تموز | *** | هر دو زاهد جمع گشته چند روز |
گفت اينجا أي عجب مصحف چراست؟؟ | *** | چونكه نابيناست اين درويش راست |
اندر اين انديشه تشويشش فزود | *** | كه جز او را نيست اينجا باد و بود |
...۱
اوست تنها مصحفي آويخته | *** | من نيم گستاخ يا آميخته |
تا بپرسم، ني خمش صبري كنم | *** | تا به صبري بر مرادي بر زنم |
صبر كرد صبر كرد و بود چندي در حَرَج | *** | كشف شد كالصبر مفتاح الفرج |
مرد مهمان صبر كرد و ناگهان | *** | كشف گشتش حال مشكل در زمان |
نيم شب آواز قرآن را شنيد | *** | جَست از خواب آن عجائب را بديد |
كه ز مصحف كور ميخواند درست | *** | گشت بي صبر و ز كور آن حال جست |
گفت چون در چشمهايت نيست نور | *** | چون همي بيني همي خواني سطور |
گفت. ايگشته ز جهل تن جدا | *** | اين عجب ميداري از صنع خدا؟ |
من زحقّ درخواستم كاي مستعان | *** | بر قرآئت من حريصم، همچو جان |
نيستم حافظ مرا نوري بده | *** | در دو ديده وقت خواندن بيكره |
باز ديده دو ديدهام را آن زمان | *** | كه بگيرم مصحف و خوانم عيان |
آمد از حضرت ندا كاي مردكار | *** | أي بهر رنجي بما اميدوار |
حسن ظنّ است و اميدي خوش ترا | *** | تا فرو خواني معظم جوهر |
همچنان كرد و همان گاهي كه من | *** | واگشايم مصحف اندر خواندن |
آن خبيري كه نشد غافل زكار | *** | آن گرامي پادشاه روزگار |
باز بخشد بينشم آن شاه فرد | *** | در زمان همچون چراغ شب نورد |
...۱
زين سبب نبود ولي را اعتراض | *** | هر چه بستاند فرستد اعتياض |
گر بسوزد باغ انگوري دهد | *** | در ميان ماتمت سوري دهد |
آن شل بي دست را دستي دهد | *** | كان غمها را دل مستي دهد |
شيخ أقطع گشت نامش پيش خلق | *** | كرد معروفش بدين آفات حلق |
در عريش او را يكي زائر بيافت | *** | كو بهر دو دست خود زنبيل بافت |
گفت او را أي عدوّ جان خويش | *** | در عريشم آمدي سركرده پيش |
...۱كان سماحة آية الله الحاجّ محمّد تقي في النجف الأشرف و هو من التلاميذ المعروفين لآية الحقّ و سند العرفان، العارف الذي الذي ليس له مثيل
همين چرا كردي شتاب اندر سباق | *** | گفت از افراط مهر و اشتياق |
پس تبسّم كرد و گفت اكنون بيا | *** | ليك مخفي دار اين را أي كيا |
تا نميرم من مگو اين با كسي | *** | ني قريني ني حبيبي ني خَسي |
بعد از آن قوم دگر از روزنش | *** | مطلّع گشتند بر بافيدنش |
گفت حكمت را تو داني كردگار | *** | من كنم پنهان تو كردي آشكار |
آمد إلهامش كه يك چندي بدند | *** | كه در اين غم بر تو منكر ميشدند |
كه مگر سالوس بود او در طريق | *** | كه خدا رسواش كرد اندر فريق |
من نخواهم كان رمه كافر شوند | *** | و از ضلالت بر گمان بد روند |
اين كرامت را بكرديم آشكار | *** | كه دهيمت دست اندر وقت كار |
تا كه اين بيچارگان بد گمان | *** | رو نگردند از جناب آسمان |
المرحوم الحاجّ الميرزا السيّد علي القاضي التبريزيّ رضوان الله عليه، و كان له في حياته حالات و واردات و مكاشفات غيبيّة إلهيّة، و نال أعلى المراتب بالسكوت و المراقبة.
يقول سماحة آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجانيّ (و هو وصيّ المرحوم القاضي و المقيم حاليّاً في النجف الأشرف). كان الشيخ محمّد تقي بهجت يحضر درس المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمد حسين الأصفهانيّ (المعروف بالكمبانيّ) في الفقه و الاصول، و بما أنّه كان يعود إلى حجرته في مدرسة السيّد بعد انتهاء الدرس، فقد كان بعض الطلّاب يذهبون إليه لرفع ما ورد عليهم من إشكلات الدرس.
قد يروه نائماً، لكنهم يسألونه، فيُجيبهم كأنّه في حال إلى قظة أجوبة كافيةً شافية، و حينما يُسأل عن إجاباته تلك، يؤكِّد على عدم علمه بها، و يقول: لا شيء لديّ، و لم يخطر ببالي شيء ممّا تقولون!
يقول سماحة آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس القوجانيّ مدّ ظلّه. كان آية الله بهجت كثيراً ما يذهب إلى مسجد السهلة فيبيت هناك إلى الصباح، و حدث في ليلةٍ حالكة الظلام أن احتاج إلى تجديد وضوئه، و لم يكونوا آنذاك ينيرون مصباحاً في المسجد، و كان مجبراً على الخروج من المسجد للطهارة و الوضوء، فتحرّك ليتوضّأ في المحلّ المخصّص للوضوء و الواقع خارج المسجد إلى جهة الشرق فأحسّ فجأة - و هو يعبر هذه المسافة المظلمة وحيداً - بخوف بسيط ينتابه.
و بمجرّد إحساسه بهذا الخوف توهّج أمامه نور كالمصباح، و صار يسير أمامه كلّما سار، و قد خرج مع ذلك النور فتطهّر و توضّأ ثمّ عاد إلى مكانه و الضوء يتحرّك معه، فلمّا وصل مكانه السابق اختفى ذلك النور و تلاشى.
و بشأن نور القرآن فقد شوهد الكثير من الأفراد الذين كانوا يقرأون بنور القرآن المعنويّ، كان الكثير منهم اميّين لم يروا مدرسة و لم يحضروا درساً، منهم المرحوم الكربلائيّ، محمّد كاظم الفراهانيّ رحمة الله عليه الذي عاش في عصرنا هذا، و كان رجلًا عامّيّاً قرويّاً افيض عليه القرآن في أحد مراقد أبناء الأئمة من قبل رجلين مارّين لا يعرفهما.
و لقد هاجرتُ إلى مدينة مشهد المقدّس على ساكنها و على آبائه السلام سنة ۱٤۰۰ هجريّة في يوم الرابع و العشرين من شهر جمادى الاولى للإقامة و التوطّن، و حططتُ رحالي في جوار بضعة رسول الله هذه.
و قد جاءني يوماً شخصان من قرّاء التعزية، أحدهما باسم الحاجّ الشيخ جعفر الرشتيّ و الآخر الحاجّ السيّد حسن مؤمن زاده، و كانا صديقين متحابّينِ، و قد انتقل كلاهما إلى الرحمة الواسعة للحقّ تعالى، رحمة الله عليهما.
و قد قال الحاجّ الشيخ جعفر في ذلك المجلس للحقير. أنا حافظ للقرآن فقد افيض عَلَيَّ من الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام في حرمه المطهّر، فأنا أقرأ التعزية في الحرم أيضاً.
فسررتُ جدّاً و هنّأته على ذلك و قلت: إنّ وجودكم مبارك بهذه الموهبة الإلهيّة.
و قد جلسا ساعة، ثمّ التفت إلي المرحوم الحاجّ جعفر عند ذهابهما و قال: أيها السيّد! إنّكم لم تسألوا منّي شيئاً من القرآن و لم تختبروني.
فأجبت. إنّ هذا المطلب مسلّم، و لا شكّ لديّ فيه ليحتاج الأمر إلى سؤال و اختبار. إذ في مقام الثبوت، فإنّ هذا الحقير لا شكّ لديه في إمكان إفاضات و بركات كهذه من قبل الإمام الرضا عليه السلام، و أمّا في مقام الإثبات، فإنّ وجوداً بهذا الجلال و الاحترام يمثّل حقيقةً و مصداقاً للصدق
و لا يبقى لديّ محلًّا للشكّ.
الروايات الواردة عن الإمام العسكريّ في نور القرآن و صيام شعبان
روى في «التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكريّ» سلام الله عليه في ذيل الآية المباركة: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ،۱ رواية مفصّلة جدّاً تحوي مطالب و حوادث، نشير هنا إلى مختصر منها فقط يمثّل شاهداً لكلامنا حول نور القرآن و إشعاعه و ضيائه:
حتّى يصل إلى القول: و لقد مرّ أميرالمؤمنين على قوم من أخلاط المسلمين ليس فيهم أحد من المهاجرين أو الأنصار، و هم قعود في بعض المساجد في أوّل يوم من شعبان، و إذا هم يخوضون في أمر القدر و غيره ممّا اختلف الناس فيه، قد ارتفعت أصواتُهم و اشتدّ فيه محكّهم و جدالهم، فوقف عليهم و سلّم فردّوا و أوسعوا له و قاموا إليه يسألونه القعود إليه م، فلم يحفل بهم، ثمّ قال: و ناداهم:
يَا مَعْشَرَ المتَكَلِّمِينَ فِيمَا لَا يُعْنِيهِمْ وَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ! الم تَعْلَمُوا أنَّ لِلَّهِ عِبَادَاً قَدْ أسْكَتَتْهُمْ خَشْيَتُهُ مِنْ غَيْرِ عَمَى وَ لَا بِكَمٍ، وَ إنَّهُمْ لَهُمُ الفُصَحَاءُ العُقَلَاءُ الأوْلِياءُ العَالمونَ بِاللهِ وَ أيَّامِهِ، وَ لَكِنَّهُمْ إذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللهِ انْكَسَرَتْ ألْسِنَتُهُمْ، وَ انْقَطَعَتْ أفْئِدَتُهُمْ، وَ طَاشَتْ قُلُوبُهُمْ، وَ هَانَتْ حُلُومُهُمْ، إعْزَازَاً لِلَّهِ، وَ إعْظَامَاً وَ إجْلَالًا لَهُ.
فَإذَا أفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إلى اللهِ بِالأعْمَالِ الزَّاكِيَةِ يَعُدُّونَ أنْفَسَهُمْ مَعَ الظَّالمينَ وَ الخَاطِئِينَ - وَ إنَّهُمْ بُرَآءُ - مِنَ المقَصِّرِينَ و المفَرِّطِينَ. ألَا إنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِاللهِ القَلِيلَ؛ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لِلّهِ الكَثِيرَ؛ وَ لَا يُدِلُّونَ عَلَيْهِ بِالأعْمَالِ. فَهُمْ مَتَى مَا رَأيْتَهُمْ مَهْمُومُونَ، مُرَوَّعُونَ، خَائِفُونَ، مُشْفِقُونَ، وَ جِلُونَ!
فَأيْنَ أنْتُمْ يَا مَعْشَرَ المبْتَدِعِينَ؟! الم تَعْلَمُوا أنَّ أعْلَمَ النَّاسِ بِالقَدَرِ أسْكَتُهُمْ عَنْهُ؛ وَ أنَّ أجْهَلَ النَّاسِ بِالقَدَرِ أنْطَقُهُمْ فِيهِ؟!
ثمّ قال: يَا مَعْشَرَ المبْتَدِعِينَ! هَذَا يَوْمُ غُرَّة شَعْبان الكَرِيمِ، سَمَّاهُ رَبُّنَا شَعْبَان لِتَشعُّبِ الخَيْرَاتِ فِيهِ.
حتّى يصل إلى قوله: ألا احدِّثُكم إلّا بما سمعته من رسول الله!
انبعاث نور القرآن من صحابة رسول الله الأربعة و إضاءة الصحراء
لقد بعث رسول الله جيشاً ذات يوم إلى قوم من أشدّاء الكافرين، فأبطأ عليه خبرهم و تعلّق قلبه بهم و قال: ليت لنا من يتعرّف أخبارهم و يأتينا بأنبائهم، فبينا هو قائل إذ جاءه البشير بأنهم قد ظفروا بأعدائهم و سلبوهم، و صيّروهم بين قتيل و جريح و أسير، و نهبوا أموالهم، و سبوا ذراريهم و عيالهم، فلمّا قرب القوم من المدينة خرج إليه م رسول الله بأصحابه يتلّقاهم، فلمّا لقيهم و رئيسهم زيد بن حَارثة؛ و كان قد أمّره عليهم؛ فلمّا رأى زيد رسول الله نزل عن ناقته و جاء إلى رسول الله و قبّل رجله، ثمّ قبّل يده و رجله، فأخذه رسول الله فضمّه و قبّل رأسه.
ثمّ نزل إلى رسول الله عَبدالله بن رَوَاحَة فقبّل يده و رجله و ضمّه رسول الله. ثمّ نزل إليه قَيس بن عاصم المنقريّ فقبّل يده و رجله و ضمّه رسول الله إليه.
ثمّ نزل ساير الجيش و وقفوا يصلّون عليه و ردّ رسول الله عليهم خيراً، ثمّ قال لهم: حدّثوني خبركم و حالكم مع أعدائكم! و كان معهم من اسراء القوم و ذراريهم و عيالاتهم و أموالهم من الذهب و الفضّة و صنوف الأمتعة شيء عظيم، فقالوا: يا رسول الله! لو علمت كيف حالنا لعظم تعجبّك!
فقال رسول الله. لم أكن أعلم ذلك حتى عرّفنيه الآن جبرئيل، و ما كنتُ أعلم شيئاً من كتابه و دينه حتى علّمني ربّي، كما قال:
وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ
وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ،۱ ولكن حدّثوا بذلك إخوانكم هؤلاء لأصدّقكم فقد أخبرني جبرئيل بصدقكم.
فقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّا لمّا قربنا من العدوّ بعثنا عيناً لنا ليعرف أخبارهم و عددهم لنا، فرجع إلى نا يخبرنا أنهم قدر ألف رجل، و كنّا ألفي رجل، و إذا القوم قد خرجوا إلى ظاهر بلدهم في ألف رجل و تركوا في البلد ثلاثة الآف، يوهموننا أنهم ألف، و أخبرنا صاحبُنا أنهم يقولون فيما بينهم نحنُ ألف و هم ألفان و لسنا نطيق مكافحتهم، و ليس لنا إلّا التحاصن في البلد حتى تضيق صدروهم من منازلتنا فينصرفوا عنّا، فتجرّأنا بذلك عليهم و زحفنا إليه م فدخلوا بلدهم و أغلقوا دوننا بابه، فقعدنا منازلهم، فلمّا جنّ علينا الليل و صرنا إلى نصفه فتحوا باب بلدهم و نحن غارّون نائمون ما كان فينا منتبه إلّا أربعة نفر. زيد بن حارثة في جانب من جوانب العسكر يصلّي و يقرأ القرآن، و عبدالله بن رواحة في جانب آخر يصلّي و يقرأ القرآن، و قتادة بن النعمان في جانب آخر يصلّي و يقرأ القرآن، و قيس بن عاصم من جانب آخر يصلّي و يقرأ القرآن.
فخرجوا في الليلة الظلماء الدامسة و رشقونا بنبالهم، و كان ذلك بلدهم و هم بطرقه و مواصفه عالمون، و نحن منها جاهلون، فقُلنا فيما بيننا. ذهبنا و اتينا، هذا ليلٌ مُظلم لا يمكننا أن نتّقي النبال لأنّنا كنّا لا نبصرها.
فبينا نحن كذلك إذ رأينا ضوءاً خارجاً من في قيس بن عاصم المنقريّ كالنار المشتعلة، وضوءاً خارجاً من في قتادة بن النعمان كضوء الزَّهْرَةِ وَ المشْتَرِي، وضوءاً خارجاً من في عبدالله بن رواحة كشعاع القمر
في الليلة المظلمة، و نوراً ساطعاً من زيد بن حارثة أضوء من الشمس الطالعة، و إذا تلك الأنوار قد أضاءت معسكرنا حتى أنه أضوء من نصف النهار، و أعداؤنا في ظلمة شديدة، فأبصرنا و عموا عنّا، ففرّقنا زيد بن حارثة - الذي كانت له القيادة - عليهم حتى أحطنا بهم و نحن نبصرهم و هم لا يبصروننا، و نحن بُصراء و هم عميان، فوضعنا عليهم السيوف فصاروا بين قتيلٍ و جريح و أسير، دخلنا بلدهم فاشتملنا على الذراري و العيال و الأثاث و الأموال، و هذه عيالاتهم و ذراريهم، و هذه أموالهم، وَ مَا رَأيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ أعْجَبَ مِنْ تِلْكَ الأنْوَارِ مِنْ أفْوَاهِ هَؤلَاءِ القَوْمِ التي عَادَتْ ظُلْمَةً عَلَى أعْدَائِنَا حتى مَكَنَّا مِنْهُمْ! ... (الحديث).۱
و بالطبع فإنّ المراد من نور القرآن في الآية الكريمة: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، ليس هو النور الظاهريّ المرئيّ الذي يسطع من شخص القارئ للقرآن، بل إنّ المراد منه هو النور المعنويّ البسيط و المجرّد، الذي يُميت بطلوعه جميع الصفات الرذيلة، و يحرق جراثيم الفساد في زوايا القلب المظلمة و يقضي عليها، لكنّا أوردنا هذه الأمثلة العديدة ليُعلم أنّ إشعاع النور الظاهريّ هذا كان من آثار القرآن أيضاً و الحمدللّه.
و هذا هو الشيء و الأثر الثاني الذي يمنحه القرآن للمتّبعين سبيل رضا الحقّ، و السالكين طريق رضا المحبوب المطلق.
و الأثر الثالث و النتيجة المترتّبة على القرآن فهي الهداية إلى الصراط
المستقيم: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ و علينا أن نعلم هنا أي طريق هو المقصود بالصراط المستقيم؟ و ما هو الفرق بينه و بين سبل السلام التي يهدي القرآن الكريم إليه ا البشر، كما في هذه الآية الكريمة؟ و عموماً، فما معنى أن يجعل القرآن هدايته مرّة - و بشكل صريح - إلى سبل السلام، و مرّة اخرى إلى الصراط المستقيم؟ إذ إنّ الآية الشريفة جاءت بواوٍ عاطفة و تكرار الجملة الفعليّة، فدلّت على مغايرة المعطوف للمعطوف عليه: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ... وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
كلام العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في تفسير الصراط المستقيم
و قد بحثنا بحمد الله و منّه في سلسلة «علوم و معارف الإسلام» في قسم «معرفة المعاد» بحثاً كافياً و وافياً في معنى الصراط و استقامة و كيفيّة ظهوره و بروزه يوم القيامة، و صراط الجنّة و النار؛۱ لكن من المناسب كثيراً أن لا نتعدّى هنا بيانات استاذنا الأكرم و ملاذنا الأعظم آية الله العظمى، سند التحقيق و البرهان، و مثل التفريد و العرفان، الحاجّ السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أفاض الله علينا من نفحات نفسه القدسيّة، و من بركات تربته المنيفة، فقد ذكر في بيان الآية المباركة اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ شرحاً مفيداً و عاليا حوى مطالب راقية و معارف حقّة حقيقيّة، نورده هنا.
أمّا الصراط فهو و الطريق و السبيل قريب المعنى، و قد وصف تعالى الصراط بالاستقامة، ثمّ بيّن أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم، فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه، و هو بمعنى الغاية للعبادة، أي أنّ العبد يسأل ربّه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط.
بيان ذلك. أنّ الله سبحانه قرّر في كلامه لنوع الإنسان، بل لجميع من
سواه سبيلًا يسلكون به إليه سبحانه، فقال تعالى:
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ.۱ و قال تعالى: وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ،٢ و قال: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.٣
إلى غير ذلك من الآيات، و هي واضحة الدلالة على أنّ الجميع سالكو سبيل الله، و أنهم سائرون إلى الله سبحانه. ثمّ بيّن أنّ السبيل ليس سبيلًا واحداً ذا نعت واحد، بل هو منشعب إلى شعبتين، منقسمٌ إلى طريقتينِ، فقال:
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.٤ فهناك طريق مستقيم و طريق آخر وراءه.
و قال تعالى:
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ.٥
و قال تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.٦
فبيّن تعالى أنه قريب من عباده، و أنّ الطريق الأقرب إلى الله تعالى طريق عبادته و دعائه، ثمّ قال في وصف الذين لا يؤمنون: أُولئِكَ يُنادَوْنَ
مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ،۱ فبيّن أنّ غاية الذين لا يؤمنون في مسيرهم و سبيلهم بعيدة.
فتبيّن أنّ السبيل إلى الله سبيلان. سبيل قريب و هو سبيل المؤمنين، و سبيل بعيد و هو سبيل غيرهم، فهذا نحو اختلاف في السبيل؛ و هناك نحو آخر من الاختلاف، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ،٢ و لولا طروق من متطرّق لم يكن للباب معنى، فهناك طريق من السُّفْل إلى العلوّ.
و قال تعالى: وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى،٣ و الهوى هو السقوط إلى أسفل، فهناك طريق آخر آخذٌ في السفالة و الانحدار، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ،٤ فعرّف الضلال عن سواء السبيل بالشرك لمكان قوله: فقد ضلَّ ... و عند ذلك تقسّم الناس في طرقهم ثلاثة أقسام.
۱ - مَن طريقه إلى فوق، و هم الذين يؤمنون بآيات الله و لا يستكبرون عن عبادته.
٢ - و مَن طريقه إلى السفل، و هم المغضوب عليهم.
٣ - و مَن ضلّ الطريق و هو حيران فيه، و هم الضالّون؛ و ربّما أشعر بهذا التقسيم قوله تعالى: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ.٥
و الصراط المستقيم لا محالة ليس هو الطريقين الآخران من الطرق الثلاثة، أعني طريق المغضوب عليهم و طريق الضالّين، فهو من الطريق الأوّل الذي هو طريق المؤمنين غير المستكبرين، إلّا أنّ قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ،۱ يدلّ على أنّ نفس الطريق الأوّل أيضاً يقع فيه انقسام.
و بيانه أنّ كلّ ضلال فهو شرك، كالعكس على ما عرفت من قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.٢
و في هذا المعنى قوله تعالى:
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً.٣
و القرآن يَعُدّ الشرك ظلماً و بالعكس، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن الشيطان لمّا قُضِيَ الأمر. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.٤ كما يعدّ الظلم ضلالًا في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ،٥ و هو ظاهر من ترتيب الاهتداء و الأمن من الضلال أو العذاب الذي يستتبعه الضلال، على ارتفاع الظلم و لبس الإيمان به.
و بالجملة الضلال و الشرك و الظلم أمرها واحد و هي متلازمة صدقاً،
و هذا هو المراد من قولنا إنّ كلّ واحد منها معرّف بالآخر أو هو الآخر، فالمراد الاتّحاد في المصداق دون المفهوم.
لا شرك و لا ظلم و لا ضلال في الصراط المستقيم
إذا عرفتَ هذا علمتَ أنّ الصراط المستقيم الذي هو صراط غير الضالّين صراطٌ لا يقع فيه شرك و لا ظلم البتّة، كما لا يقع فيه ضلال البتّة، لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الله سبحانه، و لا في ظاهر الجوارح و الأركان من فعل معصيةٍ أو قصور في طاعة، و هذا هو حقّ التوحيد علماً و عملًا، إذ لا ثالث لهما فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟۱
و ينطبق على ذلك قوله تعالى: الذين آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ،٢ و فيه تثبيت للأمن في الطريق و وعد بالاهتداء التامّ بناء على ما ذكروه من كون اسم الفاعل (مهتدون) حقيقة في الاستقبال؛ فليفهم فهذا نعت من نعوت الصراط المستقيم.
ثمّ إنّه تعالى عرّف هؤلاء المنعم عليهم، الذين نسب الصراط المستقيم إليه م بقوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.٣
و قد وصف هذا الإيمان و الإطاعة قبل هذه الآية بقوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ، وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ، وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ، وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ، ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً۱
فوصفهم بالثبات التامّ قولًا و فعلًا و ظاهراً و باطناً على العبوديّة، لا يشذّ منهم شاذّ من هذه الجهة، و مع ذلك جعل هؤلاء المؤمنين تبعاً لُاولئك المنعم عليهم، و في صفٍّ دون صفّهم لمكان مَعَ و لمكان قوله وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً، و لم يقل: فَاولَئِكَ مِنَ الذين، بل قال: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ.
و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.٢
و هذا هو إلحاق المؤمنين بالشهداء و الصدّيقين في الآخرة و لمكان قوله: عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ و قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ.
فاولئك (و هم أصحاب الصراط المستقيم) أعلى قدراً و أرفع درجة و منزلة من هؤلاء، و هم المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم و أعمالهم من الضلال و الشرك و الظلم، فالتدبّر في هذه الآيات يوجب القطع بأن هؤلاء المؤمنين - و شأنُهم هذا الشأن - فيهم بقيّة بعد لو تمّت فيهم كانوا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، و ارتقوا من منزلة المصاحبة مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إلى درجة الدخول فيهم، و لعلّه نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ.
فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، يربو على نعمة الإيمان التامّ، و هذا أيضاً نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثمّ إنّه تعالى على أنه كرّر في كلامه ذكر الصراط و السبيل لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيمٍ واحد، وعدّ لنفسه سبلًا كثيرة، فقال عزّ من قائل: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.۱
و كذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحدٍ من خلقه إلّا ما في هذه الآية صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (الآية)،٢ و لكنّه نسب السبيل إلى غيره من خلقه في عدّة مواضع، كنسبته إلى النبيّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي،٣ و كنسبته إلى المنيب للّه: وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ،٤ و كنسبته إلى المؤمنين. وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً.٥
الصراط المستقيم واحد و مختصّ بالله؛ و السبل كثيرة و تنسب للغير
و يُعلم منها أنّ السبيل غير الصراط المستقيم فإنّه يختلف و يتعدّد و يتكثّر باختلاف المتعبّدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط
المستقيم، كما يشير إليه قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.۱
فعدّ السبل كثيرة و الصراط واحداً، و هذا الصراط المستقيم إمّا هو السبل الكثيرة و إمّا أنها تؤدّي إليه باتّصال بعضها إلى بعض و اتّحادها فيه. و أيضاً قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ،٢ فبيّن أنّ من الشرك (و هو ضلال) ما يجتمع مع الإيمان و هو سبيل، و منه يعلم أنّ السبيل يجامع الشرك، لكنَّ الصِّرَاطَ المسْتَقِيمِ لا يجامع الضلال، كما قال: وَ لَا الضَّالِّينَ.
و التدبّر في هذه الآيات يُعطي أنّ كلّ واحد من هذه السبل يجامع شيئاً من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، و أنّ كلًّا منها هو الصراط المستقيم لكنّه غير الآخر و يفارقه، لكنّ الصراط المستقيم يتّحد مع كلٍّ منها في حين أنه يتّحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة و غيرها، كقوله: وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ،٣ و قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً،٤ فسمّى العبادة صراطاً مستقيماً و سمّى الدين صراطاً مستقيماً و هما مشتركان بين السبل جميعاً.
تمثيل المعارف الإلهيّة في الأفهام المختلفة بالصراط المستقيم و السبل إلى الله
فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح
بالنسبة إلى البدن، فكما أنّ للبدن أطواراً في حياته هو عند كلّ طور غيره عند طورٍ آخر، كالصِّبا و الطفولة و المراهقة و الشباب و الكهولة و الهرم، لكنّ الروح هي الروح و هي متّحدة بها، و البدن يمكن أن تطرأ عليه أطوار تنافي ما تحبّه و تقتضيه الروح لو خلّيت و نفسها بخلاف الروح، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها،۱ و البدن مع ذلك هو الروح أعني الإنسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو الصراط المستقيم، إلّا أنّ السبيل كسبيل المؤمنين و سبيل المنيبين و سبيل المتّبعين للنبيّ أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربّما اتّصلت به آفة من خارج أو نقص، لكنّهما لا يعرضان الصراط المستقيم، كما عرفت أنّ الإيمان و هو سبيل ربّما يجامع الشرك و الضلال و لكن لا يجتمع مع شيء من ذلك الصراط المستقيم؛ فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه و شوبه و قربه و بُعده، و الجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
و قد بيّن الله سبحانه هذا المعنى، أعني اختلاف السبيل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثلٍ ضربه للحقّ و الباطل في كلامه، فقال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.٢
صفات الصراط المستقيم و خصوصيّاته
فبيّن أنّ القلوب و الإفهام في تلقّي المعارف و الكمال مختلفة، مع كون الجميع متّكئة و منتهية إلى رزق سماويّ واحد، و بالجملة فهذا أيضاً
نعت من نعوت الصراط المستقيم.
و إذا تأمّلتَ ما تقدّم من نعوت الصراط المستقيم تحصّل لك أنّ الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل إلى الله و الطريق الهادية إليه تعالى، و بمعنى أنّ السبيل إلى الله إنّما يكون سبيلًا إليه موصلًا إليه بمقدار ما يتضمّنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هادياً موصلًا إليه مطلقاً بدون قيد أو شرط، و لذلك سمّاه الله تعالى صراطاً مستقيماً، فإنّ الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعتَ بلعاً، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجون عنه و لا يدفعهم عن بطنه، و المستقيم هو الذي يريد أن يقوم على ساق فيتسلّط على نفسه و ما لنفسه، كالقائم الذي هو مسلّط على أمره، و يرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغيّر أمره و لا يختلف شأنه. ف الصراط المستقيم ما لا يتخلّف حكمه في هدايته و إيصاله سالكيه إلى غايته و مقصدهم، قال تعالى:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً۱ أي. لا يتخلّف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائماً.
و قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً؛٢ أي. هذه طريقته التي تختلف و لا تتخلّف.
و قال تعالى: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ؛۱ أي. هذه سنّتي و طريقتي دائماً من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.٢
و قد تبيّن ممّا ذكرنا في معنى الصراط المستقيم امور.
أ وّلها: أنّ الطرق إلى الله مختلفة كمالًا و نقصاً و غلاء و رخصاً، في جهة قربها من منبع الحقيقة و الصراط المستقيم كالإسلام و الإيمان و العبادة و الإخلاص و الإخبات، كما أنّ مقابلاتها من الكفر و الشرك و الجحود و الطغيان و المعصيته كذلك، قال سبحانه: وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.٣
و هذا نظير المعارف الإلهيّة التي تتلقّاها العقول من الله فإنّها مختلفة باختلاف الاستعدادات و متلوّنة بألوان القابليّات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها.٤
و ثانيها: أنه كما أنّ الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكّنهم الله تعالى فيه و تولّي أمرهم و ولّاهم أمر هداية عباده حيث قال: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً،٥ و قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ.٦ و الآية نازلة في أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام
بالأخبار المتواترة، و هو عليه السلام أوّل فاتح لهذا الباب من الامّة.
و ثالثها: أنّ الهداية إلى الصراط يتعيّن معناها بحسب تعيّن معناه، فالهداية هي الدلالة و إراءة الغاية بإراءة الطريق، و هي نحو إيصال إلى المطلوب، و إنّما تكون من الله سبحانه، و سنّته سنّة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب و يتحقّق به وصول العبد إلى غايته في سيره، و قد بيّنه الله سبحانه بقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ،۱ و قوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ.٢ و تعدية قوله تلين ب - إلى لتضمين معنى مثل الميل و الاطمئنان، فهو إيجاده تعالى وصفاً في القلب به يقبل ذكر الله و يميل و يطمئن إليه.
و كما أنّ سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه، فلكلّ سبيل هداية قبله تختصّ به، و إليه ذا الاختلاف يشير قوله تعالى: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ،٣
معنى المجاهدة في الله و في سبيل الله
إذ فرّق بين أن يجاهد العبد في سبيل الله، و بين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأوّل (جَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ) يريد سلامة السبيل و دفع العوائق عنه، بخلاف المجاهد في الثاني (جاهَدُوا فِينا) فإنّه إنّما يريد وجه الله، فيمدّه الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاصّ به، و كذا يمدّه الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصّه لنفسه جلّت عظمته.
و رابعها: أنّ الصراط المستقيم لمّا كان أمراً محفوظاً في سبل الله
تعالى على اختلاف مراتبها و درجاتها، صحّ أن يهدي اللهُ الإنسان إليه و هو مهديّ، فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثمّ يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أنّ قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ - و هو تعالى يحكيه عمّن هداه بالعبادة - من هذا القبيل.
و لا يُردّ عليه. أنّ سؤال الهداية ممّن هو مهتد بالفعل سؤالٌ لتحصيل الحاصل و هو محال، و كذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل و لا يتعلّق به سؤال، و الجواب ظاهر.
و كذا الإيراد عليه. بأنّ شريعتنا أكمل و أوسع من جميع الجهات من شرائع الامم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ و ذلك أنّ كون شريعة أكمل من شريعة أمرٌ، و كون المتمسّك بشريعة أكمل من المتمسّك بشريعةٍ أمر آخر وراءه، فإنّ المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمّد صلّى الله عليه و آله - مع كون شريعته أكمل و أوسع - ليس بأكمل من نوح و إبراهيم عليهما السلام مع كون شريعتهما أقدم و أسبق، و ليس ذلك إلّا أنّ حكم الشرائع و العمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكّن فيها و التخلّق بها.
فصاحب مقام التوحيد الخالص؛ و إن كان من أهل الشرائع السابقة، أكمل و أفضل ممّن لم يتمكّن من مقام التوحيد و لم تستقرّ حياة المعرفة في روحه و لم يتمكّن نور الهداية الإلهيّة من قلبه، و إن كان عاملًا بشريعة محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم التي هي أكمل الشرائع و أوسعها، فمن الجائز أن يستهدي صاحب المقام الداني من أهل الشريعة الكاملة و يسأل الله الهداية إلى مقام صاحب المقام العالي من أهل الشريعة التي هي دونها.
مزية الشريعة الإسلاميّة بعلوّ معارفها لا بكثرة أحكامها
و من أعجب ما ذُكر في هذا المقام ما ذكره بعض المحقّقين من أهل التفسير جواباً عن هذه الشبهة: أنّ دين الله واحد و هو الإسلام، و المعارف الأصليّة و هي التوحيد و النبوّة و المعاد و ما يتفرّع عليها من المعارف الكلّيّة واحد في الشرائع، و إنّما مزية هذه الشريعة علي ما سبقها من الشرائع هي: أنّ الأحكام الفرعيّة فيها أوسع و أشمل لجميع شؤون الحياة، فهي أكثر عناية بحفظ مصالح العباد. و ثانياً أنّ أساس هذه الشريعة موضوع على الاستدلال بجميع طرقها من الحكمة و الموعظة و الجدال الأحسن. و ثالثاً أنّ الدين و إن كان ديناً واحداً و المعارف الكلّيّة في الجميع على السواء غير أنهم سلكوا سبيل ربّهم قبل سلوكنا، و تقدّموا في ذلك علينا، فأمرنا الله النظر فيما كانوا عليه و الاعتبار بما صاروا إليه.
و قد ردّ العلّامة على هذا القول بهذا الشكل:
هذا الكلام مبنيّ على اصول في مسلك التفسير مخالفة للُاصول التي يجب أن يبتني مسلك التفسير عليها، فإنّه مبني على أنّ حقايق المعارف الأصليّة واحدة من حيث الواقع من غير اختلاف في المراتب و الدرجات و كذا ساير الكمالات الباطنيّة المعنويّة، فأفضل الأنبياء المقرّبين مع أحسن المؤمنين من حيث الوجود و كماله الخارجيّ التكوينيّ على حدٍّ سواء، و إنّما التفاضل بحسب المقامات المجعولة بالجعل التشريعيّ من غير أن يتّكي على تكوين، كما أنّ التفاضل بين الملك و الرعية إنّما هو بحسب المقام الجعليّ الوضعيّ من غير تفاوت من حيث الوجود الإنسانيّ.
و لهذا الأصل أصلٌ آخر يبنى عليه، و هو القول بأصالة المادّة و نفي الأصالة عمّا ورائها و التوقّف فيه إلّا في الله سبحانه بطريق الاستثناء بالدليل، و قد وقع في هذه الورطة مَن وقع لأحد أمرين: إمّا القول بالاكتفاء بالحسّ اعتماداً على العلوم المادّيّة، و إمّا إلغاء التدبّر في القرآن بالاكتفاء
بالتفسير بالفهم العامّيّ.
و خامسها: أنّ مزية أصحاب الصراط المستقيم على غيرهم، و كذا صراطهم على سبيل غيرهم، إنّما هو بالعلم لا بالعمل، فلهم من العلم بمقام ربّهم ما ليس لغيرهم، إذ قد تبيّن ممّا مرّ أنّ العمل التامّ موجود في بعض السبل التي دون صراطهم، فلا يبقى لمزيّتهم إلّا العلم، وأمّا ما هذا العلم؟ و كيف هو؟ فنبحث عنه إن شاء الله في قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها.۱
و يُشعر بهذا المعنى قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ،٢ و كذا قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ،٣ فالذي يصعد إليه تعالى هو الكلم الطيّب و هو الاعتقاد و العلم، و أمّا العمل الصالح فشأنه رفع الكلم الطيّب و الإمداد، دون الصعود إليه تعالى.٤
إلى هنا تنتهي إفادات استاذنا الأعظم قدّس الله نفسه في التفسير، و قد نُقلت بعينها لاحتوائها على مطالب عميقة دقيقة و إفاضات رشيقة، ليصل المطالعون الكرام؛ بصرف الوقت و التأمّل في مضامينها؛ إلى نكاتها الفلسفيّة و العرفانيّة، و أن يدعوا الله سبحانه جادّين ليرزقهم توفيق العمل بالقرآن، و توفيق الاهتداء و سلوك الصراط المستقيم، و أن يجعلهم في معيّة أوليائه المهيمنين على السبل، و أن يفيدهم و يمتّعهم بمزايا الصراط
المستقيم و فوائده التي تضيق عن الحصر؛ أي أن يرفعهم من الكثرة إلى الوحدة، و من الثنويّة إلى التوحيد، و من رؤية الوجه الخلقيّ للموجودات إلى زيارة و لقاء وجه الله، و خلاصة القول يوصلهم بالطريق و السبيل و النهج إلى الصراط المستقيم.
و لإيضاح هذا المختصر نقول. إنّ كل موجود من الموجودات، و كلّ ظاهرة في عالم الخلق تخضع لقانون و برنامج منظّم لا تتخطّى عنه أبدا، فهي تتحرّك على الدوام في الطريق و المسير الذي خطّه لها خالقها، كلٌّ تحت خصوصيّة من الخصوصيّات و ماهية من الماهيّات، بلا إفراط و تجاوز و سبق و تعدّي، و بلا تفريط و قصور و فطور، مع شروط معيّنة و معدّات خاصّة إلى المقصد و الغاية الطبعيّة و الطبيعيّة و كمال الحياة المادّيّة، كلٌّ ينشد هدفه و يتوجّه نحوه و يطمئنّ إليه و يسكن.
هذا من الجهة الظاهريّة، و هي تختلف في هذه الحالة عن بعضها في البداية و المنتهى، و في السير و المسير، و في الظروف و العقبات، و في الغاية و النتيجة، و في الرزق و التحمّل، و أخيراً فهي تختلف في كلّ شيء و في جميع الأعراض التسعة التي تطرأ على الجوهر.
لكنّ جميع هذه الموجودات، بلا اختلاف في النهاية، تتحرّك معاً في توحّد و اتّفاق، و في منتهى الانس و الالفة إلى مقصدٍ واحد و هو الله سبحانه، فهو الذي يمسك بزمام حركتها في الباطن، كلًّا على انفراد، فيسوقها إليه.
فالنملة تختلف عن النحلة و تتفاوت من جميع الجهات، لكنّهما يتّحدان من هذه الجهة و لا تنفصلان؛ و بالرغم من اختلاف الإنسان عن الحيوان، و اختلاف أصناف الحيوانات البرّيّة و البحريّة و الطائرة عن بعضها، لكنّها تتّفق و تتّحد جميعاً في سيرها إلى الله، ذلك السير الذي لا تتوقّف عنه لحظة و لا تبطئ في سرعتها و اندفاعها فيه.
فهي دوماً في حالة حركة إلى الله، في نومها و يقظتها، و في حال علمها و جهلها، و في حال سقمها و صحّتها، و في حال موتها و حياتها، فهي تتحرّك إلى الله و تبحث عنه بلا وعي منها أو شعور بهذه المسألة. هذه الحركات المختلفة التي لا تنتهي و لا تنحصر باختلافهم فقط في الجنس و النوع و الصنف، بل إنّ كلّ فرد من أفراد الموجودات، و كلّ ذرّة من الذّرات لها اختلاف فيما بينها، لا تتّحد مع بعضها و لن تتّحد أبداً، و ذلك ما يُعبّر عنه بالسبل، فتبارك الخالق الحقّ الذي خلق بقدرته و عظمته التي لا ينقضي منها العجب هذه الموجودات التي تضيق عن الحصر و الإحصاء.
إ نّ الاتّحاد و وحدة الحركة باتّجاه مقر عزّ الله، التي هي غاية في الاتّحاد بل هي الوحدة، يعبّر عنها بالصراط المستقيم، حيث إنّ كلّ موجود، و إن افترق كلّ بسبيله و ظاهر خلقته، لكنّه في باطنه و قرارة نفسه يجد الصراط المستقيم الذي كان السبيل عليه أشبه بالستارة المسدلة التي تخفيه و تغطّيه، فمن نظر الظاهر رأي سبيلًا مفترقاً منعزلًا مختصّاً بذلك، و من التفت إلى الباطن شاهد الكلّ في صراط مستقيم واحد، و يتّضح له أنّ: وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ۱ كالشمس الواضحة، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ،٢ تُبدَّل إلى تَفْقهون و تَعلمون و تبصرون و تشاهدون.
تفسير آية: مَا مِن دَآبَّةٍ إلَّا هُوَ ءَاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
و ستتضّح و تتبيّن هذه الآية و نظائرها من الآيات القرآنيّة الكثيرة الحسنة الجميلة، كالآية الشريفة:
ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.٣
لأنّ المراد من أخذ الناصية هو سوقها و تحريكها في طريق باسلوب
معيّن و مقدّر، و المراد من الصراط المستقيم هو السُّنّة الإلهيّة الواحدة التي تضع جميع الموجودات في هذا الصراط و تهيمن عليها. و قد كان هذا هو قول النبيّ هود على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام لقومه بعد أن قال: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ،۱ و من هنا يُعلم أنّ حقيقة التوكّل تعني الخروج و التنصّل من حول النفس و قوّتها و اتّخاذ الله وكيلًا و كفيلًا، و عبارة عن ورود الصراط المستقيم و مشاهدة أنّ زمام المخلوقات جميعاً بِيَدِ الحقّ تعالى، و لا يستثنى من هذا الحكم حتى ذرّة واحدة.
فالكلّ قد خضعت رقابهم في مقام العبوديّة، المؤمن و الكافر، و العادل و الفاسق، يتفّقون و يتّحدون بدون أدنى اختلاف و تغيير من جهة أمر التكوين و من جهة الوجه الربوبّي و من جهة الوجه الأمريّ، هذه الموجودات نفسها التي كانت تختلف و تتغاير من جهة أمر التشريع و الاعتبار، و من جهة الوجه الخلقيّ، و من جهة جنبة العالم هذه. و لا ينحصر اختلافها و مغايرتها في اصول و فروع الهيئة و التركيب، بل يتعدّى ذلك إلى أدقّ مراحل تشخّصها، فكلٌّ منهم يسلك سبيلًا يتحرك فيه غير سبيل الآخر.
و سرّ ذلك أنّ الله سبحانه واحد، و جميع الموجودات مخلوقاته هو فحسب، و بالرغم من أنّ الله قد أوجدها كثيرة الاختلاف - و إلّا لم يكن لها هذه الكثرة و التعدّد - و مع ذلك فهي متّصلة و مرتبطة به، و هي من جهة المخلوقيّة سواء، فكلّها ظهورات و تجلّيات الواحد الذي هو الله، و التكرار في التجلّي محال غير ممكن، فقد نشأت كلّها من مبدأ واحد، و تتحرّك في مسير واحد، و تنتهي إلى غاية واحدة.
و كم كان جميلًا بيان العارف الجليل الشيخ محمود الشبستريّ رحمه
الله عليه لهذا الأمر:
تو آن واحد، كه عين كثرت آمد | *** | تو آن جمعي كه عين وحدت آمد |
در اين مشهد يكي شد جمع و أفراد | *** | چو واحد ساري اندر عين أعداد۱ |
كسي اين سِر شناسد كو گذر كرد | *** | ز جزوي سوي كلّي يك سفر كرد٢ |
أي أنّ هذا الربط بين الحادث و القديم، و بين الخلائق و المخلوق، و وحدة الذات و الصفات و الأفعال هذه في كثرة الظهورات و المخلوقات، سيمكّن للإنسان الذي جاوز الطرق السبليّة و وصل إلى الصراط المستقيم و خطا وفق منهجه و ينصرف من رؤية الكثرات الجزئيّة إلى التطلّع لجمال المحبوب الواحد الأحد الفرد الصمد.
أي قد سافر من عالم الجزئيّات إلى عالم الكلّيّات و البسائط و الأنوار، فيرى النور المطلق للحقّ الواحد في جميع ما سواه، من الذرّة إلى الذروة، و من الملك إلى الملَكُوت، و من أدنى إلى أعلى مقام و درجة الهويّات.
و هذا هو مقام الإنسان الكامل، أي الصراط المستقيم؛ كما قال صادق آل محمّد عليه السلام:
إنَّ الصُّورَةَ الإنْسَانِيَةَ هي الطَّرِيقُ المسْتَقِيمُ إلى كُلِّ خَيْرٍ وَ الجِسْرُ
الممْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱
خطبة سيّدالشهداء عليه السلام صبح عاشوراء
لقد كان سيّدالشهداء عليه السلام حقيقة القرآن الناطق،٢ و حقيقة الصراط المستقيم حيث دعا براحلته - وفق رواية الطبريّ - فركبها و نادى بصوتٍ عالٍ دعاءً يسمع جلّ الناس:
أيهَا النَّاسُ! اسْمَعُوا قَوْلِى وَ لَا تَعْجَلُوا حتى أعِظُكُمْ بِمَا هُوَ حَقٌّ لَكُمْ عَلَى؛ وَ حتى أعْتَذِرُ إليكُمْ مِنْ مَقْدَمِي عَلَيْكُمْ!
فَإن قَبِلْتُمْ عُذْرِي، وَ صَدَّقْتُمْ قَوْلِي، وَ أعْطَيْتُمونِي النِّصْفَ٣ مِنْ
أنْفُسِكُمْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ أسْعَدَ؛ وَ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَى سَبِيلٌ. وَ إنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي العُذْرَ وَ لَمْ تُعْطُوا النِّصْفَ مِنْ أنْفُسِكُمْ؛ فَاجْمَعُوا أمْرَكُمْ وَ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إلى وَ لَا تُنْظِرُونِ. إنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الذي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.
فلمّا سمعن أخواته كلامه هذا صحن و بكين، و بكت بناته فارتفعت أصواتهنّ، فأرسل إليهنّ أخاه العبّاس بن عليّ عليهما السلام و عليّاً ابنه و قال لهما. سكّتاهنّ فلعمري ليكثر بكاؤهنّ.
فلمّا سكتنَ حَمِدَ الله و أثنى عليه، و ذكر الله بما هو أهله، و صلّى على النبيّ محمّد، و على ملائكة الله و أنبيائه، فلم يُسمع متكلّم قطّ قبله و لا بعده أبلغَ في منطقٍ منه.۱
ثمّ قال: الْحَمْدُ لِلّهِ الذي خَلَقَ الدُّنْيَا فَجَعَلَهَا دَارَ فَنَاءٍ وَ زَوَالٍ، مُتَصَرِّفَةً بِأهْلِهَا حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَالمغْرُورُ مَنْ غَرَّتْهُ؛ وَ الشَّقِيُّ مَنْ فَتَنَتْهُ.
فَلَا تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ الدُّنْيَا فَإنَّهَا تَقْطَعُ رَجَاءَ مَنْ رَكَنَ إليه ا؛ وَ تُخَيِّبُ طَمَعَ مَن طَمَعَ فِيهَا؛ وَ أرَاكُمْ قَدْ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى أمْرٍ قَدْ أسْخَطْتُمُ اللهَ فِيهِ عَلَيْكُمْ؛ وَ أعْرَضَ بِوَجْهِهِ الكَرِيمِ عَنْكُمْ، وَ أحَلَّ بِكُمْ نِقْمَتَهُ وَ جَنَّبَكُمْ رَحْمَتَهُ.
فَنِعْمَ الرَّبُّ رَبُّنَا، وَ بِئْسَ العَبِيدُ أنْتُمْ! أقْرَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ وَ آمَنْتُمْ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؛ ثُمَّ إنَّكُمْ زَحَفْتُمْ إلى ذُرِّيَّتِهِ وَ عِتْرَتِهِ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ.
لَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْكُمُ الشَّيْطَانُ فَأنْسَاكُمْ ذِكْرَ اللهِ العَظِيمِ! فَتَبَّاً لَكُمْ وَ لِمَا تُرِيدُونَ. إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
هَؤْلَاءِ قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ فَبُعْدَاً لِلقَوْمِ الظَّالمينَ.۱
مواعظ سيّدالشهداء عليه السلام و إنكار أهل الكوفة
ثمّ قال: أمَّا بَعْدُ؛ فَانْسِبُونِي وَانْظُرُوا مَنْ أنَا؟ ثُمَّ ارْجِعُوا إلى أنْفُسِكُمْ وَ عَاتِبُوهَا فَانْظُرُوا هَلْ يَصْلَحُ لَكُمْ قَتْلِي وَ انْتِهَاكِ حُرْمَتِي؟! أوَ لَسْتُ ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ؟ وَ ابْنَ وَصِيِّهِ، وَ ابْنَ عَمِّهِ، وَ أوَّلَ المؤْمِنِينَ المصَدِّقِ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ؟! أوَ لَيْسَ حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِي (عَمِّ أبي)؟
أوَ لَيْسَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ فِيالجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ عَمِّي؟ أوَ لَمْ يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِي وَ لأخِي. هَذَانِ سَيِّدَا شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ؟!
فإن صدّقتموني بما أقول و هو الحقُّ، و الله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، و إن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللهِ الأنْصَارِيّ؛ وَ أبَا سَعِيدٍ الخُدَرِيّ، وَ سَهْلَ بنَ سَعْدِ السَّاعِدِيّ، وَ زَيْدَ بْنَ أرْقَمْ، وَ أنَسَ بْنَ مَالِكَ يخبروكم أنَّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي و لأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!
فقال له شمر بن ذي الجوشن: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.٢
فقال حبيب بن مظاهر: و الله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً، و أنا أشهد أنّك صادقٌ و ما تدري ما يقول الحسين عليه السلام، و قد طبع الله على قلبك.
ثمّ قال لهم الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فإن كنتم في شكّ من هذا أفتشكّون أنّي ابْن بنت نبيّكم؟ فو الله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم و لا في غيركم، و يحكم أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته؟ أو مال استهلكته؟ أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلّمونه؛ فنادى.
يَا شَبَثَ بْنُ رِبْعِيِّ! وَ يَا حَجَّارُ بْنُ أبْجُرِ! وَ يَا قَيْسَ بْنَ الأشْعَثِ! وَ يَا يَزِيدَ بْنَ الحَارِثِ! الم تكتبوا إلى أن قَدْ أينعت الثِّمار و اخضرّ الجناب و إنّما تقدم على جند لك مجنّد فأقبل؟
فقالوا: لم نفعل.
قال: سبحان الله! بلى و الله لقد فعلتم.
ثمّ قال: أيّها الناس! إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض.
فقال له قَيْسُ بْنُ الأشْعَث: أوَ لا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لم يُروك إلّا ما تحبّ، و لن يصل إلى ك منهم مكروه.
فَقَالَ الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا وَ اللهِ! لَا اعْطِيكُمْ بِيَدِي إعْطَاءَ
الذَّلِيلِ وَ لَا اقِرُّ قَرَارَ العَبِيدِ!
ثُمَّ نَادَى. يَا عِبَادَ اللهِ! إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أنْ تَرْجُمُونِ! إنِّي أعُوذُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَّبِرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسَابِ!
ثُمَّ أنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَ امَرَ عَقَبَةَ بْنَ سَمْعَانَ فَعَقَلَهَا وَ أقْبَلُوا يَزْحَفُونَ نَحْوَهُ.۱
قال في «نفس المهموم»، ص ۱٤٩، بعد ذكر الخطبة الثانية للإمام عليه السلام تَبَّاً لَكُمْ أيتُهَا الجَمَاعَةُ وَ تَرَحَاً حِينَ اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَ الِهِينَ فَأصْرَخْنَاكُمْ مُوجِفِينَ: و يعجبني في هذا المقام نقل كلام ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عند ذكر الأبيّين من احتمال الضيّم و الذلّ، قال: سيّدُ أهل الإباء الذي علّم الناسَ الحميّة و الموت تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنيّة أبو عبدالله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، عُرض عليه و على أصحابه الأمان فأنف من الذلّ، ثمّ ذكر قوله: ألَا وَ إنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَنِي بَيْنَ اثْنَتَيْنِ. بَيْنَ السِّلَّةِ وَ الذِّلَّةِ؛ وَ هيهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ - إلى آخر الخطبة. ثمّ يقول ابن أبي الحديد. سمعتُ النقيب أبا زيد يحيي بن زيد العلويّ البصريّ يقول: كأنّ أبيات أبي تمّام في محمّد بن حميد الطائيّ ما قيلت إلّا في الحسين عليه السلام:
وَ قَدْ كَانَ فَوْتُ الموْتِ سَهْلًا فَرَدَّهُ | *** | إليه الحِفَاظُ المرُّ وَ الخُلُقُ الوَعْرُ |
وَ نَفْسٌ تَعَافُ الضَّيْمَ حتى كَأنهُ | *** | هُوَ الكُفْرَ يَوْمَ الرَّوْعِ أوْ دُونَهُ الكُفْرُ |
فَأثْبَتَ في مُسْتَنْقَعِ الموْتِ رِجْلَهُ | *** | وَ قَالَ لَهَا مِنْ تَحْتِ أخْمَصِكِ الحَشْرُ |
تترَدَّى ثِيَابَ الموْتِ حُمْرَاً فَمَا أتَى | *** | لَهَا اللَّيْلُ إلَّا وَ هي مِنْ سُنْدُسٍ خُضْرُ |
البَحْثُ الثالث: أحْكَامُ القُرْآنِ مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِّ وَ خَالِدَةٌ أبَدَ الدَّهْرِ و تفسير آية وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عليم
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِى العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم.
وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ.۱
قال سماحة آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه في التفسير: القرآن اسم لكتاب الله باعتبار قراءته، و التَّلْقِيَةُ قريبة المعنى من التلقين، و تنكير حكيم عليم للتعظيم. و التصريح بكون هذا القرآن من عنده تعالى ليكون ذلك حجّة على الرسالة، و تأييداً لما تقدّم من المعارف، و لصحّة ما سيذكره من قصص الأنبياء عليهم السلام.
و تخصيص الاسمينِ الكريمينِ حكيم و عليم للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة، فلا ينقضه ناقض و لا يوهنه موهن، و منبع العلم فلا يكذب في خبره و لا يخطئ في قضائه.٢
في معنى القرآن و الفرقان
و قد اشتقّ لفظ القرآن من ما دّة قَرَأ يَقْرَا قَرَاءَةً وَ قُرْآنَا، أي جمع بعض
الشيء إلى بعضه الآخر؛ و لأنّ الإنسان يجمع وقت القراءة الحروف و يضمّ بعضها إلى البعض الآخر فتصير كلمة، ثمّ ينشئ العبارة و الكلام، فقد قيل للكلام و التلاوة قراءة.
و القرآن مصدر من هذا الباب، ثمّ جُعل عَلَمًا للكتاب السماويّ للمسملين، المنزل على النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و دُعِي بالقرآن لأنّ العقائد الحقّة الواقعيّة و الأحكام و المواعظ و القصص قد جُمِعَت فيه.
و قال بعض العلماء رضوان الله عليهم. إنّ علّة تسمية القرآن قرآناً أنه كان من بين جميع الكتب السماويّة ثمرتها و عصارتها جميعاً، بل قد جُمع فيه عُصارة و ثمرة العلوم الحقّة بأكلمها، و يمكن أن نستبين فيه تفصيل كلّ شيء، كما قال تعالى:
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.۱
و كذلك عدّ القرآن تبياناً و مظهراً لكلّ شيء:
وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.٢
و الشاهد على قولنا هو الآيات القرآنيّة الدالّة على هذا المعنى، مثل آية:
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ.۱
و آية: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.٢
و من أسماء القرآن أيضاً: الفرقان، من مادّة فَرَقَ يَفْرُقُ فَرْقَاً وَ فُرْقَانَاً، من التفريق بين الأجزاء، و بعد أن عرفنا أنّ معنى الآية وَ قُرْءَانًا فَرَقْنَاهُ هو. أنّا فصّلنا القرآن جزءاً جزءاً و أتقنّاه و أحكمناه. و على هذا فإنّ مصدرها الفُرْقَان بمعني الفارق و الفارق بين الحقّ و الباطل؛ و بما أنّ هذا الكتاب السماوى المبين كتاب فصل و ليس بالهزل، و كتاب حقّ لا باطل، فهو
الفاصل و المميّز و المفرّق بين الحقّ و الباطل:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ.۱
و قد ورت لفظة الفرقان في سبعة مواضع من القرآن الكريم، و كانت تعني في تلك المواضع جميعاً القدرة على تشخيص الحقّ من الباطل، و النور و البصيرة الحاصلة للمؤمنين إثر التقوى.
و القرآن الشامل لجميع المعارف سواء ما كان قد اوحي للأنبياء السابقين و ما بُيّن و اوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله فهو أعمّ و أشمل و هو فرقان أيضاً.
و يستفاد من الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين أنّ القرآن يطلق على مجموع الآيات الإلهيّة، المحكم منها و المتشابه، في حين يطلق الفرقان على الآيات المحكمة خاصّة.
يروي في تفسير «نور الثقلين» عن «اصول الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن سنان أو عن غيره، عمّن ذكره قال:
سَألْتُ أبَا عَبْدِاللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقُرْآنِ وَ الفُرْقَانِ أهُمَا شَيْئَانِ أوْ شَيْءٌ وَاحِدٌ؟ فَقال عليه السلام: القُرْآنُ جُمْلَةُ الكِتَابِ وَ الفُرْقَانُ المحْكَمُ
الوَاجِبُ العَمَلُ بِهِ.۱
و ورد كذلك في «الصحيفة السجّاديّة» في دعاء ختم القرآن قوله:
اللَهُمَّ إنَّكَ أعَنْتَنِي عَلى خَتْمِ كِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَهُ نُورَاً؛ وَ جَعَلْتَهُ مُهَيمِنَاً عَلَى كُلِّ كِتَابٍ أنْزَلْتَهُ؛ وَ فَضَّلْتَهُ عَلَى كُلِّ حَدِيثٍ قَصَصْتَهُ! وَ فُرْقَانَاً فَرَقْتَ بِهِ بَيْنَ حَلَالِكَ وَ حَرَامِكَ! وَ قُرْآنَاً أعْرَبْتَ بِهِ عَنْ شَرَائِعِ أحْكَامِكَ.٢
القرآن مجد و عظمة و متانة و وضوح
و تصف كثير من الآيات القرآنيّة القرآن بأنه كتاب مبين له نور و جلاله و مجد و عظمة و حكمة، كما في الآيات التالية:
ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.٣
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.٤
يس ، وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ.٥
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ.٦
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ.۷
وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.۸
وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ.٩
و مضافاً إليه ذه الآيات و نظائرها الدالّة على أصالة و ثبات و حقّانيّة القرآن و امتناع ورود الباطل و التردّد فيه، فهناك آيات اخرى في هذا الكتاب العزيز إمّا أن تسند تنزيل القرآن إلى الله مباشرة، كآية: الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ.۱ و آية: حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.٢
أو بواسطة الوحي منه، كآية: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ.٣
أو تعدّه بواسطة وحي الروح، و الروح الأمين، و روح القدس، و جبرائيل، كآية: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً٤ مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ.٥
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.٦
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا.۱
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ.٢
أو أنه كان يوحي بواسطة أعوان جبرائيل و مساعديه، و كانت آيات القرآن تنزل في ألواح أو شبه ألواح بأيدي ملائكة الوحي و سفراء الحقّ تعالى، و هم ملائكة كرام بررة.
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ.٣
و يبدو من هذه الآيات أن الآيات القرآنيّة كانت تنزل أحياناً بشكل وحي مباشر من الله تعالى إلى الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم
و أحياناً بواسطة روح أعظم من الملائكة، و تنزل تارة بواسطة جبرائيل و هو أعظم ملائكة السماء، و تارة اخرى بواسطة ملائكة الوحي الكثيرين العاملين تحت إمرة جبرائيل.
و باعتبار تحديد الآية القرآنيّة المباركة كلام الله سبحانه مع البشر بالوحي، أو من وراء حجاب، أو بإرسال رسول، و حصرها ذلك بهذه الأقسام الثلاثة، فيمكن بالتأكيد استنتاج أنّ جميع هذه الأقسام لنزول الآيات من قبل الله، و الروح و جبرائيل، و مساعديه من الملائكة، لم تكن كلّها من قبيل الوحي:
وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ، وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا۱ ... (الآية).
فهذه الآية تعلن بصراحة تامّة أنّ وحي الله غير نزول جبرائيل و إرسال رسالة، لأنّ: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا الشامل لنزول جبرائيل، و. سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ و سائر مساعديه جُعل قسيماً مع. إِلَّا وَحْياً.
لذا فإنّ التكلم مع البشر سوف لن يتعدّى هذه الطرق الثلاثة، و من المسلّم أنه بالنسبة إلى رسول الله لم يكن مِنْ وَراءِ حِجابٍ، فينبغي أن يكون إمّا وحياً أو بواسطة جبرائيل و ملائكته، و على هذا فإنّ من المؤكّد أن يكون كلام الله وحياً غير كلامه بإرسال جبرائيل و الملائكة.
كيفيّة نزول وحي القرآن بواسطة الله و الروح و الملائكة
أمّا الأمر المهمّ الذي يلقي الضوء على المسألة، و يمكن الاستعانة به لحلّ هذه المسألة و كثير غيرها من المسائل، نظير ما ورد من قبض أرواح الناس من قبل الله في موضع، و من قبل ملك الموت في موضع آخر، و من
قبل ملائكة الموت و قبض الأرواح في موضع ثالث، و ما ورد من إرسال المطر من السماء و هبوب الرياح من قبل الله، و بواسطة الملائكة، و بالأسباب و العلل الطبيعيّة، و نظير شفاء الأمراض من قبل الله، و بواسطة الملائكة، و بالأسباب و العلل الطبيعيّة و العلوم الطبّيّة و كثير غيرها۱ هو أن نقول:
تبعاً للأدلّة الفلسفيّة في الحكمة المتعالية، و وفقاً للشواهد الذوقيّة و العرفانيّة في المشاهدات السّريّة و الملكوتيّة، و طبقاً لصراحة الآيات القرآنيّة الكريمة و تواتر آثار المعصومين و أخبارهم، فإنّ الله عزّ و جلّ واحد في الذات، و في الاسم و الصفة، أي لا ذات غير ذاته القدسيّة في عالم الوجود و دائرته الواسعة، و لا اسم و صفة غير أسمائه و صفاته، و لا فعل إلّا فعله هو.
و ما يبدو بالنظر البدويّ من استقلال في الذوات، إنّما هو ذاته هو، و ما يُشاهد من الأسماء و الصفات، كالعالم و العِلْم، و القادر و القدرة، و الحيّ و الحياة، إنّما هي أسماؤه و صفاته، و ما يُشاهد من الأفعال إنّما هي جميعاً و بلا استثناء فعله هو.
كلّ ما هنالك، أنّ نفس ذاته، أو اسمه و صفته أو فعله، حين تريد الظهور في عالم الكثرة فإنّ عليها العبور من شبكات و مرايا قد نشأت من نفس تجلّيه و ظهوره فاتّخذت عنوان المرآة و اكتسبت صفة المرآتيّة؛
و ستكتسب في كلّ عبور كثرة من تعيّنها، لتوجد و تكوّن في عالم الكثرة بكلّ سعته و امتداده هذه الظهورات الكثيرة، و هذه الكثرات التي لا تعدّ و لا تحصى.
لكلّ من الملائكة المقرّبين اسم و صفة من الأسماء و الصفات الكلّيّة الإلهيّة ذات تعيّن اسميّ يمتاز به عن غيره، و يمثّل كلٌّ منها نوعاً لا نظير له، لكنّ كثرة هذا العالم - أفراد متعدّدة - لا تندرج تحت تلك الأنواع، و صحيح أنّ لكلّ من النوع و الجنس أفراد تندرج تحته، و تتركّب من جنس و فصل، لكنّ هذا من خصوصيّات عالم الطبع و المادّة، أمّا الأنواع المجرّدة، فلا تنطبق عليها هذه المقولة.
فاولئك الملائكة المقرّبون هم أوّل محلّ ظهوره و تجلّيه، ثمّ الملائكة الذين يلونهم رتبة، و هكذا انخفاضاً حتى يصل إليه ذا العالم، حيث إنّ نور أحديّة الحقّ تعالى بواسطة التجلّي و الظهور، و من ثمّ العبور من هذه المرايا و الشبكات قدر أرانا و أشهدنا هذه الكثرات في عالم الوجود.
كيفيّة الوحي بواسطة الله و جبرائيل و السَّفَرة الكرام البررة
إ نّ علم الحقّ تعالى يتجلّى في جبرائيل الملَك المقرّب للّه و الأعظم من جميع الملائكة، و يتجلّى و يظهر منه عن طريق الوحي إلى الملائكة الأصغر و الأوطأ و الأكثر عدداً، ثمّ يتجلّى و يظهر منهم إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و ليس لجبرائيل و لهؤلاء الملائكة وجود بأنفسهم، و ليس لهم استقلال و عزّة، فما هو موجود وجود الله و استقلال و عزّ قدسه جلّ و تعالى.
و كان الله يوحي دوماً و باستمرار إلى الرسول الأكرم بواسطة جبرائيل بواسطة سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ، و كان ذلك كلّه وحياً إلهيّاً، إذ لا شيء في عالم الوجود إلّا الله.
و كان يحصل أن يغرق النبيّ في أنوار الذات الأحديّة للحدّ الذي
لم يكن جبرائيل ليراه مع سعة وجوده الملكوتيّ فضلًا عن السفرة الكرام البررة، و كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يدهش في هذه المواقع و يسقط على الأرض مغمى عليه بلا حسّ و لا حركة و كأنه شخص متوفّى، و كان وجهه يصفرّ و يشحب، و بدنه يثقل، فإن كان على ناقته أو بغلته ثقلتْ و كادت تمسّ بجرانها الأرض.
و في سورة المائدة و هي آخر سورة نزلت على رسول الله في سفر حجّة الوداع عند عودته إلى المدينة، فحين نزول الآيات كانت حال النبيّ تتغيّر و تنقلب، و بدنه المبارك يثقل حتى كادت ناقته تبرك؛ في هذه الموارد كان تجلّي الله و وحيه بلا واسطة، أي بعدم إدراك و مشاهدة الواسطة، و ما جاء في الأخبار من أنّ حال النبيّ كان تتغيّر و تنقلب عند نزول الوحي كان من هذا القبيل.
وكان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يشاهد جبرائيل أحياناً بصورته الحقيقيّة مالئاً بوجوده الملكوتيّ شرق العالم و غربه، لا تخلو ذرّة في العالم منه، و كان النبيّ يشاهده في هذه الحال فلا تتغيّر حاله و لا تنقلب، إذ إنّ الوحي الإلهيّ المشهود من قبل الرسول كان يحصل هنا بواسطة جبرائيل. و مع أنّ الكرام البررة كانوا يشتركون في ذلك إلّا أنهم لم يكونوا مشاهدين من قبل النبيّ، أمّا الله سبحانه فكان مشاهداً له من خلال جبرائيل و مرآة وجوده.
و كان القسم الثالث هو رؤية رسول الله السفرة الكرام البررة عند الوحي، أي أن يشاهد سفراء الوحي و ملائكته العديدين، و في هذه الحالة فقد كان الله تعالى و جبرائيل و هؤلاء أيضاً، أي أنّ الله تعالى كان مشهوداً لرسول الله من خلال جبرائيل و كذلك من خلال السَّفَرة، و كان الثلاثة جميعاً مشهودين في هذا القسم بشكل تجلٍّ و ظهور في شيء آخر، أمّا في
القسم الثاني فقد كان الله سبحانه و جبرائيل بشكل تجلٍّ و ظهور للّه سبحانه في جبرائيل، و أمّا في القسم الأوّل فقد كان الله مشهوداً لوحده، و لم يكن جبرائيل و الكرام البررة مشهودين مع وجودهم بشكل إلى و مرآتيّ.
و في الرواية أنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! أكانت الغشية التي تأخذ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلم عند هبوط جبرائيل؟ فقال: لا، إنّ جبرائيل عليه السلام إذا أتى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يدخل عليه حتى يستأذنه، فإذا دخل عليه قعد بين يديه قعدة العبد، و إنّما ذلك عند مخاطبة الله عزّ و جلّ إيّاه بغير ترجمان و واسطة.۱
هذه الأقسام جميعاً هي الرؤية و المشاهدة القلبيّة للنبيّ، حيث كان يتّصل بسرّه و بباطن ذاته بعالم الملكوت، و لم يكن للحاضرين عند خبرٌ عمّا يجول في باطنه، فليس ثمّة من شيء ظاهر و مشاهد حضوريّاً.
و ما ورد في الروايات من أنّ جبرائيل كان يستأذن رسول الله عند نزوله و يسلّم عليه فدالٌّ على جلالة مقام رسول الله و علوّ مرتبته، و قد مرّ في بعض أبحاث «معرفة المعاد» مسألة أفضليّة الإنسان من الملائكة،٢ و يمكن استنباط أفضليّة آدم بتعليم الله إيّاه الأسماء كلّها، ثمّ أمره سبحانه للملائكة بالسجود لآدم.
أمّا ما كان مشهوداً لرسول الله عند نزول الوحي، فكلّ الأسرار و العلوم الباطنيّة، و التجلّيّات الربّانيّة، و الكشف السبحاتيّ، التي أودعتها يد الفطرة و القدرة للحقّ جلّ و عزّ في وجوده الشريف. و هذه التجلّيات و المعجزات و الكرامات و العلوم الغيبيّة التي لا تعدّ و لا تحصى قد انطوت كلّها فيه بإذن الخالق الودود، و كان الله سبحانه يظهر و يتجلّى له بواسطة الروح أو جبرائيل أو السفرة الكرام البررة.
و كان سير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في منازل و مراتب القرب من الحقّ تعالى، و في المعراج الربّانيّ، و مشاهدة آثار الجمال و الجلال السبحانيّ، و الإحاطة بالامور الباطنيّة، و كشف الأسرار و الألغاز و العلوم البكر التي لم تنلها يدُ بشر؛ كلّه سيراً في منازل النفس و مراحلها، و عبوراً من الحجب النورانيّة، و خلقة خلعها ربّ العزّة على رسوله إذ رأى قامته المديدة تناسب التشرّف بهذا اللباس و الخلقة و تليق به.
إ نّ وصول النبيّ لدرجة الفناء المطلق و العبوديّة المحضة، التي هي نفسها مقام الولاية الكلّيّة، يستتبع السيطرة و الإحاطة على جميع ما سواه، حتى الملائكة المقرّبين، و حملة العرش، و جميع روحانيّي عالم الملكوت، و الجنّ و الإنس في عالم الملك، و الهيمنة و التسلّط على جميع أصناف و أنواع الحيوانات و النباتات و الجمادات، فلو قيل - و الحال هذه - إنّ جبرائيل و إسرافيل و عزرائيل كانوا خاضعين للأمر و الحكم الإلهيّ و المكلوتيّ للنبيّ لما دعا ذلك إلى التعجّب و الدهشة، إذ إنّ النبيّ لا يمتلك هنا الإحاطة العلميّة فقط، بل الإحاطة الذاتيّة و الوجوديّة، فضلًا عن مقام الآمريّة و المأموريّة، فحقيقة جبرائيل و سائر الملائكة هي في الحقيقة تجلٍّ وجوديّ له صلّى الله عليه و آله و سلّم، لانتفاء الثنويّة و الفاصلة بينه و بين الله سبحانه؛ و لم يكن في الأمر اتّحاداً و حلولًا بين شيئين، بل كان هناك
مقام العبوديّة المحضة و الفناء.
و في عالم العبوديّة المطلقة و الفناء المطلق، لا وجود لرسول الله آنذاك، لا وجود لمحمّد، لا اسم له و لا رسم، و لا يمكن أن يكون له ذلك، فهناك الله جلّ و علا، هناك الله لا أحد معه، و معلوم أنّ الله حيث وُجد فلا شيء يمكن أن يوجد غير ذاته القدسيّة، بل إنّ جميع الموجودات كلّها بلا استثناء موجودة بنوره، و بظهوره و تجلّيه، كلٌّ وجد في عالمه الخاصّ بما يتناسب مع ماهيّته و سعته الوجوديّة.
أبيات ابن الفارض في السفر إلى حقّ إلى قين
و كم كان رائعاً و جميلًا وصف العارف الجليل المصريّ المعروف. ابن الفارض، لهذه المراحل و المنازل:
وَ أطْلُبُهَا مِنِّي، وَ عِنْدِيَ لَمْ تَزَلْ | *** | عَجِبْتُ لَهَا بِي كَيْفَ عَنِّي اسْتَجَنَّتِ |
وَ مَا زِلْتُ في نَفْسِي بِهَا مُتَرَدِّدَاً | *** | لِنَشْوَةِ حِسِّي، وَ المحَاسِنُ خَمْرَتِي |
اسَافِرُ عَنْ عِلْمِ اليقين لِعَيْنِهِ | *** | إلى حَقِّهِ حَيْثُ الحَقِيقَةُ رِحْلَتِي۱ |
۱ - و كنتُ أطلب محبوبي و معشوقي - أي ذاته القدسيّة - منّي مع أنها لم تزل معي، فعجبتُ كيف استترت عنّي بي (لا بشيءٍ غيري منفصل عنّي، بل بإنيّتي و تعيّني).
٢ - و ما زلتُ في نفسي و باطني متردّداً في طلبها، و هذا التردّد كان بسكر حواسّي، فخمر المحاسن و الجمالات أسكرني و منعني من إزاحة
ستر الحسّ لأهتدي إلى محبوبي الأزليّ.
٣ - و سافرتُ أخيراً من علم اليقين، أي من علمي العقليّ و الذهنيّ إلى قينى، إلى عين اليقين فشاهدته عياناً، ثمّ سافرت من هناك إلى حقّ اليقين فاهتديت إلى الحقيقة الموجودة.۱
أشعار ابن الفارض في كشف التوحيد الذاتيّ
ثمّ يقول بعد بيان مفصّل لكيفيّة المنازل و آثارها الوجوديّة و لوازمها الضروريّة:
وَ مَوْضِعُهَا في عَالم الملَكُوتِ مَا | *** | خُصِصْتُ مِنَ الإسْرَا بِهِ دُونَ اسْرَتِي (۱) |
مَدَارِسُ تَنْزِيلٍ، مَحَارِسُ غِبْطَةٍ | *** | مَغَارِسُ تَأوِيلٍ، فَوَارِسُ مِنْعَةِ (٢) |
وَ مَوْقِعُهَا مِنْ عَالم الجَبَرُوتِ مِنْ | *** | مَشَارِقِ فَتْحٍ، لِلْبَصَائِرِ مُبْهِتِ (٣) |
أرَائِكُ تَوْحِيدٍ، مَدَارِكُ زُلْفَةٍ | *** | مَسَالِكُ تَمْجِيدٍ، مَلَائِكُ نُصْرَةِ (٤) |
وَ مَنْبَعُهَا بِالفَيْضِ، في كُلِّ عَالم | *** | لِفَاقَةِ نَفْسٍ، بِالإفَاقَةِ أثْرَتِ (٥) |
فَوَائِدُ إلْهَامٍ، رَوَائِدُ نُعْمَةٍ | *** | عَوَائِدُ إنْعَامٍ، مَوَائِدُ نِعْمَةِ (٦) |
وَ يَجْرِي بِمَا تُعْطِي الطَرِيقَةُ سَائِرِي | *** | عَلَى نَهْجِ مَا مِنِّي الحَقِيقَةُ أعْطَتِ (۷) |
وَ لَمَّا شَعَبْتُ الصَّدْعَ وَ التَأمَتْ فُطُو | *** | رُ شَمْلٍ بِفَرْقِ الوَصْفِ غَيْرِ مُشْتِّتِ (۸) |
وَ لَمْ يَبْقَ مَا بَيْنِي وَ بَيْنَ تَوْثُّقِي | *** | بِإيْنَاسِ وُدِّي، مَا يُؤدِّي لِوَحْشَهِ (٩) |
تَحَقَّقْتُ أنَّا في الحَقِيقَةِ وَاحِدٌ | *** | وَ أثْبَتَ صَحْوُ الجَمْعِ مَحْوَ التَشَتُّتِ (۱۰) |
وَ كُلِّي لِسَانٌ، نَاظِرٌ، مَسْمَعٌ، يَدٌ | *** | لِنُطْقٍ، وَ إدْرَاكٍ، وَ سَمْعٍ، وَ بَطْشَةِ (۱۱) |
۱ - إنّ موضع و محلّ ورود الأسماء الإلهيّة في عالم الملكوت؛ أي عالم الصفات؛ هو المقام الذي خصصتُ به في سيري من عالم الغيب و الشهادة إلى عالم الصفات و الملكوت، و لم يكن ذلك لرفعتي و قواي الروحيّة و حواسّي الظاهريّة و الباطنيّة.
٢ - و قد ساقني سيري إلى محالّ درس القرآن و تلاوته من قبل فَالتَّالِياتِ ذِكْراً،۱ و الأماكن التي يُحفظ فيها صاحبها عن الغبطة أي الحسد، فلا يغبط أحداً لعلوّ مكانه؛ بل يرضى بما اعطي من مقامه. و ذلك المكان هو محلّ غرس المعاني - أي منبتها - التي كان تأويل القرآن يستمدّ منها، و كان هناك أيضاً موانع و زواجر تمنع من أراد الوصول و المساس
بحريم الذات أن يعبر منها و يجتازها، (إذ قليلٌ هم اولئك الذين استطاعوا عبور عالم الصفات و الوصول إلى عالم الذات).
٣ - و مَن اجتاز عالم الصفات و نال عالم الجبروت الذي هو عالم الذات، فإنّ محلّ وقوع و استقرار تلك الصفات و الأسماء فيه مشارقٌ تطلع فيها الذات القدسيّة، فيصل هناك إلى فتح الوصول إلى لذات، و هو حقّاً مكان يحيّر بصائر الأرواح و نور القلوب الباطنيّ و يبهتها، إذ إنّ طلوع نور الذات و انكشافها لن يبقى أي اسم و صفته، بل سيحرق الجميع و يحيّرهم و يبهتهم.
٤ - هناك أرائك التوحيد و مقاماته، و محلّ إدراك حقيقة القرب إلى الله، و محلّ سلوك و طيّ الطريق و السلوك المنزّه في الذات (السير في الله)، و مبادئ التكوين النازلة من سماء الذات إلى أرض الكائنات لنصرة صاحبه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في معركته مع المشركين.
٥ - و إنّ منبع و محلّ إفاضة ماء رحمة الحقّ في كلّ عالم - باعتبار احتياج و فاقة ذات الإنسان التي تحسّها بإفاقتها و صحوتها من المحو، بعد السكر من الفناء في مقام البقاء بالحقّ، و ذلك بعد الفناء فيه عن غيره و رجوعها إليه - هو أشياء أربعة.
٦ - أ - العوائد و الفوائد الناشئة بإلهام و إلقاء الحقّ تعالى، ليفرّق بها بين الفجور و التقوى، إذ إنّ النفس محتاجة للإذن و الإشارة الملكوتيّة للحقّ جلّ و عزّ للتصرّف في الأشياء.
ب - معارف آثار الأسماء اللائحة في صفات الوجود، التي تقرّ عين العارف، إذ إنّ من يفيق بعد السكر و الإغماء فإنّ ناظره يقرّ و يسعد بنور مشاهدة الحقّ في كلّ موجود.
ج - منافع إنعام الحقّ على عبده، من النعم الاخرويّة في عالم الغيب التي يدركها العبد.
د - الموائد المبسوطة من النعم الدنيويّة في عالم الشهادة (و هذه الأشياء الأربعة نتيجة فيض اسم الملْهِم و الشَّهِيد و المنْعِم و غيرها التي تحتاج لها نفس الإنسان لإصلاح دنياه و آخرته).
۷ - و تجري أجزاء وجودي، من نفس و روح و قلب و قالب، بما تقتضيه أحكام الطريقة۱ من التزكية و التحلية، بذلك النهج الذي تعطينيه ذاتي و حقيقتي.
۸ - و حين انتقلت من عالم التفرقة و التجزئة إلى عالم الجمع، لم افرّق في هذا الأمر بين صفة و صفة، و التأم صدع التفرقة الناشئ من الافتراق في الوصف لا في الذات.
٩ - و لم يبق هناك شيء يوحشني بيني و بين اعتصامي المحكم الثابت برؤية محبّتي و مودّتي و الانس بها.
۱۰ - و تيقّنتُ إذ ذاك أنّا في الحقيقة واحد، فأثبت صحوي الناشئ في جمعي سكر التفرّق و التشتّت، و علمتُ أنّ المحبّ و المحبوب هما ذات واحدة.
۱۱ - فكأن وجودي كلّه لساناً، و عيناً و اذناً، و يداً، يتكلّم بها و يرى و يسمع و يبطش. (و لم تختصّ أفعالي إذ ذاك بموضع خاصّ، فكنت أتكلّم بعيني، و أرى بلساني، و أتحدّث باذني، و أسمع بيدي).
أشعار ابن الفارض في الصحو بعد المحو، أي الإحاطة الكلّيّة بجميع العوالم
حتّى يصل إلى شمول العلم و القدرة و الحياة إلى ما سواه فيقول:
فَأتْلُو عُلُومَ العَالمينَ بِلَفْظَةٍ | *** | وَ أجْلُو عَلَى العَالمينَ بِلَحْظَةٍ |
وَ أسْمَعُ أصْواتَ الدُّعَاةِ وَسَا | *** | ئِرَ اللُّغَاتِ بِوَقْتٍ دُونَ مِقْدَارِ لَمْحَةِ |
وَ احْضِرُ مَا قَدْ عَزَّ لِلْعَبْدِ حَمْلُهُ | *** | وَ لَمْ يَرْتَدِدْ طَرْفِي إلى بِغَمْضَةِ |
وَ أنْشَقُ أرْواحَ الجِنَانِ وَ عَرْفَ مَا | *** | يُصَافِحُ أذْيَالَ الرِّيَاحِ بِنَسْمَةِ |
وَ أسْتَعْرِضُ الآفَاقَ نَحْوِي بَخَطْرَةٍ | *** | وَأحْتَرِقُ السَّبْعَ الطِّبَاقِ بِخُطْوَةِ |
وَ أشْبَاحُ مَنْ لَمْ تَبْقَ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ | *** | لِجَمْعِيَ كَالأرْوَاحِ حَفَّتْ فَخَفَّتِ۱ |
۱ - فأنا إذ ذاك أتلو علوم علماء العالم بلفظ واحد، و استعرض جميع العوالم بلمحة واحدة.
٢ - و أسمع أصوات الداعين و جميع اللغات في أدنى من طرفة العين.
٣ - و احضر ما تعذّر حمله من المسافات البعيدة قبل أن يرتدّ إلى طرفي.
٤ - و أشمّ رائحة الجنان و عبير الرياض التي تصافحها أذيال الريال بنسمة واحدة.
٥ - و أستعرض الآفاق نحوي بمقدار ما يخطر ببال، و أخرق حجب السماوات السبع الطباق بخطوة واحدة.
٦ - و أشباح و أجسام من لم تبق فيهم من هوى النفس الأمّارة بقيّة و أثر، تصير كأرواحهم بعد التزكية خفيفة لكونها محفوفة بمقام الجمع.۱
ثمّ يذكر لإثبات هذا المطلب معجزات من أنبياء عظام رشحت من نفوسهم إثر تزكيتها و طهارتها بإذن الله تعالى فيقول:
هِيَ النَّفْسُ إنْ ألْقَتْ هَوَاهَا تَضَاعَفَتْ | *** | قُوَاهَا، وَ أعْطَتْ فِعْلَهَا كُلَّ ذَرَّةِ |
وَ نَاهَيْكَ جَمْعَاً، لَا بِفَرْقِ مِسَاحَتَي | *** | مَكَانٍ مَقِيسٍ أوْ زَمَانٍ مُوَقَّتِ |
بِذَاكَ عَلَا الطُّوفَانَ نُوحٌ وَ قَد نَجَا | *** | بِهِ مَنْ نَجَا مِنْ قَوْمِهِ في السَّفِينَةِ |
وَ غَاضَ لَهُ مَا فَاضَ عَنْهُ اسْتِجَادَةً | *** | وَجَدَّ إلى الجُودِي٢ بِهَا وَ اسْتَقَرَّتِ |
رَقّ الزجاجُ ورقَّت الخمرُ | *** | و تَشابها فتشاكلَ الأمرُ |
فكأنما خمرٌ و لا قَدَحٌ | *** | و كَأنما قَدَحٌ و لا خمرُ |
ثقلت زُجاجات أتتنا فُرّغاً | *** | حتى إذا مُلئت بصِرف الرَّاحِ |
خفّت فكادت تستطير بما حوتْ | *** | وكذا الجسوم تخفّ بالأرواحِ |
وَ سَارَ وَ مَتْنُ الرِّيحِ تَحْتَ بِسَاطِهِ | *** | سُلَيْمَانُ بِالجَيْشيْنِ فَوْقَ البَسِيطَةِ |
وَ قَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ احْضِرَ مِنْ سَبَا | *** | لَهُ عَرْشُ بَلْقِيسٍ بِغَيْرِ مَشَقَّةِ |
وَ أخْمَدَ إبْرِاهِيمُ نَارَ عَدُوِّهِ | *** | وَ عَنْ نُورِهِ عَادَتْ لَهُ رَوْضُ جَنَّةِ۱ |
وَ لَمَّا دَعَا الأطْيَارَ مِنْ كُلِّ شَاهِقٍ | *** | وَ قَدْ ذُبِحَتْ، جَاءَتْهُ غَيْرُ عَصِيَّةِ |
وَ مِنْ يَدِهِ مُوسَى عَصَاهُ تَلَقَّفَتْ | *** | مِنَ السِّحْرِ أهْوَالًا عَلَى النَّفْسِ شُقَّتِ |
وَ مِنْ حَجَرٍ أجْرَى عُيُونَاً بِضَرْبَةٍ | *** | بِهَا دِيَمَاً سَقَّتْ وَ لِلْبَحْرِ شَقَّتِ |
وَ يُوسُفُ إذْ ألْقَى البَشِيرُ قَمِيصَهُ | *** | عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ بَأوْبَةِ |
رَ آهُ بِعَيْنٍ، قَبْلَ مَقْدَمِهِ بَكَى | *** | عَلَيْهِ بِهَا شَوْقَاً إليه، فَكُفَّتِ |
وَ في آلِ إسْرَائِيلَ مَائِدَةٌ مِنَ ال | *** | -سَّمَاءِ لِعِيسَى انْزِلَتْ مُدَّتِ |
وَ مِنْ أكْمَهٍ أبْرَا، وَ مِنْ وَضَحٍ عَدَا | *** | شَفَى، وَ أعَادَ الطِّينَ طَيْرَاً بَنَفْخَةِ٢ |
۱ - و خرق العادات هذا كلّه الحاصل بجمع نفس الإنسان يحدث فقط حين تلقى النفس هواها فتتضاعف قواها، فتمنح فعلها لكلّ ذرّة من ذرّاتها.
٢ - و حسبك لعظمة و جلالة هذا الجمع الذي لا يفرّق بين مكان معيّن و غيره، و لا بين زمان معيّن و مقدّر و غيره. (بل الأمكنة كلّها و الأزمنة كلّها عنده سواء، لذا فإنّ خرق العادات الناشئ من هذا الجمع لا يحصل إلّا لمن تخلّص من محنة تفرقة الزمان و المكان موصلًا نفسه إلى فضاء الجمع الواسع، و لهذا فإنّ جميع معجزات الأنبياء و كرامات الأولياء تستند على هذا الجمع كما سيعدّدها بنفس هذا الاسلوب واحداً واحداً في أبياته اللاحقة).
٣ - فبذاك الجمع علا نوح فوق الطوفان و سلّطه على قومه، و بذاك الجمع نجا الناجون من قومه في السفنية.
٤ - و بذاك الجمع غاض ذلك الماء الكثير الطافح الذي تدفّق بطلبه أمطاراً منهمرة مستمرّة، و أسرع نوح بسفينته إلى جبل الجودي فرست عنده.
٥ - و بالجمع سار سليمان بجيوشه من الجنّ و الإنس فوق الأرض، جالساً على بساطه و فراشه على متن الريح.
٦ - و بالجمع احضر لسليمان عرش بلقيس من مدينة سبأ بلا مشقّة أو تعب قبل أن يرتدّ نور عينه إليه ا.۱
۷ - و به أخمد أبراهيم النار التي أجّجها عدوّه، و بذلك الجمع أو من نور إبراهيم استحالت تلك النار له روضة من رياض الجنّة.
۸ - و بالجمع دعا إبراهيم الأطيار التي ذبّحها و فرّقها على قمم الجبال، فجاءت جميعاً تلبّي دعوته بلا امتناع و إباء.
٩ - و به ألقى موسى عصاه من يده فالتقفت سحر السحرة المدهش الموحش الذي شقّ تحمله على النفس.
۱۰ - و بذاك الجمع ضرب موسى الحجر فانفجرت منه عيون سقت الماء كغيث منهمر مستمرّ، و بالجمع شقّ البحر (فعبر و قومه من الأسباط و غرق فرعون و جنده الأقباط جميعاً).
۱۱ - و بذاك الجمع، جاء البشير إلى يعقوب ببشارة إياب يوسف، و ألقى قميص يوسف على وجه أبيه.
۱٢ - فارتدّ بصيراً، و نظرَ يوسفَ بعين قد بكى عليه بها اشتياقاً قبل
مقدم البشير حتى ابيضّت و عميت.
۱٣ - و بذاك الجمع، نزلت في بني إسرائيل (من ولد يعقوب) مائدة من السماء لعيسى ابن مريم ثمّ مدّت و بُسطت.
۱٤ - و بذاك الجمع، أبرأ عيسى ابن مريم الأكمه و الأبرص، و بنفخة واحدة منه في الطين صيّره طيراً حيّاً يطير.
و بعد ثلاثة سطور يقول ابن الفارض في بيان سرّ انفعالات الظواهر في الباطن، و بيان علّة نبوّة النبيّ الأكرم و فضيلته و كرامته:
فَعَالمنَا مِنْهُمْ نَبِيٌّ، وَ مَنْ دَعَا | *** | إلى الحَقِّ مِنَّا قَامَ بِالرُّسُلِيَّةِ |
وَ عَارِفُنَا في وَقْتِنَا، الأحْمدِيُّ مِنْ | *** | اولِي العَزْمِ مِنْهُمْ، آخِذٌ بِالعَزِيمَةِ |
وَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مُعْجَزَاً صَارَ بَعْدَهُ | *** | كَرَامَةَ صِدِّيقٍ لَهُ أوْ خَلِيفَةِ |
بِعِتْرَتِهِ اسْتَغْنَتْ عَنِ الرُّسُلِ الوَرَى | *** | وَ أصْحَابَهُ وَ التَّابِعِينَ الأئِمَّةِ |
كَرَامَاتُهُمْ مِنْ بَعْضِ مَا خَصَّهُمْ بِهِ | *** | بِمَا خَصَّهُمْ مِنْ إرْثِ كُلِّ فَضِيلَةِ۱ |
۱ - و لهذا فإنّ عالمنا (أي العالم بالله، و العالم بمبدعاته و كائناته و أوامره و نواهيه، و العالم بأحوال يوم القيامة) بمثابة نبيٍّ من السابقين كان ينبئ الناس بهذه الامور، و الداعي منّا إلى الحقّ (الذي يدعو الناس إلى الله و يدرجهم في مدارج التزكية و التصفية و التحلية و التخلية) هو القائم بدور رسل الله، و مضافاً إلى الإنباء و الإخبار فقد تعهّد بواجب التبليغ و أداء رسالة تربية الناس و تعليمهم.
٢ - و عارفنا الأحمديّ في وقتنا (أو عارفنا في زمان أحمدنا) بمنزلة و مثابة الأنبياء أولي العزم. آخذٌ بالعزيمة، لايتبع غير العزائم و لا يبحث عن الرخص، و هو ذلك العارف بالله المطلّع على أسرار ملائكته و خزائنه
و دفائنه، و المأذون بالتصّرف فيها.
٣ - فما تحقّق من الخوارق قبل النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بعنوان معجزات من اولئك الأنبياء، فقد صار بعد النبيّ الأكرم بعنوان كرامة تصدر من صِدِّيقي الامّة أوخلفائها الحقيقيّين.
٤ - (و لأنّ عترة رسول الله هم بمثابة رُسل تابعين له)، فإنّ جميع الناس قد استغنوا بعترته الأئمّة عن مجيء الأنبياء بعد رسول الله الخاتم للنبوّة، و كذلك بأصحابه و أتباعه.۱
٥ - و ما يصدر من عترة رسول الله من كرامات فإنّ بعضها ممّا خصّهم به رسول الله بعنوان حصّتهم و سهمهم من ميراث الفضائل.
ثمّ يذكر ابن الفارض أبياتاً ثلاثة تمثّل في ظاهرها مناقب للخلفاء الثلاثة، لكنّها تستبطن في الحقيقة عين الذمّ و الانتقاص، و من الواضح أنه أوردها تقيّة مُجبراً.
ثمّ يقول بشأن أميرالمؤمنين عليه السلام:
وَ أوْضَحَ بِالتَّأوِيلِ مَا كَانَ مُشْكِلًا | *** | عَلِيٌّ بِعِلْمٍ نَالَهُ بِالوَصِيَّةِ٢ |
أي أنّ عليّاً عليه السلام قد أوضح بالعلم الذي ناله بوصيّة رسول الله
صلّى الله عليه و آله و سلّم له غوامض معاني القرآن و أعادها إلى معانيها الحقيقيّة، أي أنه أوضح تأويلها و بيّنه للُامّة.
وقوع امور عجيبة من نفوس أولياء الله بإذن الله
ثمّ يبحث ابن الفارض من الآن فصاعداً بشكل مفصّل في التوحيد الحقيقيّ للذات، و في كيفيّة نزول التوحيد من قلب العارف بالله في عالم الإمكان، و في شبكات التركيب، و بيان بطلان التناسخ و المسخ و الفسخ و الرسخ،۱ و ذلك لرفع العجب في ظهور هذه الغرائب و العجائب من نفس
نَسْخٌ و مَسْخٌ رسخ فسخٌ قَسّما | *** | إنساً و حيواناً جماداً و نما |
لزوم اجتماع نفسيْنِ على | *** | صيْصيةٍ تناسخاً قد أبْطَلا |
العارف بالله، و ظهورها من النفوس الشريفة للأنبياء و الأئمّة و الأولياء، فيبيّن الحقيقة في إيضاحه للمطلب بهذه الأبيات:
فَكُنْ فَطِنَاً، وَ انْظُرْ بِحِسِّكَ مُنْصِفَاً | *** | لِنَفْسِكَ فِيأفْعَالِكَ الأثَرِيَّةِ |
وَ شَاهِدْ إذَا اسْتَجْلَيْتَ نَفْسَكَ مَا تَرَى | *** | بِغَيْرِ مِرَاءٍ، في المرَائِي الصَّقِيلَةِ |
أغَيْرُكَ فِيهَا لَاحَ؟ أمْ أنْتَ نَاظِرٌ | *** | إليك بِهَا، عِنْدَ انْعِكَاسِ الأشِعَّةِ |
وَ اصْغِ لِرَجع الصَّوْتِ، عِنْدَ انْقِطَاعِهِ | *** | إليك بِأكْنَافِ القُصُورِ المشِيدَةِ |
أهَلْ كَانَ مَنْ نَاجَاكَ، ثَمَّ سِوَاكَ أمْ | *** | سَمِعْتَ خِطَابَاً عَنْ صَدَاكَ المصَوِّتِ |
وَ قُلْ لِيَ. مَنْ ألْقَى إليك عُلُومَهُ | *** | وَ قَدْ رَكَدَتْ مِنْكَ الحَوَاسُّ بِغَفْوَةِ |
وَ مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ نُوْمِكَ مَا جَرَى | *** | بِأمْسِكَ، أوْ مَا سَوْفَ يَجْرِي بِغُدْوَةِ |
فَأصْبَحْتَ ذَا عِلْمٍ بِأخْبَارِ مَنْ مَضَي | *** | وَ أسْرَارِ مَنْ يَأتِي، مُدِلًّا بِخُبْرَةِ |
أتَحْسَبُ مَنْ جَارَاكَ في سِنَةِ الكَرَى | *** | سِوَاكَ، بِأنْوَاعِ العُلُومِ الجَلِيلَةِ |
وَ مَا هي إلَّا النَّفْسُ، عِنْدَ اشْتَغَالِهَا | *** | بِعَالمهَا، عَنْ مُظْهَرِ البَشَرِيَّةِ۱ |
۱ - فانظر إذاً بحواسّك الظاهريّة؛ بدراية و فطنة و إنصاف؛ في أفعالك ذات الأثر الصادرة منك المتحقّقة في الخارج.
٢ - و شاهد أنّك حين تحاول النظر إلى نفسك في مرائي صقيلة، و قل بلا مراء و جدال.
٣ - أشخصٌ غيرك يتجلّى فيها! أم أنّك كنتَ الناظر إلى نفسك عند انعكاس الأشعة من العين و إليه ا؟
٤ - و أصغِ سمعك لرجعل صوتك الخارج منك و العائد إليك بعد ارتطامه بأكناف القصور المشيدة.
٥ - أكان مَن ناجاك غيرك؟ أم أنّك سمعت صدى صوتك راجعاً يخاطبك؟
٦ - و قل لي إنّك إذا غفوتَ فسكنت حواسّك، من الذي ألقى إليك علومه؟ (فلم يكن غيرك من أحد!).
۷ - و ما كنت تعلم قبل إغفائك ما كان في أمسك، و ما سيصير في غدك.
۸ - (فاطّلعت على هذا كلّه في إغفائك)، فصرت عند استيقاظك عالماً بأخبار الماضين و أسرار الآتين، مدّلًّا مُباهياً بخبرتك التي حصلت عليها.
٩ - أفتحسب أنّ من خاطبك في إغفائك و تحدّث معك خطوة بعد
خطوة في تفضيل أنواع العلوم الجليلة العالية محاوراً شخصاً غيرك؟
۱۰ - نعم، لم يكن غيرك شخص آخر لينسلخ و يتجرّد من مظاهر البشريّة (أي عالم المادّة و البدن) و يشتغل بعالمه (أي عالم الملكوت و التجرّد) فيُعطيك من أخبار الغيب هذه.۱
ثمّ يأتي ابن الفارض هنا بخمسة أبيات اخرى لبيان و شرح نفس المطلب، ثمّ يقول لرفع استبعاد تصديق هذه المطالب العالية و النفائس العرفانيّة و المشاهدات الملكوتيّة، و لئلّا ترهق الإنسانَ المعقولات الخطابيّة و الشعريّة و المنقولات الواهية التي لا تستند إلى القياس و البرهان، و لئلّا يظنّ أنّ هذه الحقائق عبثاً و مطالب شعريّة و وهميّة ليس إلّا:
وَ لَا تَكُ مِمَّنْ طَيَّشَتْهُ دُرُوسُهُ ۱ | *** | بِحَيْثُ استْتَقَلَّتْ عَقْلَهُ وَ اسْتَقَرَّتِ! |
فَثَمَّ وَرَاءَ النَّقْلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عَنْ | *** | مَدَارِكِ غَايَاتِ العُقُولِ السَّلِيمَة٢ |
جهان متّفق بر الهيّتش | *** | فرو مانده در كُنه ماهيّتش |
نه إدراك در كنه ذاتش رسد | *** | نه فكرت به غور صفاتش رسد |
نه بر أوج ذاتش پَرد مرغ وهْم | *** | نه در ذيل وصفش رسد دست فهم |
كه خاصان در اين ره فرس راندهاند | *** | بلا احْصِي از تك فرو ماندهاند |
...۱
مطلق كه بود زهر صفت باك | *** | هرگز نتوان نمود إدراك |
زانرو كه به عقل چون در آيد | *** | البتّه به صورتي بر آيد |
پس هر چه تو ميكني خيالش | *** | باشد ز مظاهر جمالش |
تجلّى حُسْنُ معشوقٍ لأحبابٍ و عُشَّاقِ | *** | بتنزيهٍ و تشبيهٍ و تقييدٍ و إطلاقِ |
تبدّي وجهُه حُسناً تجلّى حسنُه وجهاً | *** | بأسماءٍ و أوصافٍ و أحكامٍ و أخلاقِ |
آنچهپيش تو غير از آن ره نيست | *** | غايت فهم تست الله نيست |
گفتم همه ملك حسن، سرماية تست | *** | خورشيد فَلَك چو ذرّه در ساية تست |
گفتا غلطي، زما نشان نتوان يافت | *** | از ما تو هرآنچه ديدهاى پايهتست |
كسي ندانسته كه منزلگه معشوق كجاست | *** | اينقدر هست كه بانگ جرسي ميآيد |
و تَلَقَّيْتُهُ مِنِّي، وَ عَنِّي أخَذْتُهُ | *** | وَ نَفْسِيَ كَانَتْ مِنْ عَطَائِي مُمِدَّتِي۱ |
انطواء الربوبيّة المطلقة في العبوديّة المطلقة
كانتجميع هذه المطالب في عالم التوحيد و مقام الفناء في الله، نقلناها عن ابن الفارض لإلقاء ضوء على الموضوع، كي لا ينكر أحدمراتب معجزات الأنبياء و كرامات الأئمّة و أولياء الله، و ليعلموا أنّ جميعهامستمدّ من مقام التوحيد.
و في الحقيقة فإنّ الله هو الفاعل لما يشاء و الحاكم لما يريد، و لم يكن هنا من بينونة و افتراق، إذ لم يكن العارف بالله قد اتّخذ موضعاً مقابل الله تعالى، و لم يدّعِ الربوبيّة و الالوهيّة، بل صار فانياً فيه، و هو مقام العبوديّة، و يحصل هذا المقام نتيجة إطاعة الله تعالى كما ورد في الحديث القدسيّ: عَبْدِي أطِعْنِي حتى أجْعَلَكَ مِثْلي (أ وْ مَثَلِي - خ ل) أقُولُ لِلشَّيْءِ. كُنْ! فَيَكُونُ. تَقُولُ لِلشَّيءِ. كُنْ فَيَكُونُ!٢
و لهذا فسيظهر و يبين معنى العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ، لأنّ النفس الإنسانيّة ستصقل بالعبوديّة فيصبح لها قابليّة عكس الأشعّة النوريّة للعام العلويّ، و كلّما زاد صقلها و زاد من تمثيلها و مرآتيّتها، زاد تجلّي الذات الأحديّة فيها، إلى الحدّ الذي تصل فيها الخلافة بالقوّة و الاستعداد إلى مقام الفعليّة المطلقة، فتصبح خليفة الله الفعليّة في جميع عالم الوجود و شؤون الحياة و مظاهرها.
و يجب العلم أنّ هذه ليست الوهيّة، بل هي خلافة و تمثيل تظهر فيها عين آثار الالوهيّة، فخليفة الله لا يفعل فعل الله، بل إنّ الله يُجري فعله على يده، و يتجلّى من نافذة نفسه، و يُظهر أسماءه و صفاته، فالعارف بالله مرآة تامّة الإظهار لجمال و جلال الله الأزليّ الأبديّ.
فيتّضح إذاً قولهم إذا قالوا في مقام الوحي الإلهيّ. إنّ الحقّ تعالى قد تجلّى بنفسه لنبيّه محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و إنّ رسول الله يأخذ عن الحضرة الأحديّة أحياناً بلا واسطة؛ فلا عجب في ذلك، و لأجل ذلك كان الصبر على تحمّل هذا القبس الذاتيّ الأحديّ على رسول الله بالشكل الذي كان يدهش فيه و يحار.
تمثّل جبرائيل أمين الوحي الإلهيّ بصورة دحية الكلبيّ
و لنعلم أنّ جبرائيل الأمين كان يظهر أحياناً لرسول الله أيّام نبوّته بصورة دِحْيَةِ الكَلْبِيّ، فكان الناس يظنّونه دحية و قد تشرّف بحضوره عند الرسول، و الحال أنه لم يكن دحية بل رسول الحقّ تعالى جبرائيل متمثّلًا بصورته و هيئته.
و قد كان دحية الكلبيّ رجلًا مسلماً صادقاً و سيماً حسن الهيئة، يُحسن الخطّ و الكتابة، و كان رسول الله يأمره بكتابه بعض رسائله، و لم يكن الناس عند تمثّل جبرائيل حال الوحي على صورته ليفهمون أنه جبرائيل، بل كانوا يقولون إنّه دحية و قد تشرّف بالحضور عند الرسول الأكرم لتنفيذ ما يؤمر به.
و ينبغي العلم أنّ هكذا ظهور هو ليس أكثر من تمثّل و تشبّه، أي أنّ جبرائيل قد ظهر في هذا العالم على صورة دحية وهيئته، لا أن يكون قد حلّ في بدن دحية، أو اكتسب ماهيّة إنسانيّة كدحية و صار عند نزوله بشراً، فماهيّة الملائكة العلويّين غير ماهيّة الإنسان، و تغيّر الماهيّات و تبدّلها محال؛ لا البشر يمكنه أن يصير مَلَكاً، و لا يمكن للمَلَك أن يستحيل إنساناً، أو أن تصبح له هيئة الإنسان و صورته.
نعم، هناك إمكان لظهور البشر و تمثّله بشكل الملك، و كذا ظهور الملَك بشكل إنسان، فمعنى التمثّل و حقيقته هو الظهور بصورة و شكل يماثله بدون امتلاك أي من آثار ذلك في نفسه.
و قد أشار ابن الفارض في نَظْم السلوك لهذه الكيفيّة من التمثّل، فقال: إنّني لا أدّعي في التوحيد الذي وصلته، و ظهور الحقّ المتعال في الحلولَ، فالحلولُ كفرٌ و زندقة و إلحاد، و لستُ كذلك أدّعي الاتّحاد فأقول إنّني اتّحدت مع الله، لأنّ الاتّحاد يستلزم الثنائيّة و الانفصال بين الشيئين المتّحدين، و هو كفر أيضاً، بل إنّ دعواي فقط تجلّي و ظهور الحضرة الأحديّة، فليس لي في مقام الفناء المطلق وجود ليحلّ الله فيه أو يتّحد معه، بل إنّي فنيتُ فيه فظهر في، و طلعتْ و ظهرتْ صفاته و أسماؤه في وجودي. و ظهور و تجلّي الحقّ هذا على صورة إنسانيّة في تمام الصدق و الإمكان و الواقعيّة.
ثمّ يشير ابن الفارض لإثبات مدّعاه لقضيّة دحية الكلبيّ، و يشبّه تمثّل و تجلّي الحقّ تعالى في وجوده كتمثّل و ظهور جبرائيل بصورة دحية:
وَهَا دِحْيَةٌ۱ وَافَي الأمِينَ نَبِيَّنَا | *** | بِصُورَتِهِ، في بَدْءِ وَحْيِ النُّبُوَّةِ! |
أجِبْرِيلُ قُلْ لِي. كَانَ دِحْيَةُ إذْ بَدَا | *** | لِمُهْدِي الهُدَى، في هيئَةٍ بَشَرِيَّةِ؟ |
وَ في عِلْمِهِ عَنْ حَاضِرِيهِ مَزِيَّةٌ | *** | بِمَاهِيَّةِ المرْئِيِّ مِنْ غَيْرِ مِرْيَةِ |
يِرَى مَلَكَاً يُوحِي إليهِ وَ غَيْرُهُ | *** | يَرَى رَجُلًا يُدْعَى لَدَيْهِ بِصُحْبَةِ |
وَلِي مِنْ أتَمِّ الرُّؤيَتَيْنِ إشَارَةٌ | *** | تُنَزِّهُ عَنْ رَأي الحُلُولِ عَقِيدَتِي |
وَ في الذِّكْرِ ذِكْرُ اللَّبْسِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ | *** | وَ لَمْ أعْدُ عَنْ حُكْمِي كَتَابٍ وَ سُنَّةِ۱ |
۱ - التفتْ. كيف كان جبرائيل الأمين في بدء أمر النبوّة يوافي النبيّ على صورة دحية الكلبيّ.
٢ - ثمّ قُل لي. أكان جبرائيل حينذاك إذ يظهر للنبيّ الهادي لصراط الهداية على هيئة بشريّة هو دحية حقّاً؟ (أو إنه لم يكن دحية، بل جبرائيل على صورة دحية، متمثّلًا بشكله و شمائله، و لربّما لم يكن دحية آنذاك
موجوداً في المدينة).
٣ - و كان لعلم رسول الله بحقيقة ذلك المشاهَد (جبرائيل على صورة دحية) الفضل و الشرف على علم الآخرين الظانّين أنه ليس إلّا دحية.
٤ - فقد كان النبيّ يرى مَلَكاً يوحي إليه، و غيره يرى رجلًا دعاه النبيّ إليه ليجالسه.
٥ - و عندي قد كان نمط الرؤية الأتمّ و الأكمل و الأقرب إلى الواقع، أي رؤية النبيّ الأكرم، إشارة لي في باب توحيد الذات و تجلّي الحضرة الأحديّة على صورة أحد من أفراد البشر تنزّه عقيدتي عن مذهب الحلول.
٦ - و لا إنكار في بيان آيات القرآن الكريم لتجلّي الحقّ بصورة أو تجلّي مَلَك بصورة بشريّة، فلم أتخطّ في إراءة هذا الرأي حكم القرآن و السنّة.
و يدّعي ابن الفارض هنا أنّ نظريّة قابليّة تمثّل و تصور الحقّ تعالى بصورة بشريّة قد وردت في كتاب الله و سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
أمّا في كتاب الله مثل آية: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ.۱
و جاءت هذه الآية بعد آية قد نقلت تساؤل المشركين، أن. لماذا لا ينزل بالوحي مَلَكٌ على محمّد؟:
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ.٢
و أمّا في السنّة، فقد ورد عن طريق العامّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال: رَأيْتُ رَبِّي في صُورَةِ كَذَا۱.
رواية ابن قولويه في أنّ الله قد ترائى لنبيّه في أحسن صورة
و أمّا عن طريق الخاصّة، فقد ذكر شيخ الفقهاء الأقدمين و اسوة المحدّثين الموثقين الشيخ الأكبر الأعظم أبوالقاسم جعفر بن محمّد بن قولويه المتوفّى سنة ٣٦۷ هجريّة، في كتابه «كامل الزيارات» المعدود من أجلّ كتب الشيعة و أوثقها، رواية جليلة معتبرة، و لأهمّيّتها فقد ذكرها في موضعين من الكتاب،٢ نذكرها مع متن سندها و عين عبارتها، ثمّ نشرع في بيانها و شرحها.
يروي ابن قولويه: جعفر بن محمّد، عن أبيه رحمه الله. محمّد بن جعفر بن موسى بن مسرور، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن سنان، عن أبي سعيد القَمَّاط، عن ابن أبي يَعْفُور، عن أبي عبدالله صادق آل محمّد عليه السلام، أنه قال:
بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في مَنْزِلِ فَاطِمَةَ، وَ الحُسَيْنُ في حِجْرِهِ، إذْ بَكَى وَ خَرَّ سَاجِدَاً، ثُمَّ قال: يَا فَاطِمَةُ! يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ! إنَّ العَلِيَّ الأعْلَي تَرَائَى لِي في بَيْتِكِ هَذَا في سَاعَتِي هَذِهِ، في أحْسَنِ صُورَةٍ، وَ أهْيَأ هيئَةٍ، فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ! أتُحِبُّ الحُسَيْنَ؟!
قُلْتُ: يَا رَبِّ! قُرَّةُ عَيْنِي، وَ رَيْحَانَتِي، وَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَ جِلْدَةُ مَا بَيْنَ
عَيْنِي!
فَقال: يَا مُحَمَّدُ! وَ وَضَعَ يَدَهَ عَلَى رَأسِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. بُورِكَ مِنْ موْلُودٍ! عَلَيْهِ بَرَكَاتِي، وَ صَلَوَاتِي، وَ رَحْمَتِي، وَ رِضْوَانِي! وَ نِقْمَتِي، وَ لَعْنَتِي، وَ سَخَطِي، وَ عَذَابِي، وَ خِزْيِي، وَ نَكَالِي عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَ نَاصَبَهُ وَ نَاوَاهُ وَ نَازَعَهُ!
أمَا إنَّهُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ مِنْ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، وَ سَيِّدُ شَبَابِ أهْلِ الجَنَّةِ مِنْ الخَلْقِ أجْمَعِينَ. وَ أبُوهُ أفْضَلُ مِنْهُ وَ خَيْرٌ. فَاقْرَأهُ السَّلَامَ وَ بَشِّرْهُ بِأنهُ رَايَةُ الهُدَى، وَ مَنَارُ أوْلِيَائِي، وَ حَفِيظِي، وَ شَهِيدِي عَلَى خَلْقِي، وَ خَازِنُ عِلْمِي، وَ حُجَّتِي عَلَى أهْلِ السَّمَاوَاتِ وَ أهْلِ الأرْضِينَ وَ الثَّقَلَيْنِ. الجِنَّ وَالإنْسِ!۱
و نلحظ في هذه الرواية أنّه قد استعمل فيها كلمة تَرَائَى لِي، و الترائي بمعنى الإراءة و وضع النفس في معرض الرؤية و المشاهدة بالنحو الذي يترقّب المترائي و يترصّد أن يراه أحد؛ أي أنّ العليّ الأعلى، الخالق العظيم الأعظم، قد أراني نفسه حتى رأيته؛ أو قال لي كذا و كذا.
و نلحظ ثانياً في هذه الرواية عبارة يَا رَبِّ التي قالها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بعد رؤيته ربّه و سؤال الخالق إيّاه عن حبّه للحسين.
و نلحظ ثالثاً أنّ الله قد وضع يده على رأس الحسين و دعا له؛ و كلّ هذه دلائل و شواهد بيّنة لاحتمال تجلّي الله تعالى بأحسن صورة و أهيأ هيئة
لكي يراه رسوله في هذا الظهور و التجلّي، و لا إشكال في هذا أيضاً.
و قد نقل المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» هذه الرواية بنفس هذا السند و عين عبارة المتن نقلًا عن «كامل الزيارات» باختلاف أنّ كلمة يَا رَبِّ قد سقطت من نسخته، ثمّ يقول في ذيل الرواية في بيان الحديث. أمّا أن يكون المراد من العَلِيّ الأعْلَى هو رسول الله جبرائيل، أو أن يكون لفظ تَرَائَى كناية عن الظهور العلميّ، و حُسْنُ الصُّورَةِ كناية عن ظهور صفاته الكماليّة، و وَضْعُ اليدِ كناية عن إفاضة الرحمة.۱
و يفتقد تأويل المجلسيّ في بيان معنى هذه الرواية و مفهومها الوجاهة:
فـأوّلًا: للفظ العليّ الأعلى ظهور قد نصّ في الباري تعالى لا سواه، و استعماله في جبرائيل غير معهود في الأخبار و الروايات.
و ثانياً: جاءت في الرواية عبارة يَا رَبِّ، و مع وجودها يصبح من غير المعقول حمل لفظ العليّ الأعلى على غير الله عزّ و جلّ، إلّا أن نقول إنّ هذا اللفظ لم يكن موجوداً أصلًا في النسخ التي وصلت بِيَدِ المجلسيّ.
و ثالثاً: فإنّ حمل كلمة ترائى على الظهور العلميّ لا العينيّ؛ و حسن الصورة على ظهور الصفات الكماليّة؛ و وضع اليد على إفاضة الرحمة هو خلاف الظاهر، إذ لا يمكن صرف لفظ ما عن معناه الحقيقيّ بدون نصب قرينة قطعيّة أو مقاليّة أو مقاميّة.
و أمثال هذه التأويلات و الحمل على المعاني غير الظاهريّة كثير في
بيانات «بحار الأنوار» كما في آيات لقاء الله، و النظر للّه، و رؤيته و مشاهدته سبحانه و تعالى، و كذا في تعبيرات الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام التي يدلّ ظاهرها على اللقاء الحقيقيّ و النظر و الرؤية الحقيقيّة، التي كانت تُحمل على لقاء آيات الجمال و الجلال، و لقاء الموت، و ملاقاة الثواب و الأجر الإلهيّ في يوم الجزاء.
و عموماً، فما كان يرد من كلام، أينما اتّفق، و في أيّة رواية أو آية حول لقاء الله و مشاهدته، فإنّها كانت تحمل بلا تردّد على خلاف الظاهر، و تُعزي إلى لقاء بعض مظاهر الله، كلقاء الحور العين، و رؤية القصور، و سماع النغمات، و تناول الأغذية و الأطعمة اللذيذة، و جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار.
الجمع بين روايات التنزيه الخالص و روايات لقاء الله
و نحن مجبرون - لإثبات بطلان مثل هذه التأويلات - على ذكر مقدّمة مختصرة، و هي أننا نمتلك نوعين من الأخبار و الروايات في هذا المقام:
المجموعة الاولى: الروايات التي لها دلالة التنزيه المطلق الخالص للباري تعالى عن جميع مراتب الإدراك و المعرفة، و أنّ أعلى مراتب المعرفة و درجاتها هو العجز عن الإدراك، و الاعتراف و الإقرار بالعجز عن نيل ذلك المقام الرفيع.
و المجموعة الثانية: هي الروايات التي لها دلالة على إمكان لقاء الله و معرفته، و النظر إلى صفاته و أسمائه سبحانه و تعالى، و رؤية نور الأحديّة القاهر و أمثال ذلك.
و هذه المجموعة مكوّنة من روايات كثيرة لَا تُعَدُّ وَ لَا تُحْصَي، خاصّة في باب الأدعية و الزيارات و الروايات الواردة في باب التوحيد و العرفان.
و لعلماء الشيعة رضوان الله عليهم في هذا الباب أذواق و مشارب
مختلفة، فبعضهم يقول بالتنزيه الصرف المحض و استحالة معرفة الحقّ تعالى بأيّ وجه متصوّر، حتى أنهم صرّحوا بأنّ غاية معرفة الإنسان أن يعترف - أي الإنسان - بوجوب تنزيه الخالق تنزيهاً خالصاً، و أن لا سبيل هناك، ذهناً و عقلًا و فكراً و رؤية و شهوداً و قلباً و وجداناً لمعرفة الله تعالى، فمنتهى و غاية مقام العبد الإقرار بالعجز.
و البعض الآخر يفضّل الجمع بين أخبار التنزيه و أخبار التشبيه و الأخبار التي لها ظهور في إمكان الوصول و المعرفة بهذا النهج. حمل روايات التنزيه على تنزيهه سبحانه عن الرؤية بالعين الظاهرة، و عن المعرفة و الإحاطة بذاته المقدّسة الإلهيّة، و حمل أخبار إمكان المعرفة و الوصول و اللقاء على الرؤية بعين الباطن، و المشاهدة القلبيّة و الوجدانيّة، و المعرفة الإجماليّة، و معرفة الأسماء و الصفات و تجلّي مراتب ذات الحقّ تعالى (لا كنه ذاته) بالمقدار الميسور لممكن الوجود، و هو أمر صحيح و ممكن تماماً، و لا يخلو فقط من الإشكالات العقليّة و الشرعيّة، بل إنّ العقل و الشرع يتّفقان بشأنه، لأنّه هو المقصود من خلق العالم و إرسال الرسل و إنزال الكتب. أي أن يعرف البشر ربّه و يصل إليه و يشاهده و يراه.
و قد عبّروا عن هذا المقام بكشف الحجب الظلمانيّة و النورانيّة، أي أنّ نور جمال و جلال الحقّ حين يتجلّي لعقل و سرّ و وجدان أولياء الله فإنّه يفنيهم عن أنفسهم و يبقيهم في الله بالدرجة التي صاروا محواً في جماله، فيدبّر الله اموره عبده بدل عبده، و يتصرّف في اموره، و يوصله في النهاية إلى مقام الفناء المطلق، ثمّ إلى البقاء المطلق.
مقام الفناء هو العجز التامّ الكامل، و الحدّ الأكمل من إدراك الذات و الوصول إلى تلك الذورة، بحيث يفني في العجز. و ليس فقط عدم إمكانيّة
ورود أفكار العبد و آراؤه، بل وجوده أيضاً، فيحترق كالفراشة في لهب الشمعة، و يفني و يمّحي، فلا يبقى له أثر أو باقية.
هذه هي غاية معرفة: العُبُودِيَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُّبُوبِيَّةُ،۱ لا أن يحلّ ذلك بمجرّد القول و التلفظّ أن. يا إلهي! نحن عاجزون عن معرفتك! ثمّ ينتهي الأمر إلى هذا الحدّ، فشتّان بين هذا و ذاك! كان ذاك مقام فناء العجز؛ و العجز الذي يجريه الناس على ألسنتهم عجزٌ أيضاً، و عجز الجدار هو الآخر عجز، و عجز رسول الله الذي قال: مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ عجزٌ، و عجز الجالس في مكتبته يُطالع و يخطّ عجزه على ورق أو في كتاب هو عجزٌ أيضاً.
إ نّ التنزيه الصرف للّه عن عالم الوجود هو فصله و عزله، و هو عين التقييد الذي يستلزم التعطيل؛ و التشبيه هو الآخر مرجعه إلى تحديده و تقييده في تلك الموارد التي شُبّه بها؛ و الله سبحانه أعلى من كلّ هذا و أجلّ، مع أنه مع كلّ موجود، و له معيّة ذاتيّة، لا ترقى الأفكار السامية و الأفهام العالية بقدر ذرّة إلى ذروة ذاته الأحديّة، لكنّ مقام أحديّته ظاهر في نفس الوقت في أسمائه و صفاته، مع كلّ بعوضة، و مع كلّ نملة، و مع كلّ ذرّة، فهذه هي حقيقة التوحيد.
و كم كان رائعاً و بليغاً تعبير الحكيم المتألّه الحاجّ المولى هادي السبزواريّ تغمّده الله برضوانه حين قال:
موسي نيست كه دعوي أنا الحق شنود | *** | ورنه اين زمزمه أندر شجري نيست كه نيست۱ |
و لأنّ التنزيه الصرف شرك و تعطيل، و التشبيه شرك و تحديد، فكفى بالتوحيد حقّاً: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.٢
فإذا ما قلنا إنّ الله تعالى ليس جسماً، و ليس بمرئيّ، لا محلّ معيّن له و لا تركيب، و لا احتياج له و لا فقر و لا إمكان؛ فما المانع أنّ إلهاً كهذا يتجلّى في مظاهر وجود تعيّن أسمائه و صفاته؟
فرسول الله نفسه هو تجلٍّ له، بل هو تجلّيه الأعظم، كما ورد في الدعاء. اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِالتَّجَلِّي الأعْظَمِ.٣
ظهور الخالق العليّ الأعلي بأحسن صورة و أهيأ هيئة هو تجلٍّ تمثّليّ، و لم يكن تجلّياً في صورة واحدة فقط، بل إنّ جميع الموجودات العينيّة لعالم الإمكان هي ظهوراته و تجلّياته في صور عديدة، لا تعدّ و لا تحصى.
زهر رنگي كه خواهي جامه ميپوش | *** | كه من آن قَدِّ رعنا ميشناسم٤ |
لَقَدْ ظَهَرْتَ فَلَا تَخْفَى عَلَى أحَدٍ | *** | إلَّا عَلَى أكْمَهٍ لَا يَعْرِفُ القَمَرَا۱ |
فَإنْ قُلْتَ بِالتَّنْزِيهِ كُنْتَ مُقَيِّدَاً | *** | وَ إنْ قُلْتَ بِالتَّشْبِيهِ كُنْ مُحَدِّدَا |
وَ إنْ قُلْتَ بِالأمْرَيْنِ كُنْتَ مُسَدِّدَا | *** | وَ كُنْتَ إمَامَاً في المعَارِفِ سَيِّدَا |
فَمَنْ قَالَ بِالإشْفَاعِ كَانَ مُشرِكَاً | *** | وَ مَنْ قَالَ بِالإفْرَادِ كَانَ مُوَحِّدَا |
فَإيَّاكَ وَ التَّشْبِيهَ إنْ كُنْتَ ثَانِياً | *** | وَ إيَّاكَ وَ التَنْزِيهَ إنْ كُنْتَ مُفْرِدَا |
فَمَا أنْتَ هُوَ! بَلْ أنْتَ هُو وَ تَرَاهُ | *** | في عَيْنِ الامُورِ مُسَرِّحَاً وَ مُقَيِّدَا٢ |
ظهرتَ فلا تخفى على أحدٍ | *** | إلّا على أكمهٍ لا يعرف القمرا |
لكنْ بَطَنْتَ بما أظهرتَ مُحتجباً | *** | فكيف يُعرف مَنْ بالعُرف مستترا |
و الخلق كلّهم أستار طلعتها | *** | و الأمر أجمعهم كانوا لها نقبا |
ما في التستّر في الأكوان من عجبٍ | *** | بل كونها عينها فيما ترى عجبا |
سُبحان من أظهر ناسوته | *** | سرَّ سنا لاهوته الثَّاقبِ |
ثم بدا في خَلْقه ظاهراً | *** | في صورة الآكل و الشاربِ |
توهمّتُ قِدْماً أنّ ليلي تَبَرْقَعَتْ | *** | و إنّ لثاماً دونها يمنعُ اللَّثما |
فلاحتْ فلا والله! ما كان حَجْبُها | *** | سِويأ نّ طرفيكانعن حُسْنهاأعمي |
مظاهر الحقّ لا تُعدُّ | *** | والحقّ فينا لا تحَدُّوا |
إن أبطنَ العبدُ كان ربُ | *** | أو أظهر الربَّ كان عبدُ |
...۱
مائيم كز خدا چو خدائي جدانئيم | *** | از وي جدا نئيم وليكن خدا نئيم |
در بحرعشق كشتي فانيما شكست | *** | تا اوشديم اوست، كه مائيم وما نئيم |
با من بودي، منت نميدانستم | *** | يا من بودي، منت نميدانستم |
رفتم چو از من ميان، ترا دانستم | *** | تا من بودي، منت نميدانستم |
جاء في رسالة آية الله بحر العلوم أنه.۱
إن لم نستطع بسبب قصورنا، «الوصول و مشاهدة الله سبحانه و تعالى» إذاً على أساس الحديث رَأيْتُ رَبِّي نُورَانِيَّاً ... بصفة النور اللامتناهي المساوي للبصيرة «الرؤية بعين الباطن و المشاهدة القلبيّة لتجلّياته».
و روى في رسالة «جامع الأسرار» عن رسول الله قوله: رَأيْتُ رَبِّي بِعَيْنِ رَبِّي.٢
الروايات الواردة في تجلّي الله في صور مختلفة
و روى في هذه الرسالة أيضاً، عن عبدالرحمن بن عوف، عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. رَأيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَ تعالى لَيْلَةَ المعْرَاجِ في أحْسَنِ صُورَةٍ، فَقال: بِمَ يَخْتَصِمُ الملُا الأعْلَى يَا مُحَمَّدُ؟!
قُلْتُ: أنْتَ أعْلَمُ، أي رَبِّ! مَرَّتَيْنِ.
قال: فَوَضَعَ اللهُ تعالى كَفَّهُ بَيْنَ كِتْفِي؛ فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَي، فَعَلِمْتُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَ مَا في الأرْضِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ».٣
و من المناسب أن نورد هنا مطالب من كتاب المحقّق الفيض
القاسانيّ «كلمات مكنونة»:
روى عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال: نَزَّلُونَا عَنِ الرُّبُوبِيَّةِ ثُمَّ قُولُوا في فَضْلِنَا مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإنَّ البَحْرَ لَا يُنْزَفُ، وَ سِرُّ الغَيْبِ لَا يُعْرَفُ، وَ كَلِمَةُ اللهِ لَا تُوصَفُ.
و روى كذلك من أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: نَحْنُ أسْرَارُ اللهِ المودَعَةُ في هياكِلِ البَشَرِيَّةِ.
و ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قوله: اجْعَلُوا لَنَا رَبَّاً نَؤُبُ إليه؛ ثُمَّ قُولُوا في فَضْلِنَا مَا شِئْتُمْ!
و ورد عن الصادق عليه السلام أيضاً قوله: إنَّ الصُّورَةَ الإنسَانِيَّةَ أكْبَرُ حُجَّةِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَ هي الكِتَابُ الذي كَتَبَهُ بِيَدِهِ. وَ هي الهَيْكَلُ الذي بَنَاهُ بِحِكْمَتِهِ. وَ هي مَجْمُوعُ صُوَرِ العَالمينَ. وَ هي المخْتَصَرُ مِنْ العُلُومِ في اللَّوْحِ المحْفوظِ. وَ هي الشَّاهِدُ عَلَى كُلِّ غَائِبٍ. وَ هي الحجَّةُ عَلَى كُلِّ جَاحِدٍ. وَ هي الصِّرَاطُ المسْتَقِيمُ إلى كُلِّ خَيْرٍ. وَ هي الصِّرَاطُ الممْدُودُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱
و في الحديث النبويّ المشهور: إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ.٢ و في رواية عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ.
قيل: أي أنه خلق آدم على صفته هو: حيٌّ، عالم، مريد، قادر، سميع، بصير و متكلّم.
و لأنّ حقيقة كلّ شيء تتحقّق في الخارج مع صورته، فإنّ لفظ الصورة يطلق مجازاً على الأسماء و الصفات، لأنّ الحقّ سبحانه بها يظهر و يتجلّى في الخارج، و مثل هذا التعبير المجازيّ متداول معهود عند أهلالظاهر.
معنى أنّ الله خلق الإنسان على صورته عند المحقّقين
أمّا عند المحقّقين فَالصُّورَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُعْقَلُ مِنَ الحَقَائِقِ المجَرَّدَةِ الغَيْبِيَّةِ، وَ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِهَا.
وَ الصُّورَةُ الإلَهِيَّةُ هُوَ الوُجُودُ المتَعَيَّنُ بِسَايِرِ التَّعَيُّنَاتِ التي بِهَا يَكُونُ مَصْدَرَاً لِجَمِيعِ الأفْعَالِ الكَمَالِيَّةِ وَ الآثَارِ الفِعْلِيَّةِ.
فإن سأل سائل: كيف أمكن إطلاق لفظ الصورة على الله تعالى؟
نجيب: حسب قول أهل الظاهر كان ذلك مجازاً لا حقيقة، فإنّ إطلاق اسم الصورة عندهم على المحسوسات حقيقة و على المعقولات مجاز.
أمّا عند هذه الطائفة، فلأنّ العالم بكلّ أجزائه الروحانيّة و الجسمانيّة و الجوهريّة و العرضيّة هو الصورة التفصيليّة للحضرة الإلهيّة، و الإنسان الكامل صورته جمعاً، فإنّ إضافة الصورة إلى الحقّ تعالى حقيقة؛ و لسواه مجاز، إذ لَا وُجُودَ عِنْدَهُمْ لِلسِّوي؛ كما قال قائلهم:
ياري دارم كه جسم و جان صورت اوست | *** | چه جسم و چه جان، هردو جهان صورت اوست |
هر معني خوب و صورت پاكيزه | *** | كاندر نظر تو آيد، آن صورت اوست۱ |
و كم كان بيان المولى الروميّ لهذه الحقيقة جميلًا في عدّة أبيات في «المثنوي»:
گر تو آدم زادهاي، چون او نشين | *** | جملة ذرّات را در خود ببين |
چيست اندر خم كه اندر نهر نيست | *** | چيست اندر خانه، كاندر شهر نيست |
اين جهان خُمّ است، و دل چونجوي آب | *** | اين جهان حجره است، و دل شهرعُجاب۱ |
أجل، فقد كان الكلام في أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم قد تلقّى القرآن من لدن حكيم عليم ذي جناب و مقام عزيز، كما قال تعالى في سورة غافر:
حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.٢
و من المعلوم أنّ كتاباً مثله نزل من جانب العلم المطلق و الحكمة المطلقة و العزّة المطلقة هو عين الحقّ و الأصالة و الواقعيّة، و لا يمكن أن يكون غير ذلك و الحال أنه نزل من جانب الخالق الحقّ من جميع جهاته، ذاتاً و صفة و اسماً و فعلًا؛ كما يقول تعالى:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.۱
و قال تعالى: الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ.٢
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.٣
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ.٤
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ.٥
وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.٦
و كما هو مشهود في هذه الآية، فإنّ نزول الكتاب قد قُرن بنزول الحكمة، أي أنّ كتاب الله لا ينفصل عن الحكمة و لا ينفكّ عنها أبداً، فالحكمة هي العلم بالحقائق و الواقعيّات على ما هي عليه، و لهذا فقد كان نزول القرآن مقارناً للإتقان و الأحكام و الحقّانيّة، لا يعتريه بطلان و لا يتطرّق إليه الخلل.
و جاء في القرآن الكريم نظير هذه الآية آيات كثيرة قد قرنت القرآن بالحكمة، غير الآيات التي نعتت القرآن صراحة بصفة الحكمة مثل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ.۷
و: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.۱
و هناك آيات قرآنيّة بهذا المفهوم تصرّح بأنّ القرآن كتاب علم، وضعت آياته و فصّلت على أساس العلم، و لابدّ لمثل هذا الكتاب من أن يخلو من الجهل و الشكّ و الفرضيّات غير القائمة على محور العلم و البرهان و النظريّات غير المستندة على الحقّ و اليقين و الأصالة الراسخة.
يقول في سورة الأعراف: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.٢
و يقول في سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ، ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً.٣
حتّى يصل بعد هذا إلى إنذار اولئك الذين يعتمدون على الظنّ و الخيال كأساس في امورهم، و يتكلّمون بما لم يحرزوا علمه و يقينه، و يرسّخون على ذلك عقائدهم، فيقول في ذلك:
وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً.٤
و الملاحظ هنا أنّ القرآن يفنّد بشدّة قولهم باتّخاذ الله ولداً، لأنّه لا يستند إلى علم و لا يعتمد على برهان، فيدعوه لهذا السبب وحده بالكذب، و ينسب إليه م القول السيّئ و القُبح الكبير الذي يخرج من
أفواههم، و خاصّة باستعماله تعبير تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ بدل تعبير يعلمون و يعتقدون و أمثالهما، فهو يدين قبح ورداءة و دناءة العقائد الظّنيّة و الوهميّة الواهية، و يدين بشكل عامّ جميع الامور غير إلى قينيّة.
و تعدّ مسألة محاربة القرآن ليس فقط للجهل و التخلّف، بل لجيمع المسائل غير العلميّة، من المسائل المهمّة جدّاً، بل من أهم المسائل، حيث دحض القرآن بشدّة آراء و أفكار الذين يعتمدون على الفرضيّات غير العلميّة و فنّدها، فهو تارة يقول:
وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا.۱
و يقول تارة في سورة النجم. إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.٢
ثمّ يقول بعد ثلاث آيات من نفس السورة:
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ، وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.٣
ثمّ يأمر الله نبيّه في سياق هذا الموضوع أن يُعرض عمّن تولّى عن ذكر الله فانحصر هدفه في الحياة المادّيّة و الحيوانيّة و الشهوات الدنيويّة، فكان هذا مبلغه من العلم لم يتعدّاه إلى سواه، فكانت ثروة هؤلاء الأفراد العلميّة محدودة بالحياة الدنيا، لم يتوجّهوا إلى الباطن و الحياة العلويّة فبقوا
حبيسي سجن الطبيعة و أسوارها: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.۱
آيات القرآن تنهى بشدّة عن اتّباع الظنّ، و العمل بلا علم
و من العجب أنّ هذا القرآن الذي استُخلِص من العلم يأمر في تعاليمه بالعلم أيضاً، و يذمّ اولئك الذين يتّبعون الظنّ، و بشكل عامّ اولئك الذين يتّبعون الامور غير العلمّية، فيقول في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.٢
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ.٣
وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ.٤
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً.٥
وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ.٦
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.۷
وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ ، وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.۸
وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ.۱
لقد دعا القرآن الكريم على الدوام ناظريه إلى موضوع حقّانيّته، و أبان في الكثير من الموارد عن حقيقته و واقعيّته، و دعا الناس إلى متابعة نهجه في آرائهم و أفكارهم و مسائلهم، و أن يلوموا أنفسهم في موارد الشكّ و الشبهة، لأنّ ما خطر بذهنهم ممّا يخالف حقيقة القرآن و حقّانيّته و واقعيّته ما هو إلّا باطل وهراء.
فيقول بشأن جماعة المنافقين الذين يقرأون القرآن و يفتقدون مع ذلك الإيمان الحقيقيّ:
وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا ، أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً.٢
إ نّ هذا القرآن بانسجام مضامينه و بيانه و خلّوها من الاختلاف و التناقض، لم يستطع أحد رغم كرّ الدهور و مرور الأجيال، و تعاقب الطوائف و الاتّجاهات من عدو و صديق أن ينتقده أدنى انتقاد، أو يجد فيه أدنى اختلاف و تناقض، أو يُظهر مغايرة اصوله العامّة و معارفه الحقّة الإلهيّة، أو حكاياته و قصصه للتأريخ القطعيّ الصحيح، أو أن يطعن بقوانينه و أحكامها و يثبت مخالفتها للعلم.
كلّ هذه دلائل و آيات على أنّ هذا الكتاب قد اخذ من الحقّ، و نقل من الحقّ، و نزل بالحقّ، و في هذه الحال معلوم أن.
فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.۱
عجز الاكتشافات العلميّة و الفلسفيّة عن الطعن بأصالة القرآن و حقّانيّته
و لدينا آية قرآنيّة كريمة تظهر صراحة أنّ جميع العلوم الحقّة و المعارف الصحيحة في أي من الفروع و الاختصاصات؛ من تأريخ و جغرافية و طبّ، و علوم الفيزياء و الكيمياء و الرياضيّات، و الهيئة و النجوم و الجيولوجيا (علم طبقات الأرض)، و العلوم الإنسانيّة و علم الاجتماع، و الفرضيّات و النظريّات العلميّة الصحيحة، و نظائر هذه العلوم التي تصعب على الحصر؛ لا يمكن لأيّ منها أن يقدح في أبسط مورد من بيانات القرآن، أو أن يورد نقضاً وردّاً على أصلٍ من اصوله أو فرع من فروعه، أو أن يورد خدشاً و تشكيكاً في مسألة حقّانيّته، و بعبارة اخرى فإنّ القرآن كتابٌ لا يأتيه الباطل من أي أمر و أيّة جهة.
و القرآن بالنسبة للعلوم المكتشفة من زمن آدم إلى زمن نزوله، و من زمن نزوله إلى يوم القيامة، لا يتغيّر و لا يتبدّل، هو القدوة في جميع هذه
المراحل باعتماده على الحقائق و الواقعيّات، و هو المتفوّق و الحاكم و المهيمن على جميع الآراء و الأفكار و الثروات العلميّة و العلوم التجريبيّة و العقليّة. و تلك الآية هي:
وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.۱
قال الاستاذ آية الله العظمى العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته المنيفة في بيانه لتفسير هذه الآية المباركة:
و قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، الضمير للذكر و هو القرآن، و العزيز عديم النظير أو المنيع الممتنع من أن يُغْلَب، و المعنى الثاني أنسب لما يتعقّبه من قوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ؛ و معنى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، إتيان الباطل إليه و وروده فيه و صيرورة بعض أجزائه أو جميعها باطلًا، بأن يصير ما فيه من المعارف الحقّة أو بعضها غير حقّة، أو ما فيه من الأحكام و الشرائع و ما يلحقها من الأخلاق أو بعضها لغواً لا ينبغي العمل به.
و عليه فالمراد بقوله: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ زمانا الحال و الاستقبال، أي زمان النزول و ما بعده إلى يوم القيامة.
و قيل: المراد بما بين يديه و ما خلفه جميع الجهات، كالصباح و المساء كناية عن الزمان كلّه، فهو مصون من البطلان من جميع الجهات، و هذا العموم على الوجه الأوّل مستفاد من إطلاق النفي في قوله: لَا يَأتِيهِ.
و المدلول على أي حال أنه لا تناقض في بياناته، و لا كذب في أخباره، و لا بطلان يتطرّق إلى معارفه و حكمه و شرائعه، و لا يُعارَض
و لا يُغيَّر بإدخال منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه، فالآية تجري مجرى قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱
و قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. بمنزلة التعليل لكونه كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل ... إلى آخره، أي كيف لا يكون كذلك و هو منزل من حكيم متقن في فعله لا يشوب فعله وهن، و هو محمود على الإطلاق؟٢
و يجب البحث و التفحّص لمعرفة سرّ أبديّة أحكام القرآن المنطبقة على الحقّ و خلود معارفه و عقائده و أخلاقيّاته و شرائعه و أحكامه.
أحكام الإسلام على أساس الفطرة، و المنحرفون عنه في خسر
إ نّ من بديهيّات الدين الإسلاميّ أنه دين ثابت دائم إلى يوم القيامة، و أنّ النبيّ الأكرم محمّد بن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم خاتم الأنبياء و المرسلين، و أنّ الكتاب السماويّ. القرآن الكريم، هو برنامج العمل لجميع المجتمعات البشريّة إلى يوم الجزاء.
و لإيضاح الأمر، نقول. إنّ الأحكام و التعليمات قد تكون راجعة لأفراد خاصّين، و بشأن موضوعات مشخّصة و معيّنة، كأن يصف الطبيب الفلانيّ للمريض الفلانيّ دواء فيأمره أن يتناول منه صبح يوم معيّن مقداراً محدّداً.
و بالطبع فإنّ هذا الدواء الخاصّ الوارد لموضوع خاصّ لا يمكن استعماله لموارد اخرى لها مغايرة من جهة الموضوع.
و قد تكون الأحكام و التعليمات غير راجعة لأفراد خاصّين، بل تكون عامّة صالحة للأنواع و الأجناس و الأصناف و الطبائع الكلّيّة، كأن يقول الطبيب. إنّ مَن لديه مرض الصفراء فعليه أن يتناول من شراب
السكنجبين،۱ أو أن يقول: إنّ شراب السكنجبين رافع للصفراء؛ فالحكم في هذا المثال كلّيّ ينطبق على جميع الأفراد المنضوين تحت هذا العنوان، و أنّ على جميع مرضى الصفراء مهما اختلفت خصائصهم؛ رجالًا و نساء، بيضاً و سوداً، صغاراً و كباراً، أحراراً و عبيداً، مؤمنين و كافرين، طوالًا و قصاراً، شرقيّين و غربيّين؛ أن يستعلموا هذا الدواء.
و لا دخل لخصائص الأفراد هنا في تأثير الدواء، فإنّ فائدته بالنسبة لجميع الأفراد على حدٍّ سواء، لأنّ العامل الوحيد المؤثّر هو وجود مرض الصفراء في مزاج الأفراد بغضّ النظر عن الشرائط المحيطيّة و الزمانيّة و المكانيّة.
إ نّ الإنسان يمتلك طبعاً و فطرة مادّيّة و جسمانيّة، و يمتلك أيضاً فطرة معنويّة و روحانيّة، و ينبغي أن تتصاعد قابليّة الإنسان إثر مرور السنين و تدرّج العمر بالحركة الجوهريّة إلى مقام الكمال، بل إلى مقامه الأكمل، فيصير إنساناً كاملًا و يرقى إلى درجة الفعليّة المحضة، أي أن تصبح جميع جهات استعداده و قابليّاته فعليّة.
و يتحقّق هذا الأمر عندما تتلاءم مسيرة الإنسان و حركته و تنسجم مع مسير الفطرة و خطّها، و إلّا فإنّ الانحراف عن مسار الفطرة سيؤدّي إلى إهدار القابليّة الذاتيّة بنفس نسبة الانحراف، و سيستحيل لذلك تحقّق الفعليّة، و بتعبير القرآن الكريم فإنّ الضلال - أي. التيه و الضياع و الموت و الفناء في المراتب المتدنّية - سيعترضه قبل بلوغ المقصد الأسمى:
وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ.٢
وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.۱
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.٢
وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً.٣
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.٤
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى.٥
فإنّ الشرك بالله، و الكفر، و عدم الإيمان بملائكة الملأ الأعلى، و رسل الله و كتبه السماويّة، و موقف القيامة، و عصيان الله و رسوله، تمثّل انحرافاً عن خطّ الفطرة؛ و ضدّها الطاعة و قبول هذه الحقائق و هو ما يوافق الفطرة و الغريزة الأوّليّة المودعة من قبل الباري، و الدين الإسلاميّ يؤيّد و يسدّد هذا الأمر الفطريّ الإلهيّ المودع، و يحصل هذا الإمضاء و دلالته بالوعي و الإدراك الباطنيّ و نور البصيرة الخالي من شوائب الهواجس النفسيّة و الآراء و الأهواء الشيطانيّة، الذي اودع في كيان الإنسان و اختفى فيه، و اختمرت به النفس الإنسانيّة و امتزجت.
و عموماً، فإنّ جميع أحكام الإسلام - التي تشكلّ بمجموعها الدين - قد صيغت على أساس الرغبات الفطريّة و الاحتياجات الخفيّة المودعة التي يحتاجها الإنسان و يتطلّبها في مسيرته نحو الكمال، و قضاء العمر مع حركة الزمان و المكان، و الوصول لأعلى مدارج و معارج البشر.
و جاء الدين الإسلاميّ بتعاليمه و أحكامه و مطالبه - طبقاً لكتاب القرآن السماويّ - و هو منتزع من الفطرة، و قد شرّعت أحكامه و قنّنت قوانينه متماشية و منسجمة مع الاحتياجات الباطنيّة في الخلقة التي يجب أن يتمتّع بها الإنسان في مسيرته.
فأحكام القرآن منتزعة من الطبائع الأوّليّة للإنسان و الغرائز التي خلقها الله مع البشر، و لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو تنمية هذه الغرائز و تكميلها، فقد كانت على الدوام ثابتة لا تتغيّر، إلّا إذا فقد الإنسان غرائزه فتحوّل عندئذٍ عن إنسانيّته و بشريّته، و هو افتراض تبدّل الماهيّة و تغيّرها، و هو محال. فمادام الإنسان إنساناً، فهذه الأحكام سارية، و هي له كالغذاء إذ لابدّ لها من أن تسدّ احتياجاته كالأكل و الشرب. و الإنسان هو إنسان أبداً.
و السبب العامّ لهذه الفلسفة الكلّيّة هو أنّ الخصائص و الميزات الفرديّة لا علاقة لها و لا دخل في هذه الأحكام، إذ إنّ كلّ حكم قد جعل لموضوع معيّن، و وجود ذلك الموضوع الكلّيّ هو العلّة التامّة لاستجلاب ذلك الحكم دون تدخّل الخصوصيّة الفرديّة.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.۱
تبيّن هذه الآية أنّ أساس الدين قائم على أساس الفطرة الإنسانيّة الثابتة، و باعتبار انتفاء أي تغيير و تبدّل في خلقة الإنسان و بنائه الروحيّ و النفسيّ و الجسميّ، فإنّ هذا الدين ثابت و راسخ لا يتغيّر.
و تُظهر هذه الآية جهل أكثر الناس بهذه الحقيقة، و تبيّن أنّ عموميّة الأحكام تستند على الإنابة و الرجوع إليه و التقوى و إقامة الصلاة و نفي الشرك، و تظهر أنّه ينبغي للسير الحقيقيّ و التكامليّ للبشر أن يرتكز على طهارة النفس و الانقطاع للربّ الودود، فيعدّ المال و الولد و التجارة و الزراعة و الصناعة اموراً ثانويّة و مقدّمة لحصول الكمال الروحيّ و الصلاح الحقيقيّ للإنسان، و ينبغي النظر لها على أنها توابع و لواحق لا اصول و مبادئ، و أن تقيّم باعتبارها مقدّمة ليس إلّا، و قد دوّن الإسلام القوانين و أحكام المعاملات و المكاسب على هذا الأساس.
إ نّ الاهتمام بالعلوم الاقتصاديّة بالشكل الذي يعيق الإنسان عن الأعمال الروحيّة و الكمال المعنويّ ستكون عاقبته الإضرار بالمجتمع و الفرد، و معاكسة للاتّجاه الواقعيّ للمسيرة الإنسانيّة على طريق الفطرة بحثاً عن الجوهرة المفقودة المنشودة.
طريق التكامل هو الإيمان بالله و الخشية من الرجوع إليه
و كم هو جميل ذلك التعليم الخالد للقرآن الكريم حين يبيّن لنا هذاالمعنى:
أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ ، إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ ، وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ ، أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ.۱
تعاليم القرآن هي الصراط المستقيم، و هي قائمة على نهج العقل و الفطرة
إ نّ طريق الفطرة و مسيرتها هو الصراط المستقيم الذي جرى البحث عنه مفصّلًا فيما مضى، و قد وضع الشارع المقدّس تعاليمه وفق هذا
الاسلوب أيضاً، و من الواضح أن لا منافاة بين حكم العقل و حكم الفطرة، و أنّ كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ العَقْلُ حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ، وَ كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ حَكَمَ بِهِ العَقْلُ. صادق لكلا الطرفين.
لاحظوا كيف أبان القرآن الكريم في الآيات اللاحقة عن أحكامه الواضحة البيّنة التي يقرّها العقل و يختارها و يحكم بها الفطرة السليمة و العقل القويم، ثمّ يقول في آخرها. إنّ هذا هو الصراط المستقيم الذي ينبغي أن تتّبعوه و لا تتّبعوا السبل الاخرى فتفرّق بكم عن طريق الله و سبيله، لأنّ نهجها و اسلوبها لا ينسجم مع حكم الفطرة، بل يعاكسه و يعارضه.
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ، وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.۱
لاحظوا كيف بني القرآن في هذه الآيات تعاليمه و أوامره على أساس الوعظ و بيان العلّة و الهدف منها! و كيف يذكر بصراحة و وضوح هذه التعاليم التي يقرّها العقل القويم و الفطرة السليمة بعنوان تلاوة و توصية الخالق المربّي، ثمّ يعلن أنّ هذا هو صراطه المستقيم، و ما عداه غشّ
و كدورة و لوث و انحراف، و رشح من النفوس الخبيثة و الكيانات الدنسة توطئة للظلم و العدوان، و حركة نشأت على أساس الاعتداء و التفرقة و نجمت من القبائح و المنكرات الظاهريّة و الباطنيّة.
و كأنّ هذه الآيات تحاور و تخاطب باطن الإنسان و أعماقه، و هذا هو معنى خلود الآيات المستند على أساس راسخ و قاعدة أصيلة، و هذا هو البرنامج العمليّ الذي لا يتغيّر إلى يوم القيامة لكلّ فرد، و في أي مجتمع، و في أي زمان و مكان، بلا استثناء و لا حدود، و الذي يحدّثنا به النبيّ العظيم الشأن، تلاوة و قراءة، عن الله الربّ الرحيم.
فذلك النبيّ الذي كان أحد جنبيه تجاه عالم الغيب، و جنبه الآخر نحو عالم الشهادة، كان يتلقّى من هناك، فينقله و يعكسه هنا، يتلقّى من هناك: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ،۱ و هو هنا أشبه بأمواج النور المعنويّ و الملكوتيّ يسدّ افق الملك، و تنبثق نبراته من حنجرته المباركة فتصل إلى القطبين، و تسخّر الخافقين، و تترك أرواح العشّاق و الوالهين للوصول و لقاء جمال الحقّ مترنّمة إلى يوم القيامة بهذه الانشودة.
معنى ظهر القرآن و بطنه، و حدّه و مطّلعه، و جريانه مجرى الشمس و القمر
يروي العيّاشيّ في تفسيره، بإسناده، عن فضيل بن يسار أنه قال: سَألْتُ أبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَآية: مَا مِنْ القُرْآنِ آيةٌ إلَّا وَ لَهَا ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ؛ وَ مَا فِيهِ حَرْفٌ إلَّا وَ لَهُ حَدٌّ، وَ لِكُلِّ حَدٍّ مُطَّلَعٌ؛٢ مَا يَعْنِي بِقوله: لَهَا ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ؟
قال عليه السلام: ظَهْرُهُ تَنْزِيلُهُ؛ وَ بَطْنُهُ تَأوِيلُهُ؛ وَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ. يَجْرِي كَمَا يَجْرِي الشَّمْسُ وَ القَمَرُ. كُلَّمَا جَاءَ شَيءٌ وَقَعَ. قَالَ اللهُ تعالى: «وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ».۱ نَحْنُ نَعْلَمُهُ.٢
سبب قراءة قصص القرآن هو وجود أشباهها في نفوس الناس جميعاً
و يستفاد من هذه الروايات أنّ الآيات تمتلك معانٍ عامة و كلّيّة، و أنّ آيات القرآن شاملة لكلّ الطوائف، ما كان منها و ما سيأتي، كالشمس و القمر في حركتهما الدائمة الدائبة في السماء فهما ينيران كلّ نقطة يصلانها، و لا اختصاص لهما بمكان دون مكان، و القرآن كذلك، فهو كالشمس و القمر كلّما واجه أحداً، في أي زمان و مكان (من زمن القرآن أو قبله إلى يوم القيامة، و لكلّ نقطة من الكرة الأرضيّة. شمالًا و جنوباً، شرقاً و غرباً أو استواء، قديم القارّات و جديدها؛ رجالًا و نساء، بيضاً و سوداً ...) أعطاه حكماً و نوراً، ثمّ يتعدّاه إلى الآخرين الذين يأتون فيما بعد فيعطيهم حكمه و نوره، و هكذا.
و بهذا المعنى قد جاءت قصص القرآن الكريم، فحين يحكي القرآن
حال نبيّ أو حال امّته فلا اختصاص في ذلك بهم، بل يتعدّاهم و يشمل من كان قبل ذلك النبيّ و من جاء بعده۱.
و لتوضيح ذلك، لابدّ لنا من بيان أمر مهمّ لما فيه من ضرورة، و هو. نعلم أنّ الكثير من القصص قد وردت في القرآن الكريم. كقصّة آدم و حوّاء و الشيطان، و الخروج من الجنّة، و توبة آدم، و وعظ الله آدم، و سجود الملائكة و تمرّد الشيطان، و قصّة نوح و نصحه قومه و مخالفتهم إيّاه، و نصحه ولده و عصيان ولده، و الطوفان، و غرق الجميع إلّا نوحاً و من تبعه، و قصّة لوط و معصية قومه، و قصّة شعيب، و صالح، و قصّة موسى و عيسى و إبراهيم، و كذلك القصص المختلفة الاخرى، كقصّة أبرهة و الأبابيل، و ذي القرنين، و سليمان و بلقيس، و داود و التحاكم عنده، و قصّة يوسف و زليخا و يعقوب و مملكة مصر و سجود إخوته، و قصّة إسماعيل و الإقامة في مكّة بعد الهجرة من الأرض المقدّسة، و كثير من القصص الاخرى التي يطول الأمر بذكرها جميعاً.
و نحن مأمورون بقراءة هذه الآيات و القصص و الحكايات و تلاوتها، و نقرأها في الصلاة فلا تقبل صلاتنا إلّا بقراءة قدر من القرآن، و هذه القصص من جملتها.
و نجد مضافاً إلى ذلك أنّ الله تعالى ينبّهنا دوماً بذكر: إذ قال، إذ قال، إذ قال عيسى كذا، و إذ قال موسى كذا، أو بعبارة اذكر، كقوله تعالى:
وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا.۱
وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا.٢
وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا.٣
وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ.٤
وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا.٥
وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ.٦
وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ.۷
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ.۸
وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ.٩
فَلِمَ نزلتْ هذه الآيات التي ورد الكثير منها في سورة مريم، و سورة ص، و ورد بعضها في سورة الأحقاف، و التي نقرأها بعنوان التعبّد، بل لأنّ
تلاوة كلام الخالق أفضل العبادات؟
أفكان القصد من ذلك العلم بسيرة الأوّلين؟ و على هذا الفرض، فما فرقة عن سماع القصّاصين، فالقصّاصون يروون حكايات يسمعها الناس بدون أن يترتّب على ذلك أثر و نتيجة.
كلّا، فالأمر مختلف عن ذلك، بل إنّ القصد و الهدف أكبر من مجرّد بيان أحوال و سيرة الامم السالفة كما يفعل علم التأريخ و علم الرجال و التراجم، و هو أن نقرأ هذه القصص بعنوان التقرّب إلى الله، الذي هو مخّ و أساس العبادة، نقرأها صباحاً و مساء في البيوت مضافاً إلى أوقات الصلاة، لا يوماً أو يومين بل ما بقي الدهر، و نتلوها و نتدبّر في معانيها و مغزاها و نتائجها.
قصص القرآن الخاصّة عبرة لجميع الناس
و يعود ذلك إلى أنّ هذه القصص في الحقيقة منتزعة من أعمالنا نحن، و صفاتنا، و عقائدنا، كلّ ما في الأمر أنها حكاية عن اناس جاءوا و ذهبوا كانوا يشبهوننا في جميع الجوانب، و علينا أن نقرأ هذه القصص للتدبّر و الاعتبار و الاتّعاظ، فنلحظ نقاط الضعف و القبح في نفوسهم و نبحث عن أشباهها في نفوسنا فنصلحها و نقوّمها، و نلحظ نقاط القوّة و الفضل فيهم فنقوّيها أو نوجدها في نفوسنا.
و بعبارة اخرى فإنّ في نفوسنا فرعون و موسى، و حواريو ابن مريم، و الأقباط و بني إسرائيل الأسباط، و إليه ود و عيسى ابن مريم، و في نفوسنا نمرود و إبراهيم، آدم و حوّاء، هابيل و قابيل، قوم عاد و هود، قوم ثمود و صالح، أبرهة و أفياله الحربيّة و عبدالمطّلب، و أخيراً محمّد و علي و المنافقون و المشركون و الكافرون الذين نقرأ سيرتهم و حياتهم في السور القرآنيّة الكريمة:
فحين نقرأ في قصّة موسى و بني إسرائيل عن تباطئهم و فتورهم
و اعتراضاتهم و إشكالاتهم التي كانوا يبدونها بلا داع، انتهاء بعبادة العجل و ضياعهم في التَّيْه، فعلينا أن نعي جيّداً أنّ هذه الاعتراضات و الأسئلة و التباطؤ و الفتور و الاهتمام بالامور النفسيّة و عبادة الآثار و الميل للشرك موجودة فينا نحن أيضاً. و إذا ما غفلنا - نحن المسلمون - عن أنفسنا لحظة و اتّجهنا نحو عبادة المادّة و الزخارف الدنيويّة، فإنّ تلك الأخلاق السيّئة و الصفات الرذيلة و الأعمال المنحطّة ستنتقل جميعها إلى نا، فيصبح موسى في وجودنا ضعيفاً وحيداً مخذولًا لا ناصر له و لا معين.
أمّا إذا كان لدينا نحن أيضا الإيمان و الثبات و اليقين بالله الذي كان يمتلكه موسى، فسنكون من المخلَصين و من العبيد التامّين في عبادة الله المطيعين له، و لن يمكن للنفس الأمّارة أن تُردينا في الهلكات.
نعم، حين نقرأ في القرآن: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.۱
إلى آخر الآية الثامنة و الثلاثين لتلك السورة، التي تحدّثت بأجمعها عن آدم و تعليمه الأسماء كلّها، ثمّ عرضهم على الملائكة و إظهارهم عجزهم عن العلم بالأسماء، و سجود الملائكة و تمرّد إبليس، و خطاب الحقّ تعالى لآدم و حوّاء أن يسكنا الجنّة و لا يقربا هذه الشجرة، ثمّ إغواء الشيطان لهما و أمر الله لهما بالهبوط إلى الأرض، ثمّ تلقّي آدم كلماتٍ من ربّه و قبوله توبته، و نصح الله و وعظه لهما أن لا يخافا و لا يحزنا إن تبعا هدى الله؛ فهي كلّها ترجع إلى نا جميعاً واحداً واحداً.
فنحن أيضاً كنّا في أعماقنا مُخاطَبين لأمر الله و نهيه، و مخلوقين
و مُعَلّمين الأسماء و مأمورين في نفس الوقت بالسجود، و سيحلّ علينا عند تمرّدنا غضب الله و لعنته، و كنّا مأمورين بالسكنى في الجنّة و عدم الأكل من الشجرة، ثمّ المخالفة الناجمة عن الجهل و الغفلة، ثمّ الهبوط إلى عالم الأرض و إلقاء التوبة و قبولها عند المتابعة، و غير ذلك من الوقائع حذو النعل بالنعل.
أي أنّ في نفوسنا آدم و حوّاء، و شيطان و ملك، و كأنّ الله حين يقول: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ،۱ فقد كان يخاطبنا نحن ب: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ؛ فالأمر و النهي، و التمرّد و الطاعة، و التجرّي و الانقياد، و الوصول إلى مقام اللقاء و الفناء و البقاء و أعلى علّيين و سدرة المنتهى و غيرها، أو السقوط في حضيض النكبات و دركات الجحيم و غيرها، فقد كان جميع ذلك لنا نحن.
و لا اريد القول إنّ خطاب القرآن لآدم نوعيّ و راجع إلى الجنس لا إلى شخص آدم، لأنّ هذا القول خلاف الظهور، بل خلاف نصّ القرآن الكريم الذي خاطب شخص آدم و حوّاء؛ بل إنّ ما اريد قوله هو أنّ الخطاب إلى شخص آدم و حوّاء هو من جهة الملاك بعينه خطاب لنا نحن، و لأنّ الملاك تامّ و كامل فينا فليس من فارق يفصلنا عن آدم من جهة النتيجة و الأثر و الوصول إلى الجنّة و النار، أو السعادة و الشقاء.
و عليه، فجميع هذه القصص موجّهة لنا نحن، و تمثّل برنامج العمل و الموعظة و النصيحة، و لهذا الأمر فقد كان الباري عزّ و جلّ ينبّه في خاتمة هذه القضايا؛ كقصّة نوح و الطوفان مثلًا، و قصّة صالح و عقر الناقة و قوم ثمود، و قصّة هود و قوم عاد و عذابهم في سبع ليال و ثمانية أيّام بريح السموم و غيرها؛ و يقول إنّها تذكرة و عبرة للمتذكّرين و المعتبرين.
ففي خاتمة القصّة الطويلة المفصّلة ليوسف على نبيّنا و آله و عليه السلام يقول: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.۱
و حين بذكر بَلْعَمْ بَاعُورَاء الذي انحرف بعد العبادات الطويلة فتبع الشيطان و هوى نفسه الأمّارة و انسلخ عن الآيات التي وصلت إليه من قبل، و أخلد إلى ركوب الشهوات الدنيويّة، يضرب الله مثله بالكلب، ثمّ يقول:
ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.٢
و في سورة غافر يقول:
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ.٣
ثمّ بعد ثلاث آيات، يقول: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ.٤
للنفس الإنسانيّة قابليّة التكيّف مع أ يّ نوع من أنواع التعليم و التربية
لقد ثبت في علم الحكمة المتعالية و الفلسفة الإلهيّ أنّ النفس الإنسانيّة هيولائيّ، أي أنّ لها القابليّة المحضة لأيّ تعليم و تربية، وصولًا إلى أعلى درجات الكمال، أو سقوطاً في أدنى مراتب الخذلان.
فالنفس الإنسانيّة لو عُلّمت و مرّنت في أي مجال و تخصّص لتمرّست
و صارت قدوة في ذلك المجال، فلو عُلِّمت الطبّ لصارت طبيباً حاذقاً، و لو عُلّمت تلك النفس في مجال الأدب لتمخّضت عن أديب خطيب و شاعر بارع، و لو تمرّنت في مجال الرياضيّات التي تقابل الأدبيّات (حيث تحتاج الأخيرة لقدرة حفظ أكثر في حين تستلزم الاولى قوّة الفكر و المنطق) لصارت عالماً في الحساب و الرياضيّات؛ و لو اتّجه هذا الشخص نفسه في حقل النجارة لصار نجّاراً ماهراً، أو في الحدادة لنشأ حدّاداً يُشار إليه بالبنان، أو في مجال حفر الآبار لتخصّص في ذلك و تعلّم أسراره.
نعم، لو اتّجه هذا الشخص المذكور ذا النفس الإنسانيّة للبحث عن الأسرار الإلهيّة و المعارف إلى قينيّة لصار حكيماً و فيلسوفاً و عارفاً جليل المنزلة، أو لو اشتغل بعلم الحديث فقط لصار محدّثاً خبيراً، و لو انهمك في علم التفسير لنشأ مفسّراً ذا مقام مرموق، و لو درس الفقه لتكشّف عن فقيه كبير.
و على العكس من ذلك، فلو لم يكن في مقام تحصيل علم من العلوم، فإنّ قابليّاته ستقف و تتحدّد في هذا الإطار و الموضع، فإذا تبع قواه الشهويّة صار السبّاق إلى ركوب الشهوات المبرّز فيها، و لو تبع قواه الغضبيّة لنشأ سفّاكاً عجيباً و سفّاحاً للدماء لا نظير له، و لو انهمك في تقوية قواه الوهميّة لصار شيطاناً كبيراً و محتالًا ظالماً يسعى بأنواع المكر و الحيل و المكائد و إراقة دماء الكثيرين على وجه الأرض لسلب راحة الناس و زعزعة الهدوء و الاستقرار العامّ، ثمّ يخلد إلى فراشه يرقب و يتفرّج.
و خلاصة القول في معنى هيولائيّة النفس أنّها لو عُلّمت و دُرِّبت في علمٍ معين، أو ادخلت عالماً معيّناً، فإنّها ستتمرّس و تكتسب الخبرة، و إلّا فإنّ هذه القابليّة لن تصل بنفسها إلى مرحلة الفعليّة و لو مرّ عليها مائة ألف عامّ، بل ستبقى كما هي مبهمة بسيطة بكراً.
فلو فرضنا مثلًا أنّ فتاة و فتى قد وُضعا في جزيرة معزولة لا يتّصل بهما أحد من البشر، و لم يكن أي منهما قد قرأ كتاباً أو سمع خطبة، و وصلا إلى مرحلة البلوغ، فإنّهما لن يفهما أو يدركا معنى الزواج و الجماع أبداً، ولو قُدّر أن يبقيا على تلك الجزيرة حتى يهرما و يشيبا لبقيا يعيشان كأخوينِ أو كاختينِ.
لذا فإنّ الزواج و النكاح يحتاج حتماً إلى إشارة و دلالة، و هكذا بالنسبة للغضب و بروز قوّته، و لو لم يُعلِّم الغراب طريق القتل و الدفن لقابيل لما كان له خبر و علم عن قتل أخيه هابيل و دفنه، فلا دليل له إلى هذا الموضوع.
و نحن إذا ما رغّبنا النفس الإنسانيّة بأمر معيَّن لمالت إليه و رغبت فيه؛ فلو امتدحنا كنز المال و جمعه لمالت إلى ذلك و شغفت به، و لو عكسنا الأمر فرغّبناها بالبذل و الإنفاق لأنفقت أموالها جميعاً ثمّ جلست في زاوية عارية ليس لديها حتى ما يستر عورتها.
ولو تحدّثتَ معها عن الدنيا و مباهجها، و عن النشاطات الاقتصاديّة، و الاعتماد على النفس، و فوائد الجاه و حبّ الرياسة، و جمع المال و كنزه، و مصاحبة الغواني، و الترنّم بالأغاني، لوجدتَ أمامك بشراً شهويّاً و غولًا مادّيّاً مهيباً.
ولو بيّنتَ لهذا الشخص نفسه - لا لغيره - فناء الدنيا و اعتباريّتها، و أنّ السعي يجب ألّا يكون إلّا في سبيل الله، و عن مساوئ الرئاسة، و كنز الذهب و التزوير و الاحتيال، لصار أمامك بشراً ملكوتيّاً و ملَكلًا سماويّاً.
فحيناً يذهب إلى سجِّين و أسفَل السَّافِلِينَ، و حيناً يرقى إثر التربية إلى أعْلَى عِلِّيِّينَ.
وَ النَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا | *** | وَ إذَا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ۱ |
و هذا البيت من جملة أبيات لخويلد بن خال. أبي ذؤيب الهذليّ، حين مات أبناؤه الخمسة (أو العشرة) في يوم واحد بالطاعون، فهو يذكر في هذا البيت ثباته أمام المصاعب؛ و يقول في البيت الذي يسبقه:
وَ تَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ ارِيهُمُ | *** | أنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أتَضَعْضَعُ٢ |
وَ النَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا | *** | وَ إذا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ |
وَ مَا النَّفسُ إلّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الفَتَى | *** | فَإنْ اطْمِعَتْ تَاقَتْ وَ إلّا تَسَلَّتِ |
وَالنَّفْسُكَالطِّفْلِإ نْ تُهْمِلْهُ شُبَّ عَلَى | *** | حُبِّ الرِّضَاعِ وَ إنّ تَفطِمْهُ ينْفَطِمُ |
كَمْ مِن جَمِيلِ الشَّملِ مُلتَئمِ القُوَى | *** | كَانُوا بِعَيشٍ قَبلَنَا فَتَصَدَّعُ |
وَ الدَّهرُ لَا يَبْقِى عَلَى حَدَثَانِهِ | *** | مُستَشعِرٌ خَلَقُ الجَدِيدِ مُقَنَّعُ |
أمِنَ المنُونِ وَ رَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ | *** | وَ الدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتَبٍ مَنْ يَجْزَعُ |
قَالَتْ امَيْمةُ مَا لِجِسْمِكَ شَاحِباً | *** | مُنْذُ ابْتَذَلْتَ وَ مثل مَالَكَ يَنْفَعُ؟! |
أمْ مَا لِجِسْمِكَ لَا يُلَائِمُ مَضْجَعاً | *** | إلّا أقَضَّ عَلَيْكَ ذَاكَ المضْجَعُ |
فَأجَبْتُهَا أمَّا لِجِسْمِي إنَّهُ | *** | أوْدَى بَنِيَّ مِنَ البِلَادِ فَوَدَّعُوا |
أوْدَى بَنِيَّ فَأعْقَبُونِي حَسْرَةً | *** | بَعْدَ السُّرُورِ وَ عَبْرَةً مَا تُقْلِعُ |
وَ لَقَدْ حَرَصْتُ بِأنْ أدَافِعُ عَنْهُمُ | *** | وَ إذَا المنِيَّةُ أقْبَلَتْ لَا تُدْفَعُ |
وَ إذَا المنِيَّةُ أنَّشَبَتْ أظْفَارَهَا | *** | ألفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ |
وَ تَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ ارِيهُمُ | *** | أنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أتَضَعْضَعُ |
لابُدَّ مِنْ تَلَفٍ مُقِيمٍ فَانْتَظِرْ | *** | أبِأرْضِ قَوْمِكَ أمْ بِاخْرَى المضْجَعُ |
و رأينا أنّ ابن الفارض يقول بشأن هذا الإنسان الذي ينال مقامات سامية لا يرقى إليه ا الخيال، و يرد في حرم العزّ و حريم الأمن الإلهيّ، و تصدر منه المعجزات و الكرامات و خرق العادات:
هِيَ النَّفْسُ إن ألْقَتْ هَوَاهَا تَضَاعَفَتْ | *** | قُوَاهَا، وَ أعْطَتْ فِعْلَهَا كُلَّ ذَرَّةِ |
و يقول كذلك بشأن العلوم الغيبية التي تفاض على الإنسان في النوم:
وَ مَا هي إلَّا النَّفْسُ عِنْدَ اشْتِغَالِهَا | *** | بِعَالمهَا، عَنْ مَظْهَرِ الْبَشَرِيَّةِ |
و قد كان المراد من تعليم الأسماء الذي ذكره الله تعالى في سورة البقرة أن: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها۱ هي جميع حقائق الأشياء، و طريق الوصول إلى كلّ ما سوى الله تعالى، الذي اختصّ به آدم و حُرمت منه
الملائكة فلم يكن لها منه نصيب.
فينبغي أن توضع هذه القابليّة المحضة في طريق التربية و التعليم الصحيح لتصل إلى الفعليّة التامّة و يصبح الإنسان خليفة الله الفعليّ في عالم الوجود، و مرآة تامّة لظهور صفات و أسماء ذاته القدسيّة.
و يسهل في هذه الحالة التحكّم بالنفس الإنسانيّة عن طريق نوافذ الحواسّ الخمس الظاهرة، و منعها من الجموح كحصان هائج بلا عنان، لتنساق إلى أيّة مزبلة و تهوي و تتردّي. فالأفلام الشهويّة و الغضبيّة و الوهميّة تؤدّي إلى ضياع النفس، و الموسيقى غناء الشيطان تسلب العقل، أشبه بالشرابِ الذي يخرج الإنسان عن طوره، و يحصل أن تأخذه نشوة السكر مع لحن ما فيترنّح مخموراً نشواناً يطير فرحاً، و يحدث أن يسمع لحناً ما فيغتمّ و يحزن، فترتفع آهاته حرّى، و تتساقط دموعه غزيرة لا يملك حبسها و كفّها.
إ نّ على الإنسان - كي يصل للهدف الأسمى الذي رسمه القرآن الكريم - أن ينظّم حواسّه البشريّة بسائر جهاتها، البصريّة و السمعيّة و غيرها من الحواسّ، ليفسح المجال لتفتّح برعم روضة الإمكان، و لكي تعطي أغراس الإنسانيّة الثمار الحلوة، وإلّا فإنّها ستضيع و تندثر في المزابل المتعفّنة للجهل و الشهوة و الغضب.
و لقد جاءت قصص و حكايات القرآن الكريم لهذه الميزة و الغاية الكبرى، أي أنّ الإنسان بمقارنة تلك القضايا و التواريخ و السير سيرجع إلى نفسه و يتذكّر و يعتبر، فلا يسلك طريق جهنّم، بل سيضع خطواته على طريق السعادة و الجنّة، متابعاً في حركته رجال الحرام الإلهيّ الشجعان الصدّيقين، أي الأنبياء الإلهيّون و خصوصاً خاتم الأنبياء و المرسلين الجامع لكلّ كمالاتهم، و الوارث لجميع فضائلهم و مناقبهم، ثمّ يصل بالاستفادة
القصوى من تلك المتابعة إلى السعادة الأبديّة المطلقة.۱
إن اتّحاد النفوس في النيّات و القصد من القوّة و المتانة للحدّ الذي يمكن اعتبار القوم الراضين بعمل قوم آخرين شركاء معهم في ذلك العمل، يشملهم المدح و الذّم، مع أنهم لم يشتركوا معهم في إنجاز ذلك العمل.
و يعتبر السبب لورود سيرة موسى على نبيّنا و آله و عليه السلام و امّته في القرآن الكريم أكثر من قصص الباقين و سيرهم، حتى من سيرة إبراهيم الخليل عليه السلام، مع أنّ إبراهيم كان أفضل منه بلا شكّ؛ في أنّ امّة موسى لها مماثلة و مشابهة لهذه الامّة في كثير من الامور، بل في جميعها.
فالله سبحانه يريد ببيان تلك الحوادث و الوقائع تنبيه هذه الامّة و نصحها و وعظها بترك التلوّن و التردّد و الشكّ و الريب، و الإشكالات غير المنطقيّة و الأسئلة غير المستساغة، و الضعف و الذلّ، و الكسل و الوهن، و ضعف العزم و الإرادة، و الميل و الاهتمام بالزينات المؤقتة، و عدم التسليم و الطاعة الخالصة لرسول الله؛ و إلّا فإنّ عاقبة أمرهم ستكون عبادة العجل تلك، و متابعة سامريّ الامّة، و الضياع و التية في صحراء بيت المقدس أربعين سنة، و كتابة الذلّة و المسكنة عليهم.
خطاب القرآن ليهود زمان النبيّ لمؤاخذتهم بعمل أسلافهم
فحين يخاطب القرآن الكريم بني إسرائيل في زمن النبيّ، و يوبّخهم بأفعال آبائهم و أجدادهم و أسلافهم التي مرّ عليها ما يقرب من ألفينِ و خمسمائة عام، كإنجادهم من الغرق في نهر النيل، و طلبهم من موسي
رؤية الله جهرة و ابتلائهم بالصاعقة، و كعدم صبرهم على طعام واحد و طلبهم الثوم و البصل و العدس، و كمؤاخذتهم على قتلهم رجلًا منهم ثمّ كتمان قتله حتى عُرِف القاتل بقضية ذبح البقرة الصفراء و ما جرى بعده:
وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.۱
وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.٢
وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ.٣
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.٤
و الكثير من الآيات الاخرى الجارية على هذا النهج.
و نلحظ في هذه الآيات أنّ الله سبحانه يخاطب يهود زمن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فيقول: أنتم الذين قلتم لموسى كذا، أنتم الذين قتلتم ذلك الرجل و أخفيتم قاتله، و أثرتم ذلك الجدال و المنازعة في تعيينه، و ذلك لأنّ يهود عصر رسول الله كانوا يهود عصر النبيّ موسى بعينهم، و كانوا شركاءهم في النوايا و الأعمال، ينتمون إلى شجرتهم و يتّصفون بصفاتهم و يمتلكون روحيّاتهم تلك بدون أدنى اختلاف، و كان من الواضح أنّ ذنوبهم و خطاب الله سبحانه و تعالى لهم قد استندت إلى ملكتهم الباطنيّة و نفسهم الفعليّة.
و هكذا فأينما وُجدت تلك الملكة الباطنيّة، و النفس بتحقّقها الفعليّ
ذاك، فنفس ذلك الخطاب سيوجّه لها، بل و لغيرها من شركائها في العقيدة و الصفة و العمل، ولو مرّ على زمن الخطاب الصوريّ الأوّل آلاف السنين، و تغيّرت الأزمان و الأمكنه و المحيطات و الأشكال و الألوان، و جميع الآداب و التقاليد.۱
يروي العيّاشيّ عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام حديثاً يصل فيه إلى قول الإمام عليه السلام: وَ لَوْ أنَّ الآيَةَ إذَا نَزَلَتْ في قَوْمٍ ثُمَ مَاتَ اولَئِكَ القَوْمُ، مَاتَت الآيَةُ؛ لَمَا بَقِي مِنَ القُرْآنِ شَيءٌ. وَلَكِنَّ القُرْآنَ يَجْرِي أوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ مَادَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرْضُ، وَ لِكُلِّ قَوْمٍ آيَةٌ يَتْلُونَهَا هُمْ مِنْهَا
فِي خَيْرٍ أوْ شَرٍّ.۱
و نتيجة هذا الكلام هو عدم تخصيص شأن نزول الآيات و مواردها، و هو مطلب جليل حقّاً أشار له الإمام و دلّ عليه؛ لأنّ القرآن إن اختصّ بالطائفة التي نزل بشأنها فبديهيّ أنّ تلك الآية أو تلك السورة ستموت بموت تلك الطائفة، لأنّ حياة أي كلام يرجع لشخص معيّن وجوداً و عدماً يتبع حياة ذلك الشخص نفسه، (فأمر السطان لقائد جيشه في الحرب تابع لحياته، و بموت السلطان لن يكون هناك أمر)، و هكذا بموت جميع الطوائف التي نزل القرآن بشأنها سيموت القرآن و يندثر.
و لأنّ القرآن حيّ، و سيبقى حيّاً إلى الأبد، فلا تخصيص لشأن نزوله و موارده في زمن رسول الله عموماً، أي أنها لا تخصِّص الموردَ.
لاحظوا أنّ الآيات التي خاطبت رسول الله، و كان الأمر و التكليف فيها من جهة لحن الكلام موجّهاً له، كيف أنّ عموميّتها لكلّ المؤمنين في غاية الوضوح و البيان، كآية:
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ.٢
فالخطاب في هذه الآيات كان مختصّاً برسول الله، لكنّ الحكم كان فيها عامّاً، خاصّة إذا التفتنا إلى أنّ مخاطبي الخطابات القرآنيّة هم في الحقيقة أفراد الناس، و كان رسول الله لسعة نفسه و إحاطة وجوده في حكم آية و نافذة لتحقّق الخطاب إليه م، و هذه الحقيقة تشير إليه ا الآية التالية:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.۱
و على هذا فلن تُفقَد طراوة القرآن و نظارته في أي وقت، بل سيبقى على الدوام حيّاً معطّراً خالداً، و سيأتي آلاف الأفراد و القبائل و يذهبون في دوران الزمان فيمنحهم القرآن واحداً واحداً حصّتهم و استفادتهم، لكنّه في نفس الوقت يبقى بعد موتهم جميعاً حيّاً و خالداً.
جمود الوهّابيّين و الأخباريّين على المعنى الظاهريّ حرمهم من حقيقة القرآن
و يجب الإشارة هنا إلى مسألتين:
الاولى: أنه يشاهد في الكثير من تفاسير أهل السنّة، خاصّة الحنابلة، تحديداً للآيات و حصرها بموارد محدّدة، و هو أمر خاطئ، و بالأخصّ من قبل ابن تيميّة الذي يناصر هذا المذهب و يشايعه، فابن تيميّة الذي نشأت منه أفكار الوهّابيّين و آراؤهم، يناصر بقوّة هذا النحو من التفسير، و قد أحال الدين بطريقته هذه إلى مايشبه قطعة من البلاستيك المتيبّس المتهرّئ التي فقدت كلّ ليونتها و مرونتها.
الثانية: أنّ هناك الكثير من الأفراد لا يتعدّون ظواهر الآيات استناداً للفهم العامّيّ لها، كبعض أخباريّينا الذين يحبسون تلك الحقائق الجليلة الساميّة في إطار الألفاظ بمعانيها المحدودة المقيّدة، فيُحرمون من فهم القرآن و إدراك معانيه العميقه و لطائفه و ظرائفه.٢
إ نّ للألفاظ عموميّة و قد وضعت للمعاني الكلّيّة، و روح القرآن
عجب نبود گر از ايمان نصيبت نيست جز نقشي | *** | كه از خورشيد جز گرمي نبيند چشم نابينا |
و حياته في تلك الأسرار و البواطن و المعاني الكلّيّة التي يستعصي الوصول إلى غايتها بدون حصول الطهارة الحقيقيّة.
فالوهّابيّون الذين جمدوا على الظاهر و على هذا الأساس اعتبروا الله جسماً له يد و رِجل و عين و اذن و حركة و تردّد، قد ساروا حتى خلاف هذه الظواهر، فأهلكوا أنفسهم في تحديدات الشرك و فقدان البصيرة، بحيث عجز بعض من أراد هذه الأيّام تغطية فضائح مذهبهم و عقائدهم السخيفة المظلمة و تبرير و توجيه آراء ابن تيميّة الجامدة المتصلّبة، بل زاد ذلك في فضيحتهم، لأنّ هؤلاء ببيانهم لتلك الآراء قد نفخوا في بوق الجهل و الظلمة و دقّوا طبلها الأجوف.
و بقي الوهّابيّون و تلك الجماعة من الأخباريّين محبوسين في قيد الجهل، محرومين من نيل المعارف القرآنيّة السامية، فالوهّابيّون مثلًا يقولون في الآية القرآنيّة يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ۱ إنّ المراد من اليد هي نفس اليد المعهودة، كلّ ما هنالك أنها كبيرة جدّاً و ذات قدرة تتناسب مع وجود الله نفسه، و تقول مجموعة الأخباريّين هذه في هذه الآية إنّ المراد باليد هو القدرة، لكنّ اليد استعملت مجازاً في معنى القدرة.
لذا فهم كثيراً ما يعجزون في بحثهم في الموارد عن قرينة على المجاز، ممّا أدّى بهم إلى الجمود على المعنى الظاهريّ للألفاظ، كما في لفظ الصراط، و الميزان، و تجرّد عالم الروح، و النفس، و الملائكة و غيرها، و هم ينتهون إلى نفس النتائج التي تمخّضت عنها الوهّابيّة.
و المنهج الحقّ الصائب هو أنّ الألفاظ قد وضعت للمعاني الكلّيّة
العامّة، و قد كان استعمال لفظ اليد في هذه الآية المباركة لموجود معنويّ يدبّر الامور ضمن الولاية الكلّيّة الإلهيّة، و هذا الاستعمال حقيقيّ لا مجازيّ. لاحظوا فارق الاختلاف ... مِنْ أيْن ... و إلى أيْن؟!
و المسألة المهمّة الاخرى التي ينبغي التذكير بها هي أنّ بعض العلماء القريبين من عصرنا حاولوا تطبيق الآيات القرآنيّة على العلوم المادّيّة الطبيعيّة، من هيئة و طبّ و علوم طبيعيّة و غيرها، يخيّل إليه م أنهم قد قدّموا خدمة إلى القرآن حيث بيّنوا للأفهام أنّ محتوياته تساير العلم و تنسجم مع تقدّمه، و أنّ العلم لا يمكنه نسخها أبداً، غافلين عن أنّ خدمتهم هذه تصبّ في الاتّجاه المعاكس و تساهم في تخريب و تضييع القرآن، إذ لم تكن علوم القرآن محدودة بعلم خاصّ، بل إنّ دائرتها أوسع من ذلك بكثير.
فإنّ مقارنة القرآن مع علم معيّن بكثير من التكلّف و التعسّف يمثل تحديداً للمعاني القرآنيّة، و قد تقدّم أنّ معاني الآيات غير محدودة. يضاف إلى ذلك أنّ العلوم المادّيّة و الطبيعيّة في حالة تغيير دائميّ، فمع كلّ يوم يمرّ ثمّة فرضيّة جديدة تأتي فتبطل الفرضيّة التي سبقتها.
أفلم يظنّ هؤلاء العلماء أنّ بالإمكان أن تأتي غداً فرضيّة جديدة لتبطل فرضيّة اليوم، و أنّ إصرار هؤلاء السادة على مقارنة الآيات و تطبيقها على هذه الفرضيّة سيبطل مرة واحدة جميع الآيات؟!
و نعود إلى موضوعنا الأصليّ، و هو كلّيّة و عموميّة و أبديّة آيات القرآن، و أنّ في القرآن بيان لكلّ ما هو موجود، وأ نّ الوارد على القرآن و الناظر إليه بمنظار المعاني الكلّيّة و التأويل سيجد أنّ جميع المسائل المبهمة و الغوامض المستعصية ستحلّ له.
إ نّ خطابات القرآن الكريم لا اختصاص لها بالمخاطبين الموجودين في زمن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. فجميع خطاباته من قبيل:
يا أيها الناس، و: يا أيها الذين آمنوا، شاملة لجميع أفراد الناس و لجميع الأفراد المؤمنين إلى يوم القيامة، فالجميع مخاطب بنفس هذا الخطاب ولو لم يكونوا حاضرين في ذلك الزمان عند رسول الله، أو لم يكونوا موجودين أصلًا آنذاك.
فمن اتّخذ لنفسه عنوان مُسْلم، مُؤمِن، مُشْرِك، كَافِر، مُنَافِق و غيرها من العناوين التي وردت في القرآن الكريم، ولو بعد ألف سنة من زمن نزوله، فإنّ ذلك العنوان منطبق عليه.۱
و بغضّ النظر عن هذا الكلام فإنّه لا شكّ و لا تردّد في ثبوت عموميّة الآيات و كلّيّتها بالإجماع القطعيّ، و لم يدعْ تنقيح الملاك و المناط الكلّيّ
لإفادة هذه العموميّة مجالَ شبهةٍ لأحد.
فالقرآن الكريم وفق هذا الميزان و المعيار الكلّيّ كتاب مفتوح و موجود في صدور أصحاب العلم و الدرآية:
وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ.۱
نفي أميرالمؤمنين عليه السلام أن يكون لديه شيء من الوحي
و قد روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه سئل:
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ شَيءٌ مِنَ الوَحِي سِوَى القُرْآنِ؟!
قال: لَا، وَ الذي خَلَقَ الجَنَّةَ وَ بَرَأ النَّسمَةَ، إلَّا أنْ يُعْطِيَ عَبْدَاً فَهْمَاً في كِتَابِهِ.٢
يوضّح لنا أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه العبارات أنّ فهم القرآن يحلّ كلّ المشكلات و يرفع كلّ الجهالات و في حكم النورانيّة و الوحي الذي يتحقّق في سائر الامور بواسطة جبرائيل.
و قال أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً: مَنْ فَهِمَ القُرآنَ، فَسَّرَ جُمَلَ الْعِلْمِ.٣
و يروي في «تفسير النعمانيّ» بإسناده، عن إسماعيل بن جابر أنه قال: سمعتُ أبَا عَبْداللهِ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِق عليهما السلام يقول:
إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى بَعَثَ مُحَمَّدَاً فَخَتَمَ بِهِ الأنْبِيَاءَ. فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ
وَ أنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَاً فَخَتَمَ بِهِ الكُتُبَ. فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ. أحَلَّ فِيهِ حَلَالًا وَ حَرَّمَ حَرَامَاً. فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فِيهِ شَرْعُكُمْ، وَ خَبَرُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَ بَعْدَكُمْ وَ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عِلْماً بَاقِياً في أوْصِيَائِهِ.۱
و من الأدلّة الاخرى على عموميّة القرآن هي الأمثال الواردة في القرآن الكريم، فالمثال و لو كان مثالًا لكنّه يتضمّن بيان حقيقة كلّيّة، لذا فقد كان يأمر غالباً بعد الأمثال بالتذكّر و التأمّل و الاعتبار و الاتّعاظ: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.٢
و لبيان أكثر لمسألة عموميّة و كلّيّة الآيات القرآنيّة نورد الحديث الشريف المبارك الوارد في «علل الشرايع» و الراجع بقسمة الجنّة و النار على يد الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام، و الذي تُستخلص و تُستفاد منه مسائل كثيرة، من جملتها عموميّة مطالب و آيات و أحكام القرآن الكريم، نأتي بتمام متنه لنفاسته و جلالته:
حديث «علل الشرايع» في أنّ عليّاً عليه السلام قسيم الجنّة و النار
يروي المرحوم الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه، بإسناده، عن المفضّل بن عمر أنه قال: قلتُ لأبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام:
بِمَا صَارَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ؟!
قال: لأنَّ حُبَّهُ إيمَانٌ وَ بُغْضَهُ كُفْرٌ! وَ إنَّمَا خُلِقَتِ الجَنَّةُ لأهْلِ الإيمَانِ وَ خُلِقَتِ النَّارُ لأهْلِ الْكُفْرِ. فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ لِهَذِهِ العِلَّةِ. وَ الجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا أهْلُ مَحَبَّتِهِ. وَ النَّارُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا أهْلُ بُغْضِهِ.
قَالَ المفَضَّلُ: فَقُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ فَالأنْبِيَاءُ وَ الاوصِيَآءُ هَلْ كَانُوا يُحِبُّونَهُ، وَ أعْدَاؤُهُمْ يُبْغِضُونَهُ؟!
فَقال: نَعَمْ.
قَلْتُ. فَكَيْفَ ذَلِكَ؟!
قال: أمَا عَلِمْتَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرٍ. لُاعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ؛ وَ يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ. مَا يَرْجِعُ حتى يَفْتَحَ اللهُ عَلَى يَدِهِ؟!۱
قُلْتُ: بَلَى.
قال: أمَا عَلِمْتَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا اوتِي بِالطَّائِرِ المشْوِيِّ؛ قال: اللَهُمَّ ائْتِنِي بِأحَبِّ خَلْقِكَ إليك يَأكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ، وَ عَنَي بِهِ عَلِيَّاً؟!
قُلْتُ: بَلَى.
قال: يَجُوزُ أنْ لَا يُحِبُّ أنْبِيَاءُ اللهِ وَ رُسُلُهُ وَ أوْصِيَاؤُهُمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ رَجُلًا يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ؛ وَ يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ؟!
فَقُلْتُ: لَا.
قال: فَهَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المؤْمِنُونَ مِنْ امَمِهِم لَا يُحبِّونَ حَبِيبَ اللهِ وَ حَبِيبَ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ أنْبِيَائِهِ؟!
قُلْتُ: لَا.
قال: فَقَدْ ثَبَتَ أنَّ جَمِيعَ أنْبِيَاءِ اللهِ وَ رُسُلِهِ، وَ جَمِيعَ المؤْمِنِينَ كَانُوا
لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طَالِبٍ مُحِبِّينَ. وَ ثَبَتَ أنَّ المخَالِفِينَ لَهُمْ كَانُوا لَهُ وَ لِجَمِيعِ أهْلِ مَحَبَّتِهِ مُبْغِضِينَ.
قُلْتُ: نَعَمْ.
قال: فَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا مَنْ أحَبَّهُ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ. فَهُوَ إذَنْ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النّارِ.
قَالَ المفَضَّلُ بْنُ عُمَر: فَقُلْتُ لَهُ. يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ اللهُ عَنْكَ! فَزِدْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ تعالى!
قال: سَلْ يَا مُفَضَّل!
فَقُلْتُ لَه. يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! فَعَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُدْخِلُ مُحِبَّةُ الجَنَّةَ وَ مُبْغِضَهُ النَّارَ، أوْ رِضْوَانٌ وَ مَالِكٌ؟
قال: يَا مُفَضَّلُ! أمَا عَلِمْتَ أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ، وَ هُوَ رُوحٌ إلى الأنْبِيَاءِ وَ هُمْ أرْواحٌ قَبْلَ خَلْقِ الخَلْقِ بِألْفَي عَامٍ؟!
قُلْتُ: بَلَى.
قال: أمَا عَلِمْتَ أنهُ دَعَاهُمْ إلى تَوْحِيدِ اللهِ وَ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ أمْرِهِ، وَ وَعَدَهُمْ الجَنَّةَ عَلَى ذَلِكَ؛ وَ أوْعَدَ مَنْ خَالَفَ مَا أجَابُوا إليه وَ أنْكَرَهُ النَّارَ؟!
فَقُلْتُ: بَلَى.
قال: أفَلَيْسَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ضَامِناً لِمَا وَعَدَ، وَ أوْعَدَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَ جَلَّ؟!
قَلْتُ: بَلَى.
قال: أوَ لَيْسَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيفَتَهُ وَ إمَامَ امَّتِهِ؟!
قُلْتُ: بَلَى.
قال: أوَ لَيْسَ رِضْوَانٌ وَ مَالِكٌ مِنْ جُمْلَةِ الملَائِكَةِ وَ المسْتَغْفِرينَ لِشِيعَتِهِ النَّاجِينَ بِمَحَبَّتِهِ؟!
قُلْتُ: بَلَى.
قال: فَعَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِبٍ إذَنْ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ رِضْوانٌ وَ مَالِكٌ صَادِرَانِ عَنْ أمْرِهِ، بِأمْرِ اللهِ تَبَارَكَ وَ تعالى. يَا مُفَضَّلُ! خُذْ هَذَا! فَإنَّهُ مِنْ مَخْزُونِ العِلْمِ وَ مَكْنُونِهِ، لَا تُخْرِجْهُ إلَّا إلى أهْلِهِ.۱
إذا تأمّلنا و تمعّنّا بدقّة في هذا الحديث فسيفتح لنا ليس باباً واحداً بل أبواباً من العلم، و يجعلنا نفهم كيفيّة و طريقة استدلال صادق آل محمّد عليهم السلام على عموميّة و كلّيّة تقسيم أميرالمؤمنين عليه السلام الجنّة و النار بالنسبة لمحبّيه و مبغضيه جميعاً، ولو كانوا من الأنبياء السابقين و أعدائهم و اممهم السالفة. و سيمكننا الاستدلال بهذا النهج من الاستدلال على عموميّة القرآن الكريم و شموله.
لذا فإنّ الواجب على كلّ مسلم أن يوصل نفسه إلى مرحلة إدراك الكلّيّات للوصول إلى حقيقة الآيات القرآنيّة، ثمّ يحصل بتهذيب الأخلاق و تطهير النفس على قابليّة نيل تأويلات القرآن؛ و أن لا يكتفي بالقرءاة المحضة، و الحفظ المحض، و إلّا فإنّ الكثير من الحكّام الجائرين و الظَّلَمة على مرّ التأريخ كانوا يقرأون التأريخ و يستدلّون به لمنافعهم و أغراضهم.
يقسّم القرآن الناس إلى فرقتين. أصحاب الجنّة و أصحاب النار، و لقد كان أميرالمؤمنين عليه السلام حقيقة القرآن، لذا فقد كان وجوده العينيّ و الخارجيّ، أي مقام الولاية، يقسّم الناس - كما يفعل القرآن - إلى فرقتين: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.٢
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً.۱
و لقد كان أهل الكوفة يقرأون القرآن، و يحملونه في حمائلهم، لكنّهم سلّوا السيف الذي وضعه القرآن في أيديهم، فجعلهم ذوي عزّة و منعة، و أنجاهم من ذلّ العبوديّة و الهمجيّة و إطاعة عبيد مثلهم؛ فقتلوا به إمام الزمان، أي حقيقة القرآن و وجوده التكوينيّ و العينيّ و الخارجيّ، ثمّ استدلّوا بنفس القرآن على وجوب قتله!!
قرآن كُنند حِرْز، و به طه كِشند تيغ | *** | فرقان كنند حِفظ، و إمام زمان كُشند٢ |
روى الشيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ، بسنده، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
أنَا أوَّلُ وَافِدٍ عَلَى العَزِيزِ الجَبَّارِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ كِتَابُهُ، وَ أهْلُ بَيْتِي؛ ثُمَّ امَّتِي؛ ثُمَ أسْألُهُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَ بِأهْلِ بَيْتِي؟!٣
استمهال الإمام الحسين القوم ليلة عاشوراء للصلاة و التلاوة و الدعاء
و في الحديث المروي عن الصادق عليه السلام قال: تاسوعاء يومٌ حوصر فيه الإمام الحسين عليه السلام و أصحابه بكربلاء، و اجتمع عليه خيل أهل الشام و أناخوا عليه، و فرح ابن مرجانة و عمر بن سعد بتوافر الخيل و كثرتها، و استضعفوا فيه الحسين عليه السلام و أصحابه و أيقنوا أنه لا يأتي الحسين عليه السلام ناصر و لا يمدّه أهل العراق. بِأبِي المسْتَضْعَفُ الغَرِيبُ.٤
فلمّا نادى عمر بن سعد أصحابه بالركوب، ركب أصحابه و اقتربوا نحو خيم الحسين، و الحسين جالس أمام خيمته واضعاً رأسه على ركبته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه فرأى رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول له: إنَّكَ صَائِرٌ (تَرُوحُ - خ ل) إلى نَا عَنْ قَرِيبٍ.۱
و سمعت اخته زينب الضجّة فدنت من أخيها ف قالت: يا أخي! أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟ فقال الإمام الحسين عليه السلام لأخيه العبّاس:
ارْكَبْ - بِنَفْسِي أنْتَ - حتى تَلْقَاهُمْ وَ اسْألْهُمْ عَمَّا جَاءَهُمْ؟! وَ مَا الذي يُرِيدُونَ؟! فأتاهم العبّاس في نحو من عشرين فارساً فيهم زُهَيْرُ بْنُ القَيْن و حَبِيبُ بْنُ مَظَاهِر فسألهم عمّا يريدون، قالوا: جاء أمر الأمير عبيدالله بن زياد أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم. فانصرف العبّاس راجعاً إلى الحسين عليه السلام يخبره الخبر و وقف أصحابه يخاطبون القوم و يعظونهم.
فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما و اللهِ لبئس القوم عندالله غداً قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذ رّ يّة نبيّه و عترته و أهل بيته و عبّاد أهل هذا المصر، المتهجّدين بالأسحار و الذاكرين الله كثيراً.
فقال له عزرة بن قيس، إنّك لتزكّي نفسك ما استعطت.
فقال له زهير: يا عزرة! إنّ الله قد زكّاها و هداها، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضلالة على قتل النفوس الزكيّة.
قال عزرة: يا زهير! ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنتَ على غير رأيهم.
قَالَ زُهَيْرُ: أفَلَسْتَ تَسْتَدِلُّ بِمَوْقِفِي هَذَا أنِّي مِنْهُمْ؟! أما و الله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، و لا أرسلتُ إليه رسولًا قطّ، و لا وعدته نُصرتي قطّ، ولكنّ الطريق جمع بيني و بينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله صلّى الله عليه وآله و مكانه منه، و عرفتُ ما يقدم عليه عدوّه فرأيت أن أنصره، و أن أكون من حزبه، و أجعل نفسي دون نفسه لما ضيّعتم من حقّ رسوله.
و رجع العبّاس إلى أخيه الحسين عليه السلام فأخبره بما قال القوم، فقال عليه السلام: ارْجِعْ إليه مْ وَاسْتَمهِلْهُمْ هَذِهِ العَشِيَّةِ إلى غَدٍ؛ لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا اللَّيْلَةَ، وَ نَدْعُوهُ، وَ نَسْتَغْفِرُهُ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أنِّي احِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ وَ تِلَاوَةَ كِتَابِهِ، وَ كَثْرَةَ الدُّعَاءِ وَالاستِغْفَارِ.
فرجع العبّاس و استمهلهم، و جاء رسول من قبل عمر بن سعد، فقام حيث يسمع الصوت فقال: إنّا قد أجّلناكم إلى غد، فان استسلمتم سرّحنا بكم إلى أميرنا عبيدالله بن زياد، و إن أبيتم فلسنا تاركيكم.۱
و جمع الحسين عليه السلام أصحابه فخطبهم، فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ أثنى على أصحابه المخلصين، ثمّ قال: و قد أخبرني جدّي رسول الله صلّى الله عليه و آله أنِّي سَاسَاقُ إلى العِرَاقِ فَانْزِلُ أرْضَاً يُقَالُ لَهَا عَمُورٌ، أوْ كَرْبَلَا؛ وَ فِيهَا أسْتَشْهِدُ، وَ قَدْ قَرُبَ الموْعِدُ.٢
و أنّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، و هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملًا، و ليأخذ كلّ رجل منكم بِيَدِ رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، و تفرّقوا في سوادكم و مدائنكم فَإنَّ القَوْمَ إنَّمَا يَطْلِبُونَنِي؛ وَ لَوْ أصَابُونِي لَذَهَلُوا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي!
فقال له إخوته و أنباؤه و بنو أخيه و أبناء عبدالله بن جعفر: و لِمَ نَفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبداً.
بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي و تابعه الهاشميّون.
ثمّ نهض أولاد عقيل، و مسلم بن عوسجة، و زهير بن القين، كلّ بدوره، فتكلّموا بكلا كريم، و أظهروا ببيان عجيب خجلهم لأنّهم لا يمتلكون إلّا روحاً واحدة يؤثرونه بها.۱
كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة، حُفْت بالمكاره و المحن، و أعقبت الشرّ و آذنت بالخطر و قد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اميّة و أتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة، و هناك ولولة النساء و صراخ الأطفال من العطش المبرح و الهمّ المدلهمّ.٢
أبيات سيّد الشهداء عليه السلام ليلة عاشوراء و حال زينب عليها السلام
قال الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام: إنّي جالس في تلك العشيّة التي قُتِلَ أبي صبيحتها، و عمّتي زينب عندي تمرّضني إذ اعتزل أبي في خباء له و عنده حَوّي٣ مولى أبي ذرّ الغفاريّ (و كان بصيراً بمعالجة
آلات الحرب و إصلاح السلاح) و هو يعالج سيفه و يصلحه، و أبي يقول:
يَا دَهْرُ افٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ | *** | كَمْ لَكَ بِالإشْرَاقِ وَ الأصِيلِ |
مِنْ صَاحِبٍ وَ طَالِبٍ قَتِيلِ | *** | وَ الدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالبَدِيلِ |
وَ إنَّمَا الأمْرُ إلى الجَليلِ | *** | وَ كُلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيلِي |
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها و عرفتُ ما أراد، فخنقتني العبرة فرددتها و لزمت السكوت و علمتُ أنّ البلاء قد نزل.
و أمّا عمّتي فإنّها سمعتْ ما سمعتُ و هي امرأة، و من شأن النساء الرقّة و الجزع، فلم تملك نفسها أن وَ ثَبَتْ تَجُرُّ ذَيْلَهَا حَاسِرَةً حتى انْتَهَتْ إليه وَ قالت: وَ اثُكْلَاهُ! لَيْتَ الموْتُ أعْدَمَنِي الحَيَاةَ. اليوم مَاتَتْ امِّي فَاطِمَةُ، وَ أبِي عَلِيٌّ، وَ أخِي الحَسَنُ! يَا خَلِيفَةَ الماضِي وَ ثِمَالَ البَاقِي!
فنظر إليه الحسين عليه السلام و قال لها: يَا اخَيَّةُ! لَا يَذْهَبَنَّ بِحِلْمِكَ الشَّيْطَانُ! لَوْ تَرِكَ القَطَا لَنَامَ.۱
بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي | *** | فَقُلْتُ وَ مِثْلِي بِالبُكَاءِ جَدِيرُ |
أسِرْبَ القَطَا هَلْ مِنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ | *** | لَعَلِّي إلى مَنْ قَدْ هَوَيْتُ أطِيرُ |
و الناس أهدى في القبيح من القطا | *** | و أضلُّ في الحسني من الغِربانِ |
فقالت:
يَا وَيْلَتَاهُ! أفَتَغْتَصِبُ نَفْسَكَ اغْتِصَابَاً؟ فَذَاكَ أقْرَحُ لِقَلْبِي وَ أشَدُّ عَلَى نَفْسِي!
ثمّ لطمت وجهها و هوت إلى جيبها فشقّته و خرّت مغشيّة عليها. فقام إليه ا الحسين عليه السلام فصبّ على وجهها الماء، و قال لها:
يَا اخْتَاهُ! اتَّقِي اللهَ وَ تَعَزِّي بِعَزَاءِ اللهِ! وَ اعْلَمِي أنَّ أهْلَ الأرْضِ يَمُوتُونَ؛ وَ أنَّ أهْلَ السَّمَاءِ لَا يَبْقُونَ؛ وَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهُ اللهِ الذي خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ؛ وَ يَبْعَثُ الخَلْقَ وَ يَعُودُونَ وَ هُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ (جَدِّي خَيْرٌ مِنِّي - خ ل) أبِي خَيْرٌ مِنِّي؛ وَ امِّي خَيْرٌ مِنِّي، وَ أخِي خَيْرٌ مِنِّي (وَلِي - خ ل) وَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ اسْوَةٌ.
نيست زينب، وقت بيهوشي تو | *** | تنگدل شد شه، ز خاموشي تو |
بلبل عشقي، تو بر گل زندهاي | *** | پيش گل، بر صد نوا زيبندهاي۱ |
گل بدست آمد، كجا شد جوش تو | *** | يا ز بوي گل ز سر شد هوش تو؟ |
بر تو گريد ديدة گل بي حساب | *** | بهر بي هوشان، روا باشد گلاب۱ |
يَا اخَيَّةُ! إنِّي أقْسَمْتُ عَلَيْكَ فَأبِرِّي قَسَمِي! لَا تَشُقِّي عَلَيَّ جَيْباً؛ وَ لَا تَخْمِشِي عَلَيَّ وَجْهاً؛ وَ لَا تَدْعِي عَلَيَّ بِالوَيْلِ وَ الثُّبُورِ إذَا أنَا هَلَكْتُ.٢
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: ثمّ جاء بها حتى أجلسها عندي، ثمّ خرج إلى أصحابه، فقام الليل كلّه يصلّي و يستغفر و يدعو و يتضرّع، و قام أصحابه كذلك يصلّون و يدعون و يستغفرون. فباتوا و لهم دويّ كدوي النحل من تلاوة القرآن و الدعاء و المناجاة.
قال في «نفس المهموم» ص ۱٤۱ بعد هذا المطلب: و كما وصفه ابنه إمامنا المهديّ عجّل الله فرجه فقال: كَانَ لِلْقُرآنِ سَنَدَاً وَ لِلُامَّةِ عَضُداً، وَ في الطَّاعَةِ مُجْتَهِدَاً، حَافِظَاً لِلْعَهْدِ وَ الميثَاقِ؛ نَاكِبَاً عَنْ سُبُلِ الفُسَّاقِ؛ بَاذِلًا لِلْمَجْهُودِ؛ طَوِيلَ الرُّكُوعِ وَ السُّجُودِ؛ زَاهِدَاً في الدُّنْيَا زُهْدَ الرَّاحِلِ عَنْهَا؛ نَاظِرَاً إليه ا بِعَيْنِ المسْتَوْحِشِينَ مِنْهَا.