المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
مُقَدَّمَةُ المُؤَلِّفِ
بسم الله الرحمن الرحيم
للّه الحمد و له المنّة أن انتهى تدوين الجزء الثالث عشر من كتاب «معرفة الإمام» في سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و ذلك في اليوم الخامس و العشرين من شهر رمضان المبارك سنة عشر و أربعمائة و ألف من الهجرة. و كان يدور حول حديث الثقلين فقط، إذ تناولنا فيه الحديث المذكور و أثبتنا- من حيث السند، تواتره، و من حيث الدلالة- وضوحه في عصمة الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم و كونهم عدل القرآن الكريم و حجّيّة كلامهم حتى قيام الساعة. من هذا المنطلق كان عَليّ أن أستمدّ العون من الله تعالى في البدء بالجزء الرابع عشر فوراً فأتحدّث محقّقاً في سائر المباحث المرتبطة بالإمامة التي ورد شرحها موجزاً في مقدّمة الجزء الثالث عشر.
بَيدَ أنّه لمّا صدر كتاب «وظيفة فرد مسلمان در إحياى حكومت اسلام» (= وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام) المشتمل على بعض الموضوعات التي جرى التباحث بشأنها مع أصدقائنا المخلصين و أخلّائنا الروحيّين في البلدة الطيّبة المقدّسة للمشهد الرضويّ على شاهدها آلاف التحيّة و الإكرام، و ذلك في شهر شوّال المكرّم سنة ۱٤۱۰ هـ، و اشير فيه إلى أنّ هذه المباحث ستتواصل؛ و أنّ الكتاب المذكور ينبغي أن يشكّل الجزء الأوّل و مرحلة تمهيديّة لأجزاء تتلوه في الحكومة الإسلاميّة؛ لهذا شرعتُ في بحثٍ تحت عنوان «ولايت فقيه در حكومت اسلام» (= ولاية الفقيه في
حكومة الإسلام) كنت القي دروسه على بعض الإخوة الأكارم و طلّاب العلوم الدينيّة في هذه المدينة المقدّسة بعد شهر رمضان المبارك سنة ۱٤۱۱ هـ تتميماً للمباحث السابقة من جهة، و عرضاً لمباحث ترتبط بحكومة الإمام و ولاية الفقيه من جهة اخرى، و هذا نفسه أحد الموضوعات الموعود بها قرّاؤنا في الجزء الرابع عشر. و هو وسط بين الإيجاز الذي قد لا يفي بالغرض، و الإسهاب الذي قد يتداخل فيه الموضوع. و عُرض في ثمان و أربعين جلسة تامّة امتدّت ثلاثة أشهر. و الحمد للّه إذ توفّقنا في دراسة الموضوعات المعهودة بصورة وافية. ثمّ دُوِّنت و اعدّت للطّبع في أربعة أجزاء.
و بدأتُ تأليف كتاب «الروح المجرّد» في رجب المرجّب سنة ألف و أربعمائة و اثنتي عشرة: في ذكرى السيّد هاشم الحدّاد قدّس سرّه. و استغرق تأليفه ثلاثة أشهر. و لمّا كان سماحة السيّد المذكور رضي الله عنه من أقدم تلاميذ آية الحقّ و العرفان، و سند الحكمة و الإيقان المرحوم آية الله السيّد الميرزا على القاضي قُدّس سرّه و أسبقهم و أفضلهم، و كان من أساتذتي المكرّمين في الأخلاق و العرفان، لذا يصدر هذا الكتاب تحت الرقم (٤) من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و يدور حول الأخلاق و الفلسفة و العرفان. كما تصدر دورة من كتاب «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام» تحت الرقم (٦) المشتمل على مباحث علميّة و مسائل فقهيّة.
و إنّي أشكر الله تعالى إذ وفّقني لأن أمسك قلمي في هذا الأمد الغير البعيد من أجل تدوين هذه الموضوعات. و ها قد قدّر لي أن أبدأ بالجزء الرابع عشر من كتاب «معرفة الإمام» تحت التسلسل (٢) من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة في هذا اليوم الأغرّ الميمون الذي يصادف عيد الغدير السعيد سنة ۱٤۱٢ هـ.
وَ مَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ انِيبُ. الْحَمْدُ
لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وَ مَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْ لَا أنْ هَدَانَا الله. الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَنَا مِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِوِلَايَةِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
هست بى شبهه خطا چون بر بُتان نام خدا | *** | بر كسى غير از تو اطلاق أمير المؤمنين۱ |
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَ سَيِّدَ الوَصِيِّينَ، وَ إمَامَ المُوَحِّدِينَ، وَ يَعْسُوبَ المُؤمِنِينَ، وَ قَائِدَ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ.
مدينة مشهد المقدّسة، قبل الظهر بساعتين
في يوم ۱۸ ذي الحجّة الحرام، سنة ۱٤۱٢ هـ. ق.
عبده الفقير: السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
الدَّرْسُ السَّادِسُ و التِّسْعُونَ بَعْدَ المِائَةَ إلى الدَّرْسِ المِائَتَيْنِ أمْرُ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ بِالكِتَابَةِ وَ إعْدادِ الكُتَّابِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ على أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ۱
أهمّيّة التدريس و الكتابة
التدريس هو التعليم بنحو خاصّ يتقارن به مع الكتابة. و هو أخصّ من مطلق التعليم على ما أفاده سماحة استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ، إذ قال: وَ الدِّرَاسَةُ أخَصُّ مِنَ التَّعْلِيمِ، فَإنَّهُ يُسْتَعْمَلُ غَالِباً فِيمَا يُتَعَلَّمُ عَنِ الكِتَابِ بِقَراءَتِهِ.٢
أصل الكتاب ما تحقّق بالكتابة، و تدريس كتابٍ ما كان مقروناً بكتابته و تعليمه مكتوباً. فللكتابة إذن دور مهمّ و مؤثّر في التدريس و التعليم.
يقول الله تعالى في هذه الآية المباركة: إنّ مهمّة الأنبياء الذين
آتاهم الله الكتاب و الحكم و النبوّة أن يعلّموا الناس قراءة الكتاب و الأحكام و تعليمهما و تدريسهما عبر إعداد الأساتذة و المربّين الإلهيّين الذين تمرّسوا على كتابهم و زاولوا تدريسه و تعليمه.
إن العلماء الربّانيّين الذين تلقّوا الدروس التربويّة و التعليميّة من الأنبياء العظام بواسطة تدوين الكتب السماويّة و مساهمتهم الدائمة في تعليمها و تدريسها يقودون الناس نحو طريق السعادة. فالسبيل الوحيد لهداية الناس عن طريق الأنبياء هم العلماء الذين يكونون في الوسط، و عملهم يتمثّل في تنوير أذهان الناس عامّتهم بحقائق الدين من خلال كتابة الآيات القرآنيّة و دراستها. و تتحقّق هذه المهمّة بواسطة تدريس الكتاب و تعليمه الذي يستلزم الكتابة.
و نلاحظ في القرآن الكريم كثرة استعمال اسم الكتاب، و الكتب، و المفردات المشتقّة من مادّة الكتابة. و كأنّ عنوان الكتابة بخاصّة مؤثّر في إيصال التعليمات و تفهيمها مضافاً إلى تدريس العلوم و دراستها.
و قد عدّ القرآن الكتابة من اللوازم المهمّة في بعض الأحكام، بل أمر بها. و نقرأ في الآيتين ٢۸٢ و ٢۸٣ من سورة البقرة إستعمال الكتابة في عشرة مواضع منهما.
يَا أيّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إذا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ، وَ لْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ، وَ لَا يَأبَ كَاتِبٌ أن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ ، وَ لْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ ، الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ، وَ لَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئا ، فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ، أوْ ضَعِيفًا ، أوْ لَا يَسْتَطِيعُ أن يُمِلَّ ، فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ، وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ ، مِن رِّجَالِكُمْ ، فَإن لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأتَانِ ، مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ، أن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاخرَى وَ لَا يَأبَ الشُّهَدَاءُ إذا مَا دُعُوا ، وَ لَا تَسْئَمُوا أن تَكْتُبُوهُ
صَغِيرًا ، أوْ كَبِيرًا ، إلى أجَلِهِ ذَالِكُمْ أقْسَطُ عِندَ اللهِ وَ أقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَ أدْنَى ألَّا تَرْتَابُوا إلَّا أن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألَّا تَكْتُبُوهَا ، وَ أشْهِدُوا إذا تَبَايَعْتُمْ ، وَ لَا يُضَآرَّ كَاتِبٌ ، وَ لَا شَهِيدٌ ، وَ إن تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ ، وَ اتَّقُوا اللهَ ، وَ يُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَ إن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ ، مقْبُوضَةٌ ، فَإنْ أ مِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الذي اؤْتُمِنَ أمَانَتَهُ ، وَ لْيَتَّقِ اللهِ رَبَّهُ ، وَ لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ، وَ مَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ، وَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.
تفسير آية الدَّين و التجارة من سورة البقرة
۱- إذا داين بعضكم بعضاً إلى مدّة معيّنة، فعليكم أن تكتبوا تلك المدّة.
٢- و يجب أن يكتب بينكم كاتب بالسويّة لا يزيد و لا ينقص.
٣- و لا يمتنع أحد من الكُتّاب فيضنّ بهذه الموهبة التي علّمه الله أيّاها، فعليه أن يكتب.
٤- و على المدين أن يُملي مقدار الدَّين على الكاتب، و الكاتب يكتب من قبله على مسؤوليّته.
٥- و ينبغي أن يتحلّى المملي أو الكاتب أو منظّم السند بالتقوى.
٦- و لا يُنقص من الدَّين المقرّر و المعهود شيئاً.
۷- و إذا كان المدين (الذي عليه أن يسدّد الدَّين في رأس المدّة المعيّنة) سفيهاً (ناقص العقل مبذّراً).
۸- أو ضعيفاً (صبيّاً أو شيخاً مختلًّا).
٩- أو غير مستطيع للإملال بنفسه (لخرس أو جهل باللغة).
۱۰- فحينئذٍ على من يلي أمره و يقوم مقامه أن يُملي هو بنفسه.
۱۱- و اطلبوا أن يشهد على الدَّين شاهدان.
۱٢- من رجال المسلمين!
۱٣- فإن لم يكن الشاهدان رجلين فرجل و امرأتان.
۱٤- من الشهداء الذين ترضونهم و تعلمون بعدالتهم.
۱٥- (امرأتان بدل رجل واحد) لأجل أنّ إحداهما إن ضلّت الشهادة بأن نسيتها ذكّرتها الاخرى. و لا يمتنع الشهداء إذا ما دُعوا إلى الشهادة.
۱٦- و لا تملّوا من كثرة مديناتكم أن تكتبوا الدَّين أو الحقّ و الكتاب سواء كان صغيراً.
۱۷- أم كبيراً.
۱۸- إذ إنّ (لكتابة السند و تنظيمه ثلاث فوائد مهمّة:) أكثر قسطاً عند الله، و أثبت للشهادة و أعون على إقامتها، و أقرب في أن لا تشكّوا في جنس الدَّين و قدره و أجله أو الشهود و نحو ذلك، إلّا أن تتبايعوا يداً بِيَد فلا بأس أن لا تكتبوا.
۱٩- و أشهدوا إذا تبايعتم.
٢۰- و لا ينبغي للكاتب.
٢۱- و الشاهد.
٢٢- أن يضارّا (بواسطة ترك الإجابة و التحريف و التغيير في الكتابة و الشهادة)، (أو النهي عن الضِّرار بهما مثل أن يعجلا عن مهمّ و يكلّفا الخروج عمّا حدّ لهما). و مضارّة الكاتب و الشاهد خطأ و انحراف.
٢٣- أنتم تفعلونه. فاتّقوا الله في جميع هذه المسائل و كونوا في كلأه. و الله بكلّ شيء عليم.
٢٤- و إذا كنتم مسافرين و لم تجدوا كاتباً فعليكم رهان.
٢٥- مقبوضة.
٢٦- تصل إليكم! و إذا أمن بعضُ الدائنين بعضَ المديونين (و استغنى بأمانته عن الارتهان) فعلى الشخص المديون الأمين الذي تنازل عن الرهان
لائتمانه أن يسدّد الدَّين الذي هو أمانة عنده لدائنه في المدّة المقرّرة، و يوفّيه حقّه.
٢۷- و ليتّق الله ربّه (و لا يخن في أدائه في الوقت المعيّن، و في مقداره).
٢۸- و يحرم عليكم أيّها المسلمون أن تكتموا الشهادة (و تخفوها عند أدائها و تمتنعوا من إظهارها و التحدّث بها).
٢٩- إذ إنّ من كتم الشهادة و امتنع من إبرازها عند الحاجة فإنّ قلبه آثم؛ و الله بما تعملون عليم.
و التفسير المجمل لهذه الآيات المباركة- كما يلاحظ- مقتطف من تفسير القاضي البيضاويّ.۱
و تعدّ الآية الأولى أطول آية في القرآن الكريم. و تشغل صفحة تامّة من المصاحف المطبوعة طباعة حديثة بلا خطأ، و المتّصفة بعدّة مزايا.
و تبيّن هذه الآية ثلاثة و عشرين حُكماً من الأحكام المرتبطة بمسائل التجارة، و كيفيّة الاستقراض و المعاملات المعلومة الأجل، و أحكام الشهادة، و شروط الشاهد، و لزوم البيع بالرهن عند عدم إمكان تنظيم السند و الكتابة. و هذا هو ما أورده الحقير مرقّماً. أمّا الآية الثانية فإنّها تبيّن ستّة أحكام من أحكام تلك المسائل، فيكون مجموعها تسعة و عشرين حُكماً.
الاستشهاد بالآيات القرآنيّة على وجوب الكتابة
و نلاحظ أنّ هذه الآيات ذكرت الكتابة و كيفيّة تنظيم السند و لزوم ذلك و أهمّيّته في المعاملات، و أكّدت أنّ الكتابة ضروريّة جدّاً لإحكام المعاملات و المبادلات المعيّنة الأجل و رصانتها و صحّتها.
و يمكن أن تدلّنا هذه الآيات على ضرورة تأسيس مديريّة عامّة للسندات و تسجيل السندات و الأملاك الجزئيّة. و بصورة عامّة نشاهد أنّ اصول المعاملات المعتمدة على الأسناد و الوثائق، و التنظيم، و الكتابة، و التوقيع، و التوشيح من السلطات الرسميّة العليا مأخوذة من هاتين الآيتين. و إذا ضممنا إليهما بعض الآيات الاخرى، فإنّنا نستطيع أن نعرض جميع سياسات المدن و القوانين الاجتماعيّة بصورة مدوّنة واسعة مفصّلة. و قد اضطلع فقهاء الشيعة العظام بهذه المهمّة، و أدّوا ما عليهم بإحسانٍ حقّاً، شَكَرَ اللهُ مَسَاعِيَهُمُ الجَمِيلَةَ وَ مَبَانِيَهُمُ المُنِيفَة.
بَيدَ أنّ كلامنا الآن لا يدور حول هذا الموضوع، و إنّما ذكرنا الآيتَين المتقدّمتين للاستشهاد فحسب حتى تستبين أهمّيّة الكتابة التي هي مدار بحثنا من منظور إسلامي؛ و يتّضح اهتمام القرآن الكريم و النبيّ العظيم صلى الله عليه و آله بها و أمرهما بمزاولتها و تأكيدهما لزومها و ضرورتها في مواضع عديدة إلى درجة أنّنا يمكن أن نعدّ الكتابة قاعدة من القواعد التي تقوم عليها المسائل الدينيّة. و لو لا الكتابة لما أمكن إنجاز كثير من تلك المسائل.
يقول المؤرّخ أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت المعروف بالخطيب البغداديّ: في وصف رسول الله صلى الله عليه [و آله] الكتابَ أنّه قيد العلم دليل على إباحة رسمه في الكتب لمن خشي على نفسه دخول الوهم في حفظه، و حصول العجز عن إتقانه و ضبطه. و قد أدّب الله سبحانه عباده بمثل ذلك في الدَّين فقال عزّ و جلّ: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا۱
فلمّا أمر الله تعالى بكتابة الدَّين حفظاً له، و احتياطاً عليه، و إشفاقاً من دخول الريب فيه، كان العلم الذي حِفْظُهُ أصعب من حِفْظِ الدَّين أحرى أن تباح كتابته خوفاً من دخول الريب و الشكّ فيه. بل كتابة العلم في هذا الزمان مع طول الإسناد، و اختلاف أسباب الرواية أكثر حاجة للحفظ.
أ لا ترى أنّ الله عزّ و جلّ جعل كتابة الشهادة فيما يتعاطاه الناس من الحقوق بينهم عوناً عند الجحود، و تذكرةً عند النسيان؟! و جعل في عدمها عند المموّهين بها أوكد الحجج ببطلان ما ادّعوه فيها؟!
فمن ذلك أنّ المشركين لمّا ادّعوا بهتاناً اتّخاذ الله سبحانه بناتٍ من الملائكة أمر الله نبيّنا صلى الله عليه و آله أن يقول لهم: فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.۱ و لمّا قالت اليهود: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ،٢ و قد استفاض عنهم قبل ذلك الإيمان بالتوراة، قال الله تعالى لنبيّنا صلى الله عليه و آله: قل لهم: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً. فلم يأتوا على ذلك ببرهان؛ فأطلع الله على عجزهم عن ذلك بقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ. و قال تعالى رادّاً على متّخذي الأصنام آلهةً من دونه: أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.٣ و الأثارة و الأثرة راجعان
في المعنى إلى شيء واحد، و هو ما اثر من كتب الأوّلين.
و كذلك سبيل من ادّعى علماً أو حقّاً من حقوق الأملاك أن يقيم دون الإقرار برهاناً، إمّا شهادة ذوي عدل، أو كتاباً غير مموّه، و إلّا فلا سبيل إلى تصديقه.
و الكتاب شاهد عند التنازع كما أخبرنا الحسن بن أبي بكر، أخبرنا أبو سهل أحمد بن محمّد بن عبد الله بن زياد القطّان، حدّثنا إسماعيل بن إسحاق، حدّثنا عبد الله بن مسلمة، حدّثنا سليمان بن بلال عن عتبة بن مسلم، عن نافع بن جبير أنّ مروان بن الحكم خطب الناس فذكر مكّة و أهلها و حرمتها؛ فناداه رافع بن خديج، فقال: ما لي أسمعك ذكرت مكّة و أهلها و حرمتها، و لم تذكر المدينة و أهلها و حرمتها؛ وَ قَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مَا بَيْنَ لَا بَتَيْهَا.۱ وَ ذَلِكَ عِنْدَنَا في أدِيمٍ خَوْلَانِيّ إنْ شِئْتَ أقْرَأتُكَهُ!
قال نافع: فسكت مروان؛ ثمّ قال: قد سمعتُ بعض ذلك.
الكتابة في عهد رسول الله صلّى الله عليه و آله
و لو لم يكن في هذا الباب إلّا وقوع العلم بما كان رسول الله صلى الله عليه و آله يكتبه من عهود السعاة على الصدقات، و كتابه لعمرو بن حزم، لمّا بعثه إلى اليمن لكفى، إذ فيه الاسوة، و به القدوة.٢
قال محمّد عجّاج الخطيب: و كان إلى جانب هذه المساجد كتاتيب٣
يتعلّم فيها الصبيان الكتابة و القراءة إلى جانب القرآن الكريم. و لا يفوتنا أن نذكر أثر غزوة بدر في تعليم صبيان المدينة حينما أذن رسول الله صلى الله عليه و آله لأسرى بدر بأن يفدي كلّ كاتب منهم نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة الكتابة و القراءة.۱ و لم يقتصر تعليم الكتابة و القراءة على الذكور بل كانت الإناث يتعلّمن هذا في بيوتهنّ. فقد روى أبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة عن الشفاء ابنة عبد الله أنّها قالت: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ أنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ لي: أ لَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الكِتَابَةِ؟!٢
و قال محمّد عجّاج الخطيب أيضاً في باب حثّ رسول الله صلى الله عليه و آله و تحريضه و تأكيده: و لم يقتصر حضّ رسول الله صلى الله عليه و آله لأصحابه على طلب العلم الشرعي من خلال القرآن و السنّة الطاهرة، بل دعاهم إلى كلّ علم يفيد المسلمين حتى أنّه أوّل ما قَدِم المدينة، و سمع من زيد بن ثابت بضع عشرة سورة من القرآن، و هو صغير السنّ أعجب به، و أمره أن يتعلّم لغة اليهود. فقال:
يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لي كِتَابَ يَهُودَ؛ فَإنِّي وَ اللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي. و في رواية: إنِّي أكْتُبُ إلَى قوْمٍ فَأخَافُ أنْ يَزِيدُوا عَلَيّ أوْ يَنْقُصُوا؛ فَتَعَلَّمِ
السُّرْيَانِيَّةَ، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُهَا في سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْماً.۱
أحاديث رسول الله صلّى الله عليه و آله في الامر بالكتابة
ذكر الخطيب البغداديّ تسعة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه أمر الذي شكا إليه سوء الحفظ أن يستعين بالخطّ:
الأوّل: بسنده عن أبي هريرة، قال: كان رجل يشهد حديث النبيّ صلى الله عليه و آله، فلا يحفظه فيسألني، فاحدّثه، فشكا قلّة حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال له النبيّ: اسْتَعِنْ عَلَى حِفْظِكَ بِيَمِينِكَ- يعني: الكتابَ.
الثاني: بسنده عنه أيضاً، قال: إنَّ رجلًا شكا حفظه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال: اسْتَعِنْ عَلَى حِفْظِكَ بِيَمِينِكَ- يعني: اكْتُبْ.
الثالث: بسنده عنه أيضاً، قال: إنَّ رجلًا قال: يا رسول الله إنّي لا أحفظ شيئاً. قال: اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ عَلَى حِفْظِكَ- يعني: الكِتَابَ.
الرابع: بسنده عنه، قال: إنَّ رجلًا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله قلّة الحفظ، فقال عَلَيْكَ بِيَمِينِكَ يعني: الكِتَابَ.
الخامس: بسنده عنه أيضاً، قال: إنَّ رجلًا من الأنصار قال: يا رَسُولَ اللهِ! إنِّي أسْمَعُ مِنْكَ أحَادِيثَ وَ أخَافُ أنْ تَفَلَّتَ مِنِّي. قَالَ اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ!
السادس: بسنده عنه أيضاً، قال: جاء رجل، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي أسْمَعُ مِنْكَ حِدِيثاً كَثيراً فَاحِبُّ أنْ أحْفَظَهُ فَلَا أنْسَاهُ. فَقَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ!
السابع: بسنده عنه، قال: إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يَسْمَعُ مِنَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أشْيَاءَ تُعْجِبُهُ، كَانَ لَا يَقْدِرُ على حِفْظِهِ؛ فَقَالَ النَّبِيُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ و آلِهِ: اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ!
الثامن: بسنده عنه، قال: إنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سُوءَ الحِفْظِ، فَقَالَ: اسْتَعِنْ عَلَى حِفْظِكَ بِيَمِينِكَ.
التاسع: بسنده عن أنس بن مالك أنّه قال: شَكَا رَجُلٌ إلَى النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سُوءَ الحِفْظِ، فَقَالَ. اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ!
و كذلك روى الخطيب البغدادي بإسناده المتّصل ستّة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: قيّدوا العِلمَ بالكتابة.
الأوّل: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! اقَيِّدُ العِلْمَ؟! قَالَ: نَعَمْ!
الثاني: عنه أنّه قال: يَا رَسُولَ اللهِ اقَيِّدُ العِلْمَ؟! قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ: وَ مَا تَقِييدُهُ؟! قَالَ: الكِتَابُ.
الثالث: و عنه أيضاً أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: قَيِّدُوا العِلْمَ! قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَا تَقِييدُهُ؟! قَالَ: الكِتَابُ!
الرابع: عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه أنّه قال لرسول الله صلى الله عليه و آله: اقَيِّدُ العِلْمَ؟! قَالَ: نَعَمْ- يَعْنِي: كِتَابَهُ!
الخامس: عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ!
السادس: عن أنس نسبه بعضهم إلى ابن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ!۱
و روى الخطيب بثلاثة أسناد متّصلة عن رافع بن خديج، و في بعضها: قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أشْيَاءَ أ فَنَكْتُبُهَا؟! قَالَ: اكْتُبُوا
وَ لَا حَرَجَ!
و في بعضها: مَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ نَحْنُ نَتَحَدَّثُ فَقَالَ: مَا تَحَدَّثُونَ؟! قُلْنَا: نَتَحَدَّثُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: تَحَدَّثُوا وَ لْيَتَبَوَّأ مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مَقْعَداً مِنْ جَهَنَّمَ!
قال رافع: و مضى رسول الله صلى الله عليه و آله لحاجته، و نكّس القوم رؤوسهم، و أمسكوا عن الحديث، و همّهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه و آله.
فَقَالَ: مَا شَأنُكُمْ؟! أ لَا تَحَدَّثُونَ؟! قَالُوا: الذي سَمِعْنَا مِنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!
قَالَ: إنِّي لَمْ أرِدْ ذَلِكَ؛ إنَّمَا أرَدْتُ مَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ. قَالَ: فَتَحَدَّثْنَا.
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّا نَسْمَعُ مِنْكَ أشْيَاءَ فَنَكْتُبُهَا؟! قَالَ: اكْتُبُوا وَ لَا حَرَجَ!۱
و روى الخطيب أيضاً بخمسة و عشرين سنداً متّصلًا عن عمرو بن شُعيْب. عن أبيه شعيب، عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلنا: يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء لا نحفظها، أ فنكتبها؟! قال: بلى!
و هذه الأحاديث و إن كانت كثيرة بَيْدَ أنّها متقاربة المفاد و المضمون، و تشترك كلّها في إذن رسول الله صلى الله عليه و آله بكتابة أحاديثه. ورد بعضها بهذا اللفظ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي أسْمَعُ مِنْكَ أشْيَاءَ أخَافُ أنْ أنْسَاهَا، فَتَأذَنُ لي أنْ أكْتُبَهَا؟! قَالَ: نَعَمْ!
و جاء في كثير منها مفاد اللفظ الآتي و مضمونه: يَا رَسُولَ اللهِ! أكْتُبُ مَا أسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ! قُلْتُ: في الرِّضَا وَ الغَضَبِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
إنِّي لَا أقُولُ في الغَضَبِ وَ الرِّضَا إلَّا الحَقُّ - إنَّهُ لَا يَنْبَغِي لي أنْ أقُولَ إلَّا حَقَّاً.
و نقرأ في قسم منها: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: مَنْ قَالَ عَلَيّ مَا لَمْ أقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.۱ قَالَ: فَمَكَثْنَا قَرِيباً مِنْ شَهْرِ لَا نُحَدِّثُ بِشَيءٍ. فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَ نَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، كَأنَّ عَلَى رُؤوسنا الطَّيْرَ، فَقَالَ: مَا لكم لا تحدَّثون؟!
فَقُلْنَا: سَمِعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيّ مَا لَمْ أقُلْ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ!
قَالَ: فَقَالَ: تَحَدَّثُوا وَ لَا حَرَجَ!
قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّكَ تُحَدِّثُنَا فَلَا نَأمَنْ أنْ نَضَعَ شَيْئاً عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أ فَأكْتُبُ عَنْكَ؟!
قَالَ: نَعَمْ فَاكْتُبْ عَنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: في الرِّضَا وَ السَّخَطِ؟! قَالَ: في الرِّضَا وَ السَّخَطِ.
و نجد في بعض طرق الحديث أنّ المُعَافَى بن زكريّا قال في ذيل الحديث: و في هذا الخبر دلالة واضحة على أنّه من الصواب ضبط العلم، و تقييد الحكمة بالكتاب ليرجع إليه الناس فيذكر ما نسيه، و يستدرك ما عزب عنه، و على فساد قول من ذهب إلى كراهية ذلك.
و قد جاء في الأثر أنّ سليمان بن داود عليهما السلام قال لبعض من أسره من الشياطين: مَا الكَلَامُ؟! قَالَ: رِيحٌ. قَالَ: فَمَا تَقْيِيدُهُ؟! قَالَ: الكِتَابُ!
و وردت بعض الأحاديث بهذا اللفظ: قَالَ: كُنْتُ أكْتُبُ كُلَّ شَيءٍ أسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ارِيدُ حِفْظَهُ. فَنَهتْنِي قُرَيْشٌ، فَقَالُوا: إنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ رَسُولُ اللهِ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ في الغَضَبِ وَ الرِّضَا.۱ فأمْسَكْتُ عَنِ الكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فَقَالَ: اكْتُبْ فَوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنِّي إلَّا حَقٌّ.
و نقرأ في بعضها ما نصّه: فَأسْتَعِينُ بِيَدِي مَعَ قَلْبِي؟ قَالَ: نَعَمْ! و في بعض آخر: شبِّكوهَا بِالكَتْبِ!٢
و نقل الخطيب ستّة أحاديث بإسناده المتّصل عن أبي هريرة أنّه قال: لم يكن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله أكثر حديثاً منّي إلّا عبد الله بن عمرو فإنّه كتب و لم أكتب. و ألفاظ الجميع متقاربة. و ورد بعضها باللفظ الآتي:
مَا كَانَ أحَدٌ أعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنِّي إلَّا عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، فَإنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ فَاسْتَأذَنَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ يَكْتُبَ عَنْهُ مَا سَمِعَ فَأذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ، فَكَانَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ وَ يَعِي قَلْبُهُ، وَ أنا كُنْتُ أعِي بِقَلْبِي.۱
كتابة عبد الله بن عمرو للصحيفة الصادقة في عصر رسول الله
و ذكر الخطيب خمسة أحاديث بإسناده المتّصل أنّ الصادقة صحيفة كتبها عبد الله بن عمرو من رسول الله صلى الله عليه و آله.
و جاء بعضها باللفظ الآتي: الصَّادِقَةُ صَحِيفَةٌ كَتَبْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و نقرأ في بعضها الآخر ما نصّه: قال مجاهد أتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو فَتَنَاوَلْتُ صَحِيفَةً مِنْ تَحْتِ مَفْرَشِهِ، فَمَنَعَنِي. قُلْتُ: مَا كُنْتَ تَمْنَعَنِي شَيْئاً! قَالَ: هَذِهِ الصَّادِقَةُ. هَذِهِ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَيْسَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ أحَدٌ. إذَا سَلُمَتْ لي هَذِهِ وَ كِتَابُ اللهِ تَبَارَكَ وَ تعالى وَ الوَهْطُ فَمَا ابَالِي مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا!
و فُسّر الوهط في بعضها بقوله: وَ أمَّا الوَهْطَةُ فَأرْضٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَمْرُو بْنُ العَاصِ كَانَ يَقُومُ عَلَيْهَا.
و نلاحظ أنّ بعضها ورد باللفظ الآتي: قال أبو راشد الحبرانيّ: أتيتُ عبد الله بن عمرو بن العاص فقلتُ: حدّثنا ما سمعتَ من رسول الله
صلّى الله عليه و آله: فألقى إليّ صحيفة، فقال: هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه و آله، قال: فنظرتُ، فإذا فيها:
إن أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَلِّمْنِي مَا أقُولُ إذَا أصْبَحْتُ وَ إذَا أمْسَيْتُ. فَقَالَ: يَا أبَا بَكْرٍ! قُلِ: اللهُمَّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، عَالِمَ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ، لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَ مَلِيكَهُ، أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَ شِرْكِهِ، وَ أن اقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءاً، أوْ أجُرَّهُ إلَى مُسْلِمٍ.۱
و نقل الخطيب أيضاً حديثاً في تأكيد أمر الكتابة في عصر رسول الله صلى الله عليه و آله. و فيه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أمر أصحابه أن يكتبوا لأبي شاة خطبته التي سمعها منه. و أورد الخطيب هذا الموضوع بسنده المتّصل عن أبي هريرة أنّه قال:
لَمَّا فَتَحَ اللهُ تعالى عَلَى رَسُولِهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] مَكَّةَ قَامَ في النَّاسِ فَحَمِدَ اللهَ، وَ أثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الفِيلَ، وَ سَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَ المُؤْمِنِينَ؛ وَ إنَّهَا لَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَ إنَّمَا احِلَّتْ لي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ؛ وَ إنَّهَا لَنْ تُحَلَّ لأحَدٍ بَعْدِي،
فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَ لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَ لَا تُحَلُّ سَاقِطَتُهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ! وَ مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمَّا أنْ يُفْدِى وَ إمَّا أنْ يَقْتُلَ.
فَقَالَ العَبَّاسُ: إلَّا الإذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَإنَّا نَجْعَلُهُ في قُبُورِنَا وَ بُيُوتِنَا، فَقَالَ: إلَّا الإذْخِرَ. فَقَامَ أبُو شَاةٍ- رَجُلٌ مِنْ أهْلِ اليَمَنِ- فَقَالَ: اكْتُبُوا لي يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ]: اكْتُبُوا لأبِي شَاةٍ!
يقول راوي هذا الحديث أبو بكر أحمد بن محمّد بن غالب الفقيه الخوارزميّ: قلتُ للأوزاعيّ: ما قوله: اكْتُبُوا لي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم.۱
تعمّد الخطيب عدم نقل أخبار حؤول عمر دون كتابة رسول الله
هذه معلومات ذكرها الخطيب البغداديّ في كتاب «تقييد العلم» لإثبات الكَتابة و أهمّيّتها، و أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بهذا العمل الخطير. و لا نجد ذكراً لصحيفة أمير المؤمنين عليه السلام كما هو ملحوظ، بل لا نجد ذكراً للاستشهاد بكتابة رسول الله صلى الله عليه و آله حين طلب قلماً و قرطاساً ليكتب لُامّته ما لا تضلّ بعده أبداً.
و هذا الموضوع بلغ من العجب درجة أنّه أثار استغراب يوسف العُشّ
الذي صدّر الكتاب المذكور و حقّقه و علّق عليه. فلم يتمالك نفسه حتى قال في الهامش: من العجب أن يكون سها عن بال الخطيب الاستشهاد بالكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه حين وفاته و خبره في «صحيح البخاريّ» ج ۱، ص ٤۱، طبعة ليدن، و «صحيح مسلم» مع شرح النوويّ، ج ٢، ص ٤٢، و «تاريخ الطبريّ» ج ۱، ص ۱۸٦ و ۱۸۷، و «اسد الغابة» ج ٣، ص ٣۰٥، و شرح الحديث في «إرشاد الساري» ج ۱، ص ۱٦٩، و «فتح الباري» ج ۱، ص ۱۸٥ إلى ۱۸۷، و «عمدة القاري» ج ۱، ص ٥۷٥، و «شرح مسلم» للنوويّ، ج ٢، ص ٤٣۱
حظر عمر الكتابة ينطلق من أغراض سياسيّة
و أقول: لم يَسْهُ الخطيب، بل تساهي. و هذا السهو المقصود ملموس عند علماء العامّة غالباً، إذ يرتكبون مثل هذه الأخطاء المتعمّدَة كثيراً فيحذفون أو يحرّفون أو يغيّرون أو يبترون أو يُعرضون عن ذكر الحديث مباشرة. و هذه كلّها شواهد ساطعة و أدلّة واضحة على بطلان آرائهم و مذاهبهم التي أقاموها على أساس تخويف الناس و ترهيبهم و خنق صوت الحقّ و الإجهاز عليه. و كما قال سلطانهم علناً و القوم حاضرون: إنّه ليهجر؛ حسبُنا كتاب الله، مشيراً إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، فإنّهم صدفوا من ذلك المنطلق عن أحاديث أهل البيت النبويّ الكريم التي كانت مدوّنة و متميّزة يومئذٍ، إذ إنّ تلك الأحاديث كلّها كانت موجودة و محفوظة و مدوّنة عند مصدر الولاية أمير المؤمنين عليه السلام، غاية الأمر أنّ العامّة المخالف نهجهم لنهج أهل البيت عليهم السلام لم يجدوا بُدّاً من الإعراض عنها، بل عدّها منبوذة محظورة تمشّياً مع الظروف السياسيّة المفروضة، لأنّ هذه الأحاديث التي تفسّر الآيات القرآنيّة و الأحاديث النبويّة لمصلحة
صاحب الولاية و منزلته تتعارض مع حكومتهم الغاصبة. و لا جرم أنّهم يهجرون أهل البيت و أحاديثهم و كتبهم رغبة في التحكّم و التسلّط، و إلّا اجتمع الضدّان و النقيضان.
و على ضوء ذلك قال عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، و افتعل تلك الضجّة و الجلبة بحضور رسول الله في ذلك المجلس الذي تمثّلت فيه الرَّزِيَّة كُلّ الرَّزِيَّة. و كثر اللَّغْط و امتنع النبيّ من الكتابة حتى التحق بالرفيق الأعلى.
هب أنّ ما أراد أن يكتبه صلى الله عليه و آله لا يرتبط بوصاية مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام، بَيدَ أنّه مهما كان موضوع الكتابة، فإنّه أراد أن يكتب ما يضمن عدم ضلال الامّة إلى الأبد.
و ليس من أحد يقول لهؤلاء الأتباع الذين هم أشبه بالحاضنة التي تدّعي أنّها أشفق من الامّ الرءوم: إنّ كتاب النبيّ صلى الله عليه و آله- مهما كان- ضمان منه لسعادة الامّة و عدم ضلالها أبد الآبدين، فما هو المسوّغ العقليّ و الوجدانيّ و الشرعيّ لعمر حتى يحرم الامّة من هذا الفيض إلى قيام الساعة؟!
إنّها قضيّة مالك بن نويرة نفسها، إذ إنّه لمّا امتنع من دفع الزكاة إلى أبي بكر، و قال بوجوب دفعها إلى الخليفة و الوليّ الحقّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، اتّهمه خالد بن الوليد بالارتداد و قتله بشكل مروّع، و قَبِل أبو بكر عذر خالد، لأنّه لو بلغ الناسَ أنّ مالك بن نويرة لم يرتدّ، و أنّه ما برح على إسلامه، و أنّه أراد دفع زكاته و زكاة قومه إلى صاحبها الحقيقيّ؛ و لو اقتصّ أبو بكر من خالد بن الوليد لِقَتْلِهِ امرءاً مسلماً، فَقَتَلَهُ به، لانتشر الخبر في طرفة عين و انتفض الناس لمناهضة أبي بكر تبعاً لمالك، و حينئذٍ لا يعلم أحد ما ذا سيحدث، و لما قرّ للجهاز الحاكم قرار. و هذا يعني اجتماع الضدّين و النقيضين. لهذا أتوا برأسه سريعاً لئلّا يذاع الخبر. وَ إلَّا اتَّسَعَ
الخَرْقُ عَلَى الرَّاقِع. (حينئذٍ لا يُرْقَع الخرقُ، بل يتّسع و يتّسع حتى لا يدع للجهاز الحاكم إلّا الامتهان و الخزي و الذلّ).
كان ذلك سرّاً أفضاه خالد في اذن أبي بكر فاستصوبه و برّأه. و لمّا أخبر أبو بكر عمر الذي كان من المعارضين لخالد في تلك القضيّة، قَبِل كلامه و لم يُصرّ على الاقتصاص من خالد. و تصافي القوم و جلسوا على مائدة شهيّة و هم يقضمون ما عليها.
حظر عمر تدوين الحديث النبويّ
إن قول عمر: حسبنا كتابُ الله، يجانب العقل و المنطق إلى درجة أنّ العامّة أنفسهم طأطأوا رؤوسهم خجلًا في تفسيره، لكنّ عمر نفسه حال دون عزم رسول الله على الكتابة، و منع جلب الكتف و الدواة و ذلك من أجل تقويض أركان الولاية و هو يعلم جيّداً أنّ كلامه خطأ محض، و أنّ القرآن لا يكتمل إلّا بسنّة رسول الله صلى الله عليه و آله.
ثمّ حظر بيان الحديث و السيرة النبويّة أيّام حكومته بأشدّ الإجراءات. و لم يمنع تدوين الحديث فحسب، بل منع بيانه شفويّاً أيضاً بأعنف اسلوب. و لِمَ ذاك؟ لكي لا يتكلّم الناس بالأحاديث النبويّة المأثورة في وصاية أمير المؤمنين و إمامته و إمارته و خلافته بلا فصل. و هذه الأحاديث تمثّل بياناً يتعارض مع نهج الحكومة الغاصبة. و كيف يترك الناس أحراراً في تدوينها، و هو الذي هجم على بيت فاطمة و اقتاد أمير المؤمنين إلى المسجد من أجل البيعة؟
قال الشيخ محمود أبو ريّة بعد ردّ الحديث الآتي المرويّ عن طرق العامّة: ألَا وَ إنِّي قَدْ اوتِيتُ الكِتَابَ وَ مِثْلَهُ مَعَهُ: و إذا كان الأمر كذلك، فَلِمَ لَمْ يُعْنَ النبيّ بكتابة هذا المثل في حياته، عند ما تلقّاه عن ربّه، كما عنى بكتابة القرآن؟
و واصل كلامه إلى أن قال: هل يصحّ أن يدع النبيّ نصف ما
أوحاه الله إليه يغدو بين الأذهان بغير قيدٍ، يُمسكه هذا، و ينساه ذاك، و يتزيّد فيه ذلك ممّا يصيب غير المدوّن في كتابٍ محفوظ؟ و هل يكون الرسول بعلمه هذا قد بلّغ الرسالة على وجهها، و أدى الأمانة كاملة إلى أهلها؟!
و أين كان هذا الحديث عند ما قال النبيّ في مرضه الأخير الذي انقلب بعده إلى ربّه، و بعد أن نزلت الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً»۱: إنِّي وَ اللهِ مَا تَمَسَّكُوا عَلَيّ بِشَيءٍ إنِّي لَمْ احِلَّ إلَّا مَا أحَلَّ القُرْآنُ، وَ لَمْ احَرِّمْ إلَّا مَا حَرَّمَ القُرْآنُ؟!٢ ثمّ أين كان هذا الحديث عند ما قال أبو بكر للناس: بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ فَاسْتَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَ حَرِّمُوا حَرَامَهُ؟! و عند ما قال عمر، عند ما طلب النبيّ صلى الله عليه و آله و هو يحتضر أن يكتب للناس كتاباً لن يضلّوا بعده: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ؟!
و قال أبو ريّة: فإنّا نجد هؤلاء الصحابة لم يقف بهم الأمر عند ذلك (الكتابة)، و إنّما كانوا يرغبون عن رواية الحديث و ينهون عنها، و أنّهم كانوا يتشدّدون في قبول الأخبار تشديداً قويّاً.
روى الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» قال: من مراسيل ابن أبي مليكة٣ أنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال: إنَّكُمْ تُحَدِّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ
أحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا، وَ النَّاسُ بَعْدَكُمْ أشَدُّ اخْتِلَافاً؟ فَلَا تُحَدِّثُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئاً. فَمَنْ سَألَكُمْ فَقُولُوا: بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَاسْتَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَ حَرِّمُوا حَرَامَهُ!
و روى ابن عساكر عن محمّد بن إسحاق قال: أخبرني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطّاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق: عبد الله بن حُذَيفة، و أبا الدرداء، و أبا ذرّ، و عقبة بن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟! قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي؛ لا و الله لا تفارقوني ما عشتُ فنحن أعلم، نأخذ منكم، و نردّ عليكم! فما فارقوه حتى مات.۱
و روى الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» عن شعبة، عن سعيد بن إبراهيم، عن أبيه أنّ عمر حبس ابن مسعود، و أبا الدرداء، و أبا مسعود الأنصاريّ فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله،٢ و كان قد حبسهم في المدينة. ثمّ أطلقهم عثمان.٣
و روى ابن سعد، و ابن عساكر عن محمود بن لبيد- و اللفظ لابن
سعد- قال: سمعتُ عثمان بن عفّان على المنبر يقول: لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يسمع به في عهد أبي بكر و لا في عهد عمر، فإنّه لم يمنعني أن احدّث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلّا إنّي سمعته يقول: مَنْ قَالَ عَلَيّ مَا لَمْ أقُلْ فَقَدْ تَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
و في كتاب «جامع بيان العلم و فضله»۱ لحافظ المغرب ابن عبد البرّ عن الشعبيّ، عن قرظة بن كعب قال: خَرَجْنَا نُرِيدُ العِرَاقَ فَمَشَى مَعَنَا عُمَرُ إلَى صِرَارٍ.٢ ثُمَّ قَالَ لَنَا: أ تَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ؟! قُلْنَا: أرَدْتَ أنْ تُشَيِّعَنَا وَ تُكْرِمَنَا! قَالَ: إنَّ مَعَ ذَلِكَ لَحَاجَةً خَرَجْتُ لَهَا: إنَّكُمْ لَتَأتُونَ بَلْدَةً لأهْلِهَا دَوِيّ كَدَوِيّ النَّحْلِ، فَلَا تَصُدُّوهُمْ بِالأحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ وَ أنَا شَرِيكُكُمْ! قَالَ قَرَظَةُ: فَمَا حَدَّثْتُ بَعْدَهُ حَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللهِ.
و في رواية اخرى: إنَّكُمْ تَأتُونَ أهْلَ قَرْيَةٍ لَهَا دَوِيّ بِالقُرْآنِ كَدَوِيّ النَّحْلِ فَلَا تَصُدُّوهُمْ بِالأحَادِيثِ لِتَشْغَلُوهُمْ. جَوِّدُوا٣ القُرْآنَ وَ أقِلُّوا الرِّوايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ وَ أنَا شَرِيكُكُمْ!٤
فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ قَالُوا: حَدِّثْنَا! فَقَالَ: نَهَانَا عُمَرُ.٥
وَ في «الامِّ» لِلشَّافِعِيّ روايَةُ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ: فَلَمَّا قَدِمَ قَرَظَةُ، قَالُوا: حَدِّثْنَا! قَالَ: نَهَانَا عُمَرُ!
وَ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أقِلُّوا الرِّوايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ إلَّا فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ.۱
و قد ذكرنا في الجزء الثاني عشر من كتابنا هذا «معرفة الإمام» الدروس ۱۷٤ إلى ۱۷٦ قصّة صُبَيْغِ بْنِ عَسَلٍ التَّمِيمِيّ و جلده مائتي جلدة، و إدماء بدنه لسؤاله عمر عن معنى الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، نقلًا عن السيوطيّ، و ابن كثير عن البزّاز و الدار قطنيّ في «الإفراد»، و ابن مردويه، و ابن عساكر، و عن «سنن الدارميّ»، و «سيرة عمر» لابن الجوزيّ، و عن «كنز العمّال»، و عن نصر المقدسيّ، و الأصفهانيّ، و ابن الأنباريّ، و الألكانيّ، و عن «فتح الباري»، و «الفتوحات المكّيّة».
لقد حظَّر عمر أربعة أشياء:
۱- السؤال عن مشكل القرآن.
٢- السؤال عن الأحكام و التكاليف التي لم تقع.
٣- بيان أحاديث رسول الله.
٤- تدوين الحديث.
و كان يجلد صحابة رسول الله المعروفين و يحبسهم عملًا بما قرّره.
قال العلّامة الأمينيّ: و لمّا بعث عمر أبا موسى [الأشعريّ] إلى العراق قال له: إنّك تأتي قوماً لهم في مساجدهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل
فدعهم على ما هم عليه و لا تشغلهم بالأحاديث و أنا شريكك في ذلك. ذكره ابن كثير في تاريخه، ج ۸، ص ۱۰۷، فقال: هذا معروف عن عمر.
و أخرج الطبرانيّ عن إبراهيم بن عبد الرحمن أنّ عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود، و أبا الدرداء، و أبا مسعود الأنصاريّ، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله حبسهم بالمدينة حتى قُتل.۱
و في لفظ الحاكم في «المستدرك» ج ۱، ص ۱۱۰: إنّ عمر بن الخطّاب قال لابن مسعود و لأبي الدرداء و لأبي ذرّ: ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله؟! و أحسبه حبسهم بالمدينة حتى اصيب.
و في لفظ جمال الدين الحنفيّ: إنّ عمر حبس ابن مسعود، و أبا الدرداء، و أبا ذرّ حتى اصيب. و قال: مَا هَذَا الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؟ قال: أحسبه حبسهم حتى اصيب. و كذلك فعل بأبي موسى الأشعريّ مع عدله عنده. («المعتصر» ج ۱، ص ٤٥٩).
و قال عمر لأبي هريرة: لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دَوْس؟!٢ و قال لكعب الأحبار: لتتركنّ الحديث عن الأوّل، أو لألحقنّك بأرض القِرَدَة؟! («تاريخ ابن كثير» ج ۸، ص ۱۰٦).
و أخرج الذهبيّ في «التذكرة» ج ۱، ص ۷، عن أبي سلمة قال: قلتُ لأبي هريرة: أ كنتَ تُحدّث في زمان عمر هكذا؟! فقال: لو كنت احدِّث في زمان عمر مثل ما احدِّثكم لضر بني بمخفقته.
و أخرج أبو عمر عن أبي هريرة قال: لقد حدّثتكم بأحاديث لو حدَّثْتُ بها زمن عمر بن الخطّاب لضر بني عمر بالدرّة. («جامع بيان العلم» ج ٢، ص ۱٢۱).
و في لفظ الزهريّ: أ فكنتُ محدّثكم بهذه الأحاديث و عمر حيّ؟ أما و الله إذاً لأيقنتُ أنّ المخفقة ستباشر ظهري. و في لفظ ابن وهب: إنّي لُاحدِّث أحاديث لو تكلّمتُ بها في زمان عمر أو عند عمر لَشَجَّ رأسي. («تاريخ ابن كثير» ج ۸، ص ۱۰۷). فمن جرّاء هذا الحادث قال الشعبيّ: قعدتُ مع ابن عمر سنتين أو سنة و نصفاً فما سمعتُ يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه و آله إلّا حديثاً.۱
و قال السائب بن يزيد: صحبتُ سعد بن مالك من المدينة إلى مكّة فما سمعته يحدِّث بحديث واحدٍ. («سنن ابن ماجه» ج ۱، ص ۱٦).
و قال أبو هريرة: ما كنّا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله حتى قُبض عمر («تاريخ ابن كثير» ج ۸، ص ۱۰۷).
ردّ العلّامة الامينيّ على عمر في حظر تدوين الحديث
قال الأمينيّ: هل خفي على الخليفة أنّ ظاهر الكتاب لا يُغني الامّة عن السُّنَّة، و هي لا تفارقه حتى يردا على النبيّ الحوض، و حاجة الامّة إلى السُّنَّةَ لا تقصر عن حاجتها إلى ظاهر الكتاب؟
وَ الكِتَابُ كَمَا قَالَ الأوْزَاعِيّ وَ مَكْحُولٌ أحْوَجُ إلَى السُّنَّةِ مِنَ السُّنَّةِ إلَى الكِتَابِ. («جامع بيان العلم و فضله» ج ٢، ص ۱٩۱).
أو رأى هناك اناساً لعبوا بها بوضع أحاديث على النبيّ الأقدس- و حقّاً رأى- فهمّ قطع جراثيم التقوّل عليه صلى الله عليه و آله، و تقصير تلكم الأيدي الأثيمة عن السُّنّة الشريفة؟ فإن كان هذا أو ذاك، فما ذنب
مثل أبي ذرّ المنوَّه بصدقه بقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله: مَا أظَلَّتِ الخَضْرَاءُ، وَ لَا أقَلَّتِ الغَبْرَاءُ عَلَى رَجُلٍ أصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أبِي ذَرٍّ؟۱ أو مثل عبد الله بن مسعود صاحب سرّ رسول الله، و أفضل من قرأ القرآن، و أحلَّ حلاله، و حرّم حرامه، الفقيه في الدين، العالم بالسُّنَّة؟٢ أو مثل أبي الدرداء عُوَيْمِر كبير الصحابة، صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله؟٣ فلما ذا حبسهم حتى اصيب؟ و لما ذا هتك اولئك العظماء في الملأ الدينيّ و صغّرهم في أعين الناس؟ و هل كان أبو هريرة و أبو موسى الأشعريّ من اولئك الوضّاعين حتى استحقّا بذلك التعزير و النهر و الحبس و الوعيد؟! أنا لا أدري!
نعم، هذه الآراء كلّها أحداث السياسة الوقتيّة سدّت على الامّة أبواب العلم، و أوقعتها في هوّة الجهل و معترك الأهواء و إن لم يقصدها الخليفة، لكنّه تترّسَ بها يوم ذاك، و كافح عن نفسه اقتحام المعضلات، و نجا بها عن عويصات المسائل.
م- و بعد نهي الامّة المسلمة عن علم القرآن، و إبعادها عمّا في كتابها من المعاني الفخمة و الدروس العالية من ناحية العلم و الأدب و الدين و الاجتماع و السياسة و الأخلاق و التأريخ، و سدّ باب التعلّم و الأخذ بالأحكام و الطقوس ما لم يتحقّق و يقع موضوعها، و التجافي عن التهيّؤ بدين الله قبل وقوع الواقعة، و منعها عن معالم السُّنَّة الشريفة، و الحجز عن نشرها في الملأ. فبأيّ علم ناجع، و بأيّ حُكم و حِكَم تترفّع و تتقدّم الامَّة المسكينة
على الامم؟ و بأيّ كتاب و بأيّة سُنَّةٍ تتأتّى لها سيادة العالم التي أسّسها لها صاحب الرسالة الخاتمة؟ فسيرة الخليفة هذه ضربة قاضية على الإسلام و على امّته و تعاليمها و شرفها و تقدّمها و تعاليها عَلِمَ بها هو أو لم يعلم، و من ولائد تلك السيرة الممقوتة حديث كتابة السُّنن، ألا و هو:
٩٣
حديث كتابة السُّنن
عن عروة أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السُّنن فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ثمّ أصبح يوماً و قد عزم الله له فقال: إنّي كنتُ اريد أن أكتب السُّنن و إنّي ذكرتُ قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتاباً فأكبّوا عليها و تركوا كتاب الله، و إنّي و الله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً.۱
و قد اقتفى أثر الخليفة جَمْعٌ و ذهبوا إلى المنع عن كتابة السُّنَن خلافاً للسُّنَّةِ الثابتة عن الصادع الكريم.٢
٩٤
رأي الخليفة في الكتب
أضف إلى الحوادث الأربعة- حادث مشكلات القرآن، و حادث السؤال عمّا لم يقع، و حادث الحديث عن رسول الله، و حادث كتابة
السُّنن- رأى الخليفة و اجتهاده حول الكتب و المؤلّفات. أتى رجل من المسلمين إلى عمر فقال: إنّا لمّا فتحنا المدائن أصبنا كتاباً فيه علم من علوم الفرس و كلامٌ معجبٌ. فدعا بالدَّرَّة فجعل يضربه بها ثمّ قرأ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.۱ و يقول: ويلك! أقَصص أحسن من كتاب الله؟! إنّما هلك من كان قبلكم لأنّهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا و ذهب ما فيهما من العلم!
صورة اخرى: عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: أتى عمر بن الخطّاب رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إنّا لمّا فتحنا المدائن أصبتُ كتاباً فيه كلامٌ معجبٌ، قال: أ مِنْ كتاب الله؟ قال: لا! فدعا بالدرّة فجعل يضربه بها، فجعل يقرأ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. إلى قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ.٢ ثمّ قال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم و أساقفتهم و تركوا التوراة و الإنجيل حتى درسا و ذهب ما فيهما من العلم.
و أخرج عبد الرزّاق، و ابن الضريس في «فضائل القرآن»، و العسكريّ في «المواعظ»، و الخطيب عن إبراهيم النخعيّ قال: كان بالكوفة رجل يطلب كتب دانيال. فجاء فيه كتاب من عمر بن الخطّاب أن يُرفع إليه، فلمّا قدم على عمر علاه بالدرّة ثم جعل يقرأ عليه: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ- حتى بلغ- الْغافِلِينَ. قال: فعرفتُ ما يريد. فقلتُ: يا أمير المؤمنين! دعني فو الله لا أدع عندي شيئاً من تلك الكتب إلّا
أحرقتُه فتركه. (راجع «سيرة عمر» لابن الجوزيّ» ص ۱۰۷؛ و «شرح ابن أبي الحديد» ج ٣، ص ۱٢٢؛ و «كنز العمّال» ج ۱، ص ٩٥).
و جاء في تاريخ «مختصر الدُّوَل» لأبي الفرج الملطيّ المتوفّى سنة ٦۸٤ هـ، ص ۱۸۰ من طبعة بوك في اوكسونيا، سنة ۱٦٦٣ م، ما نصّه:
و عاش يحيى الغراماطيقيّ إلى أن فتح عمرو بن العاص مدينة الإسكندريّة و دخل على عمرو و قد عرف موضعه من العلوم فأكرمه عمرو و سمع من ألفاظه الفلسفيّة التي لم تكن للعرب بها انسة ما هالَهُ ففتن به. و كان عمرو عاقلًا حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه و كان لا يفارقه ثمّ قال له يحيى يوماً: إنّك قد أحطتَ بحواصل الإسكندريّة و ختمتَ على كلّ الأصناف الموجودة بها، فما لك به انتفاع فلا نعارضك فيه، و ما لا انتفاع لك به فنحن أولى به. فقال له عمرو: ما الذي تحتاج إليه؟ قال: كتب الحكمة التي في الخزائن الملوكيّة. فقال عمرو: هذا ما لا يمكنني أن آمر فيه إلّا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب.
فكتب إلى عمر و عرّفه قول يحيى فورد عليه كتاب عمر يقول فيه: وَ أمَّا الكُتُبُ التي ذَكَرْتَهَا، فَإنْ كَانَ فِيهَا مَا وافَقَ كِتَابَ اللهِ فَفِي كِتَابِ اللهِ عَنْهُ غِنى. وَ إنْ كَانَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فَتَقَدَّمْ بِإعْدَامِهَا.
فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمّامات الإسكندريّة و إحراقها في مواقدها فاستُنفذت في مدّة ستّة أشهر فاسمع ما جرى و اعجب!
هذه الجملة من كلام الملطيّ ذكرها جرجي زيدان في «تاريخ التمدّن الإسلاميّ» ج ٣، ص ٤۰، برمّتها. فقال في التعليق عليها: النسخة المطبوعة في مطبعة الآباء اليسوعيّين في بيروت قد حُذفت منها هذه الجملة كلّها
لسبب لا نعلمه.
و قال عبد اللطيف البغداديّ المتوفّى سنة ٦٢٩ هـ في «الإفادة و الاعتبار» ص ٢۸: رأيتُ أيضاً حول عمود السواري من هذه الأعمدة بقايا صالحة بعضها صحيح و بعضها مكسور. و يظهر من حالها أنّها كانت مسقوفة و الأعمدة تحمل السقف و عمود السواري عليه قبّة هو حاملها. و أرى أنّه الرواق الذي كان يدرس فيه ارسطوطاليس و شيعته من بعده و أنّه دار المعلّم التي بناها الإسكندر حين بني مدينته، و فيها كانت خزانة الكتب التي أحرقها عمرو بن العاص بإذن عمر.۱
استبان ممّا عرضناه باقتضاب أنّ جملة حَسْبُنا كتابُ اللهِ لم تمثّل رأى عمر فحسب، بل مثّلت رأى أبي بكر و عثمان أيضاً. و كذلك رأى الحكّام الأمويّين الغاصبين. فالجميع ساروا على هذا النهج. و كان تدوين الحديث محظوراً حتى عصر عمر بن عبد العزيز حيث انقضى القرن الأوّل الهجريّ، و لم يُلْحَظْ أثر من الحديث و السنّة و التدوين حتى انقضى قرن و نصف من الزمان، ثمّ إنّ علماء العامّة شرعوا بعد ذلك يدوّنون الأحاديث.
لذلك عمل عمر بالحمل الأوّليّ الذاتيّ، أي أنّه عمل بمفهوم و مفاد حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، كما عمل في الخارج بالحمل الشائع الصناعيّ أيضاً، و حال دون تدوين الحديث و بيان السُّنَّة، فلم يَبْقَ بِيَدِ الامّة إلّا ظاهر القرآن.
الصحابة كانوا ينقلون سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله
أمّا الشيعة فإنّهم بدءوا ببيان الحديث و تدوينه على حدّ سواء منذ زمن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. و من هنا فإنّهم صنّفوا كتباً في عهد النبيّ نفسه. و قاموا بنشر الحديث و تدوينه بترتيب و تسلسل معيّنين بعد النبيّ صلى الله عليه و آله.
و طبّقوا السنّة النبويّة من منطلق الحديث المتواتر المشهور: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدا عَلَيّ الحَوْضَ.۱ و أخذوا بهذا الحديث الذي هو سنّة. و قاموا ببيان الحديث و تدوينه قبل أهل السنّة بقرن و نصف.
و الآن ينبغي أن نعلم أنّه لما ذا فكّر العامّة بجمع السُنّة بعد قرن من الزمان؟ و الجواب هو أنّهم رأوا أنّ كتاب الله وحده لا يكفي بغير السُّنّة و أنّ مثلهم في الاقتصار على الكتاب كمثل الطير الذي يريد أن يطير بجناحٍ واحد. و لاحظوا أنّ الأحكام وردت في القرآن بشكل عامّ، أمّا الشؤون اليوميّة للناس في الجزئيّات فإنّها تحتاج إلى بيان؛ و لا بيان لها إلّا السُّنّة. و من جهة اخرى، فقد نبّههم دخول العلوم و القضايا المستجدّة في العالم الإسلاميّ، و شعروا بالحاجة الماسّة إلى العلم و الاطّلاع على السيرة النبويّة و منهاج الرسول الأعظم و كلامه و اسلوبه العمليّ، فرأوا أنّهم متخلّفون جدّاً. إذ إنّ الإسلام الذي يجب أن يُسخّر عالَم العلم و العمل و التقوى لمعناه و حقيقته يسير القهقرى، و لو لم يُجْمَع شيء من بقايا السُّنّة النبويّة التي تناقلتها بعض الصدور شفويّاً لقرأنا عَلَى الإسْلَامِ السَّلَامِ. و عند ذاك أدركوا
فكر الشيعة و منهاجهم، و عرفوا أنّ الطريق المستقيم طريقهم. و أدركوا أنّ عليهم أن يكتبوا الحديث و يبيّنوه. لكن متى؟ و أين؟ و كيف؟
لقد تجاهل علماء العامّة ذلك التوجّه السقيم بكلّ شهامة، و ضربوا عن قول القائل: حَسْبُنَا كِتَابَ اللهِ صفحاً، و طفقوا يكتبون الكتب و السنن ناسخين القول المذكور علماً و عملًا. و سخر بعضهم منه، و قالوا: هل يمكن أن يكون الكتاب بلا سُنَّة؟!
و ألّف محمّد عجّاج الخطيب كتاباً في عظمة السُّنّة، و حاول جهده أن يُغطّي على جرائم عمر و أعوانه، و يصفهم بالإصلاح و التفكير بالمصلحة، و هو رجل سنّيّ متعصّب فظّ، بَيدَ أنّه لم يستطع أن يجد مَحملًا صحيحاً لذلك القول الذي نطق به عمر، فجدَّ في إثبات السُّنّة و صحّتها، و ارتأى ضرورة بيان الحديث قائلًا: ... فأخذوا (الصحابة) بسنّته عليه الصلاة و السلام، و تمسّكوا بها، و أبوا أن يكونوا ذلك الرجل الذي ينطبق عليه قوله عليه الصلاة و السلام:
يُوشَكُ الرَّجُلُ مُتّكِئاً عَلَى أرِيكَتِهِ يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي فَيقُولُ: بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلنَاهُ، وَ مَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، ألَا وَ إنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ.۱
بل وقفوا من السُّنَّة موقفاً عظيماً، و ردّوا على كلّ من فَهِمَ ذاكَ الفهم
(حسبنا كتاب الله).
روى أبو نَضْرَة عن عمران بن حصين أنّ رجلًا أتاه فسأله عن شيء، فحدّثه، فقال الرجل: حدّثوا عن كتاب الله عزّ و جلّ، و لا تحدّثوا عن غيره! فقال: إنَّكَ امْرُؤٌ أحْمَقُ! أ تَجِدُ في كِتَابِ اللهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أرْبَعاً لا يُجْهَرُ فِيهَا؟ وَ عَدَّ الصَّلَواتِ، وَ عَدَّ الزَّكَاةَ وَ نَحْوَهَا، ثُمَّ قَالَ: أ تَجِدُ مُفَسَّراً في كِتَابِ اللهِ؟! كِتَابُ قَدْ أحْكَمَ ذَلِكَ، وَ السُّنَّةُ تُفَسِّرُ ذَلِكَ.۱
و قال رجل للتابعيّ الجليل مُطَرِّف بن عَبْد الله بن الشِّخير: لَا تُحَدِّثُونَا إلَّا بِالقُرْآنِ. فقال له مطرّف: وَ اللهِ مَا نُرِيدُ بِالقُرْآنِ بَدَلًا، وَ لَكِنْ نُرِيدُ مَنْ هُوَ أعْلَمُ بِالقُرْآنِ مِنَّا.٢
و يحاول الخطيب في بحث تحت عنوان: «احتياط الصحابة و التابعين في رواية الحديث» توجيه كلام من قال: أقِلُّوا الرِّوايَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ، توجيهاً لا يتنافى مع العقل، و لا يوصد باب نقل الحديث، و الحقّ أنّ هذا و أمثاله توجيهات لا يرضى بها صاحبها عمر. و على هذا الأساس يمرّون على حديث مشايعة عمر قرظة بن كعب مرّ الكرام، و يمترون في سَجن الصحابة الثلاثة الكبار- الواردة أسماؤهم في رواية الحافظ الذهبيّ: ابن مسعود، و أبي الدرداء، و أبي مسعود الأنصاريّ- بالمدينة إلى أن قُتل عمر: كيف نتصوّر أن يصدر مثل هذا العمل المخالف عن خليفة كأمير المؤمنين عمر؟! و كيف يقوم عمر بمثل هذا العمل و هو مَن هو في سوابقه و سيرته في الإسلام؟! كيف يمكن ذلك؟! و يختمون
الموضوع بإثارة هذه الأسئلة و أمثالها. و على فرض تحقّق هذا الموضوع يقولون: ليس المراد من قولهم: حَبَسَهُمْ في المَدِينَةِ: سَجَنَهم، بل منعهم من الحديث. حَبَسَهُم أي: مَنَعَهُم.۱
رأى جولدتسيهر في تدوين الحديث
و نرى الخطيب يتغيّظ و يمتعض جدّاً من كلام المستشرق الألمانيّ جولدتسيهر، إذ قال: «و ليس صحيحاً ما يقال من أنّه- أي الحديث- وثيقة للإسلام في عهده الأوّل عهد الطفولة، و لكنّه أثر من آثار جهود الإسلام في عصر النضوج» حتى أنّه يكاد يشقّ أثوابه من الغيظ، في حين أنّه كلام سديد من منظار تأريخ العامّة و حديثهم، لا من منظار تأريخ الشيعة و حديثهم، لأنّ الجميع يعترفون- كما سنرى- أنّ تدريس الحديث و بيانه و تدوينه عند الشيعة بدأ منذ عصر خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله، و أنّهم سبقوا السُّنَّة في تدوين الحديث و ضبط السنّة النبويّة بقرن و نصف.
و فيما يأتي كلام محمّد عجّاج الخطيب: وَ السُّنَّةُ لَمْ تَكُنْ قَطُّ نَتِيجَةً لِلتَّطَوُّرِ الدِّينِيّ وَ الاجْتِمَاعِيّ لِلإسْلَامِ في القَرْنَيْنِ الأوَّلِ وَ الثَّانِي كَمَا ادَّعى (جولد تسيهر) الذي يُضِيفُ فَيَقُولُ: وَ لَيْسَ صَحِيحاً مَا يُقَالُ مِنْ أنَّهُ- أي الحَدِيثِ- وَثِيقَةً لِلإسْلَامِ في عَهْدِهِ الأوَّلِ عَهْدِ الطُّفُولَةِ وَ لَكِنَّهُ أثَرٌ مِنْ آثَارِ جُهُودِ الإسْلَامِ في عَصْرِ النُّضُوجِ.
راجع: «نظرة عامّة في تاريخ الفقه الإسلاميّ» عن «دراسات إسلاميّة» لجولد تسيهر. كما ذكر غاستُون ويت هذا الرأي لجولد تسيهر في مقالته عن الحديث في «التاريخ العامّ للديانات» ج ٤، ص ٣٦٦ بالفرنسيّة.
و ذكر واضعو «دائرة المعارف الإسلاميّة» قريباً من هذا القول عن جولد تسيهر في مادّة (حديث)، نقلًا عن كتابه: «دراسات إسلاميّة». و يرى
أنّ السُّنّةَ من وضع المسلمين. و هذا محض افتراء سأتعرّض له في باب وضع الحديث، فليراجع.۱
يقول محمّد عجّاج الخطيب لإثبات عمل أبي بكر بالسنّة النبويّة: و من ذلك ما رواه الذهبيّ من مراسيل ابن أبي مليكة أنّ أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيّهم فقال:
إنَّكُمْ تُحَدِّثُون عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أحَادِيثَ تَخْتَلِفُونَ فِيهَا؛ وَ النَّاسُ بَعْدَكُمْ أشَدُّ اخْتِلَافاً. فَلَا تُحَدِّثُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئاً! فَمَنْ سَألَكُمْ فَقُولُوا: بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَاسْتَحِلُّوا حَلَالَهُ وَ حَرِّمُوا حَرَامَهُ!
ثمّ قال الحافظ الذهبيّ: يدلّك هذا أنّ مراد أبي بكر التثبّت في الأخبار و التحرّي، لا سدّ باب الرواية. أ لا تراه لمّا نزل به أمر الجِدَّة و لم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السُّنن؛ فلمّا أخبره ما اكتفى حتى استظهر بثقة آخر، و لم يقل: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ كما تقوله الخوارج.٢
و نقل حكم إرث الجدّة عن الذهبيّ كالآتي: كان أبو بكر أوّل مَن احتاط في قبول الأخبار. فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أنّ الجدّة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تُوَّرث، فقال: ما أجد لكِ في كتاب الله شيئاً، و ما علمتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله ذكر لكِ شيئاً. ثمّ سأل الناس، فقام المغيرة فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و آله يعطيها السُّدُسَ. فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمّد بن مسلمة بمثل ذلك.
فأنفذه لها أبو بكر.۱
نحن لا نقدح في أنّ أبا بكر كان يمتنع غالباً من قبول السُّنَّة المحقّقة، و يقول: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ، حتى يكون توجيه الذهبيّ و محمّد عجّاج سديداً، و إنّما قدحنا في أبي بكر، و عمر، و عثمان، و المغيرة، و أبي عُبيدة الجرّاح و من شابَهَهُم و ماثَلَهُم من حيث قلّة اطّلاعهم على السُّنَّة النبويّة. لهذا كانوا يقولون عند مراجعة أحد أيّاهم: لا نعلم! و إذا كنّا لا نعلم فمرجعنا كتاب الله!
آفات الاعتقاد بقول عمر: حسبنا كتاب الله
هذا كلام غلط، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله خلّف بعده رجلًا هو مرجع العلوم و مسندها و مصدرها و موردها، و هو باب مدينة العلم، و أقضى الامّة، و العالم بالكتاب و تأويله و تفسيره، و العارف بالسُّنّة حضراً و سفراً. و جعله مرجعاً لمسائل الناس و حوادثهم و وقائعهم. و خطب في الآلاف المحتشدة يوم غدير خُمّ فنصبه عَلَماً و مناراً و هادياً و مَعْلَماً و مربّيّاً و مكمّلًا و متمّماً؛ فلما ذا سلبتموه حقّه و عزلتموه في بيته، و تربّعتم على أريكة الحكم و الأمر و النهي و الفتوى و القضاء و القرآن، ثمّ عجزتم و لم تُحسنوا أداء المهمّة؟! إذ إنّكم لا تعلمون! و يا عجباً فها أنتم تعترفون أنّ عليّاً هو الرجل العليم البصير، فَلِمَ ضَربتم عنه صفحاً و هجرتموه و نأيتم عنه ليذهب بمسحاته خارج المدينة فيحرث و يزرع و يسقي و يجري القنوات و يغرس الأشجار و النخيل؟!
ويلٌ لكم! لا ويلٌ واحد بل ويل كثير دائم إلى يوم القيامة! ويل لكم
ما كان لكلمة الويل من معنى و مفهوم! كيف راقكم أن يكون عليّ بن أبي طالب بعيداً عن الأمر و النهي و التفسير و بيان السُّنّة و إدارة شئون الناس خمساً و عشرين سنة، و أنتم الذين تجهلون أبسط المسائل الضروريّة اللازمة ترتقون العرش و تمتطون صهواتكم متباهين بأنفسكم أنّكم دحرتم عليّاً، و ذلّلتم ذلك الليث الباسل، و وضعتم الحبل في عنقه و اقتدتموه إلى المسجد، و أخذتم منه البيعة أمام الملأ العامّ؟!
إنّنا نلزمكم أنتم الذين لا علم لكم بالسُّنّة و نقول: لما ذا لم ترجعوا إلى عليّ بن أبي طالب عند ما لم تجدوا حكماً في كتاب الله؟! و هو المرجع في المسائل كلّها، و هو أعلم الامّة و أتقاها و أورعها على ما قال رسول الله صلى الله عليه و آله. فاللمز و القدح هنا! و أنتم أيّها الذهبيّ و الخطيب و غيركما! و الله إنّكم تعلمون الحقّ فكفى! كفى! لا تخدعوا أنفسكم و الآخرين بهذه التمويهات!
و إذا كان أبو بكر مع وجود مصدر الولاية و العلم المحيط، يقبع في دائرة نفسه و يُبدي جهله بالمسائل، و لا يُراجع و لا يسأل مصدر الولاية، و كان يحكم بالنفي بمجرّد عدم عثوره على شيء في كتاب الله، فما ذا يعني هذا؟ ألا يعني العمل بالمقولة المعروفة: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ؟ و هل يعني شيئاً غيره؟!
لقد حرص رسول الله طوال عمره على تعليم عليّ. ثمّ قدّم ذلك البحر الزاخر بالعلم إلى الامّة و عرّفها به. فهو إذَن عالَم من الحديث و السنّة، و مكتبة لمكاتيب رسول الله.
لما ذا حِلتُم دون كتابة رسول الله بقولكم: إنَّ الرَّجُلَ يَهْجُرُ، و هو الذي أراد أن يرفع الضلال عن امّته إلى الأبد حين قال ائتوني بقرطاس و قلم؟! و لما ذا اشتريتم الضلالة للُامّة البائسة المسكينة إلى موقف العدل
الإلهيّ!!
إن وضع الحديث يساوي إلغاء الحديث الصحيح.
و ما الفرق بين أن تجلسوا في مجلس النبيّ فتنسبوا آلاف الأحاديث الموضوعة إلى رسول الله، و بين أن تحرموا الامّة من ذلك الخير العميم بزعمكم كفاية القرآن، و عدم الحاجة إلى الولاية؟!
و يأسى العالم السنّيّ النابه الشيخ محمود أبو ريّة في كتابه «أضواء على السُّنّة المحمّديّة» على عدم أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بكتابة الحديث في حياته كما أمر بكتابة القرآن. و لو كان قد فعل ذلك لما طرأت على المسلمين تلك المشاكل المؤلمة المُمِضّة. و لو كانت الأحاديث قد دوّنت بمحضره ككتاب الله، لعشنا عالماً من الوحدة، و رخاء البال، و الإيمان، و السكينة، و الهدوء.۱
و هذا الكلام غير سديد للأسباب الآتية:
الحاجة إلى الإمام قائمة مع وجود السُّنّة
أوّلًا: أنّ الحاجة ستظلّ قائمة إلى المعلّم و المربّي و المرشد و الوليّ و القائم بالأمر حتى مع تدوين السنّة التامّة الكاملة، و إلّا لظهرت تفاسير مختلفة لها كتفاسير القرآن. و حينئذٍ لا يُعقَل وجود من يفصل الخصومة و يرفع الخلاف سوى الإمام المنصوب بالحقّ.
ثانياً: كان تدوين مثل هذه السُّنّة بِيَدِ الناس مَحالًا في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله، نظراً إلى ما يتمتّع به القرآن الكريم من شأنٍ عند المسلمين الذين كانوا يسعون في حفظ ألفاظه و كلماته. و هذا نفسه يُعدّ أكبر معجزة إلهيّة من معجزات نبيّنا صلى الله عليه و آله.
ثالثاً: للسنّة أحكام مختلفة في شتّى الموضوعات حسب الحالات
اللازمة، من قبيل موضوع الضرر و الحرج و العُسر و اليُسر و أمثالها التي لها أحكام متباينة في الموضوع الواحد وفقاً لاختلاف الظروف و الأحوال. و هذه الأحكام على درجة من السعة و الكثرة بحيث يتعذّر إحصاؤها و تدوينها. و لا يحيط بها إلّا ذهن الإمام الوليّ القائم بالأمر و قوّته المدركة العاقلة المشخِّصة فحسب.
رابعاً: لقد هيّأ النبيّ صلى الله عليه و آله هذا الكتاب المدوّن و هذه السنّة المضبوطة التي ينبغي أن تُودَع عند أكثر أفراد الامّة خبرةً و معرفةً، و قد أودعها صلى الله عليه و آله عند أكثرهم خبرةً و علماً و معرفة. و ذلك هو نائبه و خليفته الذي قال في حقّه: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. يضاف إلى ذلك أنّه صلى الله عليه و آله كانت عنده صحيفة مدوّنة فيها جميع المسائل العامّة و المعضلات و الحوادث و الوقائع و المنايا و البلايا. و قد أراهَا امّتَه من خلال قوله: ائتوني بكتف و دواة أكتب لكم ما لا تضلّوا بعده أبداً. فهذه هي السُّنّة المدوَّنة و الأحاديث المضبوطة المسطورة!
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بالكتابة ليُسَجَّلَ هذا السند و يكتسب صفة رسميّة؛ بَيْدَ أنّ القوم حالوا دون الكتاب و رفعوا عقيرتهم بقولهم: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ. و انقضت اللحظات الأخيرة من عمر النبيّ الكريم باللَّغط و الجَلَبة و الضوضاء في ذلك المجلس الفوضويّ. و أمضى صلى الله عليه و آله تلك اللحظات من وجوده المقدّس كَمَداً حتى التحق بالرفيق الأعلى.
إن قوله صلى الله عليه و آله: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، تعريف لذلك الكتاب المسطور و السُّنّة الحيّة الثابتة، و قد أتحف صلى الله عليه و آله الامّة بهما معاً.
كلام أحمد أمين في الحاجة إلى السُّنّة
يقول الدكتور أحمد أمين المصريّ: وَ أمَّا السُّنَّةَ فَهِيَ أهَمُّ مَصْدَرٍ بَعْدَ القُرْآنِ؛ وَ قَدْ تَجَرَّأ قَوْمٌ فَأنْكَرُوهَا وَ اكْتَفُوا بِالعَمَلِ بِالقُرْآنِ وَحْدَهُ. وَ هَذَا خَطَأ. فَفِي السُّنَّةِ تَفْسِيرٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِلْقُرْآنِ. فَقَدْ كَانَ يُجِيبُ عَنْ أسْئلَةِ الصَّحَابَةِ فِيمَا غَمَضَ عَلَيْهِمْ وَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ. وَ فِيهَا تَارِيخُ الإسْلَامِ وَ تَارِيخُ أعْمَالِ الصَّحَابَةِ وَ طَرِيقُ تَنْفِيذِهِمْ لأحْكَامِ القُرْآنِ وَ كَيفِيَّةِ عَمَلِهِمْ بِهَا.
فَمِنَ الحَدِيثِ نَعْلَم: كَيْفَ عَمِلَ الرَّسُولُ وَ أصْحَابِهِ بِالقُرْآنِ؟ وَ كَيْفَ نَجَحُوا في تَأسِيسِ حُكُومَةٍ مَدَنِيَّةٍ عَلَى مَبَادِئِ الإسْلَامِ. وَ في الحَدِيثِ أخْبَارُ الرَّسُولِ وَ أصْحَابِهِ وَ وَقَائِعُهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَ قِسْمٌ مِنَ الأحَادِيثِ أخْلَاقِيّ تَهْذِيبِيّ يَحْتَوِي عَلَى الحِكَمِ وَ الآدَابِ وَ النَّصَائِحِ مِثْلُ مَدْحِ الصِّدْقِ وَ العَدْلِ وَ الإحْسَانِ وَ ذَمِّ الكِذْبِ وَ الظُّلْمِ وَ الفِسْقِ وَ الفسَادِ.
وَ قِسْمٌ يَشْتَمِلُ عَلَى اصُولِ العَقَائِدِ المذكُورَةِ في القُرْآنِ مِثْلُ التَّوحِيدِ وَ الصِّفَاتِ الإلهيَّةِ وَ الرِّسَالَةِ وَ البَعْثِ وَ جَزاءِ الأعْمَالِ.
وَ قِسْمٌ آخَر يَشْتَمِلُ عَلَى أحْكَامٍ؛ وَ قَدِ اشْتَرَطُوا في أحَادِيثِ الأحْكَامِ صِحَّتَهَا.۱
إن أحمد أمين هو العالم المصريّ المطّلع المتضلّع المشهور صاحب كتب «فجر الإسلام»، و «ضُحى الإسلام»، و «ظُهْر الإسلام». التي نشرها في أرجاء العالم. و رحّبت بها مدارس السُّنَّة عامّتها.
بَيدَ أنّه عدّ الشيعة في كتاب «فجر الإسلام»، و «ضحى الإسلام»
و لأسبابٍ سياسيّة، طائفة شاذّة خارجة من الإسلام، و تقوّل عليهم في الاصول و الفروع. و نجده بعد مرور أربعة عشر قرناً على مظلوميّة سيّدنا و مولانا عليّ عليه السلام في سقيفة بني ساعدة، و مجلس رسول الله في يوم الرزيّة، يتحامل على ولايته و يهاجمها بنفس تلك السيوف التي سُلَّت عليها يومئذٍ، دون أن يتورّع عن أيّ لون من ألوان السبّ و الشتم و الاتّهام.
و قد قَدِم إلى النجف الأشرف في شهر رمضان بعد سنة ۱٣٦۰ هـ في جولةٍ سياحيّة و معه لفيف من أصحابه، و التقى بعلمائها الذين فنّدوا مزاعمه بحجج قاطعة، و أثبتوا له أنّ ما قاله ضدّ الشيعة تُهم جوفاء لا برهان لها، و هي تُهم كانت تُلصَقُ بالشيعة منذ قديم الزمن.
حوار آية الله كاشف الغطاء مع أحمد أمين
و كان بين العلماء الذين زارهم أحمد أمين المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله الذي اجتمع به في مدرسته المعروفة بمدرسة كاشف الغطاء. و كان ذلك بعد مضيّ ساعات من الليل. و دار بينهما الكلام، فقال له المرحوم آية الله كاشف الغطاء: إنّي لأعجب من قيامك، مع عدم اطّلاعك في العقائد و الآداب و التأريخ و الرجال و المذاهب، بتأليف كتب عديدة بوصفك استاذاً، فتنشرها في أرجاء العالم، و ترمي الشيعة الذين يمثّلون ركن الإسلام، بل ركنه الأساسيّ بعقائد و تقاليد و آداب لا تمت إليهم بصلة أبداً! و إنّ ما ورد حول الشيعة في كتابَيكم: «فجر الإسلام» و «ضحى الإسلام» تُهم محضة. دعنا عن المؤاخذة و السؤال يوم القيامة، و قل لي: ما هي مَهمّة مَن يزعم أنّه استاذ جامعيّ و ينشر كتبه، أمام الحقّ و الحقيقة و التنقيب و التحقيق في الأديان و المذاهب؟!
فقال أحمد أمين: أخذنا ما قلناه من المشهور و من الكتب المدوّنة (و ذكر أسماء الكتب) لذلك لم نسلك سبيل الخلاف!
فقال آية الله كاشف الغطاء: هل هذا هو المشهور عند الشيعة أم عند معانديهم الذين تقوّلوا عليهم؟! و هل هذه الكتب هي كتب الشيعة أم كتب مخالفيهم الذين ناوؤهم في المنهج و العقيدة؟!
قال: أخذتُ من الكتاب الفلانيّ و الفلانيّ.
قال المرحوم كاشف الغطاء: هذه الكتب هي من مصادر التأريخ عند أهل السنّة، لا عند الشيعة؛ و قد كُتبتْ بدوافع سياسيّة و تعصّبات مذهبيّة. ثمّ عدّ الشيخ هذه الدوافع واحداً بعد الآخر، فتعجّب أحمد أمين لسعة اطّلاعه.
ثمّ قال المرحوم كاشف الغطاء: إنّ القاعدة في تحقيق عقائد كلّ قوم و آدابهم و تقاليدهم و أعمالهم هي مراجعتهم و سؤالهم و استطلاعهم لا مراجعة غيرهم من المخالفين. و لا خلاف اليوم بين علماء العالم في هذا الاسلوب المسلَّم به. فكلّ باحث يرغب في التعرّف على عقائد جماعة و آدابها، و من ثَمّ الكتابة عنها، يتحرّك و يجتاز القارّات و المسافات الشاسعة ليصل إليها، فيشاهدها عن كثب و يتحقّق منها فيما يريد. أنا أسألك فأقول: أيّ كتابٍ طالعتَ من كتب الشيعة المصنَّفة منذ عصر صدر الإسلام إلى الآن؟ هل طالعتَ الكتاب الفلانيّ ... و الفلانيّ ... و ... حتى يحلو لك أن تُطنب و تُسهب في الحديث عن عقائد الشيعة و آرائها؟!
قال: كتب الشيعة ليست في متناول أيدينا!
فقال آية الله كاشف الغطاء: هذه هي الطامّة الكبرى! لما ذا هي ليست في متناول أيديكم؟! و لِمَ لا تكون كذلك؟! أنا طالب من طلّاب العلوم الدينيّة و أقتني خمسة آلاف كتاب في مكتبة هذه المدرسة المتواضعة، و هي في متناول أيدي الطلّاب جميعهم. و عندنا أنواع الكتب من صحاح العامّة و سننهم و تواريخهم بأقسامها المختلفة و طبعاتها
المتنوّعة. و هي ضروريّة لنا من أجل البحوث و الدراسات الوافية. أ لا ينبغي لأهل السُّنّة في مصر، و لجامعها الأزهر أن يقتنوا كتب الشيعة، فيراجعوها في دراساتهم من قرب؟!
ثمّ أثبت له المرحوم آية الله كاشف الغطاء مواضع خطأه في الكتابين المذكورين بالنسبة إلى الشيعة و عقائدهم. و تحدّث له مبرهِناً و مفصِّلًا. و طال المجلس حتى ازوف أذان الفجر، فأقرّ أحمد أمين بخطأه في ذلك المجلس، و وعد بتصحيح مواضع الخطأ بعد عودته إلى مصر.
و عند ما عاد إلى بلده، ألّف المرحوم آية الله كاشف الغطاء كتابه القيِّم «أصل الشيعة و اصولها» و نشره، بَيدَ أنّ أحمد أمين لم يفِ بوعده. و مضت السنون بلا شيء يُذكر.
و فقد أحمد أمين بصره في الأيّام الأخيرة من حياته، فأملى كتاباً سمّاه «يوم الإسلام». و ذهب في مواضع مختلفة منه إلى صحّة عقائد الشيعة بدون أن يذكر أخطاءه أو يتطرّق إلى كتابَيه: «فجر الإسلام»، و «ضُحى الإسلام». و نفى فيه التهم التي كان قد ألصقها بالشيعة، و أثبتها في الاتّجاه المعاكس من أجل حقيقة الأمر، بحيث إنّنا إذا ضممنا موضوعات الكتاب المتفرّقة بعضها إلى بعض، عرفنا أنّه أبطل اصول السُّنّة، و ثبّت اصول الشيعة.
و نقل العالم الخبير الشيخ محمّد جواد مغنية- الذي توفّى قبل فترة قريبة- مطالباً من الكتاب المذكور في كتاب «الشيعة و التشيّع» و هي تدلّ على ما قلناه.
و نورد فيما يأتي ما جاء فيه بعد أن طالعنا كتاب «يوم الإسلام» بدقّة، و راجعنا ما نقله الشيخ مغنية عنه:
اعتراف أحمد أمين بحؤول عمر دون كتابة رسول الله في مرضه
أحْمَدُ أمِينٌ يَعْتَرِفُ في أيّامِهِ الأخِيرَةِ
هاجم أحمد أمين في كتاب «فجر الإسلام»، و «ضُحى الإسلام» الإماميّة هجوماً عنيفاً، و ردّ عليه يومذاك علماؤهم ردّاً منطقيّاً، و أثبتوا بشهادة التأريخ و كتبهم العقائديّة أنّه أحلّ العاطفة محلّ العقل، و التعصّب محلّ العدل، و الخيال محلّ الواقع. و من الذين تصدّوا للردّ عليه المرحوم كاشف الغطاء في كتاب «أصل الشيعة و اصولها».
و بعد مضي عشرين عاماً، أو أكثر على مهاجمته تلك اصيب بنظره، و عجز عن القراءة و الكتابة، و في أيّامه الأخيرة- سنة ۱٩٥٢ م- استعان بغيره، و أملى عليه كتاباً أسماه «يوم الإسلام» اعترف فيه من حيث لا يحسّ و لا يشعر بما كان قد أنكره على الإماميّة، من ذلك:
استنكاره مبدأ النصّ على خليفة الرسول، و زعمه بأنّه بدعة استوردها الشيعة من الخارج، و أنّ النبيّ أقرّ مبدأ الشورى و الانتخاب. ثمّ ناقض نفسه، و ردّ عليها بنفسه، حيث اعْتَرَفَ في كتاب «يوم الإسلام» بِأنَّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أرادَ أنْ يَكْتُبَ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ كِتَاباً يُعَيِّنُ مَنْ يَلِي الأمْرَ بَعْدَهُ، فَحَالَ عُمَرُ دُونَ إرادَتِهِ.
و هذا ما قاله صاحب «فجر الإسلام» بالحرف الواحد في كتابه الأخير «يوم الإسلام» ص ٤۱، طبعة ۱٩٥۸ م:
أرادَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ أنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَلِي الأمْرَ بَعْدَهُ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ- البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٍ- أنَّ رَسُولَ اللهِ لَمَّا احْتَضَرَ قَالَ:
«هَلُمَّ أكْتُبَ لَكُمْ كِتَاباً لَا تَضِلُّوا بَعْدَهُ» وَ كَانَ في البَيْتِ رِجَالٌ مِنْهُمْ
عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الوَجَعُ۱ وَ عِنْدَكُمُ القُرآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ!
فَاخْتَلَفَ القَوْمُ وَ اخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: قَرِّبُوا إلَيْهِ يَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: القَوْلُ مَا قَالَهُ عُمَرُ.
فَلَمَّا أكْثَرُوا اللَّغْوَ وَ الاخْتِلَافِ عِنْدَهُ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ لَهُمْ: قُومُوا؛ فَقَامُوا وَ تَرَكَ الأمْرَ مَفْتُوحاً لِمَنْ شَاءَ. جَعَلَ المُسْلِمِينَ طِوَالَ عَصْرِهِمْ يَخْتَلِفُونَ عَلَى الخَلافَةِ حتى عَصْرِنَا هَذَا بَيْنَ السُّعُودِيِّينَ وَ الهَاشِمِيِّينَ.٢
و قال في ص ٥٣: اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى الأمْرَ بَعْدَ الرَّسُولِ وَ كَانَ هَذَا ضَعْفَ لِيَاقَةٍ مِنْهُمْ، إذِ اخْتَلَفُوا قَبْلَ أنْ يُدْفَنَ الرَّسُولُ. مَعَ العِلْمِ أنَّ عَلِيّاً كَانَ مَشْغُولًا بِتَجْهِيزِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و قال في ص ٥٢: كَانَ مَجَالُ الخِلافِ الأوَّلِ- أي بَيْنَ الصَّحَابَةِ- في بَيْتِ النَّبِيّ، وَ الثَّانِي في سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ؛ وَ أخِيراً تَمَّ الأمْرُ لأبِي بَكْرٍ عَلَى مَضْضٍ.
اعترف أحمد أمين في «يوم الإسلام» بأنّ خلافة أبي بكر و عمر كانت غير صحيحة، كما اعترف بجرائم عثمان.
و قال في ص ٥٤: وَ بَايَعَ عُمَرُ أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ، وَ كَانَ في هَذَا مُخَالَفَةٌ لِرُكْنِ الشُّورَى. وَ لِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ: إنَّهَا غَلْطَةٌ وَقَى اللهُ المُسْلِمِينَ شَرَّهَا؛ وَ كَذَلِكَ كَانَتْ غَلْطَةُ بَيْعَةُ أبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ.
اعتراف أحمد أمين بمطاعن عثمان
و قال في ص ٥۸: وَ كَانَ أهَمُّ مَا نَقَمَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ:
۱- طَلَبَ مِنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ اسَيْدٍ الأمَوِيّ صِلَةً، فَأعْطَاهُ أرْبَعمِائَةٍ ألْفِ دِرْهَمٍ.
٢- أعَادَ الحَكَمَ بْنَ العَاصِ بَعْدَ أنْ نَفَاهُ رَسُولُ اللهِ، وَ أعْطَاهُ مِائَةَ ألْفِ دِرْهَمٍ.
٣- تَصَدَّقَ رَسُولُ اللهِ بِمَوْضِعِ سُوقِ المَدِينَةِ عَلَى المُسْلِمِينَ، فَأعْطَاهُ عُثْمَانُ لِلْحَارِثِ الأمَوِيّ.
٤- أعْطَى مَرْوانَ فَدَكاً، وَ قَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ طَلَبَتْهَا بَعْدَ أبِيهَا فَدُفِعَتْ عَنْهَا.
٥- حَمِى المَرَاعِي حَوْلَ المَدِينَةِ كُلَّهَا مِنْ مَوَاشِي المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ إلَّا عَنْ بَنِي اميَّةَ.
٦- أعْطَى عَبْدَ اللهِ بْنَ أبِي السَّرْحِ جَمِيعَ مَا أفَاءَ اللهُ مِنْ فَتْحِ إفرِيقيَا بِالمَغْرِبِ مِنْ غَيْرِ أنْ يُشْرِكَ فِيهِ أحَداً مِنَ المُسْلمِينَ.
۷- أعْطَي أبَا سُفْيَانَ مِائَتَي ألْفٍ وَ مَرْوانَ مِائَةَ ألْفٍ مِنْ بَيْتِ المُسْلِمِينَ في يَوْمٍ واحِدٍ.
۸- أتَاهُ ابو موسى الأشْعَرِيّ بِأمْوالٍ كَثِيرَةٍ مِنَ العِرَاقِ، فَقَسَّمَهَا كُلَّهَا في بَنِي امَيَّةَ.
٩- تَزَوَّجَ الحَارِثُ بْنُ الحَكَمِ، فَأعْطَاهُ مِائَةَ ألْفٍ مِنْ بَيْتِ المَالِ.
۱۰- نَفَى أبَا ذَرٍّ رَحِمَهُ اللهِ إلَى الرَّبَذَة لِمُنَاهَضَتِهِ مُعَاوِيَةَ في كَنْزِ الذَّهَبِ وَ الفِضَّةِ.
۱۱- ضَرَبَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، حتى كَسَرَ أضْلَاعَهُ.۱
۱٢- عَطَّلَ الحُدُودَ، وَ لَمْ يَرُدُّ المَظَالِمَ، وَ لَمْ يَكُفَّ الأيْدِيَ العَادِيَةِ.
۱٣- كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ في مِصْرَ يَأمُرُهُ بِقَتْلِ قَادَةِ الثَّورَةِ.۱
و قال في ص ٥۷: وَ كَانَ مِنْ أكْبَرِ الشَّخْصِيَّاتِ البَارِزَةِ في مُحَارِبَتِهِ وَ تَألِيبِ النَّاسِ عَلَيْهِ عَائِشَةُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ.
و قال في ص ٦۱: إنَّ قَتْلَ عُمَرَ وَ عَلِيّ كَانَ حَادِثَةً فَرْدِيَّةً وَ مُؤَامَرَةً
جُزْئِيَّةً أمَّا مَقْتَلُ عُثْمَانَ فَقَد كَانَ ثَوْرَةً شَعْبِيَّةً لِلأقْطَارِ الإسلاميَّةِ.
و قال في ص ٥٣: كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَ الخِلافَةِ، وَ لِعِلْمِهِمْ بِشِدَّةِ عَلِيّ في الحَقِّ وَ عَدَمِ تَسَاهُلِهِ.
و لو عطفنا هذه الأقوال بعضها على بعض جاءت النتيجة كما يأتي:
إن مبدأ النصّ على الخليفة مصدره الأوّل رسول الله دون سواه، و إنّ الذين خالفوه، و حالوا بينه و بين أن ينصّ على من يليه في سجلّ مكتوب لا يقبل التأويل و التبديل هم بالذات الذين خالفوا تلك النصوص غير المكتوبة.
كلام المرحوم المظفّر في ترك النصّ على الخليفة
قال الشيخ محمّد رضا المظفّر في كتاب «السقيفة»: و إذا كانوا في حياته لا يُطيعون أمره في هذه السبيل، فكيف إذَن بعد وفاته؟
و إنّ ترك النصّ على الخليفة قد فرّق الامّة، و مزّق كلمتها، و أوقعها في التطاحن و التناحر إلى آخر يوم. و السبب الوحيد في ذلك كلّه هو الخليفة الثاني، و مَن آزره في رأيه، و أعانه على منع الرسول أن يكتب لهم كتاباً لا يضلّون بعده أبداً.
و إنّ بيعة أبي بكر، و عمر لم تكن بالنصّ و لا بالشورى، و إنّما كانت مجرّد غلطة. و معنى غلطة أنّها على غير الحقّ. أمّا عثمان، فخالف الإسلام، و لذا ثارت عليه الأقطار الإسلاميّة بتحريض عائشة، فكانت الثورة عليه شعبيّة إسلاميّة، لا شعوبيّة، و لا من الشُّذّاذ و قطّاع الطرق، كما قيل.
و إنّ الأصحاب الذين حالوا بين عليّ و الخلافة إنّما فعلوا ذلك لسببَين:
الأوّل: أنّه شديد في الحقّ لا يتساهل به أبداً.
الثاني: التعصّب على أهل البيت، حيث كرهوا أن تجتمع في بيت واحد، و هو بيت محمّد، النبوّة و الخلافة.
و إذا أبى مَن أبى تعصّباً و عناداً أن يعترف لعليّ بالخلافة، لا لشيء إلّا
لأنّه على حقّ و من أهل البيت، فإنّ الشيعة آمنوا بخلافته، لأنّهم يؤمنون بالحقّ، و أحبّوه، لأنّهم يحبّون النبيّ و أهل بيته الأطهار.
و بالإجمال فإنّ ما قاله الإماميّة في هذا الباب لا يزيد في حقيقته شيئاً عمّا قاله أحمد أمين في كتاب «يوم الإسلام» الذي ألّفه في أيّامه الأخيره، و بعد أن أقام الدنيا و لم يقعدها على الإماميّة في «فجر الإسلام»، و «ضحى الإسلام».۱
أجل، كان حقيقاً بأحمد أمين- وفقاً لقواعد الشرف و الإنصاف و العدل و المروءة- أن يُصَرِّح بتوبته في كتاب «يوم الإسلام»، و يعتذر عن كتاباته الكثيرة المنتشرة في العالم و الموجودة في المكتبات المختلفة. و ها هو يلجأ إلى السكون و الهدوء بعد الحركة، و يُخمِد نار الضجّة التي كان قد أشعل فتيلها بعد أن أثار شرق العالم و غربه ضدّ الإماميّة في كتابَيه الآنفَي الذكر.
بَيدَ أنّه لم يفعل، و اكتفى بإيراد ما نقلناه عنه في تضاعيف كتاب «يوم الإسلام». اللهُمَّ احْشُرْهُ مَعَ مَنْ يَتَوَلَّاهُ وَ يُحِبُّهُ، وَ أبْعِدْهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّا مِنْهُ وَ يُبْغِضُهُ.
و لو كان أحمد أمين صرّح بأخطائه في كتاب أو عنوان أو موضوع، لما ضلّ أحد من الساذجين بقراءة «فجر الإسلام» و ضُحاه، و لكن الجميع ضلّوا إلّا من طالع كتاب «يوم الإسلام» بإمعانٍ. و الذي يطالعه ينبغي أن
يكون كالشيخ البصير محمّد جواد مغنية الذي خَبِرَ الربط بين كتبه، و استخرج تلك النتيجة من الجمع بين موضوعاتها.
و لو أنّ عمر لم يمنع الإتيان بالكتف و الدواة، لما ضلّ مسلم، و لما كانت الولاية للشيعة فحسب، بل لكان العالم كلّه شيعيّاً منذ ذلك الحين إلى قيام الساعة.
لقد أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بالكتابة، و طلب في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف كتفاً و دواة من أجل أن يكتب لُاولئك القوم وصاية مولى الموالي أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين و خلافته بلا فصل، و ولايته الإلهيّة الكلّيّة. بَيدَ أنّ المعارضين المناوئين حالوا دون ذلك، و لم يرغبوا في تحقيق ولاية الإمام، فضلّوا و أضلّوا أنفسهم و أتباعهم. أمّا أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان يدوّن جميع الأحاديث القدسيّة و السنن النبويّة العلميّة و العمليّة، مضافاً إلى كتابته القرآنَ الكريم، و كلّ ذلك كان مضبوطاً عنده.
و لا غَرْوَ فإنّه ربيب رسول الله صلى الله عليه و آله مُذ كان وليداً، و هو موضع سرّه، بل من أخصّ الناس به في حفظ أسراره. و هو أنيسه و مؤنسه و نديمه و عشيره في السفر و الحضر، و الحضور و الغيبة، و الحرب و السلم، و الإقامة و الهجرة، و السكون و الحركة. و كان يقرأ عليه كلّ آية نازلة و هو يكتبها حتى لو مضت أيّام على نزولها. و كان يقرأ تلك الآية لكُتّاب الوحي، فيكتبونها أيضاً.
و إنّما أمير المؤمنين عليه السلام دوّن القرآن كلّه في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله، و كان ذلك القرآن المكتوب بخطّه مصدراً و مرجعاً.
كلام المستشار عبد الحليم الجنديّ في تقدّم على عليه السلام
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ رئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة في جمهوريّة مصر في الصفحة الخامسة و العشرين من كتابه
المعروف: «الإمام جعفر الصادق» و هو كتاب حديث التأليف. و يُعدّ من الكتب النفيسة و القيِّمة حقّاً: مَنَعَ عُمَرُ تَدْوِينَ الحَدِيثِ- مَخَافَةَ أنْ يُخْلَطَ القُرْآنِ بِشَيءٍ- وَ بِهَذَا أبْطَأ التَّدْوِينُ عِنْدَ أهْلِ السُّنَّةِ قَرْناً بِتَمَامِهِ. وَ انْفَتَحَتْ أبْوَابٌ لِلْجَرْحِ وَ التَّعْدِيلِ وَ لِلْوَضْعِ وَ لِلضِّيَاعِ. أمَّا عَلِيّ فَدَوَّنَ مِنْ أوَّلِ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ الرَّسُولُ. وَ لَعَلَّهُ إذْ دَوَّنَ صَارَ مَرْجِعَ الصَّحَابَةِ بِمَا فِيهِمْ عُمَرُ.۱
و قال هذا العالم في المذهب الجعفريّ: أخرج الحاكم في تاريخه بالأسناد إلى أبي بكر عن رسول الله قال: مَنْ كَتَبَ عَلَيّ عِلْماً أوْ حَدِيثاً لَمْ يَزَلْ يُكْتَبُ لَهُ الأجْرُ مَا بَقِيَ ذَلِكَ العِلْمُ أوِ الحَدِيثُ.
و أجمع أبو بكر أيّام خلافته على تدوين الحديث فجمع خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلّب كثيراً. قالت عائشة: فغمّني تقلّبه. فلمّا أصبح قال لي: أي بُنَيَّةُ! هَلُمِّي الأحَادِيثَ التي عِنْدَكِ، فَجِئْتُ بِهَا فَأحْرَقَهَا.
و عن الزهريّ، عن عروة أنّ عمر أراد أن يكتب السنن. فاستفتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله فأشاروا عليه أن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله فيها شهراً ثمّ أصبح يوماً فقال: إنِّى كُنْتُ ارِيدُ أنْ أكْتُبَ السُّنَنَ، وَ إنِّي ذَكَرْتُ قَوْماً قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُباً فَأكَبَّوا عَلَيْهَا وَ تَرَكُوا كِتَابَ اللهِ، وَ إنِّي وَ اللهِ لَا أشُوبُ كِتَابَ اللهِ بِشَيءٍ أبَداً.
وَ لَكِنْ عَلِيَّاً دَوَّنَ، وَ خَلَّفَ في شِيعَتِهِ طَرِيقَةَ التَّدْوِينِ. وَ لَقَدْ كَانَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ طَرِيقَتِهِ. وَ هُوَ الذي يَقُولُ فِيهِ الرَّسُولُ: عَلِيّ مَعَ القُرْآنِ وَ القُرْآنُ مَعَ عَلِيّ وَ لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
وَ عَنْهُ قَالَ الرَّسُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! وَ اللهِ لَيَبْعَثَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ رَجُلًا
مِنْكُمُ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ فَيَضْرِبُكُمْ عَلَى الدِّينِ.
قَالَ أبُو بَكْرٍ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: لَا! قَالَ عُمَرُ: أنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: لَا، وَ لَكِنْ ذَلِكَ الذي يَخْصِفُ النَّعْلَ. و كان عَلِيّ يخصف نعلًا للنبيّ عند ذلك.۱
كلام المستشار عبد الحليم بشأن مصحف الإمام على عليه السلام
و تحدّث هذا الباحث الحصيف، الحرّ في البحث و الكلام عن المَدْرَسَة الكبرى، و يريد بها مدرسة الإمام الصادق عليه السلام. و قال تحت عنوان: المُصْحَفُ الخَاصُّ أوْ كِتَابُ الاصُولِ:
آلى أمير المؤمنين عليه السلام على نفسه بعد الفراغ من تجهيز الرسول صلى الله عليه و آله ألّا يرتدي إلّا للصلاة أو يجمع القرآن. فجمعه مرتّباً على حسب النزول. و أشار إلى عامّه و خاصّه، و مطلقه و مقيَّده، و مُحكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه، و عزائمه و رُخَصه، و سُننه و آدابه. و نبّه على أسباب النزول فيه.
و من جلال شأن هذا الكتاب قال فيه محمّد بن سيرين: لَوْ أصَبْتَ هَذَا الكِتَابَ كَانَ فِيهِ العِلْمُ. فهو كما يظهر من محتوياته مصحف خاصّ و كتاب اصول من صُنع عليّ.
و «الجامعة» كتاب طوله سبعون ذراعاً من إملاء النبيّ و خطّ عليّ. فيه ما يحتاجه الناس من حلال و حرام و غيره، حتى ليصل في التفصيل إلى أرش الخدش (الدية التي يجب على الإنسان أن يدفعها إلى من يخدشه أو يخمشه). و قد وصفها بذلك الباقر و الصادق عليهما السلام. و شهدها عندهما الثقات من أصحابهما، و منهم أبو بصير.
قال الصادق عليه السلام: أمَا وَ اللهِ عِنْدَنا مَا لَا نَحْتَاجُ إلَى أحَدٍ،
وَ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْنَا. إنَّ عِنْدَنَا الكِتَابَ بِإمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ خَطِّ عَلِيّ بِيَدِهِ، صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِراعاً؛ فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَ حَرَامٍ.
و قال: إنَّ الجَامِعَةَ لَمْ تَدَعْ لأحَدٍ كَلَاماً. فِيهَا الحَلالُ وَ الحَرَامُ. إنَّ أصْحَابَ القِيَاسِ طَلَبُوا العِلْمَ بِالقِيَاسِ فَلَمْ يَزِدْهُمْ مِنَ الحَقِّ إلَّا بُعْداً. وَ إنَّ دِينَ اللهِ لَا يُصَابُ بِالقِيَاسِ.
قالوا: سُمِّيَت الجامعة، و الصَّحيفة، و كتاب عليّ، و الصحيفة العتيقة.
كان أمير المؤمنين عليه السلام يخطب الناس فيقول:
وَ اللهِ مَا عِندَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ إلَّا كِتَابُ اللهِ تعالى وَ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ- وَ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِسَيْفِهِ- أخَذْتُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و لقد دعا الخليفة أبو جعفر المنصور بكتاب عليّ هذا، فجاء به الإمام الصادق عليه السلام و قرأ فيه «إنّ النساء ليس لهنّ من عقار الرجل، إذا توفّى عنهنّ، شيء» و قال أبو جعفر: هَذَا وَ اللهِ خَطُّ عَلِيّ وَ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و أبو جعفر من العلماء كما قال عنه مالك إمام المدينة، و كما أقرّ له الجاحظ كبير النقدة. فهو قد يقسم لأنّه قرأ كتابةً قبل ذلك لعليّ، أو لأنّ لديه من العلم ما يعرفه أنّها بإملاء النبيّ صلى الله عليه و آله.
و كتاب الديات: و هو يُغطّي ما يُسَمّى في الفقه المعاصر: (المسئوليّة المدنيّة) عن الفعل الضارّ بالجسم. أورد محتوياته ابن سعد في كتابه المعروف بـ «الجامع». و روى عنه أحمد بن حنبل في «المسند الأعظم».
و ذكره البخاريّ و مسلم، و رويا عنه.۱
و قال في هذا الكتاب التحقيقيّ أيضاً: كَانَ أوَّلُ المُسْتَفِيدينَ بِالتَدْوِينِ البَاكِرِ اولَئِكَ الَّذِينَ يَلُوذُونَ بِالأئمَّةِ مِنْ أهْلِ البَيْتِ فَيَتَعَلَّمُونَ شِفَاهاً أوْ تَحْرِيراً. أي: مِنْ فَمٍ لِفَمٍ أوْ بِالكِتَابَةِ.
فَمَا تَنَاقَلَتْهُ كُتُبُ الشِّيعَةِ مِنَ الحَدِيثِ، هُوَ التُّرَاثُ النَّبَوِيّ- في صَمِيمِهِ- بَلَغَ الشِّيعَةَ في يُسْرِ طَوْعٍ لِعِلْمِهِمُ الأزْدِهَارِ؛ في حِين لَمْ يَجْمَعْ أهْلُ السُّنَّةِ هَذَا التُّرَاثَ إلَّا بَعْدَ أنِ انْكَبَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُهُمْ قَرْناً وَ نِصْفَ قَرْنٍ حتى حَصَّلُوا مَا دَوَّنُوهُ في المُدَوَّنَاتِ الأولى. ثُمَّ ظَلُّوا قُرُوناً اخْرَى يَجُوبُونَ الفَيَافِي وَ القِفَارَ في كُلِّ الأمْصَارِ.٢
رفض الناس مصحف أمير المؤمنين على عليه السلام
كان أمير المؤمنين عليه السلام أوّل كاتب في الإسلام، كما كان أوّل ناطق به. و لقد كتب القرآن كلّه بخصوصيّات نزوله و تأويله في عصر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم نفسه. و لم يخرج من البيت بعد وفاته صلى الله عليه و آله عملًا بوصيّته، و لم يلتحق بفئة الخلفاء الغاصبين. و لم يضع رداءه على كتفه. و لازم بيته ستّة أشهر. و رتّب القرآن حسب نزوله، و بيّن جميع ما يتعلّق به، ثمّ لفّه في عباءة و وضعه على بعير، و أتى به إلى المسجد، و قال للحاضرين فيه: هذا كتاب الله، و أنا صاحب الولاية! و هذان الثقلان ثقلا رسول الله صلى الله عليه و آله إذ قال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. فقال له عمر: لا حاجة بنا إليك و عندنا كتاب الله فلا حاجة لنا بكتابك.
فأدار الإمام عليه السلام راحلته نحو منزله و هو يقرأ هذه الآية: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ.۱
و قال: أما إنّكم لن ترون هذا الكتاب أبداً! و كان كما قال. و احتفظ به أمير المؤمنين عليه السلام عنده طوال حياته. ثمّ صار إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام كوديعة من ودائع الإمامة و خزائنها. و تحوّل من بعده إلى سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام؛ و هكذا ظلّ ينتقل من إمامٍ إلى آخر، حتى صار عند الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف. و ها هو الآن لديه حتى يَظهر إن شاء الله. فيُظهره عندئذٍ و يُريَه الناسَ.
هذه هي أحاديث الشيعة. أمّا أحاديث السُّنَّة فإنّها تصرّح أنّ الإمام عند ما جمع القرآن، و أخذه إليهم، قالوا: نحن عندنا قرآن. و لا حاجة بنا إلى قرآنك!
و لا بدّ لنا أن نعرف من منظار الشيعة: هل هناك فرق بين قرآنهم و بين القرآن الذي دوِّن في عهد أبي بكر أولًا، ثمّ دوّن في عصر عثمان ثانياً، أو لا فرق بينهما؟!
لا ريب أنّ الفرقَ موجود، و إلّا لرضوه، و لَمَا كان هناك خلاف. فأين يكمن الفرق؟! و الجواب هو، أولًا: أنّ الآيات و السُّوَر في قرآن أمير المؤمنين عليه السلام مرتّبة حسب نزولها. ثانياً. أنّ قرآنه عليه السلام يشتمل على شرح وافٍ للناسخ و المنسوخ، و العامّ و الخاصّ و المجمل و المبَيَّن، و غير ذلك، و قد أخذه الإمام من النبيّ صلى الله عليه و آله، و هو سُنَّة. ثالثاً: أنّ قرآنه عليه السلام يصرّح بشأن نزول الآيات
و مواطنها. رابعاً: أنّه يحتوي على الأحاديث القدسيّة الواردة على لسان رسول الله من أجل شرحه و تفسيره و تأويله. خامساً: يضمّ تأويل الآيات أي: مقصودها و مفادها و غايتها.
أمّا القرآن المدوَّن بين الدفّتين، الموجود بين أيدينا، فهو يفتقد هذه المزايا و ليس فيه إلّا السور و الآيات بلا تغيير و لا تبديل و لا تحريف بزيادة أو نقصان.
و لا مناص لنا من التوسّع في الحديث لإثبات هذا الادّعاء، و للبرهنة على عقيدة علماء الإسلام المحقّقين، و الأساطين من مدقّقي الفقهاء و المفسّرين و الحكماء و العرفاء، و عقيدتهم تتمثّل في عدم تحريف كتاب الله بزيادة أو نقصان و لو في جملة واحدة أو كلمة واحدة قصيرة. و نتوسّع في الحديث أيضاً من أجل أن تستبين عقيدة الشيعة في هذا المجال كما هي حقّاً.
كلام العلّامة الطباطبائيّ في عدم تحريف القرآن الكريم
قال سماحة استاذنا الأكرم فخر المفسّرين و خاتمهم، و رأس الحكماء المتألّهين و قدوتهم، و عماد العرفاء الشامخين و أصلهم في عصرنا هذا: آية الله المعظم العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ قدّس سرّه:
قَولُهُ تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱ صدر الآية مَسُوق سَوق الحصر؛ و ظاهر السِّياق أنّ الحصر ناظر إلى ما ذُكر من ردّهم القرآن (ردّ المشركين) بأنّه من أهذار الجنون و أنّه صلى الله عليه و آله و سلّم مجنونٌ لا عبرةَ بما صنع و لا منع. و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدّقوه في دعوته، و أنّ القرآن كتاب سماويّ حقّ.
و المعنى- على هذا و الله أعلم- أنّ هذا الذكر لم تأتِ به أنتَ من
عندك حتى يعجزوك و يُبطلوه بعنادهم و شدّة بطشهم، و تتكلّف لحفظه ثمّ لا تقدر! و ليس نازلًا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم أيّاه، بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالًا تدريجيّاً و إنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذِكر حيّ خالد مصون من أن يموت و يُنسى من أصله، مَصون من الزيادة عليه بما يَبطل به كَونه ذِكراً، مَصون من النقص كذلك، مَصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغيّر به صفة كَونه ذِكراً للّه مُبيّناً لحقائق معارفه.
فالآية تدلّ على كَون كتاب الله محفوظاً من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذِكراً للّه سبحانه، فهو ذِكر حيّ خالد.
و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظاً بحفظ الله مصوناً من التحريف و التصرّف بأيّ وجه كان من جهة كونه ذكراً له سبحانه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.۱
و قد ظهر بما تقدّم أنّ اللام في الذِّكْر للعهد الذكريّ و أنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل، فيندفع به ما ربّما يورَد على الآية أنّها لو دلّت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذِكر، لدلّت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضاً، لأنّ كلًّا منها ذِكر مع أنّ كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.
و ذلك أنّ الآية بقرينة السياق إنّما تدلّ على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علِّيَّة الذكر للحفظ الإلهيّ
و دوران الحكم مداره.۱
و تحدّث سماحة الاستاذ هنا حديثاً وافياً راقياً حول عدم تحريف القرآن و ذلك بعد البحث الروائيّ. و وفّى الموضوع حقّه في سبعة فصول تحت عنوان: (القرآن مصون عن التحريف). و حطّم سدّ الشبهات و ثغورها تماماً. و دخل في الموضوع بمنطق متين و دليل رصين من أجل إثبات ما يريده. و ننتقي من كلامه كثيراً من المعلومات التي لها علاقة مباشرة ببحث التحريف.
كَلَامٌ في أنَّ القُرآن مَصُونٌ عَنِ التَّحرِيفِ في فُصُولٍ
الفصل ۱ [الاستدلال بتحدّي القرآن على عدم تحريفه]
من ضروريّات التأريخ أنّ النبيّ العربيّ محمّداً صلى الله عليه و آله و سلّم جاء قبل أربعة عشر قرناً- تقريباً- و ادّعى النبوّة و انتهض للدعوة و آمن به امّةٌ من العرب و غيرهم. و أنّه جاء بكتاب يسمّيه القرآن و ينسبه إلى ربّه، متضمّن لجمل المعارف و كليّات الشريعة التي كان يدعو إليها. و كان يتحدّى به و يعدّه آية لنبوّته. و أنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنّه لم يضع من أصله بأن يُفقد كلّه. ثمّ يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و يُنسب إليه و يشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّ صلى الله عليه و آله.
فهذه امور لا يرتاب في شيء منها إلّا مصابٌ في فهمه و لا إحتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين
و المؤالفين.
و إنّما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية،۱ أو النقص أو التغيير في جملة أو آية أو كلماتها أو إعرابها، و أمّا جُلّ الكتاب الإلهيّ فهو على ما هو في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله لم يضع و لم يُفقد.
ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصاف ترجع إلى عامّة آياته، و نجد ما بأيدينا من القرآن، أعني: مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ واجداً لما وصف به من أوصاف تحدّى بها من غير أن يتغيّر في شيء منها أو يفوته و يُفقد.
فنجده يتحدّى بالبلاغة و الفصاحة، و نجده بأيدينا مشتملًا على ذلك النَّظْم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شيء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المرويّ عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك، و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كِتَابا مُتَشَابِهاً مثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ٢ الْجُلُودُ وَ الْقُلُوبُ.
و نجده يتحدّى بقوله: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً،٣ بعدم وجود اختلاف فيه. و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه. فما من إبهام أو خلل يتراءى
في آية إلّا و ترفعه آية اخرى. و ما من خلافٍ أو مناقضة يُتوهّم بادئ الرأي من شطر إلّا و هناك ما يدفعه و يفسّره.
و نجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربيّة، كما في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.۱
و قوله: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.٢
ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من اصول المعارف الحقيقيّة و كلّيّات الشرائع الفطريّة و تفاصيل الفضائل الخُلقيّة من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شيء من التناقض و الزلل، بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حيّة بحياة واحدة مدبّرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنيّة و الأصل الذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل، و هو يعود إلى كلّ منها بالتركيب.
و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و اممهم، و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوّة و خلوصها للعبوديّة و الطاعة. و كلّما طبّقنا قصّة من القصص القرآنيّة على ما يماثلها ممّا ورد في العهدين (العهد القديم و العهد الجديد في التوراة و الإنجيل)، انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
و نجده يورد آيات في الملاحم، و يُخبر عن الحوادث الآتية في
آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح، ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدّقة.
و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنّه نور و أنّه هادٍ يهدي إلى صراط مستقيم، و إلى الملّة التي هي أقوم؛ و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.
و من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكر للّه فإنّه يُذكر به تعالى بما أنّه آية دالّة عليه حيّة خالدة؛ و بما أنّه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العُليا، و يصف سُنّته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة، و هو المعاد و رجوع الكلّ إليه سبحانه، و تفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار. ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذِكر؛ و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئاً من معنى الذِّكر.
و لكون الذِّكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن، عبّر عنه بالذِّكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.۱
فذكر تعالى أنّ القرآن من حيث هو ذِكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالًا و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.
و كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱
فقد أطلق الذكر و أطلق الحفظ. فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كلّ زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يُزيله عن الذِّكريّة و يُبطل كونه ذِكراً للّه سبحانه بوجه.
و من سخيف القول إرجاع ضمير «له» إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فإنّه مدفوع بالسياق. و إنّما كان المشركون يستهزؤون بالنبيّ لأجل القرآن الذي كان يدّعي نزوله عليه كما يُشير إليه بقوله سابقاً: وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ.٢
فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلى الله عليه و آله و سلّم و وصفه بأنّه ذكر محفوظ على ما انزل مصون بصيانة إلهيّة عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيّه فيه.
و خلاصة الحجّة أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصّة. لو كان تغيّر في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثّر، فقد آثار تلك الصفة قطعاً لكنّا نجد القرآن الذي بأيدينا واجداً لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئاً من صفاته. فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّ صلى الله عليه و آله بعينه.
فلو فُرض سقوط شيء منه أو تغيّر في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثّر في شيء من أوصافه كالإعجاز، و ارتفاع الاختلاف، و الهداية، و النوريّة، و الذِّكريّة، و الهيمنة على سائر الكتب السماويّة إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكرّرة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب، و نحوها.
الفصل ٢ الاستدلال بحديث الثقلين و أمثاله على عدم تحريف القرآن
و يدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حلّ عقد المشكلات.
و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أبَداً (الحديث) فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتاب محرّف و نفي الضلال أبداً ممّن تمسّك به. و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة. و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام. و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأنّ أخبار العرض مطلقة، فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصّص.
على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب، و الحقّ من الباطل. و من المعلوم أنّ الدَّسَّ و الوضع غير مقصورَين في أخبار الفقه، بل الدواعي إلى الدسّ و الوضع في المعارف الاعتقاديّة و قصص الأنبياء و الامم الماضية
و أوصاف المبدأ و المعاد أكثر و أوفر. و يؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليّات، و ما يحذو حذوها ممّا أمر الجعل فيها أوضح و أبين.
و كذا الأخبار التي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيت عليهم السلام بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف. و هذا أحسن شاهد على أنّ المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم عليهم السلام: كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.
و كذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين و سائر الأئمّة من ذرّيّته عليهم السلام في أنّ ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه و إن كان غير ما ألّفه عليّ عليه السلام من المصحف. و لم يُشركوه عليه السلام في التأليف في زمان أبي بكر و لا في زمن عثمان. و من هذا الباب قولهم عليهم السلام لشيعتهم: اقْرَؤُوا كَمَا قَرَأ النَّاسُ.
و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفاً لما ألّفه عليّ عليه السلام في شيء، فإنّما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئاً، و لا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختلّ به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم من غير أن يفقد شيئاً من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.
الفصل ٣ أدلّة الحشويّة و محدِّثي الشيعة و العامّة في تحريف القرآن
ذهب جماعة من محدّثي الشيعة و الحشويّة و جماعة من محدّثي أهل
السُّنّة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة، فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل. و احتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.
الوجه الأوّل: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة و أهل السُّنّة الدالّة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأوّل الذي الِّف فيه القرآن في زمن أبي بكر، و كذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان، و كذا التغيير.
و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها. و قد إدّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث. و روتها أهل السُّنّة في صحاحهم كصحيحي البخاريّ، و مسلم، و سنن أبي داود، و النسَّائيّ، و أحمد، و سائر الجوامع، و كتب التفاسير، و غيرها. و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.
و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف ممّا ينيف على ستّين موضعاً، و ما يخالف فيه مصحف ابيّ بن كعب المصحف العثمانيّ، و هو في بضع و ثلاثين موضعاً. و ما تختلف فيه المصاحف العثمانيّة التي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق، و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكّة، و الشام، و البصرة، و الكوفة، و اليمن، و البحرين، و حبس واحداً بالمدينة. و الاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفاً، و قيل: بضع و خمسين حرفاً.۱
و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانيّة. و الجمع الأوّل في زمن أبي بكر، فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأوّل في المثاني،
و سورة براءة في المئين، و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.
و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود و ابيّ بن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانيّة، و غير الاختلافات القرآنيّة الشاذّة التي رويت عن الصحابة و التابعين، فربّما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني: أنّ العقل يحكم بأنّه إذا كان القرآن متفرّقاً متشتّتاً منتشراً عند الناس و تصدّى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملًا موافقاً للواقع.
الوجه الثالث: ما روته العامّة و الخاصّة أنّ عليّاً عليه السلام اعتزل الناس بعد رحلة النبيّ صلى الله عليه و آله و لم يرتدِ إلّا للصلاة حتى جمع القرآن ثمّ حمله إلى الناس و أعلمهم أنّه القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلى الله عليه و آله. و قد جمعه فردّوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت. و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه. و قد كان عليه السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيّه صلى الله عليه و آله و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر، و قال في الحديث المتّفق عليه: عَلِيّ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُّ مَعَ عَلِيّ.
الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الامّة ما وقع في بني إسرائيل: حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ.۱ و قد حرّفت بنو إسرائيل
كتاب نبيّهم على ما يصرّح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الامّة فيحرفوا كتاب ربّهم، و هو القرآن الكريم.
ففي «صحيح البخاريّ» عن أبي سعيد الخُدريّ أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ وَ ذِراعاً بِذِرِاعٍ۱، حتى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُ! قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! بِآبائِنَا وَ امَّهَاتِنَا، اليَهُودُ وَ النَّصَارَى؟! قَالَ: فَمَنْ؟!
و الرواية مستفيضة مرويّة في جوامع الحديث عن عدّة من الصحابة كأبي سعيد الخُدريّ- كما مرّ- و أبي هريرة، و عبد الله بن عمر، و ابن عبّاس، و حُذيفة، و عبد الله بن مسعود، و سهل بن سعد، و عمرو بن عوف، و عمرو بن العاص، و شدّاد بن أوس، و المستورد بن شدّاد في ألفاظ متقاربة.
و هي مرويّة مستفيضة من طرق الشيعة عن عدّة من أئمّة أهل البيت عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم كما في «تفسير القمّيّ» لَتَرْكَبُنَّ سَبِيلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ وَ لَا تُخْطَا، شِبْرٌ بِشِبْرٍ، وَ ذِرَاعٌ بِذِرِاعٍ، وَ بَاعٌ بِبَاعٍ؛٢ حتى أنْ لَوْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ.
قَالُوا: اليَهودُ وَ النَّصَارَى تَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: فَمَنْ أعْنِي؟! لَتَنْقُضُنَّ عُرَى الإسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً! فَيَكُونُ أوَّلُ مَا تُنْفِضُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأمَانَةَ، وَ آخِرُهُ الصَّلَاةَ!
[الفصل ٤] الاستدلال بالإجماع على عدم التحريف يستلزم الدور.
أمّا الجواب عن استدلالهم بإجماع الامّة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنّها حجّة مدخولة لكونها دوريّة.
بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حجّة عقليّة يقينيّة بل هو عند القائلين باعتباره حجّة شرعيّة لو أفاد شيئاً من الاعتقاد فإنّما يفيد الظنّ سواء في ذلك محصّله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أنّ الإجماع المحصّل مفيد للقطع، و ذلك أنّ الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال، و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلّا الظنّ بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنّما يفيد قوّة الظنّ دون القطع، لأنّ القطع اعتقاد خاصّ بسيط مغاير للظنّ و ليس بالمركّب من عدّة ظنون. و هكذا كلّما انضمّ قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظنّ قوّة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم.
هذا في المحصّل من الإجماع، و هو الذي نحصّله بتتبّع جميع الأقوال و الحصول على كلّ قول قول. و أمّا المنقول منه الذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح، فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلّا الظنّ إن أفاد شيئاً من الاعتقاد.
فالإجماع حجّة ظنّيّة شرعيّة دليل اعتبارها عند أهل السُّنَّة مثلًا قوله صلى الله عليه و آله و سلّم: لَا تَجْتَمِعُ امَّتِي عَلَى خَطَأٍ أوْ ضَلَالٍ. و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجّيّة الإجماع بالجملة متوقّفة على صِحّة النبوّة، و ذلك ظاهر. و صِحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول. و خاصّة الإعجاز فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة؛ و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته و محتوياته أنّه كلام الله محضاً. و بذلك تسقط الحجّة و تفسد الآية. و مع سقوط كتاب الله عن الحجّيّة يسقط الإجماع عن الحجّيّة.
و لا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المنزل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التأريخ، و ذلك لأنّ مجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير آخر في كلّ آية أو جملة اريد التمسّك بها لإثبات مطلوب.
[الفصل ٥] الاستدلال بأخبار التحريف و جوابها
و أمّا الجواب عن الوجه الأوّل الذي اقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير، و هو الذي تُمُسّك فيه بالأخبار:
أوّلًا: إنّ التمسّك بالأخبار- بما أنّها حجّة شرعيّة- يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدّم آنفاً.
أخبار التحريف المدسوسة
فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد و مصادر تأريخيّة و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله، بل هي آحاد متفرّقة متشتّتة مختلفة، منها صحاح، و منها ضعاف في أسنادها، و منها قاصرة في دلالتها. فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.
و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدسّ. فإنّ
تسرُّب الإسرائيليّات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا، لا سبيل إلى إنكاره. و لا حجّيّة في خبر لا يؤمَن فيه الدسّ و الوضع.
و مع الغضّ عن ذلك، فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآنيّ بوجه، و مع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب مردودة.
أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفة الأسناد، فيُعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها. و السالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.
و أمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالته، فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات، لا من حكاية متن الآية المحرّفة. و ذلك كما في «روضة الكافي» عن أبي الحسن الأوّل (الإمام الكاظم عليه السلام) في قول الله: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فَقَدْ سَبَقَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الشَّقَآءِ وَ سَبَقَ لَهُمُ الْعَذَابُ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.
و ما في «الكافي» عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قال: إنْ تَلْوُوا الأمْرَ وَ تُعْرِضُوا عَمَّا امِرْتُمْ بِهِ، فَإنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يُلحق بهذا الباب ما لا يُحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا انزِلَ إلَيْكَ في عَلِيّ. و الآية نازلة في حقّه عليه السلام. و ما رُوى أنّ وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا. فذكرت الآية
فيها هكذا: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، فظُنَّ أنّ في الآية سقطاً.
و يُلحق بهذا الباب أيضاً ما لا يُحصى من الأخبار الواردة في جرى القرآن و انطباقه، كما ورد في قوله: و سيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم. و ما ورد من قوله: وَ مَنْ يُطِعِ الله وَ رَسُولُهُ في وَلَايَةِ عَلِيّ وَ الأئِمَّةِ مِن بَعْدِهِ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيمًا، و هي كثيرة جدّاً.
و يُلحق بها أيضاً ما اتبع فيه القراءة بشيء من الذِّكر و الدعاء فتُوهِّم أنّه من سُقط القرآن كما في «الكافي» عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألتُ الرضا عليه السلام عن التوحيد، فقال: كلّ من قرأ: قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ و آمن بها، فقد عرف التوحيد. قال [قلتُ ظ]: كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرأها الناس. و زاد فيه: كَذلِكَ اللهُ رَبِّي كَذَلِكَ اللهُ رَبِّي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرّفة إختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ. ففي بعضها أنّ الآية هكذا: و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء، و في بعضها: و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل.
و هذا اختلاف ربّما كان قرينة على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة، و يؤيّده ما ورد في بعضها من قوله عليه السلام: لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
و ربّما لم يكن إلّا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصّة و العامّة، و هي في بعضها:
إذَا زَنى الشَّيْخُ وَ الشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا ألْبَتَّةَ فَإنَّهُمَا قَضَيَا الشَّهْوَةَ!
و في بعضها: بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ. و في بعضها آخرها: نَكَالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. و في بعضها: نَكَالًا مِنَ اللهِ وَ اللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
و كآية الكرسيّ على التنزيل التي وردت فيها روايات. فهي في بعضها هكذا: اللهُ لآ إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّومُ لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَ لَا نَوْمٌ لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَ مَا في الأرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ الثَّرَى عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أحَدًا مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ- إلى قوله: وَ هُوَ الْعَلِيّ العَظِيمُ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
و في بعضها- إلى قوله: هم فيها خالدون و الحمد لله رب العالمين. و في بعضها هكذا: لَهُ مَا في السَّمَاواتِ وَ مَا في الأرْضِ وَ مَا بَيْنَهُمَا وَ مَا تَحْتَ الثَّرَى عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ... إلى آخره. و في بعضها: عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الرَّحْمنُ الرَّحِيمِ بَدِيعُ السَّمَاواتِ وَ الأرْضِ ذو الْجَلَالِ وَ الإكْرَامِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. و في بعضها: عَالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
و ما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائرٍ لاتّفاقها في أصل التحريف، مردود بأنّ ذلك لا يُصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.
و أمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ و الوضع في الروايات، فلا يرتاب فيه مَن راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الامم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام. و أعظم ما يُهمّ أمره لأعداء الدين، و لا يألون جهداً في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الذي تأوي إليه و تتحصّن به المعارف الدينيّة، و السند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة و موادّ الدعوة لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن، لفسد بذلك أمر
النبوّة و اختلّ نظام الدين و لم يستقرّ من بنيته حجر على حجر.
و العجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجّيّته، و ببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى و المعارف الدينيّة لغي لا أثر لها!
و ما ذا يُغني قولنا: إنّ رجلًا في تأريخ كذا ادّعى النبوّة و أتى بالقرآن معجزة، أمّا هو فقد مات، و أمّا قرآنه فقد حُرِّفَ، و لم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه، و أنّ القرآن الذي جاء به كان مُعجزاً دالًّا على نبوّته، و الإجماع حجّة، لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجّيّته، أو لأنّه يكشف مثلًا عن قول أئمّة أهل بيته؟
و بالجملة فاحتمال الدسّ- و هو قريب جدّاً مؤيّد بالشواهد و القرائن- يدفع حجّيّة هذه الروايات و يفسد اعتبارها، فلا يبقى معه لها لا حجّيّة شرعيّة و لا حجّيّة عقلائيّة حتى ما كان منها صحيح الإسناد. فإنّ صحّة السند و عدالة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في اصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.
و أمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات و سوراً لا يشبه نظمها النظم القرآنيّ بوجه. فهو ظاهر لمن راجعها فإنّه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخَلْع و الحَفْد اللتين رويتا بعدّةٍ من طرق أهل السُّنّة. فسورة الخلع هي:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اللهم إنا نستعينك و نستغفرك. و نثني عليك و لا نكفرك. و نخلع و نترك من يفجرك.
و سورة الحفد هي: بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ. اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد. و إليك نسعى و نحفد. نرجو رحمتك. و نخشى نقمتك.
إن عذابك بالكافرين ملحق.
و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلفة رام واضعها أن يقلّد النظم القرآنيّ فخرج الكلام عن الاسلوب العربيّ المألوف و لم يبلغ النظم الإلهيّ المعجز. فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق. و لك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادّعيناه. و تقضى أنّ أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلفة إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب. و لو لا ذلك لكفتهم للحُكم بأنّها ليست بكلام إلهيّ نظرة.
و أمّا ما ذكرنا أنّ روايات التحريف على تقدير صحّة أسنادها مخالفة للكتاب، فليس المراد به مجرّد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، و قوله: وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ، حتى تكون مخالفة ظنّيّة لكون ظهور الألفاظ من الأدلّة الظنّيّة، بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحجّة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟ و القرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المنظورة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقيّة و علومه الإلهيّة الكلّيّة و الجزئيّة المرتبطة بعضها ببعض المترتّبة فروعها على اصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواصّ النظم القرآنيّ الذي وصفه الله بها.
و الجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العادي مجازفة بيّنة. نعم، يُجوّز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلّا أن تقوم قرائن تدلّ على ذلك، و هي قائمة كما قدّمنا. و أمّا أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العاديّ، فلا.
و الجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعه عليه السلام القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعيّة إلّا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوماً بحيث لا يرجع هذا الخلاف إلى مخالفة بعض الحقائق الدينيّة.
و لو كان كذلك، لعارضهم عليه السلام بالاحتجاج و دافع فيه، و لم يقنع بمجرّد إعراضهم عمّا جمعه و استغنائهم عنه كما روى عنه عليه السلام في موارد شتّى، و لم يُنقل عنه عليه السلام فيما روى من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته، و لا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، و أوجبهم على إسقاطها أو تحريفها.۱
و هل كان ذلك حفظاً لوحدة المسلمين، و تحرّزاً عن شقّ العصا، فإنّما كان يُتَصَوَّر ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم، لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.
و ليت شعري هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجمّ الغفير من الآيات التي يرون سقوطها، و ربّما إدّعوا أنّها تبلغ الالوف كانت جميعاً في الولاية، أو كانت خفيّة مستورة عن عامّة المسلمين لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم مع توفّر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل و تعلمه، و بلوغ اجتهاد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم في تبليغه و إرساله إلى الآفاق
و تعليمه و بيانه؟!
و قد نصّ على ذلك القرآن. قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ.۱ و قال: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.٢ فكيف ضاع؟ و أين ذهب ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أوّل سورة النساء بين قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، و قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ، أكثر من ثلث القرآن، أي: أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السُّنّة أنّ سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة، و قد سقطت منها مائتا آية؟! إلى غير ذلك.
أو أنّ هذه الآيات- و قد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة- كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسّرين من أهل السُّنّة حفظاً لما ورد في بعض رواياتهم: إنَّ مِن القُرْآنِ مَا أنْسَاهُ اللهُ وَ نُسِخَ تِلَاوَتُهُ.
فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها؟ فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة، و آية نكاح الزانية و الزاني، و آية العدَّة، و غيرها؟ و هم مع ذلك يُقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معاً، و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها و إذهاب أثرها، فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و لا مُنزّها من الاختلاف، و لا قولًا فصلًا و لا هادياً إلى الحقّ، و إلى طريق مستقيم، و لا معجزاً يتحدّى به و لا، و لا.
فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنّه في لوح محفوظ، و أنّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و أنّه قول فصل، و أنّه هدى، و أنّه نور، و أنّه فرقان بين الحقّ و الباطل، و أنّه آية معجزة، و أنّه، و أنّه؟
فهل يسعنا أن نقول: إنّ هذه الآيات على كثرتها و إباء سياقها عن التقييد مقيّدة بالبعض، فبعض الكتاب فقط، و هو غير المنسيّ و منسوخ التلاوة لَا يَأتِيهِ البَاطِلُ، و قَوْلٌ فَصْلٌ و هدى و نور و فرقان و معجزة خالدة؟!
و هل جَعْل الكلام منسوخ التلاوة و نسياً منسيّاً غير إبطاله و إماتته؟ و هل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد، و لا يصلح شأناً ممّا فَسُد غير إلغائه و طرحه و إهماله؟ و كيف يجامع ذلك كون القرآن ذِكراً؟!
فالحقّ أنّ روايات التحريف المرويّة من طرق الفريقين، و كذا الروايات المرويّة في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنيّة مخالفة للكتاب مخالفة قطعيّة.
و الجواب عن الوجه الرابع: إنّ أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في هذه الامّة لما وقع في بني إسرائيل ممّا لا ريب فيه، و هي متضافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدلّ على المماثلة من جميع الجهات، و هو ظاهر، بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج و الآثار. و حينئذٍ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الامّة لبنيّ إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنّما هي في حدوث الاختلاف و التفرّق بين الامّة بانشعابها إلى مذاهب شتّى يُكفّر بعضهم بعضاً و افتراقها إلى ثلاث و سبعين فرقة كما افترقت النّصارى إلى اثنتين و سبعين، و اليهود إلى واحدة و سبعين. و قد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادّعى بعضهم كونها
متواترة.
و من المعلوم أنّ الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، و ليس ذلك إلّا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، و تفسير القرآن الكريم بالرأي، و الاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب و تمييز الصحيح منها من السقيم.
و بالجملة، فأصل الروايات الدالّة على المماثلة بين الامّتين لا يدلّ على شيء من التحريف الذي يدّعونه. نعم، وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير و الإسقاط، و هذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدّم.
كلام العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في جمع القرآن
ثمّ تحدّث سماحة الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ في الفصل الرابع عن جمع القرآن في عصر أبي بكر و بعد غزوة اليمامة؛ و في الفصل الخامس عن جمعه ثانياً في عهد عثمان لاختلاف المصاحف و كثرة القراءات. و توسّع في الحديث إلى أن قال:
و فيه (في كتاب «الإتقان» للسيوطيّ) أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قَالَ عَلِيّ: لَا تَقُولُوا في عُثْمَانَ إلَّا خَيْراً فَوَ اللهِ مَا فَعَلَ الذي فَعَلَ في المَصَاحِفِ إلَّا عَنْ مَلاءٍ مِنَّا.
قَالَ: مَا تَقُولُونَ في هَذِهِ القُرَّاءِ؟! فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إنَّ قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ! وَ هَذَا يَكَادُ يَكُونُ كُفْراً.
قَلْنَا: فَمَا تَرَى؟! [قَالَ: أرَى- ظ] أنْ يُجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُصْحَفٍ واحِدٍ فَلَا يَكُونُ فُرْقَةٌ وَ لَا اخْتِلَافٌ. قُلْنَا: فَنِعْمَ مَا رَأيْتَ!
و في تفسير «الدُّرّ المنثور»: أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أنّ عثمان بن عفّان لمّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يُلقوا الواو التي في سورة براءة: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ، قَالَ ابَيّ: لَتَلْحُقنَّها أوْ
لأضَعَنَّ سَيْفِي عَلَى عَاتِقي، فَأَلْحَقُوهَا.
و في «الإتقان» عن أحمد، و أبي داود، و الترمذيّ، و النسَّائيّ، و ابن حبّان، و الحاكم عن ابن عبّاس قال: قلتُ لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني، و إلى براءة و هي من المئين فقرّبتم بينهما، و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، و وضعتموهما في السَّبع الطوال؟!۱
فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم تنزل عليه السورة ذات العدد. فكان إذا انزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا و كذا! و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولًا، و كانت قصّتها شبيهة بقصّتها. فظننتُ أنّها منها، فقُبض رسول الله
صلّى الله عليه [و آله] و سلّم و لم يبيّن لنا أنّها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتها في السبع الطوال.
أقُولُ: السبع الطوال- على ما يظهر من هذه الرواية و روى أيضاً عن ابن جبير- هي: البَقَرَةُ، و آلُ عِمْرَانَ، و النِّسَاءَ، وَ المَائِدَةُ، وَ الأنْعَامُ، وَ الأعْرَافُ، وَ يُونُسُ. و قد كانت موضوعة في الجمع الأوّل على هذا الترتيب. ثمّ غيّر عثمان هذا الترتيب، فأخذ الأنفال، و هي من المثاني، و براءة و هي من المئين قبل المثاني، فوضعهما بين الأعراف و يُونس مُقَدِّماً الأنفال على براءة.
الفصل ٦ الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن و تأليفه بين صحيحة و سقيمة،
و هي تدلّ على أنّ الجمع الأوّل كان جمعاً لشتات السور المكتوبة في العُسُبِ، و اللِّخَافِ، وَ الأكْتَافِ، و الجُلُودِ، و الرِّقَاعِ،۱ و إلحاق الآيات النازلة متفرّقة إلى سور تناسبها.
و أنّ الجمع الثاني- و هو الجمع العثمانيّ- كان ردّ المصاحف المنتشرة عن الجمع الأوّل بعد عروض تعارض النسخ و اختلاف القراءات
عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد أنّه ألحق قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (الآية)، في سورة الأحزاب في المصحف. فقد كانت المصاحف تُتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاريّ عن ابن الزبير قال: قلتُ لعثمان: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أزْوَاجاً، قد نسختها الآية الاخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا بن أخي لا اغيّر شيئاً منه من مكانه.
و الذي يعطيه النظر الحرّ في أمر هذه الروايات و دلالتها- و هي عمدة ما في هذا الباب- أنّها آحاد غير متواترة، لكنّها محفوفة بقرائن قطعيّة. فقد كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم يبلّغ الناس ما نُزِّل إليه من ربّه من غير أن يكتم منه شيئاً، و كان يعلّمهم و يبيّن لهم ما نُزِّل إليهم من ربّهم على ما نصّ عليه القرآن. و لم يزل جماعة منهم يعلّمون و يتعلّمون القرآن تعلّم تلاوة و بيان. و هم القُرَّاءُ الذين قُتل جمّ غفير منهم في غزوة اليمامة.
و كان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن و تعاطيه و لم يُترك هذا الشأن و لا ارتفع القرآن من بينهم و لا يوماً أو بعض يوم حتى جُمع القرآن في مصحف واحد، ثمّ أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتُليت به التوراة و الإنجيل و كتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك روايات لا تُحصى كثرة وردت من طرق الشيعة و أهل السُّنّة في قراءاته صلى الله عليه و آله و سلّم كثيراً من السور القرآنيّة في الفرائض اليوميّة و غيرها بمسمعٍ من ملأ الناس، و قد سُمّي في هذه الروايات جمّ غفير من السور القرآنيّة مكّيّتها و مدنيّتها.
أضف إلى ذلك ما تقدّم في رواية عثمان بن أبي العاص في تفسير
قَوْلِهِ تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ» إلى آخر الآية،۱ من قوله صلى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ جَبْرِئِيلَ أتَانِي بِهَذِهِ الآيةِ وَ أمَرنِي أنْ أضَعَهَا في مَوْضِعِهَا مِنَ السُّورَةِ. و نظير الرواية في الدلالة ما دلّ على قراءته صلى الله عليه و آله و سلّم لبعض السُّور النازلة نجوماً كآل عمران، و النِّساء، و غيرهما. فيدلّ على أنّه صلى الله عليه و آله و سلّم كان يأمر كُتّابَ الوحي بإلحاق بعض الآيات في مواضعها.
و أعظم الشواهد القاطعة ما تقدَّم في أوّل هذه الأبحاث أنّ القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
و بالجملة، الذي تدلّ عليه هذه الروايات هو:
أوّلًا: أنّ الموجود فيما بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ من القرآن هو كلام الله تعالى، فلم يُزد فيه شيء، و لم يتغيّر منه شيء. و أمّا النقص فإنّه لا يفي بنفيه نفياً قطعيّاً كما روى بعدّة طرق أنّ عمر كان يذكر كثيراً آية الرجم، و لم تُكْتَب عنه. و أمّا حملهم الرواية و سائر ما ورد في التحريف- و قد ذكر الآلوسيّ في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء- على منسوخ التلاوة، فقد عرفتَ فساده و تحقّقتَ أنّ إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.
على أنّ من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أوّلًا بأمر من أبي بكر، و ثانياً بأمر من عثمان كعليّ عليه السلام، و ابي بن كعب، و عبد الله بن مسعود، لم ينكر شيئاً ممّا حواه المصحف الدائر غير ما نُقل عن ابن مسعود أنّه لم يكتب في مصحفه المُعَوَّذَتَيْنِ، و كان يقول: إنَّهُمَا عَوْذَتَانِ نَزَلَ بِهِمَا جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِيُعَوِّذَ بِهِمَا الحَسَنَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. و قد ردّه سائر الصحابة. و تواترت النصوص من أئمّة أهل
البيت عليهم السلام على أنّهما سورتان من القرآن.
و بالجملة، الروايات السابقة- كما ترى- آحاد محفوفة بالقرائن القطعيّة نافية للتحريف بالزيادة و التغيير قطعاً دون النقص إلّا ظنّاً، و دعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
و التعويل في ذلك على ما قدّمناه من الحجّة في أوّل هذه الأبحاث أنّ القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعيّ الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه و آله ككونه قولًا فصلًا و رافعاً للاختلاف و ذِكر أو هادياً و نوراً و مبيّناً للمعارف الحقيقيّة و الشرائع الفطريّة و آية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
و من الحريّ أن نعوّل على هذا الوجه، فإنّ حجّة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه و آله و سلّم هي نفسه المتّصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقّف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائناً ما كان فحجّته معه أينما تحقّق و بيد من كان و من أيّ طريق وصل.
و بعبارة اخرى: لا يتوقّف القرآن النازل من عند الله إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم في كونه متّصفاً بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى الله عليه و آله و سلّم بنقل متواتر أو متضافر- و إن كان واجداً لذلك- بل الأمر بالعكس فاتّصافه بصفاته الكريمة هو الحجّة على الاستناد، فليس كالكتب و الرسائل المنسوبة إلى المصنّفين و الكتّاب، و الأقاويل المأثورة عن العلماء و أصحاب الأنظار المتوقّفة صحّة استنادها إلى نقل قطعيّ و بلوغ متواتر أو مستفيض مثلًا، بل نفس ذاته هي الحجّة على ثبوته.
و ثانياً: إنّ ترتيب السور إنّما هو من الصحابة في الجمعين الأوّل
و الثاني. و من الدليل عليه ما تقدّم في الروايات من وضع عثمان الأنفال و براءة بين الأعراف و يونس، و قد كانتا في الجمع الأوّل متأخّرتين.
و من الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة لكلا الجمعين الأوّل و الثاني، كما رُوي أنّ مصحف عليّ عليه السلام كان مرتّباً على ترتيب النزول. فكان أوّله اقْرَأ، ثمّ المُدَّثِّر، ثمّ النُّون، ثمّ المُزَّمِّل، ثمّ تَبَّتْ، ثمّ التَّكْوِير، و هكذا إلى آخر المكّيّ و المدنيّ. نقله السيوطيّ في «الإتقان» عن ابن فارس. و في «تاريخ اليعقوبيّ» ترتيب آخر لمصحفه عليه السلام.
و نُقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفيّ ترتيب مصحف ابيّ و هو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة. و كذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذاً من الطوال، ثمّ المئين، ثمّ المثاني، ثمّ المفصّل. و هو أيضاً مغاير للمصحف الدائر.
و قد ذهب كثير منهم إلى أنّ ترتيب السور توقيفيّ، و أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبرئيل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادّعى ثبوت ذلك بالتواتر. و ليت شعري أين هذا التواتر و قد تقدّمت عُمدة روايات الباب و لا أثر فيها من هذا المعنى. و سيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدُّنيا جملة ثمّ منها على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم تدريجاً.
و ثالثاً: إنّ وقوع بعض الآيات القرآنيّة التي نزلت متفرّقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأوّل، و قد تقدّمت.
و أمّا رواية عثمان بن أبي العاص عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ (الآية). فلا تدلّ على أزيد من فعله صلى الله عليه و آله و سلّم في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة.
و يواصل سماحة الاستاذ العلّامة قدّس الله روحه الزكيّة حديثه إلى أن يقول:
أقول: و رُوي ما يقرب من ذلك في عدّة روايات اخر. و روى ذلك من طرق الشيعة عن الباقر عليه السلام. و الروايات- كما ترى- صريحة في دلالتها على أنّ الآيات كانت مرتّبة عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم بحسب ترتيب النزول. فكانت المكّيّات في السورة المكّيّة، و المدنيّات في السورة المدنيّة، اللهمّ إلّا أن يُفرض سورة نزل بعضها بمكّة، و بعضها بالمدينة. و لا يتحقّق هذا الفرض إلّا في سورة واحدة. و لازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستنداً إلى اجتهاد من الصحابة.
توضيح ذلك: أنّ هناك ما لا يُحصى من روايات أسباب النزول يدلّ على كون آيات كثيرة في السور المدنيّة نازلة بمكّة. و بالعكس. و على كون آيات من القرآن نازلة مثلًا في أواخر عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و هي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة. و قد نزلت بين الوقتين سور اخرى كثيرة، و ذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة، و فيها آيات الربا. و قد وردت الروايات على أنّها من آخر ما نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم حتى ورد عن عمر أنّه قال: مَاتَ رَسُولُ اللهِ وَ لَم يُبَيِّنْ لَنَا آيَاتِ الرِّبَا. و فيها قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ
فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... إلى آخر الآية۱ و قد ورد أنّها آخر ما نزل من القرآن على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم.
فهذه الآيات النازلة مفرّقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكّيّة و المدنيّة موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول و ليس إلّا عن اجتهاد من الصحابة.
و يؤيّد ذلك ما في «الإتقان» عن ابن حجر: وَرَد عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ عَلَى تَرتِيبِ النُّزُولِ عِقَبَ مَوْتِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ. أخرجه ابن أبي داود، و هو من مسلّمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدلّ عليه ظاهر روايات الباب المتقدّمة لكن الجمهور أصرّوا على أنّ ترتيب الآيات توقيفيّ. فآيات المصحف الدائر اليوم و هو المصحف العثمانيّ مرتّبة على ما رتّبها عليه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم بإشارة من جبرئيل. و أوّلوا ظاهر الروايات بأنّ جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب و إنّما كان جمعاً لما كانوا يعلمونه و يحفظونه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم من السور و آياتها المرتّبة بين دفّتين و في مكان واحد.
و أنت خبيرٌ بأنّ كيفيّة الجمع الأوّل الذي تدلّ عليه الروايات تدفع هذه الدعوى دفعاً صريحاً.٢
هذه معلومات نقلناها عن سماحة الاستاذ قدّس سرّه لمناسبة البحث في عدم تحريف القرآن عند الشيعة. و لمّا كان حديثنا يدور حول عقيدة
علماء الشيعة الكبار في صيانة القرآن من التحريف، فإنّ إيراد مطالبه النفيسة و القيِّمة يبدو ضروريّاً.
و قد تحدّثنا عن سائر الأبحاث القرآنيّة في كتابنا: «الشمس الساطعة»،۱ و في الجزء الثاني عشر من كتابنا هذا: «معرفة الإمام»،٢ و الجزء الرابع من كتابنا «نور ملكوت القرآن»،٣ و لكن لمّا كنّا لم نعرض حديثاً حول الاعتقاد بعدم تحريف القرآن خاصّة، فقد كان ذكره ضروريّاً لا سيّما و نحن نتحدّث عن عقائد الشيعة في هذا المجال.
***
كلام الطبرسيّ و السيِّد المرتضى في عدم تحريف القرآن
و من القائلين بصيانة القرآن من التحريف و المتحدّثين عمّا يُنسَب إلى الشيعة من اعتقادهم بوجود نقص فيه هو الشيخ الأقدم أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ أحد أعلام الإماميّة الكبار في القرن السادس الهجريّ.
يقول هذا العالم في مقدّمة تفسيره: و من ذلك الكلام في زيادة القرآن و نقصانه فإنّه لا يليق بالتفسير. فأمّا الزيادة فيه، فَمُجْمَعٌ على بطلانه. و أمّا النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغيير أو نقصاناً. و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه. و هو الذي نصره المرتضى قدّس الله روحه و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب «المسائل الطرابلسيّات» و ذكر في مواضع أنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام و الكتب
المشهورة و أشعار العرب المسطورة. فإنّ العناية اشتدّت و الدواعي توفّرت على نقله و حراسته. و بلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّ القرآن معجزة النبوّة و مأخذ العلوم الشرعيّة و الأحكام الدينيّة و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية حتى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟
و قال أيضاً قدّس الله روحه: إنّ العلم بتفصيل القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة كـ «كتاب سيبويه» و المزنيّ. فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أنّ مُدخِلًا أدخل في «كتاب سيبويه» باباً في النحو ليس من الكتاب، لَعُرِف و مُيّز و عُلِم أنّه ملحق، و ليس من أصل الكتاب. و كذلك القول في كتاب المزنيّ. و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.
و ذكر أيضاً رضوان الله عليه أنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن. و استدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يُدَرَّس و يُحْفَظ جميعه في ذلك الزمان حتى عُيَّنَ على جماعة من الصحابة في حفظهم له، و أنّه كان يُعرض على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و يُتلى عليه. و أنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، و ابيّ بن كعب، و غيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم عدّة ختمات.
و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتور و لا مبثوث. و ذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة و الحشويّة لا يُعتدّ
بخلافهم. فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته.۱
كلام آية الله الميرزا حسن الآشتيانيّ في عدم تحريف القرآن
قال الشيخ الفقيه الاصوليّ الحكيم آية الله الميرزا محمّد حسن الآشتيانيّ قدّس سرّه- و هو أحد العلماء المتأخّرين- في شرحه العلميّ النفيس على رسائل استاذه الشيخ مرتضى الأنصاريّ قدّس سرّه عند شرح قوله: الثَّالِثُ إنَّ وُقُوعَ التَّحْرِيفِ عَلَى القَوْلِ بِهِ- إلى آخره: ينبغي التكلّم أوّلًا في أصل وقوع التحريف و التغيير و النقيصة و الزيادة في القرآن بعض الكلام ثمّ تعقيبه بالكلام في قدح وقوع التغيير بالمعنى الأعمّ في حجّيّة ظواهر آيات الأحكام و عدمه، فنقول:
إنّه لا خلاف بين علماء الشيعة في أنّه كان لأمير المؤمنين عليه و على أخيه الرسول الأمين و أولادهما المنتجبين ألف سلام و صلاة و تحيّة، قرآناً مخصوصاً جمعه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله و قد عرضه على الناس و المنحرفين و أعرضوا قائلين إنّه: لا حاجة لنا فيه. فحجبه عنهم و أودعه ولده عليهم السلام يتوارثه إمام عن إمام كسائر خصائص الإمامة و الرسالة. و هو الآن عند الحجّة و إمام العصر عجّل الله فرجه، يظهره للناس بعد ظهوره و يأمرهم بقراءته و قد نطقت به الأخبار المستفيضة بل المتواترة معنى.
كما أنّه لا خلاف بينهم في مخالفته لما في أيدي الناس في الجملة و لو من حيث التأليف و ترتيب السور و الآيات، بل الكلمات؛ و إلّا لم يكن معنى لكونه من خصائصه.
و يدلّ عليه مضافاً إلى وضوحه ما رواه الشيخ المفيد قُدّس سرّه في محكي إرشاده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال:
إذَا قَامَ قَائِمُ آل مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ضَرَبَ فَسَاطِيطَ لِمَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ القُرْآنَ عَلَى مَا أنْزَلَهُ اللهُ تعالى. فَأصْعَبُ مَا يَكُونُ عَلَى مَنْ حَفِظَهُ اليَوْمَ، لأنَّهُ يُخَالِفُ فِيهِ التَّألِيفَ (الخبر)، و غيره.
كما أنّهم لا ينكرون مخالفته لما في أيدي الناس من حيث اشتماله على وجوه التأويل و التنزيل، و التفسير، و الأحاديث القدسيّة كما صرّح به الصدوق و المفيد عن بعض أهل الإمامة، و السيّد الكاظميّ الشارح لـ «الوافية» و غيرهم قدّس سرّهم.
و يواصل آية الله الآشتيانيّ الموضوع، إلى أن يقول: قال الشيخ الصدوق قدّس سرّه:
اعْتِقَادُنا أنَّ القُرْآنَ الذي أنْزَلَهُ اللهُ تعالى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ
عَلَيْهِ وَ آلِهِ هُوَ مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ لَيْسَ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ؛ وَ مَنْ نَسَبَ إلَيْنَا بِالقَوْلِ بِأنَّهُ أكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ كَاذِبٌ- انتهى كلامه رُفع مقامه.
و أمّا الشيخ المفيد و إن كان كلامه المحكيّ أوّلًا عن «المسائل السرويّة» ربّما يُستظهر منه وقوع التغيير فيما نزل إعجازاً إلّا أنّ كلامه أخيراً صريح في حمل ما ورد في هذا الباب على التغيير من حيث التأويل، و التنزيل، و التفسير، ناسباً له إلى جماعةٍ من أهل الإمامة. حيث قال على ما حُكي عنه: و قال جماعة من أهل الإمامة: إنّه لم ينقص من كلمة، و لا من آية، و لا من سورة، لكن حُذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام من تأويله و تفسير معانيه على حقيقة تنزيله. و ذلك كان ثابتاً منزلًا و إن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز. و قد يُسمّى تأويل القرآن قرآناً. قال الله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.۱ فسمّي تأويل القرآن قرآناً. و هذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف- انتهى كلامه رُفع مقامه.
و يبسط المحقّق الآشتيانيّ القول، إلى أن يقول:
و بالجملة، مخالفة ما عند الإمام عليه السلام لما في أيدي الناس في الجملة ممّا لا ينكره أحد. إنّما الكلام في مخالفة ما بين الدفّتين لما نزل إعجازاً من جهة التحريف و الزيادة و النقيصة.
فعن جمهور الأخباريّين و جمع من المحدّثين كالشيخ الجليل عليّ بن إبراهيم القمّيّ، و تلميذه ثقة الإسلام الكلينيّ و غيرهما قدّس الله أسرارهم حيث إنّهم نقلوا الأخبار الدالّة على التغيير من غير قدح فيها سيّما بملاحظة عنوانهم وقوع التغيير مطلقاً. و عن بعضهم وقوع التحريف و النقيصة دون
الزيادة مدّعياً عدم النزاع فيها. و عن بعضهم كون النزاع في زيادة غير السورة بل الآية، فإنّ زيادتهما منافٍ لكون ما بأيدينا إعجازاً يقيناً مضافاً إلى منافاته لصريح القرآن.
و المشهور بين المجتهدين و الاصوليّين بل أكثر المحدّثين عدم وقوع التغيير مطلقاً، بل ادّعى غير واحد الإجماع على ذلك سيّما بالنسبة إلى الزيادة. و عن المولى الفريد البهبهانيّ و جماعة من المتأخّرين نفي الزيادة.
إلى أن يقول: و ممّن صرّح بالإجماع على عدم التغيير عَلَم الهُدى قُدّس سرّه.
و ينقل المرحوم الآشتيانيّ هنا نفس عبارات الشريف المرتضى كما نقلناها عن الشيخ الطبرسيّ. ثمّ يقول:
و قال شيخ الطائفة الطوسيّ قدّس سرّه في محكيّ تبيانه: أمّا الكلام في زيادته و نقصانه- يعني القرآن- فممّا لا يليق به، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها. و النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، و هو الأليق بالصحيح من مذهبنا؛ كما نصره المرتضى قُدّس سرّه. و هو الظاهر من الروايات،۱ غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة العامّة
...۱
كلام الإمام الهنديّ في تبرئة الشيعة من القول بالتحريف (ت)
...۱
و الخاصّة بنقصان كثير من أي القرآن، و نُقل شيء منه من موضع إلى موضع لكن طريقها الآحاد التي لا توجب علماً. فالأولى الإعراض عنها و ترك التشاغل بها، لأنّه يمكن تأويلها.
و لو صحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفّتين، فإنّ
ذلك معلوم صحّته لا يعترضه أحد من الامّة و لا يدفعه. و رواياتنا متناصرة بالبحث على قراءته و التمسّك بما فيه و ردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه و عرضها عليه. فما وافقه عُمل عليه، و ما يُخالفه يُجتنب و لم يُلتفت إليه.
و قد وردت عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم رواية لا يدفعها أحد أنّه قال: إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و هذا يدلّ على أنّه موجود في كلّ عصر، لأنّه لا يجوز أن يأمر الامّة بالتمسّك بما لا يقدر على التمسّك به، كما أنّ أهل البيت و من يجب اتّباع قوله حاصل في كلّ وقت. و إذا كان الموجود بيننا مُجمعاً على صحّته فينبغي أن يُتشاغل بتفسيره و بيان معانيه و ترك ما سواه.
نقل سورة محرّفة من «دبستان المذاهب» ..
و يواصل الفقيه المحقّق الآشتيانيّ هذا الموضوع، إلى أن يقول:
و لنختم الكلام في المسألة بذكر السورة التي حكاها صاحب كتاب «دبستان المذاهب» بعد ذكر جملة من عقائد الشيعة عن بعض علماء الشيعة عند ذكر مطاعن الثالث حيث إنّه أحرق المصاحف و أتلف السور التي كانت في فضل أمير المؤمنين و أولاده الطاهرين عليهم السلام.
قال: فإنّ ما ذكروه من الكلمات الساقطة أو المحرَّفة كثيرة مذكورة في كثير من كتب علماء الشيعة. و السورة: بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين امنوا آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي و يحذرانكم عذاب يوم أليم.
و يذكر هنا جملًا و ألفاظاً على هذا النحو. و هي تشغل قرابة صفحتين من القطع الوزيريّ، و آخرها: وَ على الَّذِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَهُمْ مِنِّي رَحْمَةٌ وَ هُمْ في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ، وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
هذه السورة و إن لم أقف عليها من غير الكتاب المذكور، و لكنَّ ظاهرها أنّه أخذها من كتب الشيعة. نعم، عن الشيخ محمّد بن عليّ بن شهرآشوب المازندرانيّ المعروف في كتاب «المثالب» أنّهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية. و لا يبعد إرادة هذه السورة.
و لكنّك خبير بأنّها ليست من القرآن المُنزل إعجازاً قطعاً؛ إذ يقدر كلّ عارف بلغة العرب أن يأتي بمثلها، مع أنّه قال سبحانه: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ (الآية).۱
و ذهب الشيخ المحقّق موسى بن جعفر بن أحمد التبريزيّ في كتاب «أوثق الوسائل في شرح الرسائل» إلى ما ذهب إليه المحقّق الآشتيانيّ تحقيقاً و تفصيلًا، عند شرح تلك الفقرة من عبارة الشيخ الأنصاريّ: ثُمَّ إنَّ وُقُوعَ التَّحرِيفِ في القُرْآنِ عَلَى القَوْلِ بِهِ ... إلى آخره، و المختار من كلامه عدم التحريف زيادةً أو نقيصةً أو تغييراً.٢
و أمّا كتاب «دبستان المذاهب» المارّ ذكره في شرح الرسائل، و الواردة فيه سورة ساقطة من كتاب الله، فهو كتاب مجهول، و صاحبه مغمور لم يرد اسمه بين العلماء المشهورين.
و لا بدّ لنا من أن نعرض ترجمة لمؤلّفه نقلًا عن العالم الكبير الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ قدّس سرّه، ثمّ نورد موضوعات من كتابه نفسه دليلًا على ما نقول، و ذلك لكي تنكشف هويّة هذا الكتاب المجهول، و يظهر عدم وثوق وثائقه، و منها نقل السورة الساقطة.
يقول المرحوم الشيخ آغا بزرك قدّس سرّه: «دبستان المذاهب» أو «دبستان» في الملل و النحل، فارسيّ. طُبع في بومباي سنة ۱٢٦٢ مرتّب على اثني عشر تعليماً. إلى أن يقول:
و بما أنّه لم يذكر المؤلّف اسمه فيه، اختلف في مؤلّفه كما ذكره السيّد محمّد على داعي الإسلام في أوّل «فرهنك نظام». فحكى عن سرجان ملكم في «تاريخ إيران» أنّ اسم المؤلّف محسن الكشميريّ المتخلّص في شعره بـ فاني. و حكى عن مؤلّف «مآثر الامراء» أنّ اسم المؤلّف ذو الفقار على. و حكى عن هامش نسخة كتابتها سنة ۱٢٦۰ أنّه مير ذو الفقار على الحسينيّ المتخلّص بـ هوشيار.
و اختار هو أنّه لبعض السيّاح في أواسط القرن الحادي عشر أدرك كثيراً من الدراويش بالهند، و حكى عنهم الغثّ و السمين في كتابه هذا.
و يقول المرحوم العلّامة الطهرانيّ قدّس سرّه: و يُحكى عن بعض المستشرقين أنّ في مكتبة بروكسل نسخة «دبستان المذاهب» تأليف محمّد فاني. و ذكر فيه أنّه ورد خراسان سنة ۱۰٥٦، و رأى هناك محمّد قُلي خان المعتقد بنبوّة مسيلمة الكذّاب.
و كما أنّه أخفى المؤلّف اسمه، كذلك تعمّد في إخفاء مذهبه لئلّا يُحمل كلامه على التعصّب. فقد قال في آخر الكتاب ما معناه: إنّ بعض الأعزّة قال لي: إنّ السيّد المرتضى الرازيّ ألّف «تبصرة العوام» في بيان العقائد و المذاهب، لكن يظهر منه أنّه أخذ بجانب و أيّد ذلك الجانب، و بذلك يتّهم القائل و يخفي الحقائق، مع أنّه قد أحدث بعض عقائد اخر بعده و لا بدّ من بيانها. فلذا أجبته بهذا التأليف و ما أتيتُ فيه إلّا ما أثبته أهل الفرق في كتبهم أو حدّثوه لي بأقوالهم مع مراعاة التعبير عن كلّ واحدٍ منهم بعين عباراتهم و عين ما يذكرون به أنفسهم في كتبهم، لكي لا تخفى
الحقائق، و لا يُحمل على التعصّب و الأخذ بجانب.
قال المرحوم العلّامة الطهرانيّ قُدّس سرّه: لكن يستفاد من أطراف كلماته و ترتيب مطالبه و بيان أدلّة الأقاويل أنّ الحقّ عنده مذهب الإماميّة. فإنّه في أوّل التعليم السادس المتعلّق بالملل الإسلاميّة قال: فيه نظران. لأنّ أهل الإسلام على قسمين: سُنّي، و شيعيّ. ثمّ بدأ بذكر فرق أهل السُّنّة إلى آخرهم؛ فشرع في النظر الثاني في الشيعة، و بدأ بالاثني عشريّة منهم و ذكر عقائدهم.
قال: و سمعت من علماء الشيعة أقاويلهم و أدركت منهم في لاهور في سنة ۱٥۰٣ المولى محمّد معصوم، و المولى محمّد مؤمن، و المولى إبراهيم المتعصّب في التشيّع. و ذكر في وجه تعصّبه أنّه رأى الأئمّة في المنام، فأمروه باعتناق الإسلام و اتّباع الأئمّة الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام. و ذكر أنّ المروّج للشيعة الأخباريّة في عصره كان المولى محمّد أمين الأسترآباديّ. و نقل جملة من كلماته في كتبه: «الفوائد المدنيّة»، «دانشنامه شاهي»، و غيرهما. و قال المرحوم صاحب «الذريعة» بعد بيان مذاهب الإسماعيليّة عنه:
و بالجملة، لا شكّ في أنّ المؤلّف من شعراء أواسط القرن الحادي عشر الذين استوفى جُلَّهم النصرآباديّ في تذكرته. و لم يذكر فيهم من ينطبق عليه أحد المحتملات التي ذكرناها أوّلًا إلّا الفاني الكشميريّ الذي نقل عنه شعره في ص ٤٤۷.
فلعلّ هذا الفاني هو المؤلّف، و كان اسمه محسن كما ذكره سرجان ملكم؛ و أنّه صُحِّف بمحمّد في نسخة بروكسل أو بالعكس. و أمّا ذو الفقار المتخلّص [و هو الذي يختار اسماً مستعاراً له. و يشيع ذلك بين الشعراء غالباً] بمؤبّد أو هوشيار، فلم نجد له أثراً. أوّله:
اى نام تو سر دفتر اطفال دبستان | *** | ياد تو به بالغ خردان شمع شبستان۱ |
و أمّا ما ذكر في ذيل «كشف الظُّنون» ص ٤٤٢ أنّه تأليف مؤبّد شاه المهتدي، صنّفه لأكبر شاه المتوفّى سنة ۱۰۱٤، فلا وجه له، لأنّه يذكر فيه قصصاً عن سنوات ۱۰٤٤ إلى ۱۰٦٣، منها أنّه قال: رأيت في سنة ۱۰٥٣ مرتاضاً يمدح إيران و لكنّه يسبّ ملكها شاه عبّاس بن خدابنده و يقول: إنّه يأخذ كلّ ولد أو بنت جميلين غصباً.٢
ما نصّ عليه كتاب «دبستان المذاهب» حول عقائد الشيعة
هذا ما يتعلّق بهويّة كتاب «دبستان المذاهب» و الاختلاف في جهل مؤلّفه. أمّا الكتاب نفسه، فإنّا نذكر هنا بعض موضوعاته في حقل التشيّع تحقيقاً لهدفنا في تعريف صاحبه مذهبيّاً:
في ذكر المذهب الجعفريّ: أذكر ما سمعته عن المولى محمّد معصوم، و المولى محمّد مؤمن توني، و المولى إبراهيم الذين كانوا في لاهور سنة ۱۰٥٣، و جماعة آخرين غيرهم ... إلى أن قال:
و قال بعضهم: أحرق عثمان المصاحف، و أسقط بعض السُّور النازلة في فضل عليّ و آله، و من هذه السور (و ذكر هنا السورة التي نقلها المحقّق الآشتيانيّ قدّس سرّه في كتاب «بحر الفوائد» نقلًا عن الكتاب المشار إليه)، ثمّ قال:
و أصبح المولى محمّد أمين الأسترآباديّ هو المروّج للطريقة الأخباريّة في هذا العصر. و قيل عنه: إنّه توجّه إلى مكّة المعظّمة بعد تحصيل العلوم العقليّة و النقليّة، و أدرك هذا الأمر في أعقاب مقابلة الحديث
و صنّف كتاب «الفوائد المدنيّة»، و ذكر في «دانشنامه قطب شاهي» الذي ألّفه لمحمّد قلي قطب شاه الذي كانت له حكومة شبيهة بحكومة الإسكندر قائلًا: إعلم أنّ المطلب الأعلى و المقصد الأقصى معرفة خصائص المبدأ و المعاد ... إلى أن قال:
افترق الأفاضل في تحصيل هذا المقام فرقاً: ففرقة ترى أنّ تحصيله يتمّ بالفكر و النظر؛ و التزم جماعة منها بعدم مخالفة أصحاب الوحي، و يقال لهم: المتكلّمون. لذلك أسّسوا علم الكلام من وحي الأفكار العقليّة، و أطالوا الكلام في كلام ربّ العزّة. و جماعة اخرى لم تلتزم، و يقال لهم: الحكماء المشّاءون. لذلك كانوا في البداية يحذون حذو أرسطو. و عند ما أصبح أرسطو وزيراً للإسكندر، و كان يختلف إلى مقرّ الحكومة و أخذوا منه العلم.
و فرقة اخرى تذهب إلى أنّ تحصيله يتحقّق عبر الرياضات. و التزم جماعة منها بعدم مخالفة أصحاب الوحي، و يقال لهم: الصوفيّة المتشرّعون. و لم تلتزم جماعة اخرى بذلك، و يقال لهم: الحكماء الإشراقيّون. و كان أفلاطون استاذ أرسطو يتعلّم و يعلّم عن طريق الرياضات.
و فرقة ثالثة تعتقد أنّ تحصيل هذا المقام يتيسّر من خلال كلام المعصومين. و ألزموا أنفسهم بالتمسّك بأحاديث المعصومين في كلّ مسألة يمكن أن يخطئ فيها العقل عادةً. و يُدعى هؤلاء: الأخباريّين.
و كان أصحاب الأئمّة عليهم السلام جميعهم قد حذوا حذوهم (حذو الأخباريّين). و نُقِل أنّ الأئمّة عليهم السلام نهوهم عن علم الكلام، و علم اصول الفقه المدوّن من وحي العقل؛ و كذلك نهوهم عن علم الفقه المدوّن من وحي الاستنباطات الظنّيّة، لأنّ العاصم من الخطأ يقتصر على التمسّك
بكلام أهل العصمة.
و لهذا وقعت اختلافات و تناقضات كثيرة في العلوم الثلاثة. كما أنّ المشاهَد و المعلوم هو أنّ النقيضين ليسا على حقّ، إذ إنّ أحدهما لا بدّ أن يكون على باطل. و قد علّم الأئمّة عليهم السلام أصحابهم علم الكلام، و علم اصول الفقه، و علم الفقه. و تختلف هذه العلوم الثلاثة في كثير من المسائل عن العلوم التي دوّنها العامّة. و قال أهل البيت عليهم السلام: ما كان من حقّ في العلوم الثلاثة للعامّة، فقد وصلهم مِنّا. و ما كان من باطل، فقد صدر عن أذهانهم.
و كانت طريقة الأخباريّين شائعة في أواخر الغيبة الصغرى، و دامت ثلاثة و سبعين أو أربعة و سبعين عاماً حسب اختلاف الروايات. و قام أصحاب الأئمّة عليهم السلام بتدوين العلوم الثلاثة المذكورة في الكتب بعد أن أخذوها من أئمّتهم عليهم السلام، لكي يرجع إليها الشيعة في عقائدهم و أعمالهم بأمر أئمّتهم في عصر الغيبة الكبرى. و انتهت تلك الكتب إلى المتأخّرين عن طريق التواتر.
و يشتمل كتاب «الكافي» الذي ألّفه ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكُلينيّ قدّس سرّه على العلوم الثلاثة المشار إليها.
و لمّا ظهر محمّد بن أحمد الجُنيد العامل بالقياس، و حسن بن حسين بن أبي عقيل المعالي المتكلّم و تفقّها، كان التعليم في المدارس و المساجد يجري على مذهب العامّة. و قد طالعا كتبهم في الكلام و الاصول لفقرهما التامّ في علمي الاصول، و الكلام المنقولين عن الأئمّة. و وافقاهم في بعض مباحث الكلام و الاصول، و اختارا منهجاً هجيناً من مذهب الأخباريّين، و مذهب العامّة، و وضعا أساس الاجتهاد على ذلك.
و جاء بعدهما الشيخ المفيد رحمه الله أي: الشيخ أبو جعفر فوافقهما
غفلةً منه و حُسنَ ظنٍّ بهما. و سلك في الكلام و الاصول مذهباً يجمع بين مذهب العامّة، و الأخباريّين، و الاصوليّين. فانقسم علماء الإماميّة إلى أخباريّين و اصوليّين، كما ذكر ذلك الشيخ جمال الدين بن المطهّر المعروف بالعلّامة الحلّيّ في بحث خبر الواحد من «النهاية». و قد صُرّح بذلك أيضاً في آخر «شرح المواقف»، و أوائل كتاب «الملل و النِّحل».
و لمّا كان الشيخ المفيد استاذَ السيِّد المرتضى علم الهُدى، و شيخ الطائفة الطوسيّ، فقد انتشر ذلك المذهب بين علماء الإماميّة، حتى وصل الدور إلى علّامة المشارق و المغارب العلّامة الحلّيّ. و لمّا كان العلّامة الحلّيّ أكثر تبحّراً من ابن الجنيد، و ابن أبي عقيل، و الشيخ المفيد، فقد استطاع أن يوسّع دائرة المنهج الهجين في الكتب الكلاميّة و الاصوليّة، و أرسى دعائم الاجتهادات الفقهيّة على أساسه. و لمّا كانت أحاديث العامّة خالية من القرائن في باب خبر الواحد، فإنّه قسّم أحاديث كتبه و كتب الطائفة المحقّة (الشيعة) إلى أربعة أقسام مشهورة غفلة منه عن ذلك. مع أنّ عَلَم الهُدى، و شيخ الطائفة، و ثقة الإسلام، و شيخنا الصدوق محمّد بن بابويه القمّيّ، و غيرهم نصّوا على أنّ الطائفة المحقّة أجمعت على صحّتها.
ثمّ جاء بعده الشيخ محمّد مكّي الشهير بالشهيد الأوّل فاقتدى بمنهجه و وضع صرح تصانيفه على أساسه. و أعقبه سلطان المدقّقين الشيخ على رحمه الله فتأسّى به. و كذلك احتذى به العالم الربّانيّ الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العامليّ رحمه الله.
و هكذا تواترت العصور حتى وصل الدور إلى أعلم العلماء المتأخّرين في علم الحديث و علم الرجال و أورعهم استاذ الجميع الميرزا محمّد الأسترآباديّ نوّر الله مرقده الشريف. و قد علّمني علوم الحديث جميعها و أشار عَلَيّ قائلًا: أحي مذهب الأخباريّين، و ادفع الشُّبهات التي
تعارضه. و لقد دار في خُلدي ذلك، لكنّ ربّ العزّة شاء أن يُجريه على قلمك.
و بعد أن أخذتُ العلوم المتعارفة كلّها من أعاظم العلماء، أقمتُ في المدينة المنوّرة عددَ سنين افكّر، و أتضرّع إلى الله تعالى، و أتوسّل بأرواح المعصومين المقدّسة. و اعيد النظر في أحاديث العامّة و كتبهم، و هم مخالفو الإماميّة، و أيضاً في كتب الخاصّة، و هم الإماميّة، و ذلك بتأمّل و تعمّق تامّين. إلى أن امتثلتُ أمر استاذي فألّفتُ «الفوائد المدنيّة» بتوفيق الله تعالى، و بركات سيّد المرسلين و الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. و عرضتُه عليه فاستحسن تأليفه و أثنى عَلَيّ رحمه الله.
ثمّ تحدّث مؤلّف «دبستان المذاهب» قليلًا عن النوّاب الأربعة و واجبات الشيعة في عصر الغيبة. و قال بعد ذلك: من الجدير ذكره أنّ الحديث ينقسم عند الشيعة الإماميّة الاصوليّة إلى أربعة أقسام هي: الصحيح، و الحسن، و الموثّق، و الضعيف.
و توجّه المولى محمّد أمين إلى مكّة المعظّمة بعد تحصيل العلوم العقليّة و النقليّة و الشرعيّة. و أعلن أنّ الاجتهاد لم يكن مألوفاً عند قدماء الشيعة. و أنّي أكتب ما سمعته عن امناء أسراره. و من استزاد، فله الرجوع إلى «الفوائد المدنيّة».
نقل كلام محمّد أمين الأسترآباديّ في المذهب الاخباريّ
و نقل المؤلّف هنا بعض المطالب عن المولى محمّد أمين الأسترآباديّ، إلى أن بلغ قوله: فالمذهب الصحيح هو ما كان عليه السلف الصالح. و هو مذهب الأخباريّين الذين عُرفوا بهذا الاسم لاعتمادهم على الأخبار و عملهم بالأحاديث. و إنّي أكتب ما سمعته عن امناء هذا المذهب، و أحدهم محمّد رضا القزوينيّ. و إنّما يسمّونهم بالأخباريّين إذ يستندون إلى الأخبار و لا يجتهدون.
و خاطب الملّا محمّد أمين المجتهدين المتأخّرين قائلًا: أنتم ترون أنّ السلف لم يتبنّوا الاجتهاد. و إنّما كان مذهبهم أيّام النبيّ صلى الله عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام هو مذهب الأخباريّين. فحسبنا ذلك دليلًا، إذ إنّ طريقنا طريق متواصل. فما هو دليلكم على جواز الاجتهاد؟ و قولوا لنا: بكلام أيّ معصوم سلكتم هذا الطريق؟! فلم يأت نبيّ بدينٍ بعد محمّد صلى الله عليه و آله. و كذلك لم يرد في كتاب الله و أحاديث النبيّ و الأئمّة أنّ الناقلين يعملون بالأخبار و يجتهدون بعد غيبة الإمام.
فأصبح واضحاً بكلّ تأكيد أنّكم خلطتم اصولكم باصول أهل السُّنّة و الجماعة. و أنّ مذهبكم مثل (السكنجبين)۱ لا هو شهدٌ و لا هو خَلّ؛ و أنّكم لا من السُّنّة و لا من الشيعة! و وجه اجتهاد المتأخّرين أنّهم عند ما اشتدّت التقيّة، أقبلوا على كتب المخالفين لأخذ العلم منها. فرسخت تلك الامور في قلوبكم. فأطرحوا من كتبهم ما كان مخزياً، و مزجوا بعضه بمذهبهم.
و يُفصّل المولى محمّد أمين الموضوع هنا أيضاً، إلى أن يقول: و ممّا ينبغي أن يُذكر هو أنّ المجتهد يجب أن يعمل بظنّه، و الظنّ شبهة. و تُعرف الشُّبهة بهذا الاسم لالتباس الحقّ فيها بالباطل. و يواصل المذهب الأخباريّ طريقه بلا لِمَ و لَا نُسَلِّم. أي: بلا مِرَاءٍ غَبيّ أحمق، إذ إنّ كلّ ما يُسمع من الإمام، فهو دليل قطعيّ. فالعمل بالمذهب الأخباريّ طريق قطعيّ. و شتّان ما بين القطعيّ و الظنّيّ! و قال المتأخّرون من الشيعة: يكون الإنسان مجتهداً إذا عمل بظنّه، و على الناس إطاعة ظنّه. و لم يكن هذا مسلك
القدماء فالعمل بالاجتهاد سهو و خطأ.۱
أجل، يمكننا أن نستنبط تشيُّعَ مؤلّف «دبستان المذاهب» بل مسلكه الأخباريّ من مواضع عديدة في كتابه كما يتبيّن ذلك من عباراته و مطالبه التي نقلناها نفسها هنا، و هذا هو ما نبّه عليه المرحوم العلّامة الطهرانيّ رحمه الله أيضاً.
يضاف إلى ذلك، و كما حكى عنه المرحوم صاحب «الذريعة» فإنّ كتابه لمّا كان يدور حول العقائد و الملل و النِّحل، فقد عدل عن منهج السيّد مرتضى الرازيّ- مؤلّف كتاب «تبصرة العوامّ» الذي دعمه و انحاز إليه دينيّاً خطأ- و صنّف هذا الكتاب ليظلّ بعيداً عن دعم فئة أو مذهب معيّن، و يصبح متحقّقاً بالحقّ.
و الأنكى من ذلك كلّه أنّه عدّ المولى محمّد أمين الأسترآباديّ مروّج التشيّع على الإطلاق في عصره، و كأنّ الاصوليّين- عنده- لا مسلمون و لا شيعة، إذ لم يذكر اسماً لمروّج مذهبهم يومئذٍ.
و لم يذكر أساطين الشيعة الاصوليّين آنذاك كالميرداماد، و الشيخ البهائيّ، و المجلسيّ الأوّل، و المحقّق الكركيّ عبد العالي صاحب كتاب «جامع المقاصد»، و أمثال هؤلاء الأعلام و الأساطين. فهل نتصوّر تحيّزاً أكثر من هذا؟
انتقاد المذهب الاخباريّ
و إذا تغاضينا عن ذلك برمّته فإنّ جميع الاشكالات التي حكاها على لسان الأخباريّين ضدّ الاصوليّين، قد أجاب عنها هؤلاء جواباً محكماً دقيقاً، و برهنوا على صحّة مذهبهم؛ إذ إنّ مذهبهم هو مذهب أهل البيت عليهم السلام. و هم الذين يرون أنّ للعقل قيمته. أمّا الأخباريّون فإنّهم
يُسقطون العقل مقبلين على التعبّد بالأخبار دون ملاحظة سندها و صحّتها. فهل يمكن أن يكون هذا غير نَعَم و نُسَلِّم بحمقٍ و غباء حقّاً؟
إن الأخباريّين لا ينظرون إلى متن الخبر، هل هو يغاير العلم، أو يناقض الواقع، أو يباين حكم العقل؟ فهم لا ينظرون إلى هذه الجوانب أبداً، و إنّما يكتفون بالنظر إلى سند الحديث، و يجتزئون به إذا كان في الاصول الأربعة فحسب. و قد أبطل الاصوليّون هذا الطريق، و أوصدوا منافذه، و أحرقوا كيانه، و ذرّوا رماده في الهواء، حيث يقولون: نحن نميّز صحّة السند من صحّة المتن في كثير من الأوقات و لا يحكم الإسلام و القرآن المبتنيان على العلم و الحقّ و الأصالة بالباطل و لو تعبّداً. و كان الرسول هو العقل الأوّل في العالم، و أئمّة الشيعة هم عقول العالم الرفيعة الأولى؛ فلا تَعبّد أعمى حينئذٍ في الشريعة. فما هو موجود إنّما هو نور، و حقّ و أصالة، و حقيقة. و إنّنا نعمل بالأخبار المتواترة أو المستفيضة أو المحفوفة بقرائن قطعيّة. و نعمل بأخبار الآحاد الثابتة حجّيّتها بالقطع و اليقين، لا بكلّ خبر مقطوع أو مرسل في الكتاب الفلانيّ، مع كثرة الأخبار المنحولة الموضوعة المدسوسة المبثوثة في هذه الكتب.
إن المجتهد لا يعمل بالظنّ إلّا أن ينتهي إلى اليقين في طريق الوصول إلى الحقّ. و إنّ قولهم: ظَنِّيَةُ الطَّرِيقِ لَا يُنَافِي قَطْعِيَّةَ الحُكْمِ يرتبط بهذا الموضوع.
و نحن لا ننوي هنا عدّ أخطاء الأخباريّين واحداً بعد الآخر. فقد تصدّى لهم المرحوم الآغا محمّد باقر البهبهانيّ، و تلامذته من بعده، و تلامذتهم الذين أعقبوهم، و منهم أفضل المحقّقين الشيخ مرتضى الأنصاريّ في كتاب «الرسائل». فقد ذكر هذا العَلَم المسائل الخلافيّة بين الاصوليّين و الأخباريّين و درسها دراسة عميقة. و نحمد الله تعالى إذ كَسَد
سوق الأخباريّين في عصرنا هذا.
و لو لا هؤلاء الأعلام لتقدّم الأخباريّون في عملهم و ساقوا العالم الإسلاميّ نحو الجهل و العمى من خلال هذه العبارات الساذجة الخدّاعة: اتّباع العقل اتّباع العامّة. و: الاقتداء بأهل البيت هو التّسليم لأوامرهم بلا مِراء.
و: أ ليس الرجوع إلى العقل مذهب العامّة؟ و: كُلُّ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذَا البَيْتِ فَهُوَ بَاطِلٌ. و أمثالها. و لو لا اولئك العلماء لرَسم الأخباريّون شبحاً مظلماً غامضاً للمستقبل عبر مناوءة الحكمة و العرفان، و بعامّة مناوءة العلوم العقليّة جميعها.
و قد انتشر المذهب الأخباريّ منذ عصر المولى محمّد أمين الأسترآباديّ إلى أن لمسنا آثاره عند الشيخ أحمد الأحسائيّ و أتباعه. و رأينا علومهم و معارفهم التي ينبغي أن نسمّيها سدّ العلوم و المعارف حقّاً. و هكذا تعاقبت الأيّام حتى نهض الشيخ المجدّد و محيي المذهب سماحة الآغا محمّد باقر المعروف بالوحيد البهبهانيّ، فنسف بنيانهم من القواعد عبر مدرسته الاصوليّة المستقيمة الرصينة. و استبان أنّ الشيخ المفيد، و السيّد المرتضى عَلَم الهُدى، و العلّامة الحلّيّ، و أشباههم لم يركنوا إلى الاصول غفلةً، بل جنحوا إليها و نظروا فيها بوعي و بصيرة و إمعان.
أجل، إنّ قصدنا من هذا الكلام هو أن نعرف أنّ مؤلّف كتاب «دبستان المذاهب» أخباريّ محض، مع أنّه مجهول، و لا يمكن الحكم على شخصٍ معيّن بنفسه. و قد ذكر في كتابه سورة منحولة موضوعة هي سورة الولاية، زاعماً أنّها ساقطة من القرآن، معرّفاً الشيعة من خلالها.
و كلّ من ينظر في هذه السورة، يعلم بأدنى تأمّل أنّها موضوعة مفتراة. و شتّان ما بين القرآن الحكيم العزيز و الفرقان المجيد المعجز،
و بين هذه السورة المبتذلة التي يستطيع كلّ إنسان عارف باللغة العربيّة أن يأتي بمثلها كما قال الآشتيانيّ!
و من الثابت أنّ هذه السورة وضعها بعض الأخباريّين الذين تظاهروا بأنّهم أحرص على المذهب من غيرهم و ينطبق عليهم المثل القائل: مَلَكِيّ أكثر من الملِك، و أنّهم تحمّسوا للذبّ عن سيّدنا و مولانا أمير المؤمنين عليه السلام و بيان مثالب اعدائه. و قد افتروا هذه السورة و نسبوها إلى الكلام الإلهيّ و العياذ بالله.
و لهذا رأينا في كلام الآشتيانيّ أنّها لم تُلحَظ في كتاب آخر غير «دبستان المذاهب». و قد أشار ابن شهرآشوب إلى سورة الولاية الساقطة.
و ما جاء في كتاب «دبستان المذاهب» من آراء، جاء في كتاب «فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» أيضاً. و هذا الكتاب للمحدِّث النوريّ صاحب كتاب «مستدرك الوسائل» الذي يُعدّ من الكتب المفيدة، و بخاصّة خاتمته الحاوية مباحث بكراً جديدة- على الرغم من وجود الإشكال في كثير من مواضعه- فقد ألّف المحدِّث النوريّ كتابه المذكور في تحريف القرآن. و أراد إثبات التحريف من حيث النقص فحسب، لا من حيث التغيير و الزيادة.
و لقد استعرتُ الكتاب المذكور من استاذي في الحديث و الرجال و الدراية سماحة العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ قدّس سرّه أيّام إقامتي في النجف الأشرف لطلب العلم. و طالعتُه من البداية إلى النهاية مع رسالة مثبّتة في بدايته بخطّه الشريف، و كان المرحوم النوريّ قدّس سرّه قد كتبها تحت عنوان: «ردّ كشف الارتياب». و قال المرحوم العلّامة الطهرانيّ: قال استاذنا النوريّ قدّس سرّه: لا أرضى عمّن يطالع «فصل الخطاب»، و يترك النظر إلى هذه الرسالة.
انتقاد كتاب «فصل الخطاب» في تحريف القرآن
و على كلّ تقدير فقد أراد المرحوم المحدِّث النوريّ أن يثبت النقص في كتاب الله المنزل بستّة أدلّة. و يدحض وجود الزيادة و التغيير فيه و لو بكلمة واحدة. و كتابه ضخم جمع فيه أحاديث العامّة و الخاصّة الواردة في هذا المقام: و لم يدّخر وسعاً في جمع الأحاديث و الروايات. و عند ما عدتُ من النجف الأشرف و حدّثتُ استاذي آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه بخصائص الكتاب، و مطالعتي أيّاه، و كثرة الروايات الواردة فيه، قال: كُلَّمَا كَثُرَتْ فِيهِ الرِّوَايَاتُ ازْدَادَ بُعْداً عَنِ الوَاقِعِ.
فهذه الروايات الكثيرة ينبغي أن تُأوّل، و إذا كانت غير قابلة للتأويل فهي مرفوضة بلا تأمّل. و كانت الأجزاء الثلاثة الأولى فقط من تفسير «الميزان» مطبوعة يومئذٍ. فوعد العلّامة أنّه سيتحدّث في المستقبل في الموضع المناسب عن عدم تحريف القرآن حديثاً وافياً حتى لو كان نقصاً. و وفى بوعده إذ رأينا في صفحات متقدّمة كيف فنّد أدلّة القائلين بالتحريف من خلال منطق قويّ و أثبت أنّ هذا القرآن الذي بأيدينا هو نفسه كتاب الله المُنزل من السماء، بلا تغيير.
و حدّثتُه ذات يوم بموضوع آخر يماثل الموضوع المتقدّم و قلتُ له: إنّ الشيخ محمّد تقي المحدِّث الشوشتريّ صاحب كتاب «قاموس الرجال» ألّف كتاباً في إثبات سهو الأئمّة عليهم السلام و خطأهم.
فقال على الفور: ليس لهذا الضرب من الكتب قيمة علميّة. فالإمام لا يخطئ.
قلتُ: جمع فيه أخباراً بعضها صحيحة السند.
قال: كيفما كانت فهي مرفوضة. إنّ الإمام لا يخطئ.
و كان المرحوم النوريّ كمؤلّف كتاب «الأخبار الدخيلة» ذا اتّجاه أخباريّ، و لم يألُ جهداً في الردّ على الكلام المعقول و الحكمة و العرفان
بأيّ وجه كان.
و لقد تردّى في الهاوية التي سقط فيها صاحب كتاب «دبستان المذاهب»، حيث أقحما نفسيهما في بحث و تنقيح و جرح و تعديل امور تفوق مستواهما علميّاً، فلهذا يُلاحظ أنّ هؤلاء الأخباريّين- الذين وضعوا أساس اجتهادهم و تحقيقاتهم و آرائهم على التعبّد بظاهر الأخبار دون تعمّق في المعنى- كم يشكّلون ضرراً على الإسلام و على المُطالِع لآثارهم! و لقد أثبت المرحوم النوريّ في كتابه الذي ألّفه في ترجمة سلمان الفارسيّ أفضليّة سلمان على أبي الفضل العبّاس عليه السلام!
إنّنا لا ننوي هنا الحديث عن هذه الامور، كما أنّ وقتنا لا يسمح لنا أنّ ننتقد آراء البعض؛ بَيدَ أنّي أكتفي بالقول: إنّ مؤلّف كتاب «فصل الخطاب»- المضرّ الذي لا قيمة علميّة له، و الذي لا يتفق مع آراء أساطين المذهب كالشيخ الصدوق، و السيّد المرتضى، و شيخ الطائفة الحقّة المحقّة، و أمثالهم- هو نفسه مؤلّف الكتاب الذي يتحدّث فيه عن سلمان الفارسيّ و يثبت أفضليّته على قمر بني هاشم.
أ لم يكن هناك من يقول لهؤلاء السطحيّين: مَن الذي أجلسكم مجلس الإخلاص و الخلوص و الولاية و الشرف و الإمامة، و الجرح و التعديل، و الجنّة و النار لتقضوا بأنّ مقام قمر بني هاشم دون مقام سلمان، و هو الذي يجب أن يتشرّف آلاف مثل سلمان بخدمة ضريحه و زوّاره، و تنظيف صحنه و أروقته؟! إنّ كتاب «فصل الخطاب» لا شأن له عند علماء الشيعة. و إنّه ليحوي آراء امرئ ناكبٍ عن الصراط. و ما أكثر المعترضين عليه من المسلمين و الشيعة الذين وجّهوا إليه اعتراضاتهم و لم يُحر جواباً.
و عند ما كنتُ اطالع هذا الكتاب في النجف الأشرف ذات يوم، زارني
أحد العلماء الباحثين۱ آنذاك، فقال لي: ما هذا الكتاب الذي تطالعه؟!
قلتُ: «فصل الخطاب» للمرحوم المحدِّث النوريّ.
قال: دعه. و لا تُضيّع وقتك في مثل هذه الموضوعات! و حينما ألّف المرحوم النوريّ هذا الكتاب، كتب شيخ الإسلام في مصر رسالة إلى المرحوم المجدِّد آية الله العظمى الشيرازيّ قدّس سرّه طلب منه فيها قطع يده!
قلتُ: من الضروريّ للطالب الذي يروم الاجتهاد أن يطّلع على مضامين هذه الكتب. و اليوم هو يوم الخميس، و يوم عطلة. و أنت تعلم أنّي لا أمضي أوقات دراستي في غير العلوم الحوزويّة.
قال: أجل! لا إشكال في ذلك إذاً.
كلام صاحب «الذريعة» حول كتاب «فصل الخطاب»
لقد كان سماحة الاستاذ الشيخ آغا بزرك قدّس سرّه رجلًا عظيم التقوى، أخلاقيّاً، مهذّباً. ذا خُلق حسن، و وجه بشوش، و نفس كريمة. و لم يرض لأحدٍ قطّ أن يتجرّأ على استاذه المرحوم المحدِّث الميرزا حسين النوريّ نجل المرحوم الشيخ محمّد تقيّ النوريّ. صاحب كتاب «فصل الخطاب»، و كان يدافع عنه بكلّ تواضع و خلق رفيع قائلًا: إنّ ما يثار ضدّه يتعلّق بكلّ ألوان التحريف، بَيدَ أنّ ساحته بريئة من هذه التهمة، إذ إنّه تحدّث في «فصل الخطاب» عن وجود نقصٍ فيه فقط، و دحض وجود تحريفات اخرى كالتغيير و التبديل و الزيادة، و كان يرى أنّ القرآن منزّه عن هذه التغييرات إجماعاً.
و قال في كتاب «الذريعة» فيما يخصّ الكتاب المذكور:
«الفصل الخطاب في تحريف الكتاب» لشيخنا الحاج ميرزا حسين النوريّ الطبرستانيّ ابن المولى محمّد تقي بن الميرزا عليّ محمّد النوريّ المولود في يالو من قرى نور طبرستان في ۱٢٥٤ المتوفّى في العشرين بعد الألف و الثلاثمائة، ليلة الأربعاء لثلاث بقين من جمادى الآخرة. و دُفن في يومه بالإيوان الثالث عن يمين الداخل من باب القبلة إلى الصحن المرتضويّ.
أثبت فيه عدم التحريف بالزيادة و التغيير و التبديل و غيرها، ممّا تحقّق و وقع في غير القرآن، و لو بكلمة واحدة، لا نعلم مكانها، و اختار في خصوص ما عدا آيات الأحكام وقوع تنقيص عن الجامعين، بحيث لا نعلم عين المنقوص المذخور عند أهله، بل يعلم إجمالًا من الأخبار التي ذكرها في الكتاب مفصّلًا، ثبوت النقص فقط.
انتقاد المحدِّث النوريّ لتأليفه كتاب «فصل الخطاب»
و ردّ عليه الشيخ محمود الطهرانيّ الشهير بالمعرّب، برسالةٍ سمّاها «كشف الارتياب عن تحريف الكتاب». فلمّا بلغ ذلك الشيخ النوريّ كتب رسالةً فارسيّة مفردة في الجواب عن شبهات «كشف الارتياب» كما مرّ في ج ۱۰، ص ٢٢۰. و كان ذلك بعد طبع «فصل الخطاب» و نشره، فكان شيخنا يقول: لا أرضى عمّن يطالع «فصل الخطاب» و يترك النظر إلى تلك الرسالة.
ذكر في أوّل الرسالة الجوابيّة ما معناه: إنّ الاعتراض مبنيّ على المغالطة في لفظ التحريف، فإنّه ليس مرادي من التحريف التغيير و التبديل، بل خصوص الإسقاط لبعض المُنزل المحفوظ عند أهله. و ليس مرادي من الكتاب القرآن الموجود بين الدفّتين، فإنّه باق على الحالة التي وضع بين الدفّتين في عصر عثمان، لم يلحقه زيادة و لا نقصان، بل المراد الكتاب الإلهيّ المنزل.
و سمعتُ عنه شفاهاً يقول: إنّي اثبت في هذا الكتاب أنّ هذا الموجود المجموع بين الدفّتين كذلك باق على ما كان عليه في أوّل جمعه كذلك في عصر عثمان، و لم يطرأ عليه تغيير و تبديل كما وقع على سائر الكتب السماويّة، فكان حريّاً بأن يسمّى «فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب» فتسميته بهذا الاسم الذي يحمله الناس على خلاف مرادي، خطأ في التسمية، لكنّي لم ارِد ما يحملوه عليه، بل مرادي إسقاط بعض الوحي المُنزل الإلهيّ. و إن شئت قلت اسمه «القَوْلُ الفَاصِلُ في إسقَاطِ بَعْضِ الوَحْي النَّازِل» ... .
و مرّت الرسالة الجوابيّة في حرف الراء بعنوان «الرّد على كشف الارتياب».
و أيّده الحاج مولى باقر الواعظ الكجوريّ الطهرانيّ بكتابه «هداية المرتاب في تحريف الكتاب». و يأتي «كشف الحجاب و النقاب عن وجه تحريف الكتاب» للشيخ محمّد بن سليمان بن زوير السليمانيّ الخطيّ البحرانيّ، تلميذ المولى أبي الحسن الشريف العامليّ. و أورد [الشيخ هادي] الطهرانيّ محصّل ما في «فصل الخطاب» هذا في كتابه «محجّة العلماء» المطبوع في سنة ۱٣۱۸. و إن أضرب عليه أخيراً دفعاً لما يوهمه ظواهر الكلمات و العنوانات.۱
و قال في هويّة كتاب الردّ على «فصل الخطاب»:
«كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب» للفقيه الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهرانيّ المتوفّى أوائل العشر الثاني بعد الثلاثمائة كتبه ردّاً على «فصل الخطاب» لشيخنا النوريّ. فلمّا عُرض على
الشيخ النوريّ كتب رسالة مفردة في الجواب عن شبهاته. و كان يوصي كلّ من كان عنده نسخة من «فصل الخطاب» بضمّ هذه الرسالة إليها، حيث إنّها بمنزلة المتمّمات له ... .
و رتّب هذا الكتاب على مقدّمة و ثلاث مقالات و خاتمة. و أوّل إشكالاته أنّه إذا ثبت تحريف القرآن، يقول اليهود: فلا فرق بين كتابنا و كتابكم في عدم الاعتبار. فأجاب في الرسالة بأنّ هذا مغالطة لفظيّة حيث إنّ المراد من التحريف الواقع في الكتاب، غير ما حملت ظاهراً للفظ، من التغيير و التنقيص المحقّق جميعها في كتب اليهود و غيرهم، بل المراد من تحريف الكتاب هو خصوص التنقيص عنه فقط، و في غير الأحكام فقط. و أمّا الزيادة فالإجماع المُحصّل من جميع فرق المسلمين و الاتّفاق العامّ على أنّه ما زيد في القرآن، و لو بمقدار أقصر آية، و عدم زيادة كلمة واحدة في القرآن لا نعلم مكانها.۱
و قال في هويّة رسالة الردّ على «كشف الارتياب»: تأليف شيخنا النوريّ. و هي فارسيّة لم تُطبع بعد ... .
و ذكر جواب النوريّ هنا مفصّلًا بأنّ هذا الكلام مغالطة لفظيّة، كما نقلناه عنه في تعريف «فصل الخطاب»، و تعريف «كشف الارتياب». و قال في آخره: لأنّه يُثبت فيه من أوّله إلى آخره عدم وقوع التحريف بهذا المعنى فيه أبداً.٢ (أي: الزيادة و التغيير و التبديل).
و قال في هويّة كتاب «محجّة العلماء» الذي ذكر فيه أخبار «فصل الخطاب»، ثمّ ردّها: ... في اصول الفقه في مجلّدين ... و هو تصنيف الحجّة
الشيخ هادي بن المولى محمّد أمين الطهرانيّ النجفيّ المتوفّى في العاشر من شوّال سنة ۱٣٢۱ ... و هي مطبوعة على الحجر بإيران في سنة ۱. ٣۱۸۱
و من الواضح أنّ جواب المرحوم المحدِّث النوريّ في أنّ الإشكال مُبتنٍ على مغالطة لفظيّة لا يتمّ لأنّه أفاد نفي التحريف بلحاظ التغيير و التبديل و الزيادة.
أمّا من حيث النقص المزعوم في الكتاب فإنّه يعتقد به، و هو ما يستلزم الإشكال.
و أمّا ما أفاده من أنّ المراد من كتاب ربّ الأرباب الذي ناله التحريف هو الكتاب الذي أنزله جبريل على النبيّ صلى الله عليه و آله، لا هذا القرآن المتداول في أيدينا اليوم، و هو نفسه القرآن الذي جمعه عثمان، فهو كلام لا طائل تحته أيضاً. إذ لم يقدح أحد في هذا القرآن الموجود منذ عصر عثمان إلى الآن و لم يقل بتحريفه. فالقدحُ يُذكَر في تحريف القرآن المُنزل من السماء إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، هل جُمعت آياته و سوره نفسها بلا نقصٍ و زيادةٍ و تغييرٍ و تبديلٍ، فصار بهذا الشكل الموجود؟ أو طرأ عليه النقص أو الزيادة حين الجمع الأوّل في عهد أبي بكر، و الجمع الثاني في عصر عثمان؟
تقول الشيعة: إنّ القرآن المنزَل من السماء هو نفسه القرآن الموجود حاليّاً بلا نقصٍ و زيادة. و نحن نبيّن و نثبت في هذا الكتاب الذي يدور حول عقائد الشيعة، عقيدتهم المتمثّلة في عدم التحريف زيادةً أو نقصاً أو تغييراً أو تبديلًا كما يلاحظ في هذا البحث. وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.٢
...۱
...۱
...۱
كلام السيّد محمّد التيجانيّ في تبرئة الشيعة من القول بالتحريف
و يحسن بنا- و نحن نروم ختم موضوعنا هذا- أن ننقل شيئاً ممّا جاء في الكتاب القيِّم: «لأكون مع الصادقين» للصديق الكريم و الشابّ الرشيد، المهتدي بنور الولاية، الرافض مراتب البِدَع و الانحراف الدكتور السيّد محمّد التيجانيّ شكراً لمساعيه الجميلة و بياناً لمظلوميّة الشيعة في هذا المقام و سائر المقامات التي يحاول فيها بعض الكتّاب السُّنّة المغرضين أن يثيروا نار الفتنة و الفساد، معرضين عن السلام و الصلح و بيان الحقائق. فهم يتّهمون الشيعة أنّهم يعتقدون بتحريف كتاب الله، مع أنّا رأينا و عرفنا أنّ ساحتهم بريئة من هذه التهمة. و لقد عرض التيجانيّ بحثاً مفيداً رائعاً في كتابه، و أوضح فيه أنّ هذه المسألة لا ترتبط بالشيعة أبداً. و أنّ العامّة و الخاصّة فيها سواء من حيث الروايات و غيرها. و نذكر فيما يأتي كلامه نصّاً:
القول بتحريف القرآن
هذا القول في حدّ ذاته شنيع لا يتحمّله مسلم آمن برسالة محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم، سواء كان شيعيّاً أم سنّيّاً، لأنّ القرآن الكريم تكفّل ربّ العزّة و الجلالة بحفظه، فقال عزّ من قائل:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.۱ فلا يمكن لأحد أن يُنقص منه أو يزيد فيه حرفاً واحداً، و هو معجزة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلّم
الخالدة و الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.۱
و الواقع العمليّ للمسلمين يرفض تحريف القرآن، لأنّ كثيراً من الصحابة كانوا يحفظونه عن ظهر قلب. و كانوا يتسابقون في حفظه و تحفيظه أولادهم على مرّ الأزمنة حتى يومنا الحاضر. فلا يمكن لإنسانٍ و لا لجماعةٍ و لا لدولةٍ أن يحرّفوه أو يبدّلوه.
و لو جُبنا بلاد المسلمين شرقاً و غرباً شمالًا و جنوباً و في كلّ بقاع الدنيا، فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة و لا نقصان، و إن اختلف المسلمون إلى مذاهب و فرق و ملل و نِحل. فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم و لا يختلف فيه من الامّة اثنان، إلّا ما كان من التفسير أو التأويل، فكل حزب بما لديهم فرحون.
و ما يُنسب إلى الشيعة من القول بالتحريف هو مجرّد تشنيع و تهويل، و ليس له في معتقدات الشيعة وجود. و إذا ما قرأنا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم، فسوف نجد إجماعهم على تنزيه كتاب الله من كلّ تحريف.
يقول صاحب كتاب «عقائد الإماميّة»٢ الشيخ المظفّر: نعتقد أنّ القرآن هو الوحي الإلهيّ المُنزَل من الله تعالى على لسان نبيّه الأكرم، فيه تبيان كلّ شيء. و هو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة و الفصاحة و فيما احتوى من حقائق و معارف عالية، لا يعتريه
التبديل و التغيير و التحريف. و هذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزَل على النبيّ. و من ادّعى فيه غير ذلك، فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه. و كلّهم على غير هدى، فإنّه كلام الله الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ- انتهى كلامه.
و بعد هذا فكلّ بلاد الشيعة معروفة و أحكامهم في الفقه معلومة لدى الجميع، فلو كان عندهم قرآن غير الذي عندنا لعلمه الناس. و أتذكّر أنّي عند ما زرتُ بلاد الشيعة للمرّة الأولى كان في ذهني بعض هذه الإشاعات. فكنتُ كلّما رأيتُ مجلّداً ضخماً تناولته علّني أعثر على هذا القرآن المزعوم، و لكن سرعان ما تبخّر هذا الوهم، و عرفتُ فيما بعد أنّها إحدى التشنيعات المكذوبة لينفّروا الناس من الشيعة.۱
و لكن يبقى هناك دائماً من يشنّع و يحتجّ على الشيعة بكتاب اسمه
«فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب» و مؤلّفه محمّد تقي النوريّ الطبرسيّ۱ المتوفّى سنة ۱٣٢۰ هـ و هو شيعيّ. و يريد هؤلاء المتحاملون أن يحمّلوا الشيعة مسؤوليّة هذا الكتاب! و هذا مخالف للإنصاف.
فكم من كتب كُتبت و هي لا تعبّر في الحقيقة إلّا عن رأى كاتبها و مؤلّفها، و يكون فيها الغثّ و السمين، و فيها الحقّ و الباطل، و تحمل في طيّها الخطأ و الصواب، و نجد ذلك عند كلّ الفرق الإسلاميّة، و لا يختصّ بالشيعة دون سواها. أ فيجوز لنا أن نُحمّل أهل السُّنّة و الجماعة مسؤوليّة ما كتبه وزير الثقافة المصريّ و عميد الأدب العربيّ الدكتور طه حسين بخصوص القرآن و الشعر الجاهليّ؟! أو ما رواه البخاريّ- و هو صحيح عندهم- من نقص في القرآن و زيادة، و كذلك «صحيح مسلم»، و غيره؟!٢
و لكن لنضرب عن ذلك صفحاً و نقابل السيِّئة بالحسنة، و لَنِعْمَ ما قاله في هذا الموضوع الاستاذ محمّد المدنيّ عميد كلّيّة الشريعة بالجامعة الأزهريّة، إذ كتب يقول:
بين السنّة مَن يعتقد التحريف
و أمّا أنّ الإماميّة يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله، و إنّما هي روايات رُويت في كتبهم، كما روى مثلها في كتبنا. و أهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها و بيّنوا بطلانها.٣ و ليس في الشيعة الإماميّة أو الزيديّة مَن يعتقد
...۱
...۱
ذلك، كما أنّه ليس في السُّنّة من يعتقده.
و يستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب «الإتقان» للسيوطيّ ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحاً.
و قد ألّف أحد المصريّين في سنة ۱٩٤۸ م كتاباً اسمه «الفرقان» حشّاه بكثيرٍ من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة، ناقلًا لها عن الكتب و المصادر عند أهل السُّنّة. و قد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل و البحث العلميّ أوجه البطلان و الفساد فيه. فاستجابت الحكومة لهذا الطلب و صادرت الكتاب، فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاً، فحكم القضاء الإداريّ في مجلس الدولة برفضها.
أ فيقال: إنّ أهل السُّنّة ينكرون قداسة القرآن؟! أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان، أو لكتاب ألّفه فلان؟!
فكذلك الشيعة الإماميّة. إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات
التي في بعض كتبنا. و في ذلك يقول الإمام العلّامة السعيد أبو الفضل بن الحسن۱ الطبرسيّ من كبار علماء الإماميّة في القرن السادس الهجريّ في كتاب «مجمع البيان في تفسير القرآن»:
فَأمَّا الزِّيَادَةُ فِيهِ، فَمُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهَا. وَ أمَّا النُّقْصَانُ مِنْهُ، فَقَدْ روى جَمَاعَةٌ مِنْ أصْحَابِنَا وَ قَوْمٌ مِنْ حَشْوِيّةِ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ في القُرْآنِ تَغْييراً وَ نُقْصَاناً.
وَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا خِلَافُهُ. وَ هُوَ الذي نَصَرَهُ المُرْتَضَى قُدِّسَ سِرُّهُ وَ اسْتَوْفَى الكَلَامَ فِيهِ غَايَةَ الاسْتِيفَاءِ في جَوَابِ «المَسَائِلَ الطَّرَابُلْسِيَّاتِ» وَ ذَكَرَ في مَوَاضِعَ: أنَّ العِلْمَ بِصِحَّةِ نَقْلِ القُرْآنِ كَالعِلْمِ بِالبُلْدَانِ، وَ الحَوَادِثِ الكِبَارِ وَ الوَقَائِعِ العِظَامِ وَ الكُتُبِ المَشْهُورَةِ وَ أشْعَارِ العَرَبِ.
فَإنَّ العِنَايَةَ اشْتَدَّتْ وَ الدَّوَاعِي تَوَفَّرَتْ عَلَى نَقْلِهِ وَ حَرَاسَتِهِ، وَ بَلَغَتْ إلَى حَدٍّ لَمْ تَبْلُغْهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، لأنَّ القُرْآنَ مُعْجِزَةُ النُّبُوَّةِ وَ مَأخَذُ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَ الأحْكَامِ الدِّينِيَّةِ.
وَ عُلَمَاءُ المُسْلِمِينَ قَدْ بَلَغُوا في حِفْظِهِ وَ حِمَايَتِهِ الغَايَةَ حتى عَرَفُوا كُلَّ شَيْءٍ اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ إعْرَابِهِ، و قِرَاءَاتِهِ، وَ حُرُوفِهِ، وَ آيَاتِهِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُغَيَّراً أوْ مَنْقُوصاً مَعَ العِنَايَةِ الصَّادِقَةِ وَ الضَّبْطِ الشَّدِيدِ؟٢
و حتى يتبيّن لك أيّها القارئ أنّ هذه التُّهمة- نقص القرآن و الزيادة فيه- هي أقرب لأهل السُّنّة منها إلى الشيعة- و ذلك من الدواعي التي دعتني إلى أن اراجع كلّ معتقداتي، لأنّي كلّما حاولتُ انتقاد الشيعة في شيء
و الاستنكار عليهم أثبتوا براءتهم منه و إلصاقه بي، و عرفتُ أنّهم يقولون صدقاً، و على مرّ الأيّام و من خلال البحث اقتنعتُ وَ الحَمْدُ لِلَّهِ- فها أنا مقدّم لك ما يثبت ذلك في هذا الموضوع:
أخرج الطبرانيّ، و البيهقيّ أنّ مِن القرآن سورتين، إحداهما هي: بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ. إنا نستعينك و نستغفرك. و نثني عليك الخير كله و لا نكفرك. و نخلع و نترك من يفجرك.
و السورة الثانية، هي:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد. و إليك نسعى و نحفد. نرجو رحمتك و نخشى عذابك الجد. إن عذابك بالكافرين ملحق.
و هاتان السورتان سمّاهما الراغب في «المحاضرات» سورتي «القنوت». و هما ممّا كان يقنت بهما سيّدنا عمر بن الخطّاب، و هما موجودتان في مصحف ابن عبّاس، و مصحف زيد بن ثابت.۱
أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابيّ بن كعب قال: كم تقرءون سورة الأحزاب؟ قال: بعضاً و سبعين آية. قال: لقد قرأتها مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم مثل البقرة أو أكثر منها، و إنّ فيها آية الرجم.
و أنت ترى أيّها القارئ اللبيب أنّ السورتين- المذكورتين في كتابي «الإتقان»، و «الدرّ المنثور» للسيوطيّ، و اللتين أخرجهما الطبرانيّ و البيهقيّ، و اللتين تسمّيان بسورتي القنوت- لا وجود لهما في كتاب الله تعالى.
و هذا يعني أنّ القرآن الذي بين أيدينا ينقص هاتين السورتين الثابتتين في مصحف ابن عبّاس، و مصحف زيد بن ثابت، كما يدلّ أيضاً بأنّ هناك مصاحف اخرى غير التي عندنا، و هو يذكّرني أيضاً بالتشنيع على أنّ للشيعة مصحف فاطمة، فافهم! (كم هي تهمة باطلة لا داعي لها، لأنّ مصحف فاطمة كان كسائر المصاحف أيضاً!).
و أنّ أهل السُّنّة و الجماعة يقرأون هاتين السورتين في دعاء القنوت كلّ صباح. و كنتُ شخصيّاً أحفظهما و أقرأ بهما في قنوت الفجر.۱
أمّا الرواية الثانية التي أخرجها الإمام أحمد في مسنده فهي تقول بأنّ سورة الأحزاب ناقصة ثلاثة أرباع، لأنّ سورة البقرة فيها ٢۸٦ آية، بينما لا تتعدّى سورة الأحزاب ۷٣ آية. و إذا اعتبرنا عدّ القرآن بالحزب، فإنّ سورة البقرة فيها أكثر من خمسة أحزاب، بينما لا تعدّ سورة الأحزاب إلّا حزباً واحداً.
و قول ابيّ بن كعب: كُنتُ أقْرَاهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ
وَ سَلَّمَ مِثْلَ البَقَرَةِ أوْ أكْثَرَ، و هو من أشهر القرّاء الذين كانوا يحفظون القرآن على عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم، و هو الذي اختاره عمر ليصلّي بالناس صلاة التراويح.۱
فهو يبعث الشكّ و الحيرة كما لا يخفى.
و أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن ابيّ بن كعب قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال: إنّ الله تبارك و تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقال: فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. فقرأ فيها:
وَ لَو أنَّ ابْنَ آدَمَ سَألَ وَادِياً مِنْ مَالٍ فَاعْطِيَهُ لَسَألَ ثَانِياً. فَلَوْ سَألَ ثَانِياً فَاعْطِيَهُ لَسَألَ ثَالِثاً. وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ. وَ إنَّ ذَلِكَ الدِّينَ القَيِّمَ عِنْدَ اللهِ الحَنَفِيَّةُ غَيْرُ المُشْرِكَةِ. وَ لَا اليَهُودِيَّةُ. وَ لَا النَّصْرَانِيَّةُ. وَ مَنْ يَفْعَلْ خَيْراً فَلَنْ يُكْفَرَهُ.٢
و أخرج الحافظ ابن عساكر في ترجمة ابيّ بن كعب أنّ أبا الدرداء ركب إلى المدينة في نفر من أهل دمشق. فقرأ فيها على عمر بن الخطّاب هذه الآية:
إن (إذْ- ص) جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية و لو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام.٣
فقال عمر بن الخطّاب: من أقرأكم هذه القراءة؟! فقالوا: ابيّ بن
كعب. فدعاه، فقال لهم عمر: اقرأوا، فقرأوا: وَ لَوْ حَمِيتُم كَمَا حَمُوا لَفَسَدَ المَسْجِدُ الحَرَامُ.
فقال ابيّ بن كعب لعمر بن الخطّاب: نعم، أنا أقرأتهم. فقال عمر لزيد بن ثابت: اقرأ يا زيد، فقرأ زيد قراءة العامّة.
فقال عمر: اللهُمَّ لَا أعْرِفُ إلَّا هَذَا!
فقال ابيّ بن كعب: وَ اللهِ يَا عُمَرُ! إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنِّي كُنْتُ أحْضُرُ وَ يَغِيبُونَ. وَ أدْنُو وَ يُحْجَبُونَ، وَ وَ اللهِ لَئِنْ أحْبَبْتَ لألْزَمَنَّ بَيْتِي فَلَا أُحدِّثُ أحَداً وَ لَا اقْرِئُ أحَداً حتى أمُوتَ. فَقَالَ عُمَرُ: اللهُمَّ غُفْراً! إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ عِنْدَكَ عِلْماً، فَعَلِّمِ النَّاسَ مَا عَلِمْتَ!
قال: و مرّ عمر بغلام، و هو يقرأ في المصحف:
النَّبِيّ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أنفُسِهِمْ وَ أزْواجُهُ امَّهَاتُهُمْ وَ هُوَ أبٌ لَهُمْ.۱
فقال: يا غلام حُكَّها! فقال: هذا مصحف ابيّ بن كعب، فذهب إليه فسأله، فقال له: إنَّهُ كَانَ يُلْهِيني القُرْآنُ، وَ يُلْهِيكَ الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ.٢
و روى مثل هذا ابن الأثير في «جامع الاصول»، و أبو داود في سننه، و الحاكم في مستدركه. و أترك لك أخي القارئ أن تُعلّق في هذه المرّة بنفسك على أمثال هذه الروايات التي ملأت كتب أهل السُّنّة و الجماعة، و هم غافلون عنها و يشنّعون على الشيعة الذين لا يوجد عندهم عُشر هذا.
و لكن لعلّ بعض المعاندين من أهل السُّنّة و الجماعة ينفُر من هذه الروايات. فيرفضها كعادته، و ينكر على الإمام أحمد تخريجه مثل هذه الخرافات، فيضعّف أسانيدها، و يعتبر أنّ «مسند الإمام أحمد» و «سنن
أبي داود» ليسا عند أهل السُّنّة بمستوى صحيحي البخاريّ، و مسلم.
و لكن مثل هذه الروايات موجودة في «صحيح البخاريّ»، و «صحيح مسلم» أيضاً، فقد أخرج الإمام البخاريّ في صحيحه۱ في باب مناقب عمّار و حذيفة رضي الله عنهما عن علقمة قال: قدمتُ الشام فصلّيت ركعتين، ثمّ قلتُ: اللهمّ يسّر لي جليساً صالحاً، فأتيتُ قوماً، فجلستُ إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلتُ: من هذا؟! قالوا: أبو الدرداء.
قلتُ: إنّي دعوتُ الله أن ييسّر لي جليساً صالحاً، فيسّرك لي. قال: ممّن أنت؟ فقلتُ: من أهل الكوفة. قال: أ وَ ليس عندكم ابن امّ عبدٍ صاحب النعلين و الوساد و المطهرة؟ و فيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيّه صلى الله عليه و آله و سلّم؟ أ وَ ليس فيكم صاحب سرّ النبيّ صلى الله عليه و آله الذي لا يعلم أحد غيره؟ ثمّ قال: كيف يقرأ عبد الله: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ فقرأتُ عليه: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى ، وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ، وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى. قال: و الله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم من فيه إلى في.
ثمّ زاد في رواية اخرى قال: ما زال بي هؤلاء حتى كادوا يستنزلوني عن شيءٍ سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.٢
و في رواية قال: وَ اللَّيْلِ إذَا يَغْشَى ، وَ النَّهَارِ إذَا تَجَلَّى ، وَ مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الانثَى. قال: أقرأنيها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فاه إلى في، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردّوني.٣
فهذه الروايات كلّها تفيد بأنّ القرآن الذي عندنا زيد فيه كلمة وَ مَا خَلَقَ.
و أخرج البخاريّ في صحيحه بسنده عن ابن عبّاس أنّ عمر بن الخطّاب قال: إنّ الله بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلّم بالحقّ و أنزل عليه الكتاب. فكان ممّا أنزل الله آية الرجم، فقرأناها و عقلناها و و عيناها، فلذا رجم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و رجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: و الله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَهَا اللهُ، و الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا احصن من الرجال و النساء إذا قامت البيّنة أو كان الحَبَلُ و الاعتراف.
ثمّ إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله:
أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم- أو- إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم.۱
و أخرج الإمام مسلم في صحيحه في باب لو أنّ لابن آدم واديين لابتغى ثالثاً،٢ قال: بعث أبو موسى الأشعريّ إلى قرّاء أهل البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن. فقال: أنتم خيار أهل البصرة و قرّاءهم، فاتلوه و لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، و إنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطول و الشدّة ببراءة فانسيتها، غير أنّي قد حفظتُ منها:
لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَي وَادِياً ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ.
و كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات۱ فانسيتها غير أنّي حفظتُ منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة!٢
و هاتان السورتان المزعومتان اللتان نسيهما أبو موسى الأشعريّ: إحداهما تشبه براءة يعني ۱٢٩ آية، و الثانية تشبه إحدى المسبّحات، يعني ٢۰ آية لا وجود لهما إلّا في خيال أبي موسى، فاقرأ و اعجب، فإنّي أترك لك الخيار أيّها الباحث المنصف!
فإذا كانت كتب أهل السُّنّة و الجماعة و مسانيدهم و صحاحهم مشحونة بمثل هذه الروايات التي تدّعي بأنّ القرآن ناقص مرّة، و زائد اخرى، فلما ذا هذا التشنيع على الشيعة الذين أجمعوا على بطلان هذا الادّعاء؟!
و إذا كان الشيعيّ صاحب كتاب «فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربّ الأرباب» الذي كتب كتابه سنة ۱٣٢۰ هـ،۱ أي منذ ما يقرب من مائة عام، فقد تبعه السنّيّ في مصر صاحب «الفرقان» كما أشار إلى ذلك الشيخ محمّد المدنيّ عميد كلّيّة الشريعة بالأزهر.٢
و المهمّ في كلّ هذا أنّ علماء السُّنّة و علماء الشيعة من المحقّقين قد أبطلوا مثل هذه الروايات و اعتبروها شاذّة، و أثبتوا بالأدلّة المقنعة بأنّ القرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي انزل على نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم، و ليس فيه زيادة و لا نقصان و لا تبديل و لا تغيير.
فكيف يشنّع أهل السُّنّة على الشيعة من أجل روايات ساقطة عندهم، و يبرّئون أنفسهم، بينما صحاحهم تثبت صحّة تلك الروايات؟!
و إنّي إذ أذكر مثل هذه الروايات بمرارة كبيرة و أسف شديد، فما أغنانا اليوم عن السكوت عنها و طيّها في سلّة المهملات، لو لا الحملة الشعواء التي شنّها بعض الكتّاب و المؤلّفين ممّن يدّعون التمسّك بالسُّنّة النبويّة، و من ورائهم دوائر معروفة تموّلهم و تشجّعهم على الطعن و تكفير الشيعة، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران.
فإلى هؤلاء أقول: اتقوا الله في إخوانكم، و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا ، و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.٣
بحث علميّ مفصّل للعلّامة البلاغيّ حول عدم تحريف القرآن
لقد تحدّث الفقيه العليم و العالم العيلم العلّام في عصرنا الأخير، فخر الشيعة و المجتمع الإنسانيّ آية الله المعظّم الشيخ محمّد جواد البلاغيّ النجفيّ حديثاً شاملًا واسعاً نفيساً جدّاً حول تحريف القرآن. و لمّا كان بحثنا يحوم حول هذا الموضوع، فإنّي آسى أن لا تتزيّن هذه الصفحات بذكر كلامه الذهبيّ النفيس- الذي ما زال يتألّق في سماء العلم و المعرفة كأشعّة الشمس الساطعة، بعد سنين تصرّمت- و أن لا تتعطّر الروح بالرائحة الذكيّة لهذا الرحيق الملائكيّ بطعمه الخاصّ و ذوقه المخصوص فنختم به حديثنا من وحي قوله تعالى: «و ختامه مِسك». لقد تحدّث هذا العالم في تفسيره الثمين: «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» عن اضطراب الروايات في جمع القرآن، فقال بعد بيان الأمر الأوّل الذي يدور حول بعض ما الصق بكرامة القرآن الكريم: الثاني: في الجزء الخامس من «مسند أحمد» عن ابيّ بن كعب قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ القُرْآنَ!
قَالَ: فَقَرأ: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» فَقَرَأ فِيهَا: «لَوْ أنَّ ابْنَ آدَمَ سَألَ وَادِياً مِن مَالٍ فَاعْطِيهُ لَسَألَ ثَانِياً، فَلَوْ سَألَ ثَانِياً فَاعْطِيَهُ لَسَألَ ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ، وَ يَتُوبُ اللهَ عَلَى مَنْ تَابَ، وَ إنَّ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمِ عِنْدَ اللهِ الحَنَفِيَّةُ (الحَنِيفِيَّةُ- ص) غَيْرُ المُشْرِكَةِ وَ لَا اليَهُودِيَّةُ وَ لَا النَّصْرَانِيَّةُ، وَ مَنْ يَعْمَلْ خَيْراً فَلَنْ يُكْفَرَهُ.
و في رواية الحاكم في «المستدرك» و رواية غيره أيضاً: إنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللهِ الحَنَفِيَّةُ (الحَنِيفِيَّةُ- ص) لَا المُشْرِكَةُ. و في رواية: غَيْرُ المُشْرِكَةِ، إلى آخره.
و عن «جامع الاصول» لابن الأثير الجزريّ: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الحَنِيفِيَّةُ المُسْلِمَةُ لَا اليَهُودِيَّةُ وَ لَا النَّصْرَانِيَّةُ وَ لَا المَجُوسِيَّةُ.
و ذكر في «المسند» أيضاً بعد هذه الرواية عن ابيّ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ فَقَرَأ عَلَيّ: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حتى تَأتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ، رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ، وَ مَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الحَنَفِيَّةُ (الحَنِيفِيَّة- ص) لَا المُشْرِكَةُ وَ لَا اليَهُودِيَّةُ وَ لَا النَّصْرَانِيَّةُ وَ مَنْ يَفْعَل خَيْراً فَلَنْ يُكْفَرَهُ».
قال شعبة: ثمّ قرأ آيات بعدها. ثمّ قرأ: لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ لَسَألَ وَادِياً ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ. قال: ثمّ ختمها بما بقي منها- انتهى.
و هذه الروايات رواها أيضاً أبو داود الطيالسيّ، و سعيد بن منصور في سننه، و الحاكم في مستدركه، كما في «كنز العمّال».
و ذكر في «المسند» أيضاً عن أبي واقد الليثيّ قال: كنّا نأتي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم إذا انزل عليه، فيحدّثنا. فقال لنا ذات يوم: إنّ الله عزّ و جلّ قال:
إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة و إيتاء الزكاة، و لو كان لا بن آدم واد لأحب أن يكون له ثان، و لو كان له واديان لأحب أن يكون لهما ثالثا، (ثَالِثٌ- ص) و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب- انتهى.
هَبْ أنّ المعرفة و الصدق لا يطالبان المحدّثين (و لا نقول: القُصّاص) و لا يسألانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون أنّه من القرآن
و لا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن و علوّ شأنه فيها و بين انحطاط هذه الفقرات. و لكن أ ليس للمعرفة أن تسألهم عن الغلط في قولهم لَا المُشْرِكَةُ؟ فهل يوصف الدين بأنّه مُشركة؟ و في قولهم: الحَنَفِيَّةُ (الحَنِيفِيَّةُ- ص) المُسْلِمَةُ و هل يوصف الدين أو الحنيفيّة بأنَّهُ مُسْلِمَة؟
و قولهم: إنَّ ذَاتَ الدِّينِ، و في قولهم: إنَّا أنْزَلْنَا المَالَ لإقَامِ الصَّلَاةِ، ما معنى إنزال المال؟! و ما معنى كونه لإقام الصلاة؟!
هذا و استمع لما يأتي، ففي الجزء السادس من «مسند أحمد» مسنداً عن مسروق قال: قلت لعائشة: هل كان رسول الله يقول شيئاً إذا دخل البيت؟ قالت: كان إذا دخل البيت تمثّل: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وادِياً ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا فَمَهُ إلَّا التُّرَابُ، وَ مَا جَعَلْنَا المَالَ إلَّا لإقَامِ الصَّلَاةِ وَ إيتاءِ الزَّكَاةِ، وَ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ.
و في الجزء السادس في إسناده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وادِياً مِن مَالٍ لَتَمَنَّى وادِيَيْنِ، وَ لَوْ أنَّ لَهُ وادِيَيْنِ لَتَمَنَّى ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ.
و بإسناده أيضاً قال: سُئل جابر: هَلْ قَالَ رَسُولُ اللهِ: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وادٍ مَنْ نَخْلٍ تَمَنَّى مِثْلَهُ حتى يَتَمَنَّى أوْدِيَةً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ؟ انتهى.
و هل تجد من الغريب أو الممتنع في العادة أن يكون لابن آدم وادٍ من مال أ وَ من نخلٍ؟! أو ليس في بني آدم في كلّ زمان من ملك وادياً من ذلك بل أودية. إذن فكيف يصحّ في الكلام المستقيم أن يقال: لَوْ كَانَ لِابنِ آدَمَ. لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ؟ أ وَ ليست (لو) للامتناع؟ يا للعجب مَن الرواة لهذه الروايات! أ لم يكونوا عرباً أو لهم إلمام باللغة العربيّة؟ نعم، يرتفع هذا الاعتراض بما رواه أحمد في مسنده عن ابن عبّاس: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ
وادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ، و كذا ما يأتي من رواية الترمذيّ عن أنس.
و أيضاً إن تمنّى الوادي و الواديين و الثلاث ليس بذنبٍ يحتاج إلى التوبة. إذن، فما هو وجه المناسبة بتعقيب ذلك بجملة وَ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ؟ و إن شئت أن تستزيد ممّا في هذه الرواية من التدافع و الاضطراب، فاستمع إلى ما رواه الحاكم في «المستدرك» أنّ أبا موسى الأشعريّ قال: كُنَّا نَقْرَا سُورَةً تُشْبِهُهَا بِالطُّولِ وَ الشِّدَّةِ بِبَرَاءَةٍ فَانسِيتُهَا غَيْرَ أنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثاً، وَ لَا يَمْلُا جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ.
و ذكر في «الدرّ المنثور» أنّه أخرجه جماعة عن أبي موسى. و أضف إلى ذلك في التدافع و التناقض ما أسنده في «الإتقان» عن أبي موسى أيضاً قال: نَزَلَتْ سُورَةٌ نَحْوَ بَرَاءَةٍ ثُمَّ رُفِعَتْ وَ حُفِظَ مِنْهَا أنَّ اللهَ سَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينِ بِأقْوَامٍ لَا خَلاقَ لَهُمْ، وَ لَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وادِيَيْنِ لَتَمَنَّى- إلى آخره.
و أسند الترمذيّ عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وادٍ مِنْ ذَهَبٍ لأحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ ثَانٍ، وَ لَا يَمْلُا فَاهُ إلَّا التُّرَابُ، وَ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن تَابَ. و ها أنت ترى روايات عائشة، و جابر، و أنس، و ابن عبّاس تجعل حديث الوادي و الواديين من قول رسول الله و تمثّله. فهي بسوقها تنفي كونه من القرآن الكريم. و مع ذلك فقد نسبت إلى كلام الرسول ما يأتي فيه بعض من الاعتراضات المتقدّمة ممّا يجب أن ينزّه عنه. ثمّ إنّ الاضطراب في متن الرواية يجعلها مهزلة.
الأمر الثالث: و ممّا ألصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت: كنّا نقرأ آية الرجم: الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. و في الرواية عن أبي ذرّ أنّ سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة أو هي أطول منها. و أنّ فيها أو في أواخرها آية الرجم و هي: الشيخ
و الشيخة فارجموهما البتة نكالا من الله و الله عزيز حكيم. و في رواية السيّاريّ من الشيعة عن أبي عبد الله بزيادة قوله: بِمَا قَضَيَا مِن الشَّهْوَةِ.
و في رواية «الموطّأ»، و «المستدرك»، و مسدّد، و ابن سعد عن عمر كما سيأتي: الشَّيْخُ وَ الشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا البَتَّةَ.
و في رواية أبي أمامة بن سهل أنّ خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه و آله آية الرجم: الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. و نحو ذلك رواية سعد بن عبد الله، و سليمان بن خالد من الشيعة عن أبي عبد الله عليه السلام.
و يَا لِلْعَجَبِ! كيف رضي هؤلاء المحدّثون لمجد القرآن و كرامته أن يلقى هذا الحكم الشديد على الشيخ و الشيخة بدون أن يذكر السبب، و هو زناهما أقلًّا، فضلًا عن شرط الإحصان؟! و إنّ قضاء الشهوة أعمّ من الجماع، و الجماع أعمّ من الزنا، و الزنا يكون كثيراً مع عدم الإحصان. سامحنا مَن يزعم أنّ قضاء الشهوة كناية عن الزنا، بل زد عليه كونه مع الإحصان، و لكنّا نقول: ما وجه دخول الفاء في قوله: «فَارْجُمُوهُمَا». و ليس هناك ما يصحّح دخولها من شرط أو نحوه لا ظاهر و لا على وجهٍ يصحّ تقديره. و إنّما دخلت الفاء على الخبر في قوله تعالى في سورة النور. الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا، لأنّ كلمة اجْلِدُوا بمنزلة الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ، و الزنا بمنزلة الشرط. و ليس الرجم جزاءً للشيخوخة و لا الشيخوخة سبباً له. نعم، الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب الرواية. و لعلّ في رواية سليمان بن خالد سقطاً بأن تكون صورة سؤاله: هَلْ يَقُولُونَ في القُرْآنِ رَجْمٌ؟!
و كيف يرضى لمجده و كرامته في هذا الحكم الشديد أن يقيّد الأمر بالشيخ و الشيخة مع إجماع الامّة على عمومه لكلّ زانٍ محصن بالغ الرشد
من ذَكَرٍ أو انثى؟! و كيف يطلق الحكم بالرجم مع إجماع الامّة على اشتراط الإحصان فيه؟! و فوق ذلك يؤكّد الإطلاق و يجعله كالنصّ على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذّة و الشهوة، الذي يشترك فيه المحصن و غير المحصن. فتبصّر بما سمعته من التدافع و التهافت و الخلل في رواية هذه المهزلة.
و أضف إلى ذلك ما رواه في «الموطّأ»، و «المستدرك»، و مسدّد، و ابن سعد من أنّ عمر قال قبل موته بأقلّ من عشرين يوماً فيما يزعمون من آية الرجم: لو لا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله، لكتبتها: الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة.
و أخرج الحاكم، و ابن جرير و صحّحه أيضاً أنّ عمر قال: لمّا نزلت، أتيتُ رسول الله صلى الله عليه و آله فقلتُ: أكْتُبُهَا؟ و في نسخة «كنز العمّال»: اكْتُبْنِيهَا! فكَأنّه كره ذلك. و قال عمر: أ لا ترى أنّ الشيخ إذا زنى و لم يُحصن، جُلِدَ. و أنّ الشابّ إذا زنى و قد أحصن، رُجِمَ؟! فالمحدّثون يروون أنّ عمر يذكر أنّ رسول الله كره أن تكتب آية منزلة، و عمر يذكر وجوه الخلل فيها. فيا للعجب منهم.
و في «الإتقان» أخرج النسائيّ أنّ مروان قال لزيد بن ثابت: أ لَا تَكْتُبُهَا في المُصْحَفِ؟!
قَالَ: أ لَا تَرَى أنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيّبَيْنِ يُرْجَمَانِ؟ وَ قَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: أنَا أكْفِيكُمْ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اكْتُبْ لي آيَةَ الرَّجْمِ! قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ! انتهى.
فزيد بن ثابت يعترض عليها. و لمّا رأوا التدافع بين قول عمر: اكْتُبهَا لي! و بين قول النبيّ: لَا تَسْتَطِيعُ، قالوا: أراد عمر بقوله ذلك إئْذَن لي بِكِتَابَتَهَا، و كأنّهم لا يعلمون أنّ عمر عربيّ لا يعبّر عن قوله: إئذن لي
بكتابها، بقوله: اكتبها لي، و مع ذلك لم يستطيعوا أن يذكروا وجهاً مقبولًا لقوله صلى الله عليه و آله: لَا تَسْتَطِيعُ.
و في رواية في «كنز العمّال» عن ابن الضريس، عن عمر، قلت لرسول الله: أكْتُبُهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ!
و أخرج ابن الضريس عن زيد بن أسلم أنّ عمر خطب الناس فَقَالَ: لَا تَشُكُّوا في الرَّجْمِ! فَإنَّهُ حَقٌّ. وَ لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أكْتُبَهُ في المُصْحَفِ، فَسَألْتُ ابَيّ بْنَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أ لَيْسَ أتَيْتَنِي وَ أنَا أسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللهِ. فَدَفَعْتَ في صَدْرِي، وَ قُلْتَ: كَيْفَ تُسْتَقْرِئُهُ آيَةَ الرَّجْمِ وَ هُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الحُمُرِ- انتهى.
فهذه الرواية تقول: إنّ عمر لم يرض بانزال شيء في الرجم. و ليت المحدّثين يفسّرون حاصل الجواب من ابيّ لعمر، و حاصل منع عمر لُابيّ عن استقرائها.
و أخرج الترمذيّ عن سعد بن المسيِّب، عن عمر قال: رَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ رَجَمَ أبُو بَكْرٍ، وَ رَجَمْتُ. وَ لَوْ لَا أنِّي أكْرَهُ أنْ أزِيدَ في كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْتُهُ في المُصْحَفِ.
فعمر يقول: إنّ كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب الله، و هو يكرهها. فقابل هذه الروايات الأربع إحداهنّ بالاخرى، و اعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية من المحدّثين. و إذا نظرتَ إلى الجزء الثالث من «كنز العمّال» ص ٩۰ و ٩۱، فإنّك تزداد بصيرة في الاضطراب و الخلل!
هذا و ممّا يصادم هذه الروايات و يكافحها ما روى من أنّ عليّاً عليه السلام لمّا جلد شَرَاحَةَ الهَمْدَانِيَّة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة قال: اجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللهِ وَ أرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِهِ. كما رواه أحمد، و البخاريّ، و النسائيّ، و عبد الرزّاق في «الجامع»، و الطحاويّ، و الحاكم في مستدركه،
و غيرهم. و رواه الشيعة عن عليّ عليه السلام مرسلًا. فعليّ عليه السلام يشهد بأنّ الرجم من السنّة، لا من الكتاب.
الأمر الرابع: ممّا ألصقوه بكرامة القرآن المجيد ما رواه في «الإتقان»، و «الدرّ المنثور» أنّه أخرج الطبرانيّ، و البيهقيّ، و ابن الضريس أنّ من القرآن سورتين. و قد سمّاهما الراغب في «المحاضرات» سورتي القنوت. و نسبوهما إلى تعليم عليّ عليه السلام، و قنوت عمر، و مصحفي ابن عبّاس، و زيد بن ثابت، و قراءة ابيّ، و أبي موسى.
و الأولى منهما: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اللهُمَّ إنَّا نَسْتِعِينُكَ وَ نَسْتَغْفِرُكَ، وَ نُثْنِي عَلَيْكَ الخَيْرَ وَ لَا نَكْفُرُكَ، وَ نَخْلَعُ وَ نَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ- انتهى.
لا نقول لهذا الراوي: إنّ هذا الكلام لا يشبه بلاغة القرآن و لا سوقه، فإنّا نسامحه في معرفة ذلك، و لكنّا نقول له: كيف يصحّ قوله: يَفْجُرُكَ؟! و كيف تتعدّى كلمة يَفْجُرُ؟!
و أيضاً إنّ الخلع يناسب الأوثان، إذن فما ذا يكون المعنى؟! و بما ذا يرتفع الغلط؟!
و الثانية منهما: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. اللهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَ لَكَ نُصَلِّي وَ نَسْجُدُ. وَ إلَيْكَ نَسْعَى وَ نَحْفِدُ. نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَ نَخْشَى عَذَابَكَ الجِدَّ، إنَّ عَذَابَكَ بِالكَافِرِينَ مُلْحَقٌ- انتهى.
و لنسامح الراوي أيضاً فيما سامحناه فيه في الرواية الأولى؛ و لكنّا نقول له: ما معنى الجدّ هنا؟! أ هو العظمة أو الغنى أو ضدّ الهزل أو هو حاجة السجع؟!
نعم، في رواية عبيد نَخْشى نِقْمَتَكَ. و في رواية عبد الله نَخْشَى عَذَابَكَ. و ما هي النكتة في التعبير بقوله: مُلْحَقٌ؟! و ما هو وجه المناسبة
و صحّة التعليل لخوف المؤمن من عذاب الله بأنّ عذاب الله بالكافرين ملحق؟ بل إنّ هذه العبارة تناسب التعليل، لأن لا يخاف المؤمن من عذاب الله، لأنّ عذابه بالكافرين ملحق.
الأمر الخامس: و ممّا ألصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في «فصل الخطاب» عن كتاب «دبستان المذاهب» أنّه نسب إلى الشيعة أنّهم يقولون: إنّ إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل عليّ عليه السلام و أهل بيته عليهم السلام. منها: هذه السورة و ذكر كلاماً يضاهي خمساً و عشرين آية في الفواصل قد لفّق من فقرات القرآن الكريم على اسلوب آياته. فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلًا عن ركاكة اسلوبه الملفّق!
فمن الغلط: وَ اصْطَفَى مَنِ المَلَائِكَةِ وَ جَعَلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ اولَئِكَ في خَلْقِهِ. ما ذا اصطفى من الملائكة؟! و ما ذا جعل من المؤمنين؟! و ما معنى اولئك في خلقه؟!
و منه: مَثَلُ الَّذِينَ يُوفُونَ بَعَهدِكَ إنِّي جَزَيْتُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ليت شعري، ما هو مثلهم؟! و منه: وَ لَقَدْ أرْسَلْنَا موسى وَ هَارُونَ بِمَا اسْتُخْلِفَ فَبَغَوا هَارُونَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.
ما معنى هذه الدمدمة؟! و ما معنى: بما استخلف؟! و ما معنى: فبغوا هارون؟! و لمن يعود الضمير في بغوا؟! و لمن الأمر بالصبر الجميل؟!
و من ذلك: وَ لَقَدْ آتَيْنَا بِكَ الحُكْمِ كَالَّذِي مِن قَبْلِكَ مِنَ المُرْسَلِينَ وَ جَعَلْنَا لَكَ مِنْهُمْ وَ صِيَّاً لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
ما معنى: آتينا بك الحكم؟! و لمن يرجع الضمير الذي في مِنْهُمْ وَ لَعَلَّهُمْ؟! هل المرجع للضمير هو في قلب الشاعر؟! و ما هو وجه المناسبة في لعلّهم يرجعون؟!
و من ذلك: وَ إنَّ عَلِيَّاً قَانِتٌ في اللَّيْلِ سَاجِدٌ يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَ يَرْجُو
ثَوابَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ هُمْ بِعَذَابِي يَعْلَمُونَ.
قل: ما محلّ قوله: هل يستوي الذين ظلموا؟! و ما هي المناسبة له في قوله: و هم بعذابي يعلمون؟! و لعلّ هذا الملفِّق تختلِج في ذهنه الآيتان الحادية عشرة و الثانية عشرة من سورة الزمر. و في آخرها: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. فأراد الملفِّق أن يلفّق منهما شيئاً بعدم معرفته، فقال في آخر ما لفّق: هل يستوي الذين ظلموا؟! و لم يفهم أنّه جيء بالاستفهام الإنكاريّ في الآيتين، لأنّه ذكر فيهما: الذي جَعَلَ لِلَّهِ أنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، و: القَانِتُ آنَاءَ اللَّيْلِ يَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، فهما لا يستويان، و لا يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون. هذا بعض الكلام في هذه المهزلة.
و إنّ صاحب «فصل الخطاب» من المحدّثين المكثرين المجدِّين في التتبّع للشواذّ. و إنّه ليعدّ أمثال هذا المنقول في «دبستان المذاهب» ضالّته المنشودة. و مع ذلك قال: إنّه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب «دبستان المذاهب» من أين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة؟! و في أيّ كتاب لهم وجدها؟! أ فهكذا يكون النقل في الكتب، و لكن لا عجب (شِنْشِنَةٌ أعْرِفُهَا مِنْ أخْزَمِ)۱ فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا
إن بنيّ ضَرَّجوني بالدم | *** | شنشنة أعرفها من أخزم |
النقل الكاذب كما في كتاب «الملل و النِّحل» للشهرستانيّ، و مقدّمة ابن خلدون، و غير ذلك ممّا كتبه بعض الناس في هذه السنين. وَ اللهُ المُسْتَعَانُ.
ثمّ بدأ المرحوم آية الله البلاغيّ موضوعاً تحت عنوان: قَول الإماميّة بِعَدَمِ النَّقِيصَةَ في القُرْآنِ. و بعد أن نقل كلمات عدد من أعلام الشيعة كالشيخ الصدوق في «الاعتقادات»، و الشيخ المفيد في «أوائل المقالات»، و السيّد المرتضى، و الشيخ الطوسيّ، و الشيخ الطبرسيّ، و الشيخ كاشف الغطاء، قال: و عن السيّد القاضي نور الله في كتابه «مصائب النواصب»: ما نُسب إلى الشيعة الإماميّة من وقوع التغيير في القرآن ليس ممّا قال به جمهور الإماميّة إنّما قَالَ بِهِ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ لَا اعْتِدَادَ بِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
و عن الشيخ البهائيّ: و أيضاً اختلفوا في وقوع الزيادة و النقصان فيه. و الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصاناً. و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
و ما اشتهر بين الناس من إسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك في علي، و غير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء. و عن المقدّس البغداديّ في «شرح الوافية»: و إنّما الكلام في النقيصة. و المعروف بين أصحابنا حتى حكى عليه الإجماع عدم النقيصة أيضاً.
و عنه أيضاً، عن الشيخ على بن عبد العالي أنّه صنّف في نفي النقيصة رسالة مستقلّة، و ذكر كلام الصدوق المتقدّم. ثمّ اعترض بما يدلّ على النقيصة من الأحاديث. و أجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب و السُّنّة المتواترة أو الإجماع. و لم يمكن تأويله و لا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه.
هذا و أنّ المحدِّث المعاصر جهد في كتاب «فصل الخطاب» في جمع
الروايات التي استدلّ بها على النقيصة؛ و كثر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل عن الأئمّة عليهم السلام في الكتب كمراسيل العيّاشيّ، و فرات، و غيرها. مع أنّ المتتبّع المحقّق يجزم بأنّ هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد.
و في جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسّر احتمال صدقها. و منها ما هو مختلف باختلاف يؤول به إلى التنافي و التعارض. و هذا المختصر لا يسع بيان النحوين الأخيرين. هذا مع أنّ القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار. و قد وصف علماء الرجال كلًّا منهم إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية. و إمّا بأنّه مضطرب الحديث و المذهب يُعرف حديثه و يُنكر و يروي عن الضعفاء، و إمّا بأنّه كذّاب متّهم لا أستحلّ أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً، و أنّه معروف بالوقف و أشدّ الناس عداوة للرضا عليه السلام. و إمّا بأنّه كان غالياً كذّاباً، و إمّا بأنّه ضعيف لا يُلتفت إليه و لا يُعوّل عليه و من الكذّابين، و إمّا بأنّه فاسد الرواية يُرمَى بالغلوّ. و من الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئاً.
و لو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الكبير، لوجب من دلالة الروايات المتعدّدة أن ننزلها على أنّ مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يُعلم يقيناً شمول عموماتها له، لأنّه أظهر الأفراد و أحقّها بحكم العامّ. أو ما كان مراداً بخصوصه و بالنصّ عليه في ضمن العموم عند التنزيل. أو ما كان هو المورد للنزول. أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم.
و على أحد الوجوه الثلاثة الأخيرة يُحمل ما ورد فيها أنّه تنزيل و أنّه نزل به جبريل كما يشهد به نفس الجمع بين الروايات. كما يُحمل التحريف فيها على تحريف المعنى.
و يشهد لذلك مكاتبة أبي جعفر عليه السلام لسعد الخير كما في روضة الكافي. ففيها: وَ كَانَ مِنْ نَبْذِهِمُ الكِتَابَ أنْ أقَامُوا حُرُوفَهُ وَ حَرَّفُوا حُدُودَهُ. و كما يحمل ما فيها من أنّه كان في مصحف أمير المؤمنين عليه السلام أو ابن مسعود. و ينزل على أنّه كان فيه بعنوان التفسير و التأويل.
و ممّا يشهد لذلك قول أمير المؤمنين عليه السلام للزنديق، كما في «نهج البلاغة» و غيره: وَ لَقَدْ جِئْتُهُمْ بِالكِتَابِ كُمَّلًا مُشْتَمِلًا عَلَى التَّنْزِيلِ وَ التَّأويلِ.۱
و ممّا أشرنا إليه من الروايات أنّ المحدِّث المعاصر أورد في روايات سورة المعارج أربع روايات ذكرت أنّ كلمة (بِوَلَايَةِ عَلِيّ) مثبتة في مصحف فاطمة عليها السلام. و هكذا هي في مصحف فاطمة عليها السلام. و لا يخفى أنّ مصحفها عليها السلام إنّما هو كتاب تحديث بأسرار العلم. كما يُعرف ذلك من عدّة روايات في «اصول الكافي» في باب الصحيفة و المصحف و الجامعة. و فيها قول الصادق عليه السلام: مَا فِيهِ مِن قُرْآنِكُم حَرْفٌ واحِدٌ، وَ مَا أزْعُمُ أنَّ فِيهِ قُرْآنا، كما في الصحيح و الحَسَن (الروايات الصحيحة و الحسنة).
و منها ما في «الكافي» في باب أنّ الأئمّة عليهم السلام شهداء على الناس في صحيحة بُريد عن أبي جعفر عليه السلام، و روايته عن أبي عبد الله عليه السلام من قولهما عليهما السلام في قوله تعالى: [وَ كَذلِكَ] جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً: نحن الامّة الوسطى.
إذن، فما روى مرسلًا في تفسيري النعمان و سعد من أنّ الآية أئِمَّةً وَسَطاً لا بدّ من حمله على التفسير، و أنّ التحريف إنّما هو للمعنى.
و منها: كما رواه في «الكافي» في باب أنّ الأئمّة هم الهداة، عن الفضيل: سَألْتُ أبَا عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عن قول الله تعالى: وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ. فقال: كُلُّ إمَامٍ هُوَ هَادٍ لِلْقَرْنِ الذي هُوَ فِيهِم.
و رواية بُريد عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ. فقال: رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ المُنْذِرُ، وَ لِكُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. وَ الهُدَاةُ مِنْ بَعْدِهِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ الأوْصِيَاءُ واحِداً بَعْدَ واحِدٍ.
و نحوها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام، و رواية عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر عليه السلام: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ المُنْذِرُ وَ عَلَيّ الهَادِي.
و بمضمونها جاءت روايات الجمهور مسندة عن طريق أبي هريرة، و أبي برزة، و ابن عبّاس، و طريق أمير المؤمنين عليه السلام. و صحّحه الحاكم في مستدركه.
و إذا أحطتَ خبراً بهذا، فهل يروق لك التجاء «فصل الخطاب» في تلفيقه و تكثيره إلى النقل عن بعض التفاسير المتأخّرة، و عن الداماد في حاشية «القبسات» من قوله: إنّ الأحاديث من طرقنا و طرقهم متضافرة بأنّه كان التنزيل: إنما أنت منذر العباد و علي لكل قوم هاد؟!- انتهى.
هذا الشعر الذي ينشده المدّاحون و لا يرضى العارف باللّغة العربيّة أن يُنسب إليه نظمه و لا أظنّك تجد من طرقنا و طرق أهل السُّنَّة غير ما سمعته أوّلًا و هو غير ما نقله فاعتبر.
و منها: رواية «الكافي» عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قوله عزّ و جلّ: رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. يَعْنُونَ بِوَلَايَةِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. و هذا صريح في كونه تفسيراً. فهي حاكمة ببيانها على ضعيفتَي أبي بصير
في ظهورهما بأنّ لفظ «بِوَلَايَةِ عَلِيّ» محذوف من الآية. و يسري البيان من رواية أبي حمزة إلى أمثال ذلك.
و منها: رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى في سورة البقرة: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ «مُخْرَجَاتٍ». و لا أظنّ إلّا أنّك تقول: إنّ إلحاق الإمام عليه السلام لكلمة مخرجات إنّما هو تفسير للمراد من كلمة إخْراج، لا بيان للنقيصة من القرآن الكريم، و لكنّ «فصل الخطاب» أورده بعنوان البيان للنقيصة. فاعتبر!
و منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام كما في «الكافي» في أوّل باب منع الزكاة. و فيها: ثمّ قال عليه السلام: هو قول الله عزّ و جلّ: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ»، يَعْنِي مَا بَخِلُوا بِهِ مِنَ الزَّكَاةِ.
فالرواية كالصريحة بأنّ لفظ مِنَ الزَّكَاةِ. إنّما هو تفسير من الإمام، لا من القرآن. فهي حاكمة ببيانها على مرسلة ابن أبي عمير عمّن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ و جلّ: سيطوقون ما بخلوا به من الزكاة يوم القيامة، و صارفة لها عن كونها بياناً للنقيصة.
و منها: صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام كما في «الكافي» في باب نصّ الله و رسوله على الأئمّة واحداً بعد واحدٍ. و فيها: فقلتُ له: إنّ الناس يقولون: فما له لم يُسَمّ عليّاً عليه السلام و أهل بيته في كتاب الله؟! قال: فقولوا لهم: إنّ رسول الله نزلت عليه الصلاة و لم يُسَمّ الله لهم ثلاثاً و لا أربعاً حتى كان رسول الله صلى الله عليه و آله هو الذي فَسَّر لهم ذلك. و كذا قال عليه السلام في الزكاة و الحجّ. و مقتضى الرواية تصديق الإمام عليه السلام لقول الناس: إنّ الله لم يُسَمّ عليّاً في القرآن، و إنّ التسمية كانت من تفسير رسول الله صلى الله عليه و آله في حديث مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ،
و حديث الثَّقَلَينِ.
و يشهد لك ما رواه في «الكافي» أيضاً في هذا الباب بعد ذلك بيسير في صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر عليه السلام، و رواية أبي الجارود عنه عليه السلام أيضاً، و رواية أبي الديلم عن أبي عبد الله عليه السلام أنّهما تلوا في مقام الاحتجاج و عدم التقيّة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، و لم يذكرا في تلاوة الآية كلمة في عَلِيّ. و هذا يدلّ على أنّ ما روى في ذكر اسم عليّ عليه السلام في هذا المقام، بل و فى غيره إنّما هو تفسير و بيان للمراد في وحي القرآن بكون التفسير و البيان جاء به جبرائيل من عند الله بعنوان الوحي المطلق لا القرآن، وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.
و منها: رواية الفضيل عن أبي الحسن الماضي عليه السلام في باب «النُّكَتُ۱ مِنَ التَّنْزِيلِ في الوَلَايَةِ» من «الكافي» قال: قلتُ: هَذَا الذي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ؟! قال: يعني أمير المؤمنين عليه السلام. قلتُ: تنزيلٌ؟! قال عليه السلام: نعم! فإنّه عليه السلام ذكر أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «يعني» بعنوان التفسير و بيان المراد و المشار إليه في قوله تعالى: هَذَا. فقوله في الجواب: نعم، دليل على أنّ ما كان مراداً بعينه في وحي القرآن يسمّونه عليهم السلام: تنزيلًا.
فتكون هذه الرواية و أمثالها قاطعة لتشبّثات «فصل الخطاب» بما حشّده من الروايات التي عرفت حالها إجمالًا. و إلى ما ذكرناه و غيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قُدّست أسرارهم.
فإن قيل: إنّ هذه الرواية ضعيفة. و كذا جملة من الروايات المتقدّمة!
قلنا: إنّ جُلَّ ما حشّده «فصل الخطاب» من الروايات هو مثل هذه الرواية و أشدّ منها ضعفاً كما أشرنا إليه في وصف رواتها. على أنّ ما ذكرناه من الصحاح فيه كفاية لُاولي الألباب.۱
كان ما تقدّم نصّ كلام هذا العالم المتتبّع المحقّق الخبير حول عدم تحريف القرآن. و قد لوحظ كم ألمّ رحمه الله بأطراف الموضوع بنحو شامل و كامل، و دحض الشبهات المارّة حوله بفكر راسخ قويم! يضاف إلى ذلك أنّه لم يقطع شوطاً في حماية معقل التشيّع بالاعتقاد بصيانة الكتاب الإلهيّ. على أتمّ نحو و أكمله فحسب، بل إنّه- بذكره الروايات المأثورة في المصادر المهمّة لأهل السّنة و الجماعة- بدأ حملته عليهم و أبطل تلك الروايات بوصفها ملصقة بكرامة كلام الله المجيد، و ذلك باسلوب رائق. و ليت للشيعة في كلّ عصر رجلًا واحداً- في الأقلّ- كذا العالم المجتهد الفقيه البصير الحميم الشفيق المتحرّر من سلطان هواه، فتعالج المشاكل جميعها بفضل قوّة إيمانه و علمه و درايته!
الدَّرسُ الأوَّلُ بَعْدَ المِائَتَيْنِ إلى الدَّرْسِ العَاشِرِ بَعْدَ المِائَتَيْنِ تَقَدُّمُ الشِّيعَةِ في جَمِيعِ العُلُومِ، وَ الكُتُبُ التي صَنَّفُوهَا
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ، وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.۱
تفسير آية: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ
قال سماحة استاذنا المكرّم آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه في تفسير هذه الآية: القلم معروف، و السطر (بالفتح فالسكون) و ربّما يُستعمل بفتحتين- كما في «المفردات»- الصف من الكتابة؛ و من الشجر، المغروس؛ و من القوم، الوقوف. و فُلَانٌ سَطَرَ كذا: كتب سطراً سطراً.
أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به. و ظاهر السياق أنّ المراد بذلك مطلق القلم و مطلق ما يسطرون به، و هو المكتوب. فإنّ القلم و ما يُسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهيّة التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار و المعاني المُستكنّة في الضمائر؛ و به يتيسّر للإنسان أن يستحضر كلّ ما ضرب مرور الزمان أو بُعد المكان دونه
حجاباً.
و قد امتنّ الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام: خُلِقَ الْإِنْسانُ عَلَّمَهُ الْبَيانَ،۱ و قال في القلم: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.٢
فقسمه تعالى بالقلم و ما يسطرون قَسَمٌ بالنِّعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنّه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض، و الشمس، و القمر، و الليل، و النهار إلى غير ذلك، حتى التين و الزيتون.
و قيل: «ما» في قوله: وَ ما يَسْطُرُونَ مصدريّة. و المراد به الكتابة.
و قيل: المراد بالقلم، القلم الأعلى الذي في الحديث أنّه أوّل ما خلق الله. وَ ما يَسْطُرُونَ ما يسطره الحَفَظة و الكرام الكاتبون. و احتُمِل أيضاً أن يكون الجمع في يَسْطُرُونَ للتعظيم لا للتكثير، و هو كما ترى. و احتُمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه، و هو اللَّوْحُ المَحْفُوظ. و احتُمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم، و هي احتمالات واهية.
قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، مُقسم عليه، و الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم. و الباء في بنعمة للسببيّة أو المصاحبة. أي: ما أنت بمجنون بسبب النعمة- أو مع النعمة- التي أنعمها عليك ربّك!
و السياق يؤيِّد أنّ المراد بهذه النعمة، نعمة النبوّة. فإنّ دليل النبوّة يدفع عن النبيّ كلّ اختلال عقليّ حتى تستقيم الهداية الإلهيّة اللازمة في نظام الحياة الإنسانيّة. و الآية تردّ ما رموه به من الجنون، كما يُحكى عنهم
في آخر السورة: وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ.
قوله تعالى: وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. الممنون من المنّ بمعنى القطع. يقال: مَنَّهُ السَّيْرُ مَنَّاً إذا قَطَعَهُ وَ أضْعَفَهُ، لا من المنّة بمعنى تثقيل النِّعمة قولًا.
و المراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم، و أنّ له على تحمّل رسالة الله أجراً غير مقطوع و ليس يذهب سدى ... .
قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، الخُلُق هو الملكة النفسانيّة التي تصدر عنها الأفعال بسهولة. و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفّة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجُبن لكنّه إذا اطلق فُهم منه الخُلُق الحَسَن ... .
و قال في البحث الروائيّ: في «معاني الأخبار» بإسناده عن سُفيان بن سعيد الثوريّ، عن الصادق عليه السلام في تفسير الحروف المقطّعة في القرآن قال: و أمّا «ن» فهو نهر في الجنّة، قال الله عزّ و جلّ: اجمد! فجمد فصار مداداً، ثمّ قال للقلم: اكتب! فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة. فالمداد مداد من نور، و القلم قلم من نور، و اللوح لوح من نور.
قال سُفيان: فقلت له: يا ابن رسول الله! بيِّن أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان! و علّمني ممّا علّمك الله! فقال: يا بن سعيد! لو لا أنّك أهل الجواب ما أجبتُك! فنون مَلَكٌ يُؤدّي إلى القلم و هو مَلَك. و القلم يؤدّي إلى اللوح و هو مَلَك. و اللوح يؤدّي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدّي إلى جبرائيل، و جبرائيل يؤدّي إلى الأنبياء و الرُّسُل. قال: ثمّ قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك (من الحكومة الجائرة
لجلوسك هنا).۱
ظهر من كلام سماحة الاستاذ أنّ المراد بالقلم أنواعه جميعها؛ و القصد من المسطورات ضروبها كلّها، فلا قلم خاصّ و لا كتابة خاصّة هنا.
و لمّا كنّا نعلم أوّلًا أنّ الله أقسم بالقلم و الكتابة، و ثانياً أنّ المُقسَم عليه الذي جاء القسم لتوطيده و تعزيز ثباته هو استقامة عقل النبيّ الأكرم و نعمة نبوّته، و جزاؤه الأبديّ، و خُلقه العظيم و أخلاقه الجليلة، فلهذا نجد أنّ للقلم و الكتابة مهما كانا و كيفما تحقّقا أهمّيّة عظيمة و قيمة رفيعة. ذلك أنّ الله أراد بهذين الأمرين المهمّين أن يثبت لنبيّه المقامات و الدرجات و الفيض الأزليّ الأبديّ السرمديّ. و على هذا نلاحظ أنّ الله تقدّست أسماؤه أولى اهتماماً كبيراً بهما في هذه الآية بنحو مطلق.
و ما هذه العلوم القريبة المنال كلّها إلّا بفضل القلم و الكتابة. و لو لا هما لكان عالمنا هذا أسير الظلمات و الجهل و عمى البصيرة، و لغرق في الأمواج المرعبة الهادرة و اللجج الغامرة و الزوابع الجارفة.
و إذا أنعمنا النظر نجد أنّنا إذا قدّرنا علومنا الحاليّة المودعة في ذخائر الكتب و المكتبات في العالم و المدوّنة بالقلم، و قسنا وجود كلٍّ منها و عدمه على حِدة، فإنّنا نلمس هذه الموهبة العظيمة. وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ إذ خلق الإنسان، و زيّنه بقوّة العلم بواسطه القلم و الكتابة. و جعل العلوم المعنويّة و الكتب السماويّة و القرآن الكريم و «نهج البلاغة» و «الصحيفة السجّاديّة» و الكتب الفقهيّة و التفسيريّة و الحكميّة و العرفانيّة مع العلوم الطبيعيّة الواقعة في طريق الكمال و مقدّمته المتحقّقة كلّها بواسطة القلم و الكتابة في مسير
كمال الإنسان ليرفعه من أسفل السافلين إلى مقام «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ»،۱ فَشُكْراً لَهُ ثُمَّ شُكراً.
مصحف على عليه السلام
علمنا في البحث السابق أنّ أوّل كتاب دوّن في الإسلام هو مصحف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات الله و ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين. و كان مصحفاً تامّاً شاملًا، إذ ضمّ أسباب النزول، و شأن ورود الآيات، و ترتيب السور و الآيات حسب النزول، و بيان الناسخ و المنسوخ و المطلق و المقيّد، و بيان المحكمات و المتشابهات، و التأويل و التفسير و غير ذلك من جوانب عديدة. و هذا المصحف هو القرآن الذي قال فيه ابن سيرين: لو أصبت ذلك الكتاب، كان فيه العلم! و له في التواريخ و الأحاديث و التفاسير أسماء هي: مُصحف «عليّ»، «صحيفة عليّ»، «الجَامِعَة»، «كتاب عليّ»، «الصحيفة العتيقة».
قال فقيه أهل البيت آية الله المرحوم السيّد حسين الطباطبائيّ البروجرديّ رضي الله عنه في مقدّمته البديعة التي خطّها قلمه المبارك مصدِّراً بها كتابه النفيس الثمين: «جامع أحاديث الشيعة في أحكام الشريعة»، و هو يعرض الأحاديث المأثورة في علوم أهل البيت و الروايات الواردة بشأنهم: و ما ورد أنّ الأئمّة عليهم الصلاة و السلام عالمون بالأحكام من الأحاديث المتواترة من طرق العامّة و الخاصّة ... و منها ما ورد في أنّ حديثهم حديث النبيّ صلى الله عليه و آله، و أنّ عندهم «الصحيفة الجامعة»
التي هي إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و خطّ عليّ عليه السلام.۱
و ذكر المرحوم المجلسيّ رضي الله عنه (جدّنا الأعلى من جهة امّ والدي) في كتاب «بحار الأنوار» الروايات الواردة في هذا الباب مفصّلًا. و أوضح بعض المواضع أحياناً و شرحها باسلوبه. و يبدو من تضاعيف كلامه أنّ لأهل البيت عليهم السلام كتباً اخرى غير «الجامعة» و هي: «الجَفْر»، و «مُصْحَف فاطمة»، و كتاب «مسائل الديات» (الذي كان معلّقاً في ذؤابة سيف أمير المؤمنين عليه السلام)، و «لوح فاطمة». و نتطرّق فيما يأتي إلى بيان كلّ واحد منها بحول الله تعالى و قوّته:
الروايات الواردة في صفة كتاب «الجامعة»
۱- «الجامعة»
وردت روايات كثيرة حول هذا الكتاب و كيفيّة تدوينه و محتوياته. و نقرأ في «بحار الأنوار» اثنتين و عشرين رواية تحدِّد فقط طوله البالغ سبعين ذراعاً،٢ ما عدا تلك الروايات التي تتحدَّث عن خصائصه، بَيْدَ أنّها تخلو من عبارة سبعين ذراعاً. و نقل المرحوم المجلسيّ هذه الروايات من كتب معتبرة كـ «الاختصاص»، و «الإرشاد»، و «الاحتجاج»، و «الأمالي» و بخاصّة من كتاب «بصائر الدرجات». و من ذلك: ورد في «الإرشاد» للشيخ المفيد، و «الاحتجاج» للشيخ الطبرسيّ أنّ الإمام الصادق عليه السلام طالما كان يقول:
عِلْمُنَا غَابرٌ، وَ مَزْبُورٌ، وَ نَكْتٌ في القُلُوبِ، وَ نَقْرٌ في الأسْمَاعِ وَ إنَّ عِنْدَنا الجَفْرَ الأحْمَرَ وَ الأبْيَضَ، وَ مُصْحَفَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَ عِنْدَنَا
الجَامِعَةُ فِيهَا جَمِيعُ مَا تَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ.
فسئل عن تفسير هذا الكلام، فقال: أمّا الغابر فالعلم بما يكون، و أمّا المزبور فالعلم بما كان، و أمّا النكت في القلوب فهو الإلهام، و أمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة عليهم السلام نسمع كلامهم و لا نرى أشخاصهم. و أمّا الجفر الأحمر فوعاء فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. و لن يُخرج حتى يقوم قائمنا أهل البيت. و أمّا الجفر الأبيض فوعاء فيه توراة موسى و انجيل عيسى و زبور داود و كتب الله الأولى.
وَ أمَّا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَفِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ حَادِثٍ وَ أسْمَاءُ مَنْ يَمْلِكُ إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَ أمَّا «الجَامِعَةُ» فَهُوَ كِتَابٌ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعاً إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَ خَطُّ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ، فِيهِ وَ اللهِ جَمِيعُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ حتى أنَّ فِيهِ أرْشَ الخَدْش وَ الجَلْدَةَ وَ نِصْفَ الجَلْدَةِ.۱
و في «بصائر الدرجات» عن محمّد بن عبد الحميد، عن يونس بن يعقوب، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: قلتُ: إنّ الناس يذكرون أنّ عندكم صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها ما يحتاجون إليه الناس. وَ أنَّ هَذَا هُوَ العِلْمُ. فقال أبو عبد الله عليه السلام: لَيْسَ هَذَا هُوَ العِلْمَ، إنَّمَا هُوَ أثَرٌ عَنْ رَسولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. إنَّ العِلْمَ الذي
يَحْدُثُ في كُلِّ يَوْمٍ وَ لَيْلَةٍ.
و فيه أيضاً عن إبراهيم بن هاشم، عن البرقيّ، عن ابن سنان أو غيره، عن بشر، عن حمران بن أعين قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: عندكم التوراة و الإنجيل و الزبور و ما في الصحف الأولى صحف إبراهيم و موسى؟! قال: نعم! قلتُ: إنَّ هَذَا لَهُوَ العِلْمُ الأكْبَرُ. قال: يَا حُمْرَانُ! لَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ مَا كَانَ، وَ لَكِنْ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ عِلْمُهُ عِنْدَنَا أعْظَمُ.۱
تفسير العلّامة المجلسيّ لعلم الائمّة الاعظم
و يوضّح المجلسيّ هنا هذه الرواية رافعاً الإشكال الذي قد يُثار عليها، تحت عنوان: بيان، يقول فيه:
بَيَانٌ: لَوْ لَمْ يَكُنْ، أي: لو لم يكن لنا علم غير العلم الذي كان للسابقين كان ما ذكر العلم الأكبر، و لكن ما يحدث من العلم عندنا أكبر.
و يقول: أقول: هاهنا إشكال قويّ. و هو أنّه لمّا دلّت الأخبار الكثيرة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يعلم علم ما كان و ما يكون و جميع الشرائع و الأحكام و قد علّم جميع ذلك عليّاً عليه السلام. و علّم عليّ الحسن عليه السلام، و هكذا. فأيّ شيء يبقى حتى يحدث لهم بالليل و النهار؟!
و يمكن أن يجاب عنه بوجوه:
الأوّل: ما قيل: إنّ العلم ليس يحصل بالسماع و قراءة الكتب و حفظها؛ فإنّ ذلك تقليد. و إنّما العلم ما يفيض من عند الله سبحانه على قلب المؤمن يوماً فيوماً و ساعةً فساعةً، فيكشف به من الحقائق ما تطمئنّ به النفس، و ينشرح له الصدر، و يتنوّر به القلب. و الحاصل أنّ ذلك مؤكّد
و مقرّر لما عُلم سابقاً يوجب مزيد الإيمان و اليقين و الكرامة و الشرف بإفاضة العلم عليهم بغير واسطة المرسلين.
الثاني: أن يفيض عليهم عليهم السلام تفاصيل عندهم مجملاتها و إن أمكنهم استخراج التفاصيل ممّا عندهم من اصول العلم و موادّه.
الثالث: أن يكون مبنيّاً على البداء فإنّ فيما علموا سابقاً ما يحتمل البداء و التغيير. فإذا الهموا بما غيّر من ذلك بعد الإفاضة على أرواح مَن تقدّم من الحجج أو أكّد ما علموا بأنّه حتميّ لا يقبل التغيير، كان ذلك أقوى علومهم و أشرفها.
الرابع: كما هو أقوى عندي و هو أنّهم عليهم السلام في النشأتين سابقاً على الحياة البدنيّة، و لاحقاً بعد وفاتهم يعرجون في المعارف الربّانيّة غير المتناهية على مدارج الكمال، إذ لا غاية لعرفانه تعالى و قربه. و يظهر ذلك من كثير من الأخبار.
و ظاهر أنّهم إذا تعلّموا في بدو إمامتهم علماً لا يقفون في تلك المرتبة و يحصل لهم بسبب مزيد القُرب و الطاعات زوائد العلم و الحكم و الترقيات في معرفة الربّ تعالى.
و كيف لا يحصل لهم و يحصل ذلك لسائر الخلق مع نقص قابليّتهم و استعدادهم؟ فهم عليهم السلام أولى بذلك و أحرى.
و لعلّ هذا أحد وجوه استغفارهم و توبتهم في كلّ يوم سبعين مرّةً و أكثر، إذ عند عروجهم إلى كلّ درجة رفيعة من درجات العرفان يرون أنّهم كانوا في المرتبة السابقة في النقصان فيستغفرون منها و يتوبون إليه تعالى.
و هذه جملة ما حلّ في حلّ هذا الإشكال ببالي. و أستغفر الله ممّا
لا يرتضيه من قولي و فعالي.۱
أقول: هذا الوجه رصين جدّاً، و لكن المرحوم جدّنا ظنّ أنّ الحياة السابقة و اللاحقة على هذا العالم سابقة و لاحقة زمنيّاً؛ و جعل للأئمّة عليهم السلام الذين هم في أوّل الخلق و آخره و بهم بُدئ و يُختَم- حسب هذه الأخبار- في معنى الأزل و الأبد مقامات و درجات غير متناهية من العرفان؛ مع أنّ جميع تلك الدرجات و المقامات تحصل في هذه النشأة المادّيّة و عالم الطبع وفقاً للحركة الجوهريّة النَّفْسُ جِسْمَانِيَّةُ الحُدُوثِ رُوحانِيَّةُ البَقَاءِ، و الآية المباركة ثُمَّ أنشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ. و الأبد و الأزل رأسا هذه السلسلة في المعارج و المدارج عرضيّان لا طوليّان. و لا ينافي طيّ هذه العروج في هذه النشأة جسمانيّة الحدوث. فَشَكَرَ اللهُ سَعْيَهُ وَ أجْزَلَ ثَوابَهُ.
روايات «بصائر الدرجات» في صفة «الجامعة»
و عن «بصائر الدرجات» أيضاً، عن عبد الله بن جعفر، عن محمّد بن عيسى، عن إسماعيل بن سهل، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن سليمان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
إن في صَحِيفَةٍ مِنَ الحُدُودِ ثُلْثَ جَلْدَةٍ؛ مَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ حَدُّ جَلْدَةٍ.٢
و عنه أيضاً، عن الحسن بن عليّ بن النعمان، عن أبيه عليّ بن النعمان، عن بكر بن كرب قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام فسمعناه يقول:
أمَا وَ اللهِ إنَّ عِنْدَنَا مَا لَا نَحْتَاجُ إلَى النَّاسِ، وَ إنَّ النَّاسَ لَيَحْتَاجُونَ إلَيْنَا. إنَّ عِنْدَنَا الصَّحِيفَةَ سَبْعُونَ ذِراعاً بِخَطِّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ إمْلَاءِ
رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِمَا وَ على أوْلَادِهِمَا فِيهَا مِنْ كُلِّ حَلَالٍ وَ حَرَامٍ. إنَّكُمْ لَتَأتُونَنَا فَتَدْخُلُونَ عَلَيْنَا فَنَعْرِفُ خِيَارَكُمْ مِنْ شِرَارِكُمْ.۱
و ورد في رواية «البصائر» أيضاً أنّ تلك الصحيفة في عرض الأديم مثل فَخِذِ الفَالِجِ، و فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه، و ليس من قضيّة إلّا هي فيها حتى أرش الخدش.
و قال المجلسيّ في بيان ذلك: الأديم: الجلد، أو أحمره، أو مدبوغه. و الفالج: الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من السِّند للفحل.
و عن «بصائر الدرجات» أيضاً، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عُمَير، عن إبراهيم بن عبد الحميد و أبي المغراء، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام: أشار إلى بيت كبير و قال: يَا حُمْرَانُ! إنَّ في هَذَا البَيْتِ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بخَطِّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ إمْلَاءِ
رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. لَوْ وَلِينَا النَّاسَ لَحَكَمْنَا بِمَا أنْزَلَ اللهُ لَم نَعْدُ مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ.۱
و كذلك عنه، عن أحمد بن محمّد، عن الأهوازيّ، عن فُضالة، عن القاسم بن بُريد، عن محمّد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر عليه السلام:
إن عِنْدَنَا صَحِيفَةً مِنْ كُتُبِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً. فَنَحْنُ نَتَّبِعُ مَا فِيهَا لَا نَعْدُوهَا.
وَ سَألْتُهُ عَنْ مِيرَاثِ العِلْمِ مَا بَلَغَ؟! أ جَوَامِعُ هُوَ مِنَ العِلْمِ أمْ فِيهِ تَفْسِيرُ كُلِّ شَيءٍ مِنْ هَذِهِ الامُورِ التي تَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِثْلِ الطَّلَاقِ وَ الفَرَائضِ؟!
فَقَالَ: إنَّ عَلِيَّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ العِلْمَ كُلَّهُ القَّضَاءَ وَ الفَرَائِضَ. فَلَو ظَهَرَ أمْرَنَا لَمْ يَكُنْ شَيءٌ إلَّا فِيهِ سُنَّةً نُمْضِيهَا.٢
و عنه أيضاً، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام:
أخْرَجَ إلَيّ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحِيفَةً فِيهَا الحَلالُ وَ الحَرَامُ وَ الفَرَائِضُ. قُلْتُ: مَا هَذِهِ؟! قَالَ: هَذِهِ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِه، وَ خَطَّهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ.
قَالَ: قُلْتُ: فَمَا تَبْلَى؟! قَالَ: فَمَا يُبْلِيهَا؟! قُلْتُ: وَ مَا تَدْرُسُ؟! قَالَ: وَ مَا يَدْرُسُهَا؟! قَالَ: هي الجَامِعَةُ أوْ مِنَ الجَامِعَةِ.٣
و قال المجلسيّ في شرحه: بيانٌ: قوله عليه السلام: فما يُبليها؟ أي:
أيّ شيءٍ يقدر على إبلائها و الله حافظها لنا؟! أو لا تقع عليها الأيدي كثيراً حتى تبلى أو تدرس و تُمحى.
و عنه أيضاً بروايته عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن سنان، عن عمّار بن مروان، عن المنخل بن جميل، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر عليه السلام. قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: إنَّ عِنْدِي لَصَحِيفَةً فِيهَا تَسْعَ عَشْرَةَ صَحِيفَةً قَدْ حَبَاهَا رَسوُلُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.۱
و عنه أيضاً، عن محمّد بن عبد الحميد، عن يعقوب بن يونس، عن مُعَتِّب قال: أخْرَجَ إلَيْنَا أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحِيفَةً عَتِيقَةً مِن صُحُفِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإذَا فِيهَا مَا نَقُولُ إذَا جَلَسْنَا لِنَتَشَهَّدَ.٢
و عنه، عن محمّد بن عيسى، عن فضالة، عن أبان، عن أبي شيبة قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: ضَلَّ عِلْمُ ابْنِ شُبْرُمَةَ عِنْدَ الجَامِعَةِ. إنَّ الجَامِعَةَ لَا تَدَعُ لأحَدٍ كَلَاماً. فِيهَا عِلْمُ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ. إنَّ أصْحَابَ القِيَاسِ طَلَبُوا العِلْمَ بِالقِياسِ فَلَمْ يَزِدهُمْ مِنَ الحَقِّ إلَّا بُعْداً؛ وَ إنَّ دِينَ اللهِ لَا يُصَابُ بِالقِيَاسِ.٣
و عنه أيضاً، عن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن أبي عُمير، عن محمّد بن حكيم، عن أبي الحسن (الإمام موسى بن جعفر) عليه السلام قال: إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالقِيَاسِ، وَ إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى
لَمْ يَقْبِضُ نَبِيَّهُ حتى أكْمَلَ لَهُ جَمِيعَ دِينِهِ في حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ. فَجَاءَكُمْ بِمَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ في حَيَاتِهِ، وَ تَسْتَغْيثُونَ بِهِ وَ بَأهْلِ بَيْتِهِ بَعْدَ مَوتِهِ، وَ إنَّهَا مَخْبِيَّةٌ عِنْدَ أهْلِ بَيْتِهِ حتى أنَّ فِيهِ لأرْشَ الخَدْشِ.
ثُمَّ قَالَ: إنَّ أبَا حَنِيفَةَ مِمَّنْ يَقُولُ: قَالَ عَلِيّ وَ قُلْتُ أنَا.۱
أجل، هذه الروايات تمثّل نموذجاً من الروايات الكثيرة الواردة في جوامع الشيعة. و هي تدلّ على وجود «الجامعة» في عصر أمير المؤمنين عليه السلام. و عموماً لا يرتاب الشيعة و أهل السنّة في أصل تحقّق كتاب «الجامعة» و تدوينها في زمن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم بإملائه و إنشائه، و بخطّ مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام. و من هنا نستطيع أن نعدّ الإمام عليه السلام أوّل مدوّن في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و تحت إشرافه.٢
كلام آية الله السيّد حسن الصدر حول تقدّم الشيعة في التدوين
قال العالم المحقّق العظيم و الفقيه الخبير السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام»: إنّ الشيعة أوّل من تقدّم في جمع الآثار و الأخبار، في عصر خلفاء النبيّ المختار عليه و عليهم الصلوات و السلام اقتدوا بإمامهم أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّه عليه السلام صنّف فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله.
قال الشيخ أبو العبّاس النجاشيّ في ترجمة محمّد بن عذافر: أخبرنا محمّد بن جعفر، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن سعيد، عن محمّد بن أحمد بن الحسن، عن عبّاد بن ثابت، عن عبد الغفّار بن القسم، عن عذافر الصيرفيّ قال: كنت مع الحكم بن عُيَينة عند أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام، فجعل يسأله- و كان أبو جعفر له مكرها- فاختلفا في شيء. فقال أبو جعفر: يَا بُنَيّ قُمْ فَأخْرِجْ كِتَابَ عَلِيّ!
فَأخْرَجَ كِتَاباً مُدْرَجاً عَظِيماً فَفَتَحَهُ وَ جَعَلَ يَنْظُرُ حتى أخْرَجَ المَسْألَةَ. فَقَالَ أبُو جَعْفَرٍ. هَذَا خَطُّ عَلِيّ وَ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
وَ أقْبَلَ عَلَى الحَكَمِ وَ قَالَ: يَا أبَا مُحَمَّدٍ! اذْهَبْ أنْتَ وَ سَلِمَةُ وَ المِقْدَادُ
حَيْثُ شِئْتُمْ يَمِيناً وَ شِمَالًا، فَوَ اللهِ لَا تَجِدُونَ العِلْمَ أوثَقَ مِنْهُ عِنْدَ قَوْمٍ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ جِبرَائِيلُ (الحديث).۱
و الروايات عن أهل البيت في هذا الكتاب (الجامعة) فوق حدّ الإحصاء، أخرج الكثير منها محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب «بصائر الدرجات». و هو من الاصول القديمة كان في عصر البخاريّ صاحب «الصحيح»، و قد طبع بإيران.٢
و ذكر المرحوم الصدر في سبب تقدّم الشيعة في تدوين الحديث، و تأخّر أهل السنّة في ذلك أنّهم تقدّموا، لأنّ إمامهم أمير المؤمنين عليه السلام كان أباحه و جمعه. و تأخّر أهل السنّة لتحريم عمر له. و أورد مطلباً تحت عنوان: (تنبيه) قال فيه:
تنبيه: قد ذكرتُ في كتاب «نهاية الدراية في علم دراية الحديث» وجه تأخّر إخواننا أهل السنّة في تدوين الحديث و جمعه. و حاصله ما ذكره ابن الصلاح في المقدّمة، و مسلم في أوّل صحيحه، و ابن حجر في «فتح الباري» في المقدّمة أنّ السلف اختلفوا في كتابة الحديث فكرهها طائفة، منهم عمر بن الخطّاب، و عبد الله بن مسعود، و أبو سعيد الخُدريّ، في جماعة آخرين من الصحابة و التابعين. و أباحها طائفة اخرى كأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، و ابنه الحسن، و أنس، و عبد الله بن عمرو بن العاص. ثمّ أجمع أهل العصر الثاني على جوازه- إلى آخر كلامهم.
فالشيعة تقدّموا، لأنّ إمامهم كان أباحه و جمعه كما عرفت فتابعوه و جمعوا. و تأخّر أهل السنّة لتحريم عمر له في جماعة آخرين. فكلّ من المؤلِّف و التارك مصيب في اتّباع إمامه. و قدّر الله تعالى تقدّم الشيعة في هذا العلم، كما قدّر تقدّمهم في غيره من العلوم الإسلاميّة. فاغتنم.۱
و ألّف العالم الخبير الواعي الشيخ محمود أبو ريّة المصريّ- و هو من إخواننا أهل السنّة- كتاباً علميّاً بكراً عنوانه: «شيخ المضيرة أبو هريرة» قال فيه تحت عنوان: مَا رَواهُ عَلَيّ:
أوّل من أسلم و تربّى في حجر النبيّ، و عاش تحت كنفه قبل البعثة، و اشتدّ ساعده في حضنه، و ظلّ معه إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، لم يفارقه لا في سفر، و لا في حضر. و هو ابن عمّه و زوج ابنته فاطمة الزهراء. شهد المشاهد كلّها سوى تبوك، فقد استخلفه النبيّ فيها على المدينة، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ! أ تُخَلِّفُنِي في النِّساء و الصِّبيان؟!
فَقَالَ رَسُولَ اللهِ: أ مَا تَرْضَى أن تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
رواه الشيخان، و ابن سعد.٢ و لو كان عليّ رضي الله عنه قد حفظ كلّ يومٍ عن النبيّ- و هو الفطن اللبيب الذكيّ الحافظ ربيب النبيّ- (حديثاً واحداً) و قد قضى معه رشيداً أكثر من ثلث قرن، لبلغ ما كان يجب أن يرويه أكثر من اثني عشر ألف حديث. هذا إذا روى حديثاً واحداً في كلّ يوم، فما بالك لو كان قد روى كلّ ما سمعه- و كان له الحقّ في روايته،
و لا يستطيع أحد أن يماري فيه- و لا تنس أنّه مع ذلك كلّه كان يقرأ و يكتب، و كان يحفظ القرآن.
هذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعاً في العلم و الفضل، قد أسندوا له كما روى السيوطيّ ٥۸٩ حديثاً. و قال ابن حزم: لم يصحّ منها إلّا خمسون حديثاً. و لم يرو البخاريّ، و مسلم منها إلّا نحواً من عشرين حديثاً.۱
٢- الجَفْر
و هو من الصحف أو الكتب المسلّمة التي دوّنها أمير المؤمنين عليه السلام بخطّه المبارك و إملاء الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم. و يحوم هذا الكتاب حول الحوادث الواقعة بعد وفاة النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله.
قال سند المحدِّثين المرحوم الشيخ عبّاس القمّيّ في كتابه الثمين: «سفينة البحار»: الصحيفة التي كانت بخطّ أمير المؤمنين عليه السلام و إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. فيها كلّ شيء منذ قُبض رسول الله صلى الله عليه و آله، و كيف يُقْتَل الحسين عليه السلام، و مَن يقتله، و مَن ينصره، و من يُسْتَشْهَدُ معه، و كيف تُستَشْهَد فاطمة عليها السلام و الحسن عليه السلام. و فيه مقتل الحسين عليه السلام، و ما يجري على أمير المؤمنين عليه السلام، و ما كان و يكون إلى يوم القيامة.
كانت هذه الصحيفة عند أمير المؤمنين عليه السلام، رآها ابن عبّاس
عنده بذي قار، و قال له عليه السلام: اقرأها عَلَيّ، فقرأها. فلمّا قرأ مقتل الحسين عليه السلام و من يقتله، أكثر البكاء، ثمّ أدرج الصحيفة. (و جاء هذا الموضوع في الجزء الخامس من «بحار الأنوار» ص ۱٦، الكمبانيّ).
و قال المحدِّث القمّيّ: أقُولُ: الظاهر أنّه إليها أشار ابن عبّاس بقوله حين عُنِّفَ على تركه الحسين عليه السلام: إنَّ أصْحَابَ الحُسَيْنِ لَم يَنْقُصُوا رَجُلًا وَ لَمْ يَزِيدُوا؛ نَعْرِفُهُمْ بِأسْمَائِهِمْ مِنْ قَبْلِ شُهُودِهِمْ!
و الظاهر انّ هذه الصحيفة هي الديوان الذي كان حِمل بعير مع الحسن عليه السلام لا يفارقه حيث توجّه. و قد تقدّم ذِكره في حذف الصحيفة التي كانت فيها أسامي الشيعة.۱
الاحاديث الواردة في الجفر
و جمع المجلسيّ رضي الله عنه في «بحار الأنوار» كافّة الأحاديث الواردة في باب علم الجفر. و بعضها ظاهر في أنّ المراد منه العلم بالأحكام و الشرائع. و سمّى الجفر لأنّه مكتوب على جلد شاة. و بعضها الآخر ظاهر في أنّ المقصود منه الاطّلاع على حوادث الأيّام و المغيبات التي تتعيّن بالحساب. و قد اخترنا ستّة أحاديث من الطائفة الأولى، و ستّةً من الطائفة الثانية، نذكرها فيما يأتي، ثمّ نناقش ما يستفاد منها. أمّا الطائفة الأولى:
الأوّل: عن «بصائر الدرجات»، عن أحمد بن محمّد بن عليّ بن الحَكَم، عن الحسين بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
إن عِنْدِي الجَفْرَ الأبْيَضَ. قَالَ: قُلْنَا: وَ أيّ شَيءٍ فِيهِ؟!
قَالَ: فَقَالَ لي: زَبُورُ داوُدَ وَ تَوْرَاةُ موسى وَ إنجِيلُ عيسى وَ صُحُفُ إبراهِيمَ وَ الحَلالُ وَ الحَرَامُ. وَ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ مَا أزْعُمُ أنَّ فِيهِ قُرْآناً. و فِيهِ مَا
يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْنَا وَ لَا نَحْتَاجُ إلَى أحَدٍ حتى أنَّ فِيهِ الجَلْدَةَ وَ نِصْفَ الجَلْدَةِ وَ ثُلْثَ الجَلْدَةِ وَ رُبْعَ الجَلْدَةِ وَ أرْشَ الخَدْشِ؛ وَ عِنْدِي الجَفْرُ الأحْمَرُ.
قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَ أيّ شَيءٍ في الجَفْرِ الأحْمَرِ؟!
قَالَ: السِّلَاحُ إنَّهَا يُفْتَحُ للدَّمِ، يَفْتَحُهُ صَاحِبُ السَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي يَعْفُورٍ: أصْلَحَكَ اللهُ فَيَعْرِفُ هَذَا بَنُو الحَسَنِ؟!
قَالَ: أي وَ اللهِ كَمَا يَعْرِفُ اللَّيْلَ أنَّهُ لَيْلٌ وَ النَّهَارَ أنَّهُ نَهارٌ؛ وَ لَكِنْ يَحْمِلُهُمْ الحَسَدُ وَ طَلَبُ الدُّنْيَا؛ وَ لَوْ طَلَبُوا الحَقَّ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ.۱
الثاني: عن «بصائر الدرجات»، عن ابن يزيد، و محمّد بن الحسين، عن ابن أبي عُمير، عن ابن اذينة، عن عليّ بن سعيد قال: كنتُ قاعداً عند أبي عبد الله عليه السلام و عنده اناس من أصحابنا، فقال له مُعَلَّى بن خُنَيْس: جُعلتُ فداك! ما لقيت من الحسن بن الحسن!
ثمّ قال له الطيّار: جعلتُ فداك بينا أنا أمشي في بعض السكك إذا لقيتُ محمّد بن عبد الله بن الحسن على حمار حوله اناس من الزيديّة، فقال: لي:
أيُّهَا الرَّجُلُ إلَيّ إلَيّ! فإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آله قَالَ: مَنْ صلى صَلَاتَنَا وَ اسْتَقَبَل قِبْلَتَنَا وَ أكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَاكَ المُسْلِمُ الذي لَهُ ذِمَّةُ اللهِ وَ ذِمَّةُ رَسُولِهِ. مَن شَاءَ أقَامَ، وَ مَن شَاءَ ظَعَنَ. فَقُلْتُ لَهُ. اتَّقِ اللهَ وَ لَا تَغُرَّنَكَ
هَؤلَاءِ الَّذِينَ حَوْلَكَ.
فقال أبو عبد الله عليه السلام للطيّار: فلم تقل له غيره؟! قال: لا. قال:
فَهَلَّا قُلْتَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ ذَلِكَ وَ المُسْلِمُونَ مُقِرُّونَ بِالطَّاعَةِ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ وَقَعَ الاخْتِلَافُ انْقَطَعَ ذَلِكَ.
فقال محمّد بن عبد الله بن عليّ،۱ العَجَبُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ أنَّهُ يَهْزَا وَ يَقُولُ: هَذَا في جَفْرِكُمُ الذي تَدَّعُونَ؟!
فَغَضِبَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: العَجَبُ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ يَقُولُ: لَيْسَ فِينَا إمَامُ صِدْقٍ. مَا هُوَ بِإمَامٍ وَ لَا كَانَ أبُوهُ إمَاماً. يَزْعَمُ أنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ إمَاماً، وَ يُرَدِّدُ ذَلِكَ.
وَ أمَّا قَوْلُهُ في الجَفْرِ، فَإنَّمَا هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَذْبُوحٍ كَالجِرَابُ فِيهِ كُتُبٌ وَ عِلْمُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مِنْ حَلَالٍ وَ حَرَامٍ. إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ. وَ فِيهِ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَا فِيهِ آيَةٌ مِنَ القُرْآنِ. وَ إنَّ عِنْدِي خَاتَمَ رَسُولِ اللهِ وَ دِرْعَهُ وَ سَيْفَهُ وَ لِوَاءَهُ، وَ عِنْدِي الجَفْرُ عَلَى رَغْمِ أنْفِ مَنْ زَعَم.٢
الثالث: عن «بصائر الدرجات»، عن ابن هاشم، عن يحيى بن أبي
عمران، عن يونس، عن رجلٍ، عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنَّ في الجَفْرِ الذي يَذْكُرونَهُ لَمَا يَسُوؤُهُمْ، لأنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الحَقَّ وَ الحَقُّ فِيهِ.
فَلْيُخْرِجُوا قَضَايَا عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ فَرَائِضُهُ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ. وَ سَلوهُمْ عَنِ الخَالاتِ وَ العَمَّاتِ وَ لِيُخْرِجُوا مُصْحَفَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَإنَّ فِيهِ وَصِيَّةَ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أوْ سِلَاحَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِه.
إن اللهَ يَقُولُ «ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِن قَبْلِ هَذَا أوْ أثَارَةٍ منْ عِلْمٍ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ».۱
الرابع: عن «بصائر الدرجات»، عن محمّد بن أحمد، عن ابن معروف، عن أبي القاسم الكوفيّ، عن بعض أصحابه قال: ذَكَرَ وُلْدُ الحَسَنِ الجَفْرَ فَقَالُوا: مَا هَذَا بِشيءٍ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لأبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: نَعَمْ هُمَا إهَابَانِ: إهَابُ مَاعِزٍ وَ إهَابُ ضَأنٍ مَمْلُوَّانِ كُتُباً، فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ حتى أرْشُ الخَدْشِ.٢
الخامس: عن «بصائر الدرجات»، عن أحمد بن موسى، عليّ بن إسماعيل. عن صفوان، عن ابن المغيرة، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: وَ يحكم أ تَدْرُون مَا الجَفْرُ؟! إنَّمَا هُوَ جِلْدُ شَاةٍ لَيْسَتْ بِالصَّغِيرَةِ وَ لَا بِالكَبِيرَةِ، فِيهَا خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ. مَا مِنْ شَيءٍ يُحْتَاج إلَيْهِ إلَّا وَ هُوَ فِيهِ حتى أرْشُ الخَدْشِ.۱
السادس: عن «بصائر الدرجات»، عن محمّد بن عيسى، عن ابن أبي عُمَير، عن ابن اذَيْنَة، عن عليّ بن سعيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
أمَّا قَوْلُهُ في الجَفْرِ، إنَّمَا هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَدْبُوغٍ كَالجِرَابِ، فِيهِ كُتُبٌ وَ عِلْمُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مِنْ حَلَالٍ أوْ حَرَامٍ، إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
خصائص كتاب الجفر٢
و أمّا الأحاديث الستّة المنتخَبة التي تدلّ على أنّ علم الجفر علم بالحوادث و الوقائع و الغيبيّات، فهي كالآتي:
الأوّل: عن «بصائر الدرجات»، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن أحمد بن عمر، عن أبي بصير قال: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، قال: فقلتُ له: إنّي أسألك- جعلتُ فداك- عن مسألة ليس هاهنا أحد يسمع كلامي!
قال: فرفع أبو عبد الله عليه السلام ستراً بيني و بين بيت آخر فاطّلع فيه ثمّ قال: يا أبا محمّد سل عمّا بدا لك!
قال: قلتُ: جعلتُ فداك؛ إنّ الشيعة يتحدّثون أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله علّم عليّاً باباً يفتح منه ألف باب.
قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمّد! علّم- و اللهِ- رسول الله صلى الله عليه و آله عليّاً ألف بابٍ يفتح له من كلّ باب ألف باب. قال: قلتُ له: هَذَا وَ اللهِ العِلْمُ. فنكت ساعةً في الأرض ثمّ قال: إنَّهُ لَعِلمٌ وَ مَا هُوَ بِذاكَ.
قال: ثمّ قال: يا أبا محمّد و إنّ عندنا الجامعة. و ما يدريهم ما الجامعة؟! قال: قلتُ: جُعلت فداك! و ما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و أملاه من فلق فيه، و خطّ عليّ عليه السلام بيمينه، فيها كلّ حلال و حرام و كلّ شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. و ضرب بيده إليّ، فقال: تأذن لي يا أبا محمّد؟ قال: قلتُ: جعلتُ فداك! أنا لك، اصنع ما شئتَ. فغمزني بيده فقال: حتى أرش هذا، كأنّه مُغضب. قال: قلتُ: جعلتُ فداك! هذا و الله العلم. قال: إنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذاكَ.
ثمّ سكت ساعةً، ثمّ قال: إنَّ عِنْدَنَا الجَفْرَ، وَ مَا يُدْرِيهِمْ مَا الجَفْرُ؟! مَسْكُ شَاةٍ أوْ جِلْدُ بَعِيرٍ. قال: قلتُ: جعلتُ فداك! ما الجفر؟! قال:
وِعَاءٌ أحْمَرُ وَ أدِيمٌ أحْمَرُ فِيهِ عِلْمُ النَّبِيِّينَ وَ الوَصِيِّينَ.
قلتُ: هَذَا وَ اللهِ هُوَ العِلْمُ.
قال: إنَّهُ لَعِلْمٌ وَ مَا هُوَ بِذاكَ.
ثمّ سكت ساعةً، ثمّ قال: وَ إنَّ عِنْدَنَا لَمُصْحَفَ فَاطِمَةَ، وَ مَا يُدرِيهِمْ مَا مُصْحَفُ فَاطِمَةُ؟ قَالَ: فِيهِ مِثْلُ قُرْآنِكُمْ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَ اللهِ مَا فِيهِ مِنْ قُرْآنِكُمْ حَرْفٌ واحِدٌ. إنَّمَا هُوَ شَيءٌ أمْلَاهُ اللهُ عَلَيْهَا وَ أوْحَى إلَيْهَا.
قال: قلتُ: هَذَا وَ اللهِ هُوَ العِلْمُ.
قال: إنَّهُ لَعِلْمٌ وَ لَيْسَ بِذَاكَ.
قال: ثُمّ سكت ساعةً ثمّ قال: إنَّ عِنْدَنا لَعِلْم مَا كَانَ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى
أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. قال: قلتُ: جعلتُ فداك هذا هو و الله العلم.
قال: إنَّهُ لَعِلْمٌ وَ مَا هُوَ بِذاكَ.
قال: قلتُ: جعلتُ فداك! فَأيّ شَيء هُو العلم؟
قَالَ: مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهَارِ، الأمْرُ بَعْدَ الأمْرِ، وَ الشَّيءُ بَعْدَ الشَّيءِ إلَى يَوْمِ القِيَامَة.۱
بيان العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه حول الجفر
و يوضّح المجلسيّ هنا ببيانه بعض المواضع الغامضة في هذا الحديث، و يقول:
بيانٌ: لعلّ رفع الستر للمصلحة، أو لكون تلك الحالة من الأحوال التي لا يحضرهم فيها علم بعض الأشياء.٢ و النَّكْتُ: أن تضرب في الأرض بقضيب فتؤثّر فيها. قوله عليه السلام: تأذن، يدلّ على أنّ إبْرَاء مَا لَمْ يَجِبْ
نافع. قوله: كَأنَّهُ مُغْضِبٌ، أي: غمز غمزاً شديداً كأنّه مُغضب، قوله: و ما يدريهم ما الجفر؟! أي: لا يدرون أنّ الجفر صغير بقدر مسك شاة أو كبير على خلاف العادة بقدر مسك بعير. و كأنّه إشارة إلى أنّه كبير. قوله: إنَّ هَذَا هُوَ العِلْمُ، أي: العلم الكامل و كلّ العالم. قوله: و الله ما فيه من قرآنكم حرف واحد فيه، أي: فيه علم ما كان و ما يكون. فإن قلتَ: في القرآن أيضاً بعض الأخبار، قلتُ: لعلّه لم يذكر فيه ممّا في القرآن.
فإن قلتَ: يظهر من بعض الأخبار اشتمال مصحف فاطمة عليها السلام أيضاً على الأحكام! قلتُ: لعلّ فيه ما ليس في القرآن. فإن قلتَ: قد ورد في كثير من الأخبار اشتمال القرآن على جميع الأحكام و الأخبار ممّا يكون أو يكون. قلتُ: لعلّ المراد به ما نفهم من القرآن لا ما يفهمون منه. و لذا قال عليه السلام: قُرْآنِكُمْ، على أنّه يُحتمل أن يكون المراد لفظ القرآن.
ثمّ الظاهر من أكثر الأخبار اشتمال مصحفها عليها السلام على الأخبار فقط. فيُحتمل أن يكون المراد عدم اشتماله على أحكام القرآن. قوله عليه السلام: علم ما كان و ما هو كائن، أي: من غير جهة مصحف فاطمة عليها السلام أيضاً.۱
و شاهِدُنا في هذا الحديث هو أنّ الإمام عليه السلام جعل الجامعة في مقابل الجَفْر. و جعلها مشتملة على كلّ حلال و حرام حتى أرش الخدش إلى يوم القيامة. و حدّد الجفر في علم النبيّين و الوصيّين. و علومهم حيال الأحكام هي العلوم الغيبيّة و الإلهامات القلبيّة.
الاحاديث الاخرى الواردة حول الجفر
الثاني: عن «بصائر الدرجات»، عن ابن يزيد، عن الحسن بن عليّ،
عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ذُكِرَ لَهُ وَقِيعَةُ وُلْدِ الحَسَنِ وَ ذَكَرْنَا الجَفْر.
فَقَالَ: وَ اللهِ إنَّ عِنْدَنَا لَجِلْدَى مَاعِزٍ وَ ضَأنٍ: إمْلَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطَّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَ إنَّ عِنْدَنَا لَصَحِيفَةً طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً أمْلَاهَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ خَطَّهَا عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ، وَ إنَّ فِيهَا لَجَمِيعَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ حتى أرْشَ الخَدْشِ.
ثمّ قال المجلسيّ: بيانٌ: الوقيعة الذمّ و الغيبة. أي: ذكر أنّ ولد الحسن يذمّون الأئمّة عليهم السلام في ادّعائهم الجفر و يكذّبونهم. و يحتمل أن يكون المراد بالوقيعة الصدمة في الحرب.۱
الثالث: عن «بصائر الدرجات»، عن السنديّ بن محمّد، عن أبان بن عثمان، عن عليّ بن الحسين، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:
إن عَبْدَ اللهِ بْنَ الحَسَنِ يَزْعَمُ أنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ إلَّا مَا عِنْدَ النَّاسِ.
فَقَالَ: صَدَقَ وَ اللهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الحَسَنِ مَا عِنْدَهُ مِنَ العِلْمِ إلَّا مَا عِنْدَ النَّاسِ؛ وَ لَكِنَّ عِنْدَنَا وَ اللهِ الجَامِعَةَ فِيهَا الحَلالُ وَ الحَرَامُ. وَ عِنْدَنَا الجَفْرُ؛ أ يَدْرِي عَبْدُ اللهِ بْنُ الحَسَنِ مَا الجَفْرُ؟ مَسْكُ بَعِيرٍ أمْ مَسْكُ شَاةٍ؟
وَ عِنْدَنَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ، أمَا وَ اللهِ مَا فِيهِ حَرْفٌ مِنَ القُرْآنِ وَ لَكِنَّهُ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهُمَا السَّلَامُ. كَيْفَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللهِ إذَا جَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ افُقٍ يَسْألُونَهُ؟٢
الرابع: عن «بصائر الدرجات»، عن أحمد بن محمّد، عن الحسن بن عليّ، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: ذَكَرُوا وُلْدَ الحَسَنِ، فَذَكَرُوا الجَفْرَ، فَقَالَ: وَ اللهِ إنَّ عِنْدِي لَجِلْدَي مَاعِزٍ وَ ضَأنٍ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ.
وَ إنَّ عِنْدِي لَجِلْداً سَبْعِينَ ذِرَاعاً إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطَّهُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ. وَ إنَّ فِيهِ لَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ حتى أرْشَ الخَدْشِ.۱
الخامس: عن «بصائر الدرجات»، عن عليّ بن الحسين، عن الحسن بن الحسين السحاليّ، عن مخوّل بن إبراهيم، عن أبي مريم قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: عِنْدَنَا الجَامِعَةُ وَ هي سَبْعُونَ ذِرَاعاً، فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ حتى أرْشُ الخَدْشِ، إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَ عِنْدَنَا الجَفْرُ وَ هُوَ أدِيمٌ عُكَاظِيّ قَدْ كُتِبَ فِيهِ حتى مُلِئَتْ أكَارِعُهُ، فِيهِ مَا كَانَ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
قال المجلسيّ: بيانٌ: قال في «القاموس»: العكاظ كغراب: سوق بصحراء بين نخلة و الطائف، و منه أديم عكاظيّ. و قال: الكراع كغراب من البقر و الغنم هو مُستدقّ الساق، و الجمع: أكرع و أكارع.٢
السادس: عن «بصائر الدرجات»، عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن عليّ بن أبي
حمزة، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قيل له: إنّ عبد الله بن الحسن يزعم أنّه ليس عنده من العلم إلّا ما عند الناس، فقال: صدق و الله ما عنده من العلم إلّا ما عند الناس، و لكن عندنا و الله الجامعة فيها الحلال و الحرام. و عندنا الجفر، أ فيدري عبد الله؟ أمسك بعير أو مسك شاة؟
و عندنا مصحف فاطمة. أما و الله ما فيه حرف من القرآن، و لكنّه إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و خطّ عليّ عليه السلام. كَيْفَ يَصْنَعُ عَبْدُ اللهِ إذَا جَاءَهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ فَنٍّ يَسْألُونَهُ؟! أ مَا تَرْضَونَ أنْ تَكُونُوا يَوْمَ القِيَامَةِ آخِذِينَ بِحُجْزَتِنَا، وَ نَحْنُ آخِذُونَ بِحُجْزَةِ نَبِيِّنَا، وَ نَبِيُّنَا آخِذٌ بِحُجْزَةِ رَبِّهِ؟!۱
أُصُول الجفر و قواعده صحيحه
أجل، نجد في هذه الأحاديث أنّ علم الجفر في مقابل الجامعة. و يستفاد من قرينة تقابلهما- فيما إذا كانت الجامعة زاخرة بالأحكام و الحلال و الحرام حتى أرش الخدش حقّاً- أنّ علم الجفر بيان حوادث الكائنات، ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و الوقائع، و إمارة الجبابرة الجائرين، و قضايا غصب الخلافة من قِبل الثلاثة الاوَل، و بني اميّة، و بني العبّاس، و نظائر ذلك.
و لمّا كُتبت اصول هذا العلم و اسسه بعامّة على جلدٍ، و كان الجفر بمعنى جلد الشاة، فلهذا سمّى هذا العلم المكتوب في باطنه: الجَفْر.
كانت اصول الجفر و قواعده صحيحة متقنة يمكن من خلالها كشف الامور الغيبيّة و حلّ المسائل المستعصية، و الإخبار عن الأوضاع و الحوادث، و لكن لمّا كان الاطّلاع على الأسرار و المغيبات يحتاج إلي
نفوس طاهرة، لهذا فإنّه يختصّ بالأئمّة عليهم السلام. و كانوا يعلّمونه بعض خواصّهم الذين بلغوا مقام الطهارة الباطنيّة، و يستخدمونه فقط في الاطّلاع على الامور الحسنة. و كان الأئمّة عليهم السلام يجتنبون تعليمه مَن ليسوا أهلًا له. أي: مَن لم يتطهّروا نفسيّاً. و كانوا يحذّرون من استخدامه بشدّة. و كان علم الجفر الحقيقيّ عند مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، و عند الأئمّة عليهم السلام من بعده. و يوجد علم الجفر هذا اليوم أيضاً، بَيدَ أنّه لمّا كان ناقصاً، فلا يتيسّر الكشف الحتميّ له. و لعلّ صحيحه عند بعض النفوس المطهّرة البعيدة عن إطلاع العامّة. و إنّي شرعتُ في تعلّم الرَّمْل عند أحد العلماء المتبحّرين في العلوم الغريبة كتحضير الأرواح، و علم الرمل، و الجفر مقيماً على ذلك زهاء شهر واحد بطهران۱ قبل ذهابي إلى النجف الأشرف. و كان ذلك العالم يحبّني كثيراً كما كان يرغب في تعليمي الجَفْر بعد الرَّمْل مصرّاً على ذلك، إذ كان يقول: لا ولد لي و أخشى أن أموت فتضيع علومي هذه كلّها.
و رأيتُ أنّ تعلّم الرمل يستغرق سنتين كاملتين، فكيف أتعلّم الجفر و هو أهمّ و أصعب؟ علماً أنّي لا أستهدف دراسة هذه العلوم، لأنّها تبعدني عن غايتي الأساسيّة و هي العرفان الإلهيّ. و نحن لو عمّرنا مائة عام، و سخّرنا هذا العمر كلّه في طريق العرفان و معرفة المعبود، لكنّا مقصّرين أيضاً، فكيف نبدّد أعمارنا في تحصيل المغيبات؟ من هنا تركتُ ذلك الدرس. و السبب الآخر لتركي أيّاه هو أنّي شعرتُ بظلامٍ في باطني و انقباض في صدري عند دراسة هذا العلم.
كما أنّي لم أتعلم الكيمياء. و أراد أحد الأعاظم يوماً أن يعلّمني
الكيمياء فرفضتُ لأنّي شعرتُ أنّي لا أجني منها غير ضياع العمر و الانهماك في الامور المادّيّة و الدنيويّة.
و ممّا أوصى به السيّد ابن طاووس ولدَيْه: محمّد و عليّ في «كشف المحجّة» أن لا ينشغلا بالكيمياء، بل ينشغلا بعلم معرفة الله فإنّه الكيمياء الحقّة. و ذكر لهما أنّ جدّهما أمير المؤمنين عليه السلام كان عارفاً بهذا العلم، لكنّه لم يستعمله مدّة حياته قطّ. و كان يبحث عن الكيمياء الحقيقيّة فبلغ عرفان الله، و ما عليهما إلّا الاقتداء به.
كان الائمّة عليهم السلام يستكشفون المغيبات من الجفر
أجل، لقد ورد في كثير من الأحاديث أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يكشفون المغيبات عبر الجفر. مثلًا، كتب الإمام الرضا عليه السلام على ظهر كتاب عهد المأمون أنّ الجامعة و الجفر يدلّان على ضدّ ذلك.
و كان الإمام الصادق عليه السلام يكرّر أنّ خروج بني الحسن على العبّاسيّين لا يحقّق الهدف، و أنّ الدماء تراق بلا مسوّغ، و أنّهما لا تثمر شيئاً.
و كان عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام يزعم أنّ ولده محمّداً هو المهديّ القائم. و عرّف الناس به و بأخيه إبراهيم الغَمْر- و كان محمّد يُعرف بصاحب النفس الزكيّة- و أخذ منهم البيعة لهما. حتى أنّه دعا الصادق عليه السلام إلى بيعة محمّد. و هذا موضوع مفصّل تطرّقت إليه كتب التأريخ.
و كان محمّد و إبراهيم شجاعين سخيَّين تقيّين، و كان أبوهما عبد الله من أعاظم بني هاشم و العلويّين و رؤسائهم. بَيدَ أنّ علمهم لم يبلغ مستوى علم الإمام كما لم يكونوا أهلًا للإمامة. و لم ينقادوا للإمام الصادق عليه السلام و لولايته و كانوا يعرفونه بالعلوم الغريبة و المغيبات، لكنّ اعترافهم بذلك يؤدّي إلى كساد سوقهم، و إلى بطلان زعمهم المهدويّة فلم يظهروه.
و لمّا اثر عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ اسم المهديّ محمّد، و أنّه يظهر في عصر طغيان سلاطين الجور، فإنّ عبد الله كان يقول: لا زمان أسوأ من هذا الزمان الذي تسلّط فيه العبّاسيّون، و غصب فيه الفتّاك المتهوّر الجائر المنصور الدوانيقيّ حقَّ آل محمّد. و أنّ اسم ابني محمّد، و هو شجاع و حقيق بالخروج و الإمارة و الحكومة على المسلمين، فهو المهديّ و على الناس أن يسلّموا لأمره.
إن ما أراد أن يخبر به الإمام الصادق عليه السلام هؤلاء من وحي علومه التي كان الجَفْر أحدها هو أنّ هذا الرجل (محمّد النفس الزكيّة) ليس قائم آل محمّد؛ و أنّ خروجه لا يثمر شيئاً. و لمّا كان في غير وقته، فإنّه يُمنى بآلاف الأخطاء، بَيدَ أنّهُم لم يقبلوا ذلك منه. حتى أنّه عليه السلام دلّ على زمان قتله بِيَدِ ابن عمّ المنصور الذي يأتي من الشام بجيش جرّار، و يقتله قرب المدينة. كما أخبر عن كيفيّة قتله و قتل أخيه إبراهيم الذي قُبض عليه بعده. و كان عليه السلام يحذّرهم من الخروج في غير أوانه، و لكنّ تحذيره لم يُجْدِ نفعاً. و الأنكى من ذلك أنّهم كانوا ممتعضين من تخلّف الإمام عنهم، و تفوّهوا بكلمات بذيئة عليه. و كانوا يقولون: فينا شروط الإمامة، و علينا النهوض، و لا يجوز التأخير.
و كان الإمام عليه السلام يعلم أنّ الثورة في ذلك الحين كقطف الثمرة الفجّة من شجرتها. و كان اولئك مبتهجين لإقبال الناس عليهم و بيعتهم الظاهريّة لهم؛ بيد أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم بحقيقة الحال و كان ينظر إلى هذه الامور كعالمٍ بالغيب، مستقرّ في مصدر الأمر و الملكوت. و لم تؤت نصيحته اكُلَها، فزادت مصائب الحسنيّين في سجن المنصور، و قَتْلُهم في سجن بغداد، و مقتل محمّد و إبراهيم مصائبه عليه السلام مئات الأضعاف. و كانت تسيل دموعه رحمةً بهؤلاء القوم الجامحين الذين لا إمام
و لا وليّ لهم، و كان خروجهم عقيماً.
و كانوا يرون أنّ الإمام عليه السلام ذو علومٍ تفوق علومهم، لكنّهم لم ينقادوا لهذه العلوم، و كانوا يتصرّفون بجهل. و رأينا في الأحاديث الأخيرة أنّ الكلام دار كثيراً حول أولاد الحسن عليه السلام، و المقصود هو عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و كان الإمام عليه السلام يقول: عندنا علم الجَفْر، و عندنا أيضاً علوم هي أسمى من أن يدركها أولاد الحسن المثنّى.
و يستبين من استشهاد الإمام عليه السلام بإحرازهم «الجامعة» و هي علم الأحكام إلى يوم القيامة، و استئثارهم بالجفر، و هو العلم بالوقائع و الحوادث و المغيبات، إنّ الجفر يختصّ العلم بحوادث المستقبل و استكشاف الامور الغيبيّة، و هو ما يفتقده بنو الحسن. و لهذا نلحظ أنّ الرواة- بخاصّة في مقام بيان الجفر- يسألون الإمام: أ ترون أنّ أولاد الحسن مطّلعون على جفركم أم لا؟!
إذن، ظهر لنا من مجموع الموضوعات المتقدّمة أنّ الجفر علم مستقلّ لا يرتبط بمسائل الحلال و الحرام، في مقابل «الجامعة»، و لا يمكن دمجهما معاً. و لمّا كانت اصوله الصحيحة بعيدة المنال في واقعنا المعاصر، فلا يتسنّى لنا أن ننكر أصله الصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً، كما لا يتيسّر لنا أن ننكر أنّ له كتاباً من جلد، و فيه خاصّيّة استكشاف المغيبات، و يتعذّر علينا أن نُبطل هذا الموضوع الذي يقرّ به الشيعة و العامّة، و هو أنّ أهل البيت كانوا ذوي علوم غيبيّة تترشّح عن نفوسهم المطهّرة.
كلام العلماء حول الجفر
و ذكر العالم الجليل آية الله السيّد محسن الأمين الحسينيّ العامليّ في كتاب «أعيان الشيعة» فصلًا مبسوطاً حول جفر أمير المؤمنين عليه السلام.
قال:
من مؤلّفات أمير المؤمنين عليه السلام الجفر. في «مجمع البحرين»: في الحديث: أمْلَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَلَى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجَفْرَ وَ الجَامِعَةَ.
و فُسِّرا في الحديث بإهَابِ مَاعِزٍ وَ إهَابِ كَبْشٍ. فيهما جميع العلوم حتى أرش الخدشة و الجلدة و نصف الجلدة.
و نُقل عن المحقّق الشريف في «شرح المواقف» أنّ «الجفر» و «الجامعة» كتابان لعليّ عليه السلام. قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم. و كان الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما- انتهى.
و في «القاموس»: الجفر من أولاد الشاة ما عظم و استكرش، و بلغ أربعة أشهر- انتهى.
و في «صحاح اللغة»: الجفر من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر و جفر جنباه و فصل عن امّه، و الانثى جفرة- انتهى.
فالجفر في الحديث على حذف مضاف، أي: جلد الجفر. و لعلّه صار كالعَلَم على جلد مخصوص لثور أو شاة لكثرة الاستعمال. و الأخبار الواردة في الجفر فيها بعض الاختلاف. و نحن نشير إليها و إلى الجمع بينها.
و نقل المرحوم الأمين هنا جميع الأخبار الواردة في هذا الباب عن «بصائر الدرجات». و قال في آخرها: و المستفاد من المجموع أنّ الجفر منه ما كُتب فيه العلم، و منه ما جُعِلَ وعاء للسلاح أو له و للكتب. ثمّ قال:
و في «كشف الظنون»: ادّعى طائفة أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب وضع الحروف الثمانية و العشرين على طريق البسط الأعظم في جلد الجفر، يستخرج منها بطرق مخصوصة و شرائط معيّنة و ألفاظ مخصوصة ما في لوح
القضاء و القدر. و هذا علم توارثه أهل البيت و مَن ينتمي إليهم و يأخذ منهم من المشايخ الكاملين. و كانوا يكتمونه عن غيرهم كلّ الكتمان. و قيل: لا يفقه في هذا الكتاب حقيقة إلّا المهديّ عليه السلام المنتظر خروجه في آخر الزمان.
و ورد هذا في كتب الأنبياء عليهم السلام السالفة كما نُقل عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة و السلام: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ نَأتِيكُمْ بِالتَّنْزِيلِ، وَ أمَّا التَّأوِيلُ فَسَيَأتِيكُمْ بِهِ البَارْقِليطُ الذي سَيَأتِيكُمْ بَعْدِي!
نُقل أنّ الخليفة المأمون لمّا عهد بالخلافة من بعده إلى عليّ بن موسى الرضا عليه السلام و كتب إليه كتاب عهده، كتب هو في آخر ذلك الكتاب: نَعَمْ إلَّا أنَّ الجَفْرَ وَ الجَامِعَةَ يَدُلَّانِ عَلَى أنَّ هَذَا الأمْرَ لَا يَتِمُّ.
و كان كما قال، لأنّ المأمون استشعر فتنة من بني هاشم فَسَمَّه، كذا في «مفتاح السعادة».
قال ابن طلحة: «الجفر» و «الجامعة» كتابان جليلان، أحدهما: ذكره الإمام عليّ بن أبي طالب و هو يخطب بالكوفة على المنبر. و الآخر: أسرّه إليه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و أمره بتدوينه. فكتبه حروفاً متفرّقة على طريق سفر آدم في جفر، يعني في رقّ قد صُنع من جلد البعير، فاشتهر بين الناس به، لأنّه وجد فيه ما جرى للأوّلين و الآخرين، إلى آخر ما ذكره- انتهى ما أردنا نقله من «كشف الظنون».
ثمّ قال: و من الكتب المصنّفة فيه (أي: في علم الجفر) «الجفر الجامع و النور اللامع» للشيخ كمال الدين أبي سالم محمّد بن طلحة النصيبيّ الشافعيّ المتوفّى سنة ٦٥٢ هـ مجلّد صغير ذكر فيه أنّ الأئمّة من أولاد جعفر يعرفون الجفر، فاختار من أسرارهم فيه- انتهى.
كلام ابن خلدون حول الجفر
و قال ابن خلدون في مقدّمته، في فصل ابتداء الدول و الامم. و قد
يستندون في حدثان الدول على الخصوص إلى كتاب «الجفر» و يزعمون أنّ فيه علم ذلك كلّه من طريق الآثار و النجوم لا يزيدون على ذلك، و لا يعرفون أصل ذلك و لا مستنده.
قال: و اعلم أنّ كتاب «الجفر» كان أصله أنّ هارون بن سعيد العجليّ- و هو رأس الزيديّة- كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق. و فيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم، و لبعض الأشخاص منهم على الخصوص. وقع ذلك لجعفر و نظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة و الكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء. و كان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجليّ، فكتبه و سمّاه الجفر باسم الجلد الذي كتب منه، لأنّ الجفر في اللغة هو الصغير. و صار هذا الاسم عَلَماً على هذا الكتاب عندهم.
و كان فيه تفسير القرآن و ما في باطنه من غرائب المعاني مرويّة عن جعفر الصادق. و هذا الكتاب لم تتّصل روايته و لا عرف عينه؛ و إنّما يظهر منه شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل. و لو صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو رجال قومه. فهم أهل الكرامات. و قد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول. و قد حذّر يحيى ابن عمّه زيد من مصرعه، و عصاه. فخرج و قُتل بالجوزجان كما هو معروف.
ترجمة الفواطم في زمن الهجرة
و إذا كانت الكرامة تقع لغيرهم، فما ظنّك بهم عِلماً و ديناً و آثاراً من النبوّة و عناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة؟! و قد يُنقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد. و في أخبار دولة العُبَيْديّين كثير منه. و انظر ما حكاه ابن الرقيق في لقاء أبي عبد الله الشيعيّ لعبيد الله المهديّ مع ابنة محمّد الحبيب،۱ و ما حدّثاه به، و كيف بعثاه إلي٢
ابن حوشب داعيتهم باليمن، فأمره بالخروج إلى المغرب، و بثّ الدعوة فيه على علم لقّنه أنّ دعوته تتمّ هناك. و أنّ عبيد الله لمّا بني المهديّة بعد استفحال دولتهم بإفريقية قال: بَنَيْتُهَا لِيَعْتَصِمَ بِهَا الفَوَاطِمُ سَاعَةً مِن نَهَارٍ.۱
و أراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالمهديّة. و كان يسأل عن منتهى موقفه حتى جاء الخبر ببلوغه إلى المكان الذي عيّنه جدّه عبيد الله. فأيقن بالظفر و برز من البلد، فهزمه و اتّبعه إلى ناحية الزاب فظفر به و قتله. و مثل هذه الأخبار عندهم كثير- انتهى.
و قال قبل ذلك بقليل في أوائل هذا الفصل بعد ما ذكر أمر الأخبار عن الحوادث الآتية ما لفظه:
و وقع لجعفر و أمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه- و الله أعلم- الكشف بما كانوا عليه من غيرهم من الأولياء في ذويهم و أعقابهم- و قد قال صلى الله عليه و آله: إن فيكم محدثين- فهم أولى الناس بهذه الرتب الشريفة و الكرامات الموهوبة.
تهم الرافعيّ ضدّ الشيعة في تفسير القرآن على أساس علم الجفر
و قال مصطفى صادق الرافعيّ المصريّ في كتابه «بلاغة القرآن»: إنّه لا يُعرف في تأريخ العالم كتاب بلغت عليه الشروح و التفاسير ما بلغ من ذلك على القرآن الكريم حتى فسَّرَته الروافض بالجفر على فساد ما يزعمون و سخافة ما يقولون و على سوء الدعوى فيما يدّعون من علم باطنه بما وقع إليهم من ذلك الجفر. و استنبط منه غيرهم إشارات من الغيب بضروب من الحساب كهذا الذي ينسبونه إلى الحسن بن عليّ من أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم رأى في رؤياه ملوك بني اميّة فساءه ذلك فأنزل الله عليه ما يسري عنه من قوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. و هي مدّة الدولة الأمويّة. فقد كانت أيّامها خالصةً ثلاثاً و ثمانين سنةً و أربعة أشهر مجموعها ألف شهر سواء.۱
و قال في الحاشية على لفظ الجفر: قال ابن قتيبة: هو جلد جفر (معزى أو شاة أو عجل) ادّعوا أنّه قد كتب لهم الإمام فيه كلّ ما يحتاجون إلى عمله و كلّ ما يكون إلى يوم القيامة. ثمّ نقل عنه أمثلة من تفسيرهم هي من الأكاذيب المختلقة لا نطيل بنقلها. ثمّ أشار إلى ما في «كشف الظنون» و «مقدّمة ابن خلدون» ثمّ قال: و عندنا أنّ كلّ ذلك موضوع و باطل، و أنّ الكلام فيه اسلوب من أساليب القصص و المبالغة. و لا نظنّ أنّ عِلم ما كان و ما يكون شيء يسعه أو يسع الرمز إليه جلد ثور. إلى آخر كلامه.
قال المرحوم الأمين: أقول: الظاهر من الأخبار أنّ «الجفر» كتاب فيه العلوم النبويّة من حلال و حرام و أحكام و اصول ما يحتاج الناس إليه في أحكام دينهم و ما يصلحهم في دنياهم. و الأخبار عن بعض الحوادث. و يمكن أن يكون فيه تفسير بعض المتشابه من القرآن المجيد.
و أمّا عدّ الجفر علماً من العلوم يُستنبَط منه علم الحوادث المغيبة كما يفهم من «كشف الظنون» و غيره ممّا مرّ و كما ارتكز في أذهان بعض الناس، فلم نطّلع على ما يؤيّده. و كيف كان فوجود كتاب يسمّى بـ «الجفر» منسوب إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام متسالَمٌ عليه بين الشيعة و أهل السُّنّة، كما يعلم ممّا سبق.
فقول الرافعيّ: حتى فسَّرَته الروافض بالجفر إلى آخر ما نضح به إناؤه الذي لا يمكن أن ينضح إلّا بما فيه سخافة منه و سوء دعوى فيما
يدّعيه.
أوّلًا: إنّ الشيعة لم تفسّر القرآن بالجفر، و إنّما فسَّرَته كما يفسّره علماء المسلمين. و لم يدّعوا علم باطنه بما وقع إليهم من ذلك الجفر، بل لم يدّع أحد منهم أنّه وقع إليه ذلك الجفر، و لا أنّه رآه. نعم، رووا أنّه كان عند أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فليأتنا الرافعيّ برجل واحد من الشيعة قال: إنّ الجفر عنده، أو برجل منهم فسّر القرآن بالجفر إن كان من الصادقين. و هذه تفاسير الشيعة للقرآن الكريم معروفة و أكثرها مطبوعة كـ «تفسير القمّيّ»، و «مجمع البيان»، و «جوامع الجامع»، و «تفسير أبي الفتوح الرازيّ»، و «البرهان» للسيّد هاشم البحرانيّ، و «التبيان» للشيخ الطوسيّ، و «تفسير العيّاشيّ» و غيرها. فهل يستطيع الرافعيّ أن يجد في واحدٍ منها أنّ الشيعة فسّرت القرآن بالجفر؟!
و أمّا قوله: و استنبط منه غيرهم إشارات من الغيب ... إلى آخره، فهو كسابقه لا حقيقة له. و الحديث الذي أشار إليه بقوله: كهذا الذي ينسبونه إلى الحسن ... إلى آخره. معبّراً عنه بعبارة التوهين و الاستخفاف هو حديث يرويه الثقات عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم في أنّ الآية الشريفة نزلت في مدّة مُلك بني اميّة، و ليس ذلك مستنبطاً من الجفر، و لا بضروبٍ من الحساب.۱
ردّ العلّامة الامين على تُهم الرافعيّ
فهذا الذي ساء الرافعيّ و عظم عليه أن تكون الآية نازلة في مُلك أسياده بني اميّة الأبرار الأتقياء أهل الأعمال المشهورة في الإسلام، فطفق يعبّر بعبارة الاستخفاف بقوله: هَذَا الَّذِي يَنْسِبُونَهُ ...۱
رؤيا النبيّ صليّ الله عليه و آله في حكومت الأموييّن (ت)
و أمّا ما نقله عن ابن قتيبة و قلّده فيه كما هو الشأن في أكثر هذه التقوّلات التي يودعونها كتبهم، فيقلّد فيها اللاحق السابق من دون تحقيق
و لا تمحيص. فقوله: «إنّهم ادّعوا أنّه كتب لهم الإمام فيه كلّ ما يحتاجون إلى علمه ... إلى آخره» غير صحيح، إذ لم يدّع أحد منهم ذلك. و إنّما رويت روايات مسندة، و مرّ طرف منها تتضمّن وجود ذلك عند أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده عليه و عليهم السلام، فنقلوها كما رويت لهم و نقلها علماء أهل السُّنّة و أيّدوها كما سمعت عن «كشف الظنون» و ابن خلدون!
و لكن الشِّنشِنَةَ الأخزَميَّةَ فيما إذا ورد شيء فيه كرامة لأهل البيت عليهم السلام أبت أن تقبل ذلك أو تسكت عنه أو تتناوله بغير التكذيب أو الاستبعاد أو القدح أو نحو ذلك. فحملت الرافعيّ على أن يقول: و عندنا أنّ كلّ ذلك موضوع و باطل ... إلى آخره، مُعرضاً عن كلّ ما نقله العلماء، و أيّده ابن خلدون ممّا ليس قابلًا للدفع ممّا عرفتَ.
و لا يظنّ الرافعيّ أنّ علم ما كان و يكون يسعه أو يسع الرمز إليه جلد ثور كأنّه يريد جميع ما يحدث في الكون حتى النفخ في الرماد، و لا يكتفي بالرمز إلى مهمّات الامور. لا يظنّ الرافعيّ ذلك، لأنّه منقول عن أهل البيت، مفاتيح باب مدينة العلم. و يقول في حاشية كتابه المذكور بعد هذا الكلام بلا فاصل ما حاصله أنّ الملك نور الدين محمود بن زنكي عمل منبراً لبيت المقدس قبل فتحه بنيّف و عشرين سنة. و أنّ صاحب الروضتين ذكر أنّ هذا قد يكون كرامة. و أنّه اطّلع على ما ذكره أبو الحكم ابن برجان الأندلسيّ في تفسيره، فإنّه أخبر عن فتح القدس في سنة كذا، و عمر نور الدين إحدى عشرة سنة، فكان كما أخبر؛ و أنّه من عجائب ما اتّفق لهذه الامّة المرحومة.
كلّ هذا يعتقده الرافعيّ و يجزم به. و لا يظنّ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم يمكن أن يُملي على ابن عمّه و باب مدينة علمه علم ما كان و ما يكون في جلد ثور. و ما أحسن ما قال المعرّيّ:
لَقَدْ عَجِبُوا لأهْلِ البَيْتِ لَمَّا | *** | أرَوهُم عِلْمَهُم في مَسْكِ جَفْرِ |
وَ مِرآةُ المُنَجِّمِ وَ هي صُغْرَى | *** | أرَتْهُ كُلَّ عَامِرَةٍ وَ قَفْرِ |
إن جميع الموضوعات التي ذكرناها من أوّل الصفحة إلى هنا نقلناها عن كتاب «أعيان الشيعة» لآية الله السيّد محسن الأمين العامليّ، ج ۱، ص ٣٣۸ إلى ٣٥۰، الطبعة الثانية، سنة ۱٣٦٣ هـ، مطبعة ابن زيدون بدمشق. و كانت هذه الطبعة في حياة ذلك العالم الجليل و بإشرافه و مباشرته.
تحريف السيّد حسن الامين كتاب أبيه «أعيان الشيعة»
بَيْدَ أنّنا نلحظ في الطبعة الرابعة التي تمّت سنة ۱٣۸۰ هـ في مطبعة الإنصاف ببيروت بمسؤوليّة نجله السيّد حسن الأمين بعد وفاة والده، أنّ السيّد حسن حصر تلك الموضوعات في صفحة و قسم قليل من صفحة ثانية، أي: من آخر ص ٢٤٤ إلى أوائل ٢٤٦، من الجزء الأوّل. و طالت يد التحريف تلك الموضوعات إلى درجة أنّنا لا نتصوّر أنّها هي نفسها.
أوّلًا: حذف السيّد حسن في أوّل الموضوع، ص ٣٣۸، عبارة المحقّق الشريف في «شرح المواقف»، إذ يقول: إن الجفر و الجامعة كتابان لعلي عليه السلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقضاء العالم، و كان الأئمة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما- انتهى. في حين أنّ كلامه هنا مهمّ جدّاً و له قيمته التامّة من حيث الاستناد إليه.
ثانياً: أسقط جميع الأحاديث الواردة التي نُقلت من «بصائر الدرجات» للاستشهاد بها على الموضوع، و هي التي استوعبت الصفحات ٣٣٩ إلى ٣٤٣ ما عدا ص ٣٤۰ التي يقول فيها: و منها ما يدلّ على أنّه جلد ثَوْر ... إلى آخره.
ثالثاً: حذف عبارته في أواخر ص ٣٤٣: بعضها على أنّه جلد شاةٍ أو جلد بعير، إلى ما يقرب من نصف صفحة.
رابعاً: أسقط كلام صاحب «كشف الظنون»، و كلام ابن خلدون في مقدّمته، في حين أنّه شغل ثلاث صفحات تامّة من الكتاب. و كلّه تصديق بالعلوم الغيبيّة و المكاشفات الإلهيّة للأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين. و يُعدّ دليلًا قويّاً ثابتاً يتوكّأ عليه الشيعة للردّ على كلام العامّة.
خامساً: حذف كلام مصطفى صادق الرافعيّ المصريّ في كتاب «بلاغة القرآن» الذي تجرّأ فيه على الشيعة، و عدّ تفاسيرهم مستوحاة من الجفر، و ذكر سبطَ النبيّ الأكرم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام بالاستخفاف و الامتهان، و كان المرحوم والده آية الله السيّد محسن الأمين قد فنّد كلامه بعد ذكره، و أخزاه في ثلاث صفحاتٍ تامّة، و كشف عن مختلقاته و أحابيله و أباطيله كما لاحظنا ذلك في سطور متقدّمة، و لقد دافع عن ساحة الولاية و حريم التشيّع حقّاً.
و صفوة القول أنّه بتر موضوعات المرحوم والده البالغة اثنتي عشرة صفحة تامّة، و اختزلها في صفحة و عدد من السطور، بل مَثّل بها إن صحّ التعبير.
و لا مُسوّغ لهذا العمل إلّا خيانة الحقّ و الحقيقة، و تحريف كلام الأب، و لمز التشيّع، و الانحياز إلى جانب المخالفين. و هل يمكننا أن نتصوّر شيئاً غير هذا؟!
و لم يزوّر هذا الموضوع فحسب، بل زوّر جميع مباحث المرحوم السيّد محسن الأمين في كتاب «أعيان الشيعة» بأجزائه كلّها. و حذف المطالب النفيسة التي تصون معقل التشيّع، و تذبّ عنه هجمات المناوئين. حتى نلحظ أنّه بدّل و غيّر بعض العبارات، و لا يُحْمَل ذلك إلّا على التحريف و التصحيف الصريح.
و الأنكى من ذلك كلّه و الأعجب و الأفظع هو تجرّؤه على إسقاط اسم
الإمام المهديّ عليه السلام. و قد حذف بحث المرحوم والده حول الإمام المهديّ عليه السلام من كتاب «أعيان الشيعة» بشكل صريح و واضح. و عدّ الأئمّة عليهم السلام أحد عشر إماماً، إذ ختم باب الإمامة في كلام أبيه بالإمام الحسن العسكريّ عليه السلام.
و كان المرحوم السيّد محسن الأمين قد جعل الجزء الرابع من كتابه قسمين: الأوّل: في سيرة الحسن، و الحسين، و زين العابدين، و الباقر، و الصادق عليهم السلام. الثاني: في سيرة الأئمّة الآخرين اعتباراً من الإمام الكاظم حتى الإمام المهديّ صاحب الزمان سلام الله عليهم أجمعين.
و يتحدّث القسم الثاني الذي يبدأ من الصفحة الأولى حتى الصفحة ٣٢٥، عن سيرة الإمام موسى بن جعفر، و الأئمّة من بعده حتى الإمام العسكريّ عليهم السلام جميعاً. و قد استوعب الصفحة ٣٢٦ حتى آخر الكتاب حيث الصفحة ٥٤۰ من الطبعة الأولى سنة ۱٣٥٦ هـ بمطبعة ابن زيدون بدمشق. و طبع الكتاب بهذه المواصفات في زمن المرحوم السيّد الأمين.
أمّا بعد وفاته، فإنّ نجله السيّد حسن الذي أعاد طبع الكتاب، قد حذف البحث الذي يدور حول الإمام المهديّ عليه السلام بأكمله، و ختم الكتاب بسيرة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام.
و لمّا كان ينبغي أن تُحذف (٢۱٥) صفحة من القسم الثاني من الجزء الرابع، ممّا سيجعل الكتاب صغيراً عندئذٍ، فإنّه أورد مقداراً من القسم الأوّل في القسم الثاني لئلّا يشعر أحد بالمقدار المحذوف.
في ضوء ذلك نلحظ في الطبعة الثالثة للكتاب التي تمّت بعد وفاة المؤلّف أنّ القسم الأوّل من الجزء الرابع يحوم حول سيرة الحسن، و الحسين، و زين العابدين عليهم السلام. أمّا القسم الثاني فإنّه يدور حول
سيرة سائر الأئمّة اعتباراً من الباقر حتى العسكريّ عليهم السلام.
و لهذا نجد في الطبعة المذكورة التي أنجزتها مطبعة الإنصاف ببيروت سنة ۱٣۸۰ هـ أنّ السيّد حسن ختم القسم الثاني من الجزء الرابع، ص ۱٩٤ بسيرة الإمام العسكريّ عليه السلام. و ذكر في هذه الصفحة قصّة سرقة حرم الإمامين العسكريّين عليهما السلام. و فيها كانت خاتمة الكتاب.
إنّها لخيانة عظمى و ذنب لا يغتفر، إذ يتلاعب الإنسان بكتابٍ صنّفه عالم جليل، و يطبعه باسمه و بإملائه. ثمّ لمّا كان هذا الإنسان لا يقرّ بإمام العصر و الزمان، فإنّه ينسب ذلك إلى أبيه العالم الشيعيّ المجاهد المعاني المتوفّى العاجز عن الكلام، و يختم الإمامة بالعسكريّ على لسانه و قلمه، و يعرّف العالم بأبيه على أنّه أحَدَ عَشَرِيّ (يؤمن بأحد عشر إماماً).
هل تعلم أنّ هذه القضيّة في منتهى الأهمّيّة؟! و لا أخال أنّ جريمة تفوق هذه الجريمة شدّة و نُكراً!
أوه يا عزيزي! إذا كنتَ لا تقرّ بإمام العصر و الزمان، فلا تقرّ به! طوبى لك! و إن كانت عينك لا تبصر، فلتكن كذلك! و اعلم أنّ أحداً لا يريد منك و من أمثالك المتغرّبين أن تفهموا ذلك و تعوه؛ و لكن لما ذا تنسب ذلك إلى عالم جليل، و مرجع عظيم، و مؤلّف مشهور من مؤلّفي الشيعة، و رجل قد كابد و عاني و تجاوز عمره الثمانين بين الكتب و المكتبات و التصنيف و العبادات و الزيارات و ...؟!
لما ذا تحذف اسم الإمام المهديّ مفترياً ذلك على لسانه و قلمه؟! و لما ذا تشطب على ذلك باطلًا؟! انكر ما شئت في المؤتمرات و اللقاءات التي تجمعك مع أترابك البيروتيّين و الجامعيّين المتفرنجين المتغرّبين! و ألِّف باسمك كتاباً و دائرة معارف و لا تذكر اسم الإمام! فلن يؤاخذك و لم يتعرّض لك أحد. و لِمَ ذاك؟ لأنّنا شهدنا هذا و أمثاله من ضروب الهتك
و الامتهان حتى أنّ الإنسان ليخجل من متابعة ذلك و الجواب عنه و محاججته بسبب عزّة وجوده، و شرف عمره و وقته.
بَيدَ أنْ نسبته إلى السيّد محسن الأمين صاحب «أعيان الشيعة» ذلك المجتهد الجليل الواعي، و تحريف كلامه، و حذف ٢٢٥ صفحة من كتابه و هي التي تحوم حول قائم آل محمّد، و الحطّ من شأن هذه الموسوعة الأصيلة التي خطّها يراعه، و تعريفه للعالم على أنّه أحد عشريّ، كلّ ذلك ذنب لا يغتفر. و أيم الله إنّها خيانة عظمى.
و من الطبيعيّ أنّي لا أظنّ انفرادي بالاطّلاع على هذه الامور بعد سنين طويلة من الفحص و التتبّع و المقابلة بين طبعات صاحب «الأعيان» و طبعات وَلَدِهِ. فكتاب «أعيان الشيعة» كتاب عالميّ، يُعدّ من امّهات المصادر الشيعيّة، فلا ريب في أنّ الكثيرين قد اطّلعوا على هذه الجريمة، و مارسوا ضغوطهم على مُعيد طبع الكتاب ليرى نفسه مضطراً إلى الحديث عن سيرة الإمام المهديّ صاحب الزمان عليه السلام. و لكنّه لمّا كان قد ختم القسم الثاني من الجزء الرابع بسيرة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام. فإنّه جعل هذا البحث في القسم الثالث من الجزء المذكور مقصوراً على ذلك. و طبعه في مطبعة دار التعارف للمطبوعات ببيروت تحت عنوان: القسم الثالث من الجزء الرابع بلا تأريخ. بَيدَ أنّه حذف و غيّر و بدّل أيضاً. و هذه حقيقة ملحوظة من خلال تطبيق هذا القسم مع الأصل. و طبع هذا القسم في كتاب ذي ۱٥٥ صفحة و خُتم بتوقيع المؤلِّف في الهامش الأخير.
تحريف و جريمة أُخرى للسيّد حسن الامين
جريمة جديدة مبتكرة
يبدو أنّ عقدة السيّد حسن الأمين من إنكار إمام العصر و الزمان ظلّت
ملازمة له حتى مع طبعه الاضطراريّ لسيرة الإمام؛ لهذا قام بتدوين دائرة معارف مستقلّة باسمه، لا باسم أبيه. و إنّي أقتني الطبعة الأولى لهذه الموسوعة البالغة ثمانية أجزاء و عنوانها: «دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة». و اعيد طبع الجزء الأوّل في بيروت سنة ۱٣٩٣ هـ، و الجزء الثامن فيها أيضاً سنة ۱٣٩٤ هـ.
و قد خصّص الجزء الثاني كلّه۱ لسيرة الأئمّة عليهم السلام، و قال في أوّله: هذا هو الجزء الثاني من «دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة» يتضمّن بقيّة سِيَر الأئمّة ثمّ نبتدئ البحوث مرتَّبةً على حروف المعجم.
ثمّ بدأ يتحدّث عن سيرة الزهراء عليها السلام، فالحسن المجتبى، فالأئمّة من بعده حتى الإمام العسكريّ عليهم السلام جميعاً. و تشتمل كلّ صفحة على ثلاثة أعمدة. و ختم سيرة الأئمّة عليهم السلام بالإمام العسكريّ عليه السلام في ص ٩٤، و لم يذكر كلمة واحده عن إمام العصر و الزمان و بعد أن تحدّث عن السيّد محمّد باقر الصدر تحت عنوان: دور الأئمّة في الحياة الإسلاميّة، و ختم حديثه في الصفحة ٩۷، فإنّه شرع بالحديث من ص ٩۸ حسب حروف المعجم، و جعل أوّل حرف من حروف المعجم: «آب حيات». ثمّ واصل كلامه وفقاً لترتيب حروف المعجم.
أجل، إنّه لم يذكر اسم بقيّة الله الأعظم، و ختم حديثه عن أئمّة الشيعة بالإمام العسكريّ عليه السلام في أنّ عنوان كتابه: «دائرة المعارف الشيعيّة»، و هو للتعريف بمذهب الشيعة، و القصد من الشيعة هنا هم الشيعة الاثنا عشريّة لا الأحد عشريّة.
هل من الصحيح أن يؤلّف الإنسان دائرة معارف باسم طائفة من الطوائف. ثمّ يتصرّف في معتقداتها من عنده، ثمّ ينسب ذلك إليها؟!
إن كلامنا مع هذا الرجل بل كلام كلّ إنسان عاديّ عاميّ معه هو: لا تعتقد بوجود إمام العصر و الزمان! لكن لما ذا تنسب ذلك إلى الشيعة؟! و تختم كلامك في التعريف بأئمّة الشيعة عليهم السلام بالإمام العسكريّ عليه السلام؟!
نحن لا نقول لك: كن شيعيّاً اثني عشريّاً! و لا نقول: كن مسلماً! نفرض أنّك يهوديّ أو نصرانيّ لا يعتقد بالرسالة الإسلاميّة أبداً، فضلًا عن الاعتقاد بولاية و خاتميّة بقيّة الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه المبارك، فإنّ اليهوديّ أو النصرانيّ إذا أراد أن يكتب عن عقيدة قوم ما، فإنّه لا يستطيع أن يُدخل عقائده الخاصّة فيها، و يعدّ عقيدتهم مزيجاً منها و من عقيدته، و من ثم يقدّمها إلى المجتمع. و على الشعوب المختلفة أن تراعي هذه القاعدة الصحيحة في التفتيش عن عقائد كلّ قوم و تقاليدهم.
و لا وزن للمستشرقين الذين قاموا ببحث عقائد الشرقيّين و تحريرها و تقريرها و تدوينها فأضافوا إليها أشياء من عندهم أو نقّصوا منها أو غيّروا في بيانها. فأمثال هؤلاء بلا هويّة و لا شخصيّة في دنيا العِلم. و يأتي مستشرق آخر فيبطل كلام المستشرق الذي سبقه، و يدلّ على مواضع تحريفه. أمّا المستشرقون الاصلاء- و هم قليلون جدّاً- فإنّهم لا يدعون البحث و التنقيب، و ما لم يوقنوا في استقرائهم و فحصهم، فلا ينسبون شيئاً إلى قومٍ ما، و يتّخذون موقف الحياد تماماً، و لا يضيفون إلى عقائد الآخرين شيئاً من آرائهم و أفكارهم و أهوائهم، و لا يمزجون عقائدهم بها؛ فكيف بشخصٍ إذا كانت له شخصيّته و سمعته فبفضل أبيه العظيم الذي لو قُطِّع إرباً إرباً لَما أنكر صاحب الأمر و الزمان؟! ثمّ يأتي هذا الشخص، فيحطّم أصل
ذلك و ركنه و دعامته في دائرة معارفه الشيعيّة، و يزعم أنّ الشيعة بُتر لا وليّ لهم و لا قيِّم يقيم شئونهم و لا صاحب اختيار يتولّى أمرهم خلافاً للنصوص الصريحة المأثورة عن رسول الله و الأئمّة واحداً بعد الآخر، و على عكس مشاهدة أصحاب اليقين و لقائهم، ثمّ ينسب هذه العقيدة إليهم. إنّ هذا المنطق عند أولى البصائر منطق عفن برائحة التجدّد و التغرّب و الانسلاخ عن الأصالة العائليّة، و ملوّث بالآراء السخيفة لزعانف ضيّقى الافق.
و يبدو أيضاً أنّ السيّد حسن الأمين شعر أنّه سيواجه انتقادات بسبب حذفه اسم بقيّة الله الأعظم من دائرة معارفه، فذكر سبعة أسطر قصيرة عن الإمام ليصون نفسه من هجمات المهاجمين، و كان ذلك في الطبعة المعادَة الواقعة في ثلاثة مجلّدات ضخمة تشمل اثني عشر جزءاً، و يستوعب المجلّد الأوّل منها أربعة أجزاء من الطبعة الأولى. و هذه الطبعة هي الطبعة الثالثة التي أنجزتها دار التعارف ببيروت سنة ۱٤۰۱ هـ. و ذكر السيّد ذلك في المجلّد الأوّل، القسم الثاني بعد أن أورد نفس المعلومات الموجودة في الطبعة الأولى عن الأئمّة عليهم السلام حتى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام. و ختمها في ص ٦٢. ثمّ قال بعدها ما نصّه:
مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ المَهْدِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
«ولد سنة ٢٥٥ هـ بسامرّاء في أيّام المعتمد، و لم يخلّف أبوه ولداً غيره و كانت سنّه عند وفاة أبيه خمس سنين. و كان سفراؤه في الغيبة الصغرى عثمان بن سعيد، ثمّ ابنه محمّد بن عثمان، ثمّ الحسين بن روح، ثمّ عليّ بن محمّد السَّمُريّ. و كان مولده و انقطاع السفارة أربع و سبعين سنة».
و يُلاحَظ في هذا الكلام أنّ المؤلّف لم يذكر فيه لقب صاحب الأمر أو صاحب الزمان أو بقيّة الله و أمثالها، و لم يُشِرْ إلى حياته و طول عمره
و ما وقع له، و غير ذلك في حين نجد أنّه ملأ المجلّدات الثلاثة الضخمة لدائرة معارفه البالغة اثني عشر جزءاً من الطبعة الأولى بشتّى الموضوعات.
أجل، إنّ قصدنا من ذكر هذا الموضوع هو أن يعلم الأصدقاء و الأحبّة من طلّاب العلوم الدينيّة الأعزّاء أنّ طبعات كتاب «أعيان الشيعة» التي أنجزها السيّد حسن كلّها محرّفة و لا اعتبار لها. و عليهم أن يراجعوا الطبعات الأولى التي تمّت في حياة المرحوم والده من أجل دراساتهم و تحقيقاتهم، و يتّخذوها مصدراً لأبحاثهم العلميّة.
و يجب أن لا نتوقّع من السيّد حسن الأمين أكثر من هذا، و هو الذي صدّر الكتاب بصورته التي يُشاهَد فيها هندامه الغربيّ، و ذقنه الحليق، و رباطه النصرانيّ. و ينبغي التثبّت من موضوعاته المنقولة و مقايستها بموضوعات صاحب «أعيان الشيعة»، و إلّا فهي كلّها لا وزن لها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ.۱
كلام الشيخ مغنية حول الجفر
لقد ذكر الشيخ محمّد جواد مغنية الجَفر في كتاب «الشيعة و التشيّع» فقال:
جاء في بعض مؤلّفات السُّنّة و الشيعة أنّ عند أهل البيت عِلم الجفر، و أنّهم يتوارثونه إماماً عن إمام إلى جدّهم الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله. و مِن كُتب السنّة التي جاء فيها ذكر الجفر: «المواقف» للإيجيّ، و شرحه للجرجانيّ الحنفيّ، و «الفصول المهمّة» لابن الصبّاغ المالكيّ. و قال أبو العلاء المعرّيّ ... .
(و نقل المرحوم مغنية بيتَي الشاعر المذكور، و كنّا قد أوردناهما سابقاً عن «أعيان الشيعة»، ثمّ قال بعد ذلك:) و نفى أفراد من السنّة و الشيعة ذلك، و لم يعتقدوا بشيء يسمّى الجفر عند أهل البيت، و لا عند غيرهم.
ما هو علم الجفر؟
و اختلف القائلون بوجود الجفر في تفسير معناه: فمن قائل بأنّه نوع من علم الحروف تُستخرج به معرفة ما يقع من الحوادث في المستقبل. و من قائل بأنّه كتاب من جلد،۱ فيه بيان الحلال و الحرام، و اصول ما يحتاج إليه الناس من الأحكام التي فيها صلاح دينهم و دنياهم.٢ و على هذا فلا يمتّ الجفر إلى الغيب بصلة.
و من الطريف أن يقول عالم كبير من علماء الأحناف، و هو الشريف الجرجانيّ بالأوّل، و أنّ الجفر الذي عند أهل البيت تُستخرج منه الحوادث الغيبيّة، و أن يخالفه في ذلك عالم كبير من الإماميّة، و هو السيّد محسن الأمين، و يقول بالثاني، و إنّه علم الحلال و الحرام فقط.
قال الجرجانيّ في كتاب «المواقف» و شرحه، ج ٦، ص ٢٢، ما نصّه بالحرف:
«الجفر» و «الجامعة» كتابان لعليّ رضي الله عنه، و قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث إلى انقراض العالم. و كان الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما.
و قال السيّد محسن الأمين في كتاب «نقض الوشيعة» ص ٢٩٥: ليس الجفر علماً من العلوم و إن توهّم ذلك كثيرون، و لا هو مبنيّ على جداول الحروف، و لا ورد به خبر و لا رواية- إلى أن قال:- و لكنّ الناس توسّعوا في تفسيره، و قالوا فيه أقاويل لا تستند إلى مستند. شأنهم في أمثال ذلك.
و قال في «أعيان الشيعة» القسم الأوّل، ج ۱، ص ٢٤٦، طبعة ۱٩٦۰ م: الظاهر من الأخبار أنّ الجفر كتاب فيه العلوم النبويّة من حلال و حرام، و ما يحتاج إليه الناس في أحكام دينهم، و صلاح دنياهم.۱
السيّد الأمين الذي تثق الإماميّة كافّة بعلمه و دينه ينفي الجفر بمعنى علم الغيب عن أهل البيت، و يثبته عَلَمٌ من أعلام الأحناف، و يقول: عِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا يَحْدُثُ إلَى انْقِرَاضِ العَالَمِ.
و بهذا يتبيّن ما في قول الشيخ أبي زهرة و غيره من الذين جعلوا القول بالجفر من اختصاص الإماميّة، و نسبوا لهم الزعم بأنّ أهل البيت يستخرجون منه علم الغيب. إنّ غير الإماميّة من الفرق الإسلاميّة يدّعون أمثال ذلك، ثمّ ينسبونه إلى الإماميّة، لا لشيء إلّا ليشنّعوا، و يهوّشوا، و كذلك فعلوا في دعوى تحريف القرآن و النقص منه، و دعوى الإيحاء و الإلهام.
هذا، إلّا أنّ مسألة الجفر ليست من اصول الدين و لا المذهب عند
الإماميّة، و إنّما هي أمر نقليّ تماماً كمسألة الرجعة، يؤمن بها من تثبت عنده، و يرفضها إذا لم تثبت، و هو في الحالين مسلم سنّيّ إن كان سنّيّاً، و مسلم شيعيّ إن كان شيعيّاً.۱
و نلاحظ في كلام آية الله السيّد محسن الأمين، و الشيخ محمّد جواد مغنية نفي علم الجفر بمعنى خصوص علم الغيب بطريق الاستكشاف للحوادث المقبلة. علماً أنّنا عرفنا أنّ عبارة «الإخبار عن بعض الحوادث» قد اضيفت في «أعيان الشيعة» و لكنّها حُذفت في «نقض الوشيعة» على ما نقل مغنية. و في هذا كلّه مواضع للتأمّل و الإشكال. و قبل أن نستعرض تلك المواضع، نرى من الضروريّ أن نبيّن كلام مغنية في علوم الإمام، ثمّ نطرح الإشكالات المثارة عليه، و نعرّج بعد ذلك على الإشكال الدائر حول موضوع بحثنا المتمثّل بعلم الجفر.
كلام الشيخ مغنية حول علم الغيب عند الائمّة عليهم السلام
قال مغنية في كتاب «الشيعة و التشيّع» بعد كلام موجز عن علوم الإمام: قال الشريف المرتضى في «الشافي» ص ۱۸۸، ما نصّه بالحرف: معاذ الله أن نوجب للإمام من العلوم إلّا ما تقتضيه ولايته، و اسند إليه من الأحكام الشرعيّة. و علم الغيب خارج عن هذا.
و قال في ص ۱۸٩: لا يجب أن يعلم الإمام بالحِرَف و المهن و الصناعات، و ما إلى ذاك ممّا لا تعلّق له بالشريعة. إنّ هذه يُرجَع فيها إلى أربابها، و إنّ الإمام يجب أن يعلم الأحكام، و يستقلّ بعلمه بها، و لا يحتاج إلى غيره في معرفتها، لأنّه وليّ إقامتها و تنفيذها.
و قال الطوسيّ في «تلخيص الشافي» المطبوع مع الكتاب المذكور، ص ٣٢۱: «يجب أن يكون الإمام عالماً بما يلزم الحكم فيه، و لا يجب أن يكون عالماً بما لا يتعلّق بنظره» كالشؤون التي لا تخصّه و لا يُرجع إليه فيها.
و هذا يتّفق تماماً مع قول الشيعة الإماميّة بأنّ الإمام عبد من عباد الله، و بشر في طبيعته، و صفاته، و ليس ملكاً، و لا نبيّاً. أمّا رئاسته العامّة للدين و الدنيا فإنّها لا تستدعي أكثر من العلم بأحكام الشريعة، و سياسة الشؤون العامّة.
و كيف يُنسَب إلى الشيعة الإماميّة القول بأنّ أئمّتهم يعلمون الغيب، و هم يؤمنون بكتاب الله، و يتلون قوله تعالى حكاية عن نبيّه: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ.۱ و قوله: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ.٢ و قوله: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ.٣
و قال الشيخ الطبرسيّ في «مجمع البيان» عند تفسير الآية ۱٢٣، من السورة ۱۱: هود: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ: لقد ظلم الشيعة الإماميّة مَن نسب إليهم القول بأنّ الأئمّة يعلمون الغيب. و لا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحدٍ من الخلق. فأمّا ما نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، و رواه عنه الخاصّ و العامّ من الأخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها، مثل الإيماء إلى صاحب الزنج، و إلى ما ستلقاه الامّة من بني
مروان، و ما إلى ذلك ممّا أخبر به هو و أئمّة الهدى من ولده. أمّا هذه الأخبار فإنّها متلقّاة عن النبيّ صلى الله عليه و آله ممّا أطلعه الله عليه. فلا معنى لنسبة من يروي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين الغيب، و هل هذا إلا سب قبيح و تضليل لهم، بل تكفير، لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير، و الله هو الحاكم و إليه المصير.
و إن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمّة، وجب طرحه باتّفاق المسلمين. قال الإمام الرضا عليه السلام: لَا تَقْبَلُوا عَلَيْنَا خِلَافَ القُرْآنِ؛ فَإنَّا إن تَحَدَّثْنَا حَدَّثْنَا بِمُوافَقَةِ القُرْآنِ وَ مُوافَقَةِ السُّنَّةِ. إنَّا عَنِ اللهِ وَ عَنْ رَسُولِهِ نُحَدِّثُ، وَ لَا نَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ.
فَإذَا أتَاكُمْ مَنْ يُحَدِّثُكُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَرُدُّوهُ! إنَّ لِكَلَامِنَا حَقِيقَةً، وَ إنَّ عَلَيْهِ لَنُوراً؛ فَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَ لَا نُورَ عَلَيْهِ فَذَاكَ قَوْلُ الشَّيْطَانِ.
و بكلمة، إنّ علوم الأئمّة و تعاليمهم يحدّها- في عقيدة الشيعة- كتابُ الله و سنّة نبيّه. و إنّ كلّ إمام من الأوّل إلى الثاني عشر قد أحاط إحاطة شاملة كاملة بكلّ ما في هذين الأصلين من الألف إلى الياء، بحيث لا يشذّ عن علمهم معنى آية من أي الذِّكر الحكيم تنزيلًا و تأويلًا، و لا شيء من سنّة رسول الله قولًا و فعلًا و تقريراً، و كفى بمن أحاط بعلوم الكتاب و السُّنّة فضلًا و علماً! إنّ هذه المنزلة لا تتسنّى و لن تتسنّى لأحدٍ غيرهم. و من هنا كانوا قدوة الناس جميعاً بعد جدّهم الرسول.
و قد أخذ أهل البيت علوم الكتاب و السنّة و فهموها و وعوها عن رسول الله تماماً، كما أخذها و وعاها رسول الله عن جبرائيل، و كما وعاها جبرائيل عن الله، و لا فرق أبداً في شيءٍ إلّا بالواسطة فقط لا غير. و نظم الشاعر الإماميّ هذا المعنى فقال:
إذا شئتَ أنْ تَبْغِي لِنَفْسِكَ مَذْهَباً | *** | يُنَجِّيكَ يَوْمَ البَعْثِ مِنْ لَهَبِ النَّارِ |
فَدَعْ عَنْكَ قَوْلَ الشَّافِعيّ وَ مَالِك | *** | وَ أحْمَدَ وَ المَرْوِيّ عَنْ كَعْبِ أحْبَارِ |
وَ والِ انَاساً نَقْلُهُمْ وَ حِديثُهُمْ | *** | رَوى جَدُّنَا عَنْ جَبْرَئِيلَ عَنِ البَارِي |
أخذ عليّ عن النبيّ، و أخذ الحسنان عن أبيهما، و أخذ عليّ بن الحسين عن أبيه. و هكذا كلّ إمام يأخذ العلم عن إمام. و لم يرو أصحاب السِّير و التواريخ أنّ أحداً من الأئمّة الاثني عشر أخذ عن صحابيّ أو تابعيّ أو غيره. فقد أخذ الناس العلم عنهم، و لم يأخذوه عن أحد.
قال الإمام الصادق عليه السلام: عَجَباً للنَّاسِ يَقُولُون: أخَذُوا عِلْمُهُمْ كُلَّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ، فَعَلِمُوا وَ اهْتَدُوا، وَ يَرونَ أنَّا أهْلُ بَيْتٍ لَمْ نَأخُذْ عِلْمَهُ وَ لَمْ نَهْتَدِ بِهِ، وَ نَحْنُ أهْلُهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ؛ في مَنَازِلِنَا انْزِلَ الوَحْيُ، وَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ العِلْمُ إلَى النَّاسِ، أ فَتَرَاهُمْ عَلِمُوا وَ اهْتَدُوا، وَ جَهِلْنَا وَ ضَلَلْنَا؟!
و قال الإمام الباقر عليه السلام: لَوْ كُنَّا نُحَدِّثُ النَّاسَ بِرَأيِنَا وَ هَوَانَا لَهَلْكَنا؛ وَ لَكِنَّا نُحَدِّثُهُمْ بِأحَادِيثَ نَكْنِزُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ، كَمَا يَكْنِزُ هَؤْلَاءِ ذَهَبَهُمْ وَ فِضَّتَهُمْ.
و بهذا يتبيّن الجهل، أو الدسّ في قول من قال بأنّ الشيعة يزعمون أنّ علم الأئمّة إلهاميّ، و ليس بكسبيّ؛ و ترقّى بعضهم فنسب إلى الشيعة القول بنزول الوحي على الأئمّة. و يردّ هذا الزعم مضافاً إلى ما نقلناه من أحاديث الأئمّة الأطهار ما قاله الشيخ المفيد في كتاب «أوائل المقالات»: قَامَ الاتِّفاقُ عَلَى أنَّ مَنْ يَزْعَمُ أنَّ أحَداً بَعْدَ نَبِيِّنَا يُوحَى إلَيْهِ فَقَدْ أخْطَأ
وَ كَفَرَ.۱
كان هذا كلام مغنية الذي كتبه حول علم الإمام من وحي حبّه و دفاعه عن حريم التشيّع. و لكن ينبغي أن لا يُفضي هذا الحبّ و الإشفاق إلى نسيان بعض المزايا و الفضائل الأصيلة التي كان يتّصف بها الأئمّة، دفعاً لكلام أهل السنّة و إخماداً لنائرة غوغائهم و افتعالهم المواقف و شغبهم.
نقد كلام مغنية و أمثاله في علم الغيب عند الائمّة
إن الكلام الذي نقله مغنية عن الأعلام- و له بيان حوله- بعضه صحيح، و بعضه الآخر غير صحيح، و ذلك للأسباب الآتية:
أوّلًا: على الرغم من أنّ الأئمّة قد توارثوا علمهم عن آبائهم، عن رسول الله صلى الله عليه و آله، و كانوا ذوي علم كسبيّ، بَيدَ أنّ هذا العلم مقترن مع علمهم الوجدانيّ الباطنيّ اللدنّيّ بلا ريب، و ما لم يشرق ذلك العلم النوريّ الباطنيّ في القلب، فإنّ العلم الكسبيّ وحده لا يحقّق الهدف.
إنّهم بشرٌ في غرائزهم و طبائعهم، و لكنّ بشريّتهم لا تحول دون تفتّق قابليّاتهم الذاتيّة و علمهم الحقيقيّ النابع من الأعماق. و لا تمنع من أن يكونوا- اختياراً لا اضطراراً و إجباراً- أولى ملكاتٍ و علوم لا ينالها كلّ أحدٍ من الناس. و هي الاطّلاع على المغيبات، و كشف الأسرار، و العلم بالضمائر و النيّات و وقوع الحوادث، و أمثال ذلك.
و عند ما نشاهد مثل هذه العلوم لدى العلماء بالله و بأمر الله، و هم بين ظهرانينا، فهل يليق بنا أن ننكر ذلك على أهل البيت، لا لذنبٍ إلّا لأنّهم أهل البيت، و قد أخذوا علومهم بعضهم عن بعض؟!
إن أخذ كلّ إمام علومه من الإمام السابق له أمر ثابت لا ريب فيه؛
و لكن هذا لا يعني أنّ الإمام السابق قد بيّن للإمام اللاحق جميع الفروع الجزئيّة اعتباراً من أوّل كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الديات، أو عدّ له جزئيّات العلوم العقليّة و المعارف الإلهيّة.
بل يعني أنّ الإمام السابق أعطى الإمام اللاحق الكلّيّات و الاصول. أمّا تفرّع الفروع، و شرحها و بسطها و توسيعها حسب حالاتها المختلفة، و وفقاً للبيئة المناسبة و الامّة الجديرة المستعدّة، و تمشّياً مع متطلّبات الزمان و المكان، فذلك كلُّه يعود إلى الإمام اللاحق.
في ضوء ذلك، فإنّ الوصول إلى الجزئيّات من كلّيّات الكتاب و السنّة يتطلّب منهم ممارسة القوّة العقليّة و الإدراك القلبيّ. و هو ما يُعَبَّر عنه بالمشاهدات الغيبيّة، و هم يستأثرون به دون غيرهم.۱
نحن لا نقول: إنّ هذا محال على سائر الناس، و لكن نقول: إنّ غالب الناس بل معظمهم لا يطوون هذا الطريق، و إنّ استعداداتهم القلبيّة لكشف الغيب تظلّ خافية، بَيدَ أنّ الأئمّة عليهم السلام طووا هذا الطريق و تصدّروا فحازوا مقام الإمامة و القيادة. و إذا ما أراد الآخرون أن يطووا هذا الطريق فإنّ صراط الله مفتوح أمامهم، و سيصلون إلى المكان الذي وصل إليه الأئمّة، مع أنّ مقام الإمامة و الريادة لهم دون غيرهم، و هو غير قابل للزوال
و التغيير و التبديل.
ثانياً: ما ذا تقولون في أئمّة تصدّوا للإمامة في سنّ الطفولة و لم يُمضوا أيّامهم و لياليهم الطويلة مع آبائهم الأماجد على امتداد أعمارهم؟! و ما ذا تقولون في إمام العصر و الزمان الذي فقد أباه و هو ابن أربع سنين؟! هل تقولون: إنّه كان يفضي إليه منذ ولادته إلى حين وفاته قوله: قال أبي عَنْ جَدِّي ... عن رسول الله كذا؟! و لو عمّر الإمام مائتي سنة و كان ابنه حيّاً، فإنّ هذا المسائل الجزئيّة لا تنتهي عند حدٍّ معيّن.
ما ذا تقولون في الإمام الجواد عليه السلام؟! لقد كان ابن سبع أو تسع سنين عند وفاة أبيه الرضا عليه السلام، و أضيفوا إلى ذلك أنّ الإمام الرضا عليه السلام كان نائياً عنه قرابة عامين، و لم يكن هناك ارتباط ظاهريّ بينهما، فالإمام الجواد عليه السلام لم يدرك أباه إلّا خمس أو سبع سنين.
أنتم تقولون في جواب هذا: إنّ علومهم علوم لدنّيّة. و حضور الإمام و غيبته سواء فابن الأربع أو الخمس أو السبع سنين يمكن من خلال انكشاف حقائق التوحيد و المعرفة في قلبه أن يصبح إماماً للُامّة و مرجعاً لشيوخها الطاعنين في السنّ الذين ليست لهم تلك الدرجة من التوحيد و المعرفة و السعة و الإحاطة الكلّيّة، و إلّا لتحقّق تقدّم المفضول على الأفضل، و سيفقد إشكالكم على ابن أبي الحديد القائل: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي قَدَّمَ المَفْضُولَ عَلَى الأفْضَلِ. شأنه و أهمّيّته.
و هذا الجواب لا يختصّ بالإمام الجواد و الإمام المهديّ عليهما أفضل الصلاة و السلام، بل هو كذلك بالنسبة إلى جميع الأئمّة. فالأئمّة عليهم السلام اولو علم كسبيّ و لدنّيّ غير اكتسابيّ.
ثالثاً: أنّ الآيات القرآنيّة التي تحصر علم الغيب بالله تعالى هي على حالها، بَيدَ أنّ المقصود هو الاستقلال. و لكن ما ضرّ لو أنّ الله أعطاه غيره
على سبيل الظهور و المظهريّة دون أن يكون هناك استقلال في البين؟!
رابعاً: كان دأب الشيعة و أئمّتهم النظر في الآيات القرآنيّة مترابطةً، و ملاحظة عامّها و خاصّها. فإنّ للآيات التي تحصر علم الغيب بالله عموميّتها، بَيدَ أنّ الآيات الكريمة: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.۱ خاصّة و تخصّص عموميّتها، و محصّلة ذلك: الله عالم الغيب و لا يُطلع أحداً على غيبه إلّا مَن ارتضى من رسول فإنّه يخبره بغيبه.
و لمّا كانت هذه الآية تتخصّص في كلّ رسولٍ و كلّ نبيّ، و أنتم تقولون: إنّ جميع صفات الأنبياء و علوم المرسلين ثابتة للأئمّة الاثني عشر إلّا النبوّة كما في الحديث المجمع عليه بين الفريقين: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي، فإنّ كافّة مقامات الأنبياء و درجاتهم ثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام إلّا النبوّة. و إنّ مزاياه و علومه و درجاته عليه السلام برمّتها ثابتة للأئمّة الطاهرين عليهم السلام من بعده كما أجمع على ذلك علماء الشيعة، و إنّ من أهمّ درجاته و مقاماته العلم بالغيب و كشف الأسرار الإلهيّة و الاطّلاع على الخفايا و العلوم الربوبيّة التوحيديّة التي تستوعب سائر المكاشفات المثاليّة.
و لقد تحدّثنا في الجزء الحادي عشر، و الثاني عشر من هذا الكتاب عن علم أمير المؤمنين عليه السلام فقط، و استوعب الجزء الثاني عشر كلّه علومه الغيبيّة. و ذكرنا في الدرس ۱٦٦ إلى الدرس ۱۷۰ منه معلومات لا تُنكَر حول علومه الغيبيّة عليه أفضل صلوات المصلّين، و ذلك عند
تفسير الآية المباركة: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.
هذا ما يعود إلى علوم الإمام و علم أمير المؤمنين عليه السلام بشكل عامّ. و أمّا فيما يخصّ علم الجفر الذي حصره- تبعاً لصاحب «أعيان الشيعة»- في علم الحلال و الحرام و المصالح الدنيويّة و الامور الاخرويّة، و حذف منه المكاشفات الغيبيّة بلا دليل، فينبغي أن نقول في جوابه و جواب مؤلّف «أعيان الشيعة» اللذين ذُكر كلامهما مفصّلًا:
لما ذا ننكر علم الجفر بمعنى الكشف عن حوادث المستقبل، و الاطّلاع على المغيبات عبر بسط الحروف بالاسلوب الذي علّم فيه رسول الله صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين عليه السلام؟! و لِمَ لا نعدّه علماً مستقلّا و كاملًا- لا كالجفر المشهور اليوم؟!- أمّا في مقام الثبوت، فقاعدة إمكانه العقليّ تقوم على القانون الآتي: كلّما قَرَعَ سَمْعَك مِنَ الغَرَائِبِ فَذَرْهُ في بُقْعَةِ الإمْكَانِ مَا لَمْ يَذُدكَ عَنْهُ قَائِمُ البُرهَانِ.۱
و أمّا في مقام الإثبات، أ فلا تكفي الأدلّة النقليّة كلّها؟!
إثبات علم الغيب بالجفر في كلام الإيجيّ و المير السيّد شريف
و ألا يكفي كلام الإيجيّ- و هو من متكلّمي العامّة المحقّقين- في كتاب «المواقف»، و شهادة المحقّق الجليل المير السيّد شريف الجرجانيّ في «شرح المواقف»، إذ يقول بصراحة مذعناً: إنّ «الجفر» و «الجامعة» كتابان لعليّ عليه السلام قد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم، و كان الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما و يحكمون بهما- و كان هذا الرجل الكبير من متكلّمي العامّة، و له أفضل حاشية على كتاب «المطوّل» للتفتازانيّ تدلّ على تتبّعه و اطّلاعه و باعه في اللغة العربيّة- إنّها شهادة رجل كان الشاعر الشيعيّ فخر الإسلام و التشيّع حافظ الشيرازيّ تلميذه، و كان يحضر درسه بانتظام.۱
ألا تكفي شهادة ابن صبّاغ المالكيّ في كتابه النفيس القيِّم «الفصول المهمّة» الذي يعدّ أحد المصادر المهمّة التي ينقل عنها علماء الشيعة الكبار حتى الآن؟!
ألا يكفي دلالة نصف الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المجال، و نحن ذكرناها عن «بصائر الدرجات» للصفّار نقلًا عن المجلسيّ، و هناك قال الإمام الرضا عليه السلام بصراحه: «إنّ الجفر و الجامعة يدلّان على أنّ هذا الأمر (ولاية العهد) لا يتمّ»؟!
أ لا يكفي الكلام المفصّل في «كشف الظنون» و هو لرجل سنّيّ، و نحن نقلناه بتمامه سابقاً؟!
ألا يكفي كلام محمّد بن طلحة الشافعيّ في كتاب «مطالب السؤول» و هو من أعاظم علماء السنّة، و كلامه ممّا يحتجّ به علماء الشيعة، إذ يُلحظ في مصنّفاتهم موضوعات عالية و قيِّمة منقولة عن كتابه المذكور؟!
ألا يكفي كلام ابن خلدون في مقدّمته، و قد عرضناه بنحو مفصّل. قال فيه: «و قد صحّ عنه (الإمام الصادق عليه السلام) أنّه كان يُحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول. و قد حذّر يحيى ابن عمّه زيد من مصرعه و عصاه فخرج و قتل بالجوزجان كما هو معروف». و ذكر كلاماً مفصّلًا في شرح وقائع مثلها و قال ما معناه: لا شكّ في صدور مثل هذا عن أهل البيت؟!
هذه كلّها من المصادر المهمّة المتقنة المعروفة المشهورة عند أهل السنّة. و كلامها حجّة للمؤرّخين و أهل السير و المتكلّمين، فضلًا عن مئات الكتب التي صنّفها علماء الشيعة، و ذُكر فيها الجفر. و لم يرتابوا في انتسابه إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
و قرأنا شعر أبي العلاء المعرّيّ و لاحظنا كيف بيّن الأمر و دلّ عليه دفاعاً عن أهل البيت، و رفعاً لتعجّب المشكّكين. و كلّنا نعرف أنّ أبا العلاء كان متشدّداً في البحث، و لم ينقاد بسرعةٍ لكلامٍ ما لم يقم عليه الدليل و البرهان.
و ما أروع ما برهن عليه ابن خلدون في حديثه عن هذا الموضوع! فقال: و إذا كانت الكرامة تقع لغيرهم، فما ظنّك بهم علماً و ديناً و آثاراً من النبوّة و عناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطيّبة؟ و وقع لجعفر و أمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه- و الله أعلم- الكشف بما كانوا عليه من الولاية، و إذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم و أعقابهم.
صعوبة تصديق كثير من المسائل الغيبيّة لغير أهل العرفان من العلماء
و حينئذٍ ينبغي أن نقول لصاحب «أعيان الشيعة» وَ مَن يَحذُو حَذْوَهُ: إنّ استبعادكم في غير محلّه. و لو كنتم تحضرون درس العارف الكبير المرحوم الآخوند الملّا حسين قُلي الهمدانيّ في النجف كبعض تلامذته، لتَيسَّر عليكم تصديق هذه الامور و نظائرها، و لكن لستم أنتم فحسب، بل كلّ عالم لم يرتو من ذلك المشرب، و قنع بالفقه و الاصول و الحديث و التفسير، و لم يشرق قلبه بالأنوار الملكوتيّة، و لم يلمس عوالم الغيب شهوداً فإنّه يُمنى بهذا الألم.
اللهمّ إلّا أن يتعبكم بحث بعض علماء السنّة و كتاباتهم، فيقولون لكم من باب الجدل تبعاً لكلامكم: الدليل على أحقّيّتنا أنّ كثيراً ما شوهد بيننا
عرفاء كبار كان لهم شهود وجدانيّ و علوم غيبيّة، و أسماؤهم و سيرهم و مناهجهم مسطورة في الكتب، و مذهبهم موجود هذا اليوم. و أمّا أنتم فلا تؤمنون بالانكشافات الباطنيّة و العلوم الشهوديّة لأئمّتكم المعصومين الذين ترون أنّهم خلفاء رسول الله، فعلماؤنا الذين ساروا في طريق العرفان أفضل من أئمّتكم و أعلى شأناً منهم و عندئذٍ ترتبكون، و تبادرون إلى إثبات العلوم الغيبيّة لهم بما فيها علم الجفر بألف دليل و دليل لئلّا تتخلّفوا عن القافلة! أجل، إنّ هذا الضرب من الاستدلال لا يعطِّر النفوس. و يظلّ هذا الموضوع غامضاً على المؤمن الشيعيّ ما لم ينهج السلوك العمليّ، و لم يسر في طريق أئمّته عليهم السلام. من أجل أن يتوفّر على معرفتهم.
و لم يحضر المرحوم السيّد محسن الأمين درس الآخوند، و هو نفسه يأسف على ذلك. قال في الجزء الرابع من كتاب «معادن الجواهر» ص ۷۷: ثمّ اكترينا داراً في محلّة الحويش، و انتقلنا إليها و شرعنا في الدرس و التدريس. و كان جارنا الشيخ ملّا حسين قلي الهمدانيّ الفقيه العارف الأخلاقيّ المشهور. فحضرتُ يومين في درسه الأخلاقيّ، ثمّ تركتُ و عكفتُ على دروس الاصول و الفقه، ثمّ ندمتُ على أن لا أكون حضرتُ درسه الأخلاقيّ إلى آخر حياته. و قد توفّي و نحن في النجف الأشرف. و كان جُلَّ تلاميذه العرفاء الصالحون، و فيهم بعكس ذلك، لأنّ الحكمة كماء المطر إذا نزل على ما ثمره مُرٌّ ازداد مرارةً، و إذا نزل على ما ثمره حلوٌ ازداد حلاوةً.
لا نقصد هنا أنّ تلاميذ الآخوند أولى جفر يكشفون به المغيبات، بل نقصد أنّ تلاميذه الجيّدين الذين أحاطوا بعالم المثال و العقل كانت جميع الامور حاضرة في قلوبهم كلّ لحظة، و هي مشهودة أمام بصائرهم. و هذه منزلة لا يبلغها الجفر و الرمل.
إن القصد هو أنّ تصديق الجفر و أمثاله عمل يسير على السالك في طريق الله الذي توفّرت له الإحاطة المثاليّة و العقليّة، فلا يطلب دليلًا متقناً دامغاً أبداً، لأنّ ثبوته له مسألة مفروغ منها في المراحل الأولى، إذ يكفيه المقدار الموجود من الأدلّة النقليّة لإثباته.
إخبار آية الله بهجت ما في ضمير المؤلّف
و من الطريف أنّه زارني في مدينة مشهد هذه الأيّام أحد العلماء الأعاظم،۱ و ذكر في سياق كلامه موضوعاً لا يُحمل إلّا على الاطّلاع على السرائر و الامور الغيبيّة المثاليّة.
علماً أنّي اصبتُ بنوبة قلبيّة في شهر شوّال سنة ۱٤۱٣ هـ فرقدت أربع ليالٍ في غرفة الإنعاش (تحت المراقبة الخاصّة) و تسع ليالٍ في الردهة العامّة في مستشفى القائم بمدينة مشهد المقدّسة، ثمّ أذِنَ لي الأطبّاء بالخروج من المستشفى و الحمد للّه، و جئتُ إلى البيت و ها أنا أزاول أعمالى العلميّة نوعاً ما.
و ذات يوم زارني أحد العلماء الكبار و معه أحد الطلّاب، و كنت في البيت مع ولدي الأكبر الحاجّ السيّد محمّد صادق.
و من نِعَمِ اللهِ عَلَيّ أنّي كنتُ مواظباً على إقامة الليل تهجّداً و عبادةً و ذلك قبل إصابتي بالنوبة القلبيّة، و لكنّي حُرمتُ من هذه النعمة حين مرضي. و عند ما عدتُ إلى منزلي فإنّي تركتُ هذه العبادة مدّة لتثاقلي و فتور همّتي و حالة الأرق التي تلازمني لساعاتٍ متوالية من الليل. فقال لي الزائر الكريم بعد المجاملات المألوفة و السؤال و الاستفسار عن صحّتي و أحوالي من دون تمهيد: رأيتُ في «بحار الأنوار» حديثاً من أحد الأئمّة، و فيه: قِيَامُ اللَّيْلِ أو صَلَاةُ اللَّيْلِ (لا أتذكّر بالضبط عبارته) مَطِيَّةُ اللَّيْلِ.۱
فسكتُّ و كنت أستمع إليه فقط، و يبدو أنّي لم أتلقَّ ذلك إرشاداً لي، و لم أجد في عزماً على مواصلة صلاة الليل.
و دار الحديث حول موضوعاتٍ شتّى، فأعاد كلامه: رأيتُ في «بحار الأنوار»: قِيَامُ اللَّيْلِ أو صَلَاةُ اللَّيْلِ مَطِيَّةُ اللَّيْلِ. و قال تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا.٢
و لمّا كنتُ أعلم أنّ ولدي كان من أهل التهجّد، فعرفت أنّ ذلك الكلام كان موجّهاً لي من أجل تنبيهي و إيقاظي، إذ ينبغي أن لا نترك هذه الصلاة المهمّة، و ينبغي ألّا نزهد عنها و ننظر إليها باستخفاف حتى لو كنّا في حال المرض و التوعّك.
فهل يحسن بنا أن نشكّ في علم الأئمّة الطاهرين بالغيب و الاطّلاع على السرائر و الخفايا كالجفر الذي هو أمرٌ معلوم، في حين أنّنا ننظر هذا الموضوع و أمثاله بامّ أعيننا؟
و من المناسب هنا- و نحن نختم بحثنا عن كتاب «الجفر» لأمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين- أن نذكر كلام المستشار عبد الحليم الجنديّ في هذا المجال:
قال: أمّا كتاب الجفر المنسوب إلى الإمام الصادق، فيقول عنه ابن خلدون (۷٣٢- ۸۰٦ هـ) (۱٣٣٢- ۱٤۰٦ م):
و اعلم أنّ كتاب الجفر كان أصله أنّ هارون بن سعيد البجليّ- و هو رأس الزيديّة- كان له كتاب يرويه عن جعفر الصادق. و فيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم و لبعض الأشخاص منهم على الخصوص. وقع ذلك لجعفر و نظائره من رجالاتهم على طريق الكرامة و الكشف الذي يقع لمثلهم.
و كان مكتوباً عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون البجليّ و كتبه و سمّاه الجفر باسم الجلد الذي كُتب عليه، لأنّ الجفر في اللغة هو الصغير. (و لمّا كان قد كتب على جلد ثور صغير، لذا سُمّي الجفر). و صار هذا الاسم عَلَماً على الكتاب عندهم. و كان فيه تفسير القرآن و ما في باطنه من غرائب المعانيّ مرويّةً عن جعفر الصادق. و هذا الكتاب لم تتّصل روايته و لا عرف عينه. و إنّما يظهر منه شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل. و لو صحّ السند إلى جعفر الصادق لكان نِعْم المستند من نفسه أو من رجال قومه. فهم أهل الكرامات. و قد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصبح كما يقول. و الروايات متضافرة على أنّ «الجفر» غير «الجامعة». و البعض يقول: إنّ الجفر من مؤلّفات عليّ أملاه عليه النبيّ.
و هو جفران: الأبيض و هو وعاء من أدم فيه علوم الأنبياء و الوصيّين و الذين مضوا من علماء بني إسرائيل. و الأحمر فيه علم الحوادث
و الحروب.۱
من الطبيعيّ أنّ المؤلّف المحترم يرى أنّ كتاب الجفر للإمام الصادق عليه السلام. و نسبه إلى أمير المؤمنين عليه السلام على قول خاصّ. و لكن كما رأينا هو لأمير المؤمنين عليه السلام. و ورثه الإمام الصادق عليه السلام كسائر المواريث.
الصحيفة التي فيها أسماء الشيعة عند الإمام الصادق هي غير الجفر
و من الجدير ذكره أنّ «صحيفة الجفر» هي غير الصحيفة التي كانت عند الإمام الصادق عليه السلام، و فيها أسماء الشيعة كلّهم كما أشار إلى ذلك صاحب «سفينة البحار».٢ و روى المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن كتاب «الاختصاص» للشيخ المفيد، عن محمّد بن عليّ، عن ابن المتوكّل، عن عليّ بن إبراهيم، عن اليقطينيّ، عن أبي أحمد الأزديّ، عن عبد الله بن فضل الهاشميّ أنّه قال: كنتُ عند الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام إذ دخل المفضَّل بن عمر. فلمّا بصر به ضحك إليه، ثمّ قال: إلَيّ يا مفضّل! فَوَ رَبِّي إنِّي لُاحِبُّكَ وَ احِبُّ مَنْ يُحِبُّكَ! يَا مُفَضَّلُ! لَوْ عَرَفَ جَمِيعُ أصْحَابِي مَا تَعْرِفُ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ!
قال المفضّل: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! لَقَدْ حَسِبْتُ أنْ أكُونَ قَدْ انْزِلْتُ فَوْقَ مَنْزِلَتِي.
فقال: بَلْ انْزِلْتَ المَنْزِلَةَ التي أنْزَلَكَ اللهُ بِهَا.
فقال: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! فَمَا مَنْزِلَةُ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ مِنْكُمْ؟!
قال: مَنْزِلَةُ سَلْمَانَ مِنْ رَسُولِ اللهِ.
فقال: فَمَا مَنْزِلَةُ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ الرَّقِّيّ مِنْكُمْ؟!
قال: مَنْزِلَةُ المِقْدَادِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
قال: ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيّ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنِ الفَضْلِ! إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى خَلَقَنَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، وَ صَنَعَنَا بِرَحْمَتِهِ، وَ خَلَقَ أرْواحَكُم مِنَّا. فَنَحْنُ نَحِنُّ إلَيْكُمْ وَ أنْتُمْ تَحِنُّونَ إلَيْنَا! وَ اللهِ لَوْ جَهَدَ أهْلُ المَشْرِقِ وَ المَغْرِبِ أن يَزِيدُوا في شِيعَتِنَا رَجُلًا وَ يَنْقُصُوا مِنْهُمْ رَجُلًا مَا قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَ إنَّهُمْ لَمَكْتُوبُونَ عِنْدَنَا بِأسْمَائِهِمْ وَ أسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَ عَشَائِرِهِمْ وَ أنْسَابِهِمْ يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ الفَضْلِ! لَوْ شِئْتَ لأرَيْتُكَ اسْمَكَ في صَحِيفَتِنَا؟!
قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِصَحِيفَةٍ فَنَشَرَهَا فَوَجَدْتُهَا بَيْضَاءَ لَيْسَ فِيهَا أثَرُ الكِتَابَةِ! فَقُلْتُ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! مَا أرَى فِيهَا أثَرَ الكِتَابَةِ!
قَالَ: فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَوَجَدْتُهَا مَكْتُوبَةً وَ وَجَدْتُ في أسْفَلِهَا اسْمِي، فَسَجَدْتُ لِلَّهِ شُكْراً.۱
٣- كتاب «الديات» أو «صحيفة الديات»
و هو أحد الكتب التي ألّفها أمير المؤمنين عليه السلام. كان معلّقاً بسيفه دائماً. و فيه مقدار الديات المختلفة للجرائم المتنوّعة.
و اعِدَّ هذا الكتاب- على ما قاله الإمام في مواطن عديدة- بإملاء رسول الله، و خطّه (خطّ الإمام) عليهما الصلاة و السلام. و عند ما كان يُسأل الإمام في حالات مختلفة: هل نزل عليك الوحي؟! كان يجيب: لا!
ليس عندنا إلّا هذا المصحف، و هذه الصحيفة المعلّقة بذؤابة السيف، إلّا أن يمنّ الله على عبده بفهم كتابه.
حديث السيّد حسن الصدر عن كتاب «الديات»
قال السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام»: و له عليه السلام كتاب سمّاه «الصحيفة» كان في الديات، و كان يعلّقه بسيفه. و عندي منه نسخة. و قد روى البخاريّ في صحيحه عنه في باب كتابة العلم، و باب إثم مَن تَبَرَّأ مِنْ مَوَالِيهِ.۱
و قال الخطيب البغداديّ: ذِكْرُ الرِّوايَةِ عَنْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ في ذَلِكَ (في لزوم الكتابة و تقييد العلم). ثمّ روى بسنده عن إبراهيم، عن أبيه أنّه قال: خَطَبَنَا عَلِيّ فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أنَّ عِنْدَنَا شَيْئاً نَقْرأهُ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ تعالى وَ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ- قَالَ: صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ في سَيْفِهِ فِيهَا أسْنَانُ الإبِلِ وَ شَيءٌ مِنَ الجِرَاحَات-٢ فَقَدْ كَذَبَ.
و فيها: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أحْدَثَ فيهَا حَدَثاً، أو آوَى مُحْدِثاً٣ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ الملَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لَا عَدْلًا.٤
وَ مَنِ ادَّعَى إلى غَيْرِ أبِيهِ، أوِ انْتَمَى إلى غَيْرِ مَوَالِيهِ٥ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ
وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لَا عَدْلًا.
وَ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ. فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لَا عَدلًا.۱
و كذلك روى الخطيب بسنده عن طارق أنّه قال: رأيتُ عليّاً عليه السلام على المنبر يقول: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَأهُ عَلَيْكُمْ. إلَّا كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ هَذِهِ «الصَّحِيفَةُ». وَ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ في سَيْفٍ، عَلَيْهِ حَلْقَةُ حَدِيدٍ، وَ بَكَرَاتُهُ حَدِيدٌ، فِيهَا فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ٢ قَدْ أخَذَهَا مِن رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.٣
و تحدّث الشيخ محمود أبو ريّة مفصّلًا عن هذا الكتاب تحت عنوان حديثُ «صَحِيفَةِ عَلِيّ رَضِي اللهُ عَنْهُ»، قال فيه: هذا الحديث رواه الجماعة: أحمد، و الشيخان، و أصحاب السُّنن بألفاظٍ مختلفة.
روايات البخاريّ في «صحيفة الديات»
أمّا البخاريّ فقد رواه عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ:
قُلْتُ لِعَلِيّ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟! قَالَ: لَا، إلَّا كِتَابُ اللهِ، أوْ فَهْماً أعْطَاهُ رَجُلًا مُسْلِماً، أوْ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ»!
قُلْتُ: وَ مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ»؟! قَالَ: العَقْلُ، وَ فِكَاكُ الأسِيرِ، وَ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.۱
و رواية الكشْميهَنيّ: و أنْ لَا يُقْتَلَ ... إلى آخره. و في كتاب الجهاد بلفظ:
قُلْتُ لِعَلِيّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحي؟ إلَّا مَا في كِتَابِ اللهِ؟!
قَالَ: لَا، وَ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَ بَرَأ النَّسَمَةَ، مَا أعْلَمُهُ إلَّا فَهْمَاً يُعْطِيهِ اللهُ رَجُلًا في القُرْآنِ وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ»؟!
قُلْتُ: وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ»؟!
قَالَ: العَقْلُ، وَ فِكَاكُ الأسِيرِ، وَ أنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ!
و في باب الديات: سَألْتُ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِمَّا لَيْسَ في القُرْآنِ؟!
فَقَالَ: وَ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ، مَا عِنْدَنَا إلَّا مَا في هَذَا القُرْآنِ، إلَّا فَهْماً يُعْطَي رَجُلٌ في كِتَابِهِ، وَ مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ!
قُلْتُ: وَ مَا في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟! قَالَ: العَقْلُ، وَ فِكَاكُ الأسِيرِ ... إلى
آخره.
و في باب حرم المدينة من كتاب الحجّ عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه بلفظ:
مَا عِنْدَنَا شَيءٌ إلَّا كِتَابُ اللهِ وَ هَذِهِ «الصَّحِيفَةُ» عَنِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إلَى كَذَا. مَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً، أوْ آوَى مُحْدِثاً، فَعَلَيْهِ لَعْنُةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ.
وَ قَالَ: ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ؛ فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ.
و في باب ذمّة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ:
خَطَبَنَا عَلِيّ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَأهُ إلَّا كِتَابُ اللهِ وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ». قَالُوا: وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَة»؟!
فَقَالَ: فِيهَا الجِرَاحَاتُ، وَ أسْنَانُ الإبِلِ، وَ المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى كَذَا. فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً أوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ.
وَ مَن تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ.
و في باب إثْمُ مَنْ عَاهَدَ ثُمَّ غَدَرَ بلفظ: عَنْ عَلِيّ قَالَ: مَا كَتبْنَا عَنِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلَّا القُرْآنَ وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ»: قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: المَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إلَى كَذَا، فَمَنْ أحْدَثَ حَدَثاً أوْ آوَى مُحْدِثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ.
وَ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ. فَمَنْ أخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ. وَ مَن والَى قَوْماً بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَ لَا عَدْلٌ.
و في باب إثْمُ مَن تَبَرَّأ مِنْ مَوالِيهِ بلفظ: مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَأهُ إلَّا كِتَابُ اللهِ وَ غَيْرُ هَذِهِ «الصَّحِيفَة»؛ وَ أخْرَجَهَا فَإذا فِيهَا أشْيَاءُ مِنَ الجِرَاحَاتِ، وَ أسْنَانِ الإبِلِ. وَ فِيهَا: المَدِينَةُ حَرَامٌ ... إلى آخره. و ذكر مسألة الولاء فمسألة الذمّة بمثل ما تقدّم.
و في باب كراهة التعمّق و التنازع و الغلوّ في الدين من كتاب الاعتصام بلفظ:
خَطَبَنَا عَلِيّ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍ فَقَالَ: وَ اللهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَا إلَّا كِتَابُ اللهِ وَ مَا في هَذِهِ «الصَّحِيفَةِ»، فَنَشَرَهَا فَإذا فِيهَا: أسْنَانُ الإبِلِ؛ وَ إذا فِيهَا المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٌ إلَى كَذَا، فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ ... وَ ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ فَمَنْ أخْفَرَ فَعَلَيْهِ ... .
وَ إذا فِيهَا: مَنْ والَى قَوْماً بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ ... .
(إلَّا أنَّهُ قَالَ): لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَ لَا عَدْلًا.
هذه روايات البخاريّ (صاحب «الصحيح» في هذا المجال).
كلام أبو ريّة حول «صحيفة الديات»
ثمّ قال الشيخ محمود أبو ريّة: و روايات مسلم و أصحاب السُّنن بمعنى روايات البخاريّ. و صرّح مسلم بِحَدَّي المدينة، و هما: عير و ثور (جبلان).
و قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث عليّ رضي الله عنه من طريق إبراهيم التيميّ، عن أبيه: إنّ «الصحيفة» كانت مشتملة على كلّ ما ورد. أي: فكان يذكر كلّ راوٍ منها شيئاً، إمّا لاقتضاء الحال ذكره دون
غيره، و إمّا لأنّ بعضهم لم يحفظ كلّ ما فيها، أو لم يسمعه؛ و لا شكّ أنّهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كلّه، و لذلك وقع الخلاف في ألفاظهم؛ و لم يقل الرواة: «إنّه قرأها عليهم» برمّتها فحفظوها أو كتبوها عنه، بل تدلّ ألفاظهم على أنّه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، و من قرأها لهم كلّها أو بعضها لم يكتبوها، بل حدّثوا بما حفظوا.
و منه ما هو من لفظ الرسول صلى الله عليه و آله، و منه ما هو إجمال للمعنى كقوله: «العقل، و فكاك الأسير»، فإنّ المراد بالعقل دية القتل. و سمّيت عقل لأنّ الأصل فيها أن تكون إبلًا تُعقَلُ، أي: تربط بالعقل في فناء دار المقتول أو عصبته المستحقّين لها. و قوله: «أسنان الإبل» في بعض الروايات، معناه ما يشترط في أسنان إبل الدية أو الصدقة ... إلى آخره.
و جمله القول: إنّنا لا نعلم أنّ أحداً كَتَب عن أمير المؤمنين ما كان في تلك «الصحيفة» بنصّه، و لا أنّه هو كتبها بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله، لأنّه قال في رواية قتادة عن أبي حسان: إنّه سمع شيئاً فكتبه.
و إذا كان لنا من كلمة نعلّق بها على أمر هذه «الصحيفة» المنسوبة إلى عليّ رضي الله عنه، و ما جاء فيها من روايات مختلفة في كتب الحديث، فهي أنّنا لا نطمئنّ إلى ما جاء فيها من روايات مهما كان رواتها. و حسبك أن تجد ابن حجر قد قال في هذه الروايات ما قال.
و مردّ شكّنا إلى أنّ عليّاً رضي الله عنه إذا كان قد أراد أن يكتب عن رسول الله ما يراه نافعاً للدين و للمسلمين، فلا تكفيه مثل هذه «الصحيفة» التي كان يضعها كما يقولون في قراب سيفه؛ و إنّما كان يكتب آلاف الأحاديث في جميع ما يهمّ المسلمين، و هو صادقٌ في كلّ ما يكتب إذا أراد.
على أنّنا قد أفدنا من أخبار هذه «الصحيفة» فائدة كبيرة، إذ أثبتت لنا
كيف تفعل الرواية بالمعنى فعلها، و أنّها كانت ضرراً على الدين و على اللغة و الأدب، كما سنبيّنه قريباً إن شاء الله.۱
إنّنا نهدف من وراء ذكر هذه الأحاديث الكثيرة التي نقلها هذا العالم السنّيّ الواعي من «صحيح البخاريّ» إلى بيان نقطة مهمّة، و هي: أنّ أصل تحقّق هذه «الصحيفة»، بناء على ما رواه المخالفون من الأحاديث الكثيرة، سندٌ للشيعة في كتابة و تدوين أمير المؤمنين عليه السلام. و أمّا قدحه بالنحو الملحوظ، فلا وجه له، لأنّ كلّ راوٍ ذكر طرفاً منه. و كان هذا في مسائل حدود الديات و الجراحات و نظائرها. و أمّا جميع المسائل في الشؤون المهمّة المختلفة فقد كانت في كتاب «الجامعة» الذي مرّ شرحه و تفصيله. كما صرّح به أبو ريّة نفسه في قوله: إنّ الشيعة يقولون: إنّ أوّل من جمع الحديث و رتّبه على الأبواب أبو رافع مولى رسول الله.٢ و له كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا». و قالوا: فلا أقدم منه في ترتيب الحديث و جمعه في الأبواب.٣
و قال العالم الكبير محمّد الحسين آل كاشف الغطاء النجفيّ في كتاب
«المطالعات و المراجعات و الردود»:۱ إنّ أوّل من دوّن الحديث ابن أبي رافع كاتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، خازنه على بيت المال، بل الحقّ أنّ أوّل من دوّنه هو نفس أمير المؤمنين عليه السلام كما يدلّ عليه خبر «الصحيفة» في الصحيحين (صحيح البخاريّ و مسلم).٢
و من كلام أبو ريّة على صحيفة أمير المؤمنين عليه السلام مطلب نقله عن السيّد رشيد رضا. قال: نَخْتِمُ هَذَا الموْضُوعَ بِكَلِمَةٍ قَيِّمَةٍ لِلْعَلَامَةِ السَّيِّدِ رَشِيدِ رِضَا رَحِمَهُ اللهُ:
إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجّة على من تثبت عنده و اطمأنّ قلبه بها، و لا تكون حجّة على غيره يلزم العمل بها. و لذلك لم يكن الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الأحاديث و يدعون إليها؛ مع دعوتهم إلى اتّباع القرآن و العمل به و بالسُنّة العمليّة المتّبعة المبيّنة له إلّا قليلًا من بيان السنّة كـ «صحيفة عليّ رضي الله عنه» المشتملة على بعض الأحكام كالدية، و فكاك الأسير، و تحريم المدينة كمكّة ... إلى آخره.٣
أجل، لأبي ريّة الحقّ، لأنّه أخرج هذه الأحاديث من مصادر العامّة كالبخاريّ و مسلم؛ و بلغ عنادهم في حذف حديث أمير المؤمنين عليه السلام، أو بتره، أو تحريفه، أو إسقاطه درجة صار معهاً غير خافٍ على أحدٍ، بل لا يخفى على كثير من علماء السنّة المنصفين.
روايات الشيعة حول «صحيفة الديات»
و لو راجع أبو ريّة كُتُب الشيعة في هذا المجال، لكان الأمر واضحاً كالشَّمْسِ في السَّمَاءِ الضَّاحِيَةِ. و لأقرّ بهذه الحقيقة. كما روى رئيس
المحدِّثين صاحب دائرة المعارف الشيعيّة الكبرى، أعني جَدُّنَا الأعلى من جانب امِّ الوالِد: محمّد باقر المجلسيّ قدّس سرّه في كتاب «بحار الأنوار»، عن كتاب «بصائر الدرجات»، عن محمّد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن محمّد بن الفضيل، عن بكر بن كَرَب الصَّيرفيّ قال: سمعتُ أبا عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام يقول:
مَا لَهُمْ وَ لَكُمْ؟ وَ مَا يُريدُونَ مِنْكُمْ وَ مَا يَعِيُبونَكُمْ؟! يَقُولُونَ: الرَّافِضَةُ! نَعَمْ وَ اللهِ رَفَضْتُمْ الكَذِبِ وَ اتَّبَعْتُمُ الحَقَّ.
أمَا وَ اللهِ إنَّ عِنْدَنَا مَا لَا نَحْتَاجُ إلَى أحَدٍ، وَ النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَيْنَا. إنَّ عِنْدَنَا الكِتَابَ بِإمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَطِّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ، صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً، فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَ حَرَامٍ.۱
و في «بصائر الدرجات» أيضاً بسنده المتّصل عن أبي أراكة أنّه قال: كنّا مع عليّ عليه السلام بمسكن فحدّثنا أنّ عليّاً عليه السلام ورث من رسول الله صلى الله عليه و آله السيف، و بعض يقول: البغلة، و بعض يقول: ورث صحيفة في حمائل السيف، إذ خرج عليّ عليه السلام و نحن في حديثه، فقال: وَ أيْمُ اللهِ لَوْ انْشَطُ وَ يُؤْذَنُ لَحَدَّثْتُكُمْ حتى يَحُولَ الحَوْلُ لَا اعِيدُ حَرْفاً.
وَ أيْمُ اللهِ إنَّ عِنْدِي لَصُحُفاً كَثِيرَةً قَطَائِعُ٢ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ أهْلِ بَيْتِهِ، وَ إنَّ فِيهَا لَصَحِيفَةً يُقَالُ لَهَا: العِيطَةُ٣، وَ مَا وَرَدَ عَلَى
العَرَبِ أشَدَّ عَلَيْهِمْ مِنْهَا، وَ إنَّ فِيهَا لَسِتِّينَ قَبِيلَةً مِنَ العَرَبِ بَهْرَجَةً مَا لَهَا في دِينِ اللهِ مِنْ نَصِيبٍ.
و نقل المجلسيّ في بيانه عن «القاموس» قائلًا: البهرج: الباطل الرديء. و البهرجة أن يعدل بالشيء عن الجادّة القاصدة إلى غيرها. و المُبهرج من المياه: المهمل الذي لا يمنع عنه. و من الدماء: المهدر۱.
«صحيفة الفرائض» التدوين الرابع أمير المؤمنين عليه السلام الرابع
٤- «صَحِيفَةُ الفَرِائِضِ» أو «صَحِيفَةُ كِتَابِ الفَرَائِضِ»
أو «فرائضُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ»
روى المجلسيّ رضي الله عنه في «بحار الأنوار» عن «بصائر الدرجات»، عن محمّد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن الحسين، عن أبي مخلّد، عن عبد الملك قال:
دَعَا أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكِتَابِ عَلِيّ فَجَاءَ بِهِ جَعْفَرٌ مِثْلَ فَخِذِ الرَّجُلِ مَطْوِيّ، فَإذَا فِيهِ: إنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ مِنْ عِقَارِ الرَّجُلِ إذا هُوَ تُوُفِّيَ عَنْهَا شَيءٌ. فَقَالَ أبُو جَعْفرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا وَ اللهِ خَطُّ عَلِيّ بِيَدِهِ وَ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ!٢
قال آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ: «صحيفة الفرائض» أو «صحيفة كتاب الفرائض» أو فرائض عليّ عليه السلام كما وقع التعبير بذلك كلّه عنها في الأخبار. و يحتمل أن تكون هي المراد بكتاب عليّ الوارد في
بعض الأخبار؛ و يحتمل غيره. و هذه أيضاً كانت عند الأئمّة عليهم السلام و رآها عندهم ثقات أصحابهم. و نُقِلَ كثير من محتوياتها في كتب الشيعة برواية الثقات عن الثقات إلى اليوم.
فكانت عند الباقر عليه السلام. روى الشيخ أبو جعفر محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي» عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن عليّ بن حديد، عن جميل بن دُرَّاج، عن زرارة قال: أمر أبو جعفر أبا عبد الله فأقرأني «صحيفة الفرائض» فرأيتُ جلّ ما فيها على أربعة أسهم.
و روى الكلينيّ أيضاً عن أبي عليّ الأشعريّ، عن عمر بن اذينة، عن محمّد بن مسلم قال: أقْرَأنِي أبُو جَعْفَرٍ «صَحِيفَةَ كِتَابِ الفَرَائِضِ» التي هي إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ وَ إذا فِيهَا: إنَّ السِّهَامَ لَا تَعُولُ.
و رواها الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه بإسناده. و روى الكلينيّ هذا المضمون بسندين آخرين. و كذلك رواه الشيخ أبو جعفر الطوسيّ بسند آخر.
و كانت بعد الإمام الباقر عند ولده الإمام جعفر الصادق عليهما السلام.
و روى الشيخ أبو جعفر الطوسيّ بإسناده عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن عليّ بن أسباط، عن محمّد بن عمران، عن زرارة قال: أرانِي أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «صَحِيفَةَ الفَرَائِضِ» فَإذَا فِيهَا (الحديث).
و الظاهر أنّها هي «الصحيفة» التي كانت عند الباقر عليه السلام.
روى الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب، عن محمّد بن مسلم قال: نَشَرَ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَحِيفَةً
فَأوَّلُ مَا تَلَقَّانِي فِيهَا: ابْنُ أخٍ وَ جَدٍّ المَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ (إلى أن قال) فَقَالَ: إنَّ هَذَا بِخَطِّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ إمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و رواها الكلينيّ بسند آخر. و قال في آخرها: فَقَالَ أبُو جَعْفَر: أمَا إنَّهُ إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِنْ فِيهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَدِهِ!
و روى الصفّار في «بصائر الدرجات» بسنده عن سليمان بن خالد، عن الصادق عليه السلام (إلى أن قال:) فَلْيُخْرِجُوا قَضَايا عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ فَرَائِضَهُ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ (الحديث).
و الظاهر أنّ المراد بنو الحسن عليه السلام؛ و المراد بالقضايا إمّا قضاياه في الفرائض و المواريث أو مطلق قضاياه، فتكون قد دوّنت في ذلك الزمان و وجدت عند آله عليهم السلام.۱
«كتاب الستّين» التدوين الخامس لأمير المؤمنين عليه السلام
٥- «كتاب السِّتِّين»
ذكر آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ رضي الله عنه كتاباً أملى فيه أمير المومنين عليه السلام ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن؛ و ذكر لكلّ نوع مثالًا يخصّه. و هو الأصل لكلّ مَن كتب في أنواع علوم القرآن.
و هذا الكتاب أورده المجلسيّ في بحاره نقلًا عن أبي عبد الله محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعمانيّ في تفسيره للقرآن، و رواه النعمانيّ عن الحافظ ابن عقدة بسنده المتّصل إلى الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام أنّه نسبه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. و يبلغ ثلاث عشرة ورقة إلّا
ربع بالقطع الكامل كلّ صفحة منها ٢۷ سطراً، كلّ سطر ٢٣ كلمة.
و أشار إلى هذا الكتاب الرافعيّ في كتابه «إعجاز القرآن» فقال: و تزعم الشيعة أنّ عليّاً أملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن. و ذكر لكلّ نوع منها مثالًا يخصّه. و أنّ ذلك في كتاب يروونه عنه من طرق عدّة، و هو في أيديهم إلى اليوم. و ذلك و إن كان قريباً فيما يعطيه ظاهره غَيْرَ أنَّهُ بِالحِيلَةِ عَلَى تَقْرِيبِهِ صَارَ أبْعَدَ مِنْهَا وَ أمْحَضَ في الزَّعْمِ- انتهى.
و نخاله يُشير بذلك إلى ما في كتاب «الشيعة و فنون الإسلام» المذكور فيه هذه العبارة في موضعين، و لكن نفسه لم تطاوعه على الاعتراف بهذا الكتاب و الإذعان بأنّ عليّاً عليه السلام باب مدينة علم المصطفى صلى الله عليه و آله أملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن في كتاب ترويه الشيعة بأسانيدها و هو في أيديها إلى اليوم، و جعل ذلك حيلة على تقريبه من الحقيقة.
يَا سُبْحَانَ اللهِ! كيف يمكن أن يصدر مثل هذا الكتاب من أمير المؤمنين و سيّد العلماء و الموحّدين و وارث علوم خير النبيّين صلى الله عليه و آله، و مَن قال في حقّه رسول الله صلى الله عليه و آله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؟!
و كيف يمكن أن يصدّق به الرافعيّ و رواته من الشيعة و هو بأيديهم، بل هو بالحيلة على تقريبه من الحقيقة صار أبعد منها؟!
لا يصدّق الرافعيّ بهذا و يقول في حاشية كتابه المذكور: إنّ لبعض المحقّقين من مشايخ الصوفيّة دقائق في التفسير لا تتّفق لغيرهم لسموّ أرواحهم و نور بواطنهم، و منهم كان الإمام السلطان الحنفيّ صاحب المقام المشهور في القاهرة. سمعه يوماً شيخ الإسلام البلقينيّ يفسِّر آية، فقال: لقد طالعتُ أربعين تفسيراً فما وجدت فيها شيئاً من تلك الدقائق- انتهى.
و حكى الرافعيّ في حاشية كتابه المذكور عن بعض العلماء أنّه استخرج من القرآن الكريم أنّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا،۱ إشارة إلى التصوير الشمسيّ.
و أنّ قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ،٢ إشارة إلى أنّ مادّة الكون هي الأثير.
و أنّ قوله تعالى في السماوات و الأرض: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما،٣ إشارة إلى أنّ الأرض انفتقت من النظام الشمسيّ.
و أنّ قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ،٤ إشارة إلى أنّ للجمادات حياة قائمة بماء التبلور.
و أنّ قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى،٥ دالّ على تلاقح النبات، إلى غير ذلك.
و هذا ليس ببعيد عمّا حواه القرآن من العلوم. و إن فيه تبيان كل شيء.٦ و لكن مَن يصدّق بذلك كيف يعظم عليه أن يصدّق بأنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام أملى ستّين نوعاً من علوم القرآن؟
ردّ العلّامة الامين على الرافعيّ بشأن «كتاب السِّتِّين»
و قال آية الله الأمين العامليّ هنا: و قد رأينا من المناسب أن نذكر هنا سندنا إلى هذا الكتاب الذي نرويه به إجازة عن مشايخنا، المتّصل إلى أهل بيت النبوّة عليهم السلام، و نورد نُبذاً منه ... .
ثمّ قال: لنا عدّة طرق إلى ابن عقدة راوي هذا الكتاب بسنده إلى الإمام جعفر الصادق عليه السلام الذي أسنده إلى أمير المؤمنين عليه السلام. نذكر منها هنا طريقاً واحداً لاتّصال السند به.
و يروي المرحوم الأمين هنا بسلسلة سنده المتّصل إلى ابن عقدة، و عنه إلى إسماعيل بن جابر، عن الإمام الصادق عليه السلام. و يذكر بالتفصيل أسماء العلماء الواردة في سلسلة الرواية معنعناً؛ إلى أن يصل إلى قول الصادق أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى بَعَثَ مَحمَّد صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَخَتَمَ بِهِ الأنْبِيَاءَ فَلَا نَبِيّ بَعْدَهُ، وَ أنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَاباً فَخَتَمَ بِهِ الكُتُبَ فَلَا كِتَابَ بَعْدَهُ. أحَلّ فِيهِ حَلَالًا وَ حَرَّمَ حَرَاماً. فَحَلَالُهُ حَلَالٌ إلَى يَوْمِ القيَامَةِ، وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
و يذكر المرحوم الأمين هنا جميع الأنواع الستّين بإيجاز بعضها حسب ألفاظ الرواية. ثمّ يورد بعد ذلك الآيات الخاصّة بالناسخ و المنسوخ، المبيَّنة في هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام. و من ذلك حكم زنا المرأة في الجاهليّة حيث كانت تُحبس حتى يأتيها الموت، و زنا الرجل حيث كان يُشتَم و يؤذَي و يُعَيَّر و يُنفي عن المجالس. و نُسخ ذلك بآية إقامة حدّ الزنا على الرجل و المرأة في القرآن الكريم.
و من ذلك العدّة كانت في الجاهليّة على المرأة سنة كاملة، ثمّ نُسخت بالآية التي جعلتها أربعة أشهر و عشرة أيّام.
و من ذلك حكم مداراة المشركين و تحمُّل أذاهم، ثمّ نُسخ بآيات الجهاد.
و من ذلك فرض القتال على المسلمين، إذ جُعل على الرجل الواحد منهم أن يقاتل عشرة من المشركين. ثمّ نُسخ ذلك بآية فرض القتال إذا كان واحد من المسلمين فإنّه يقاتل اثنين من الكافرين.
و من ذلك حكم الإرث بين المسلمين على أساس الاخوّة في الدين، و نسخ ذلك بحكمه على أساس القرابة و الرحم.
و من ذلك آيات وجوب الصلاة إلى البيت الحرام، حيث نَسَخَتْ آيات وجوبها إلى بيت المقدس. و منه آيات القصاص التي نسخت حكم التوراة. و منه نسخ الأحكام الشاقّة التي كانت على بني إسرائيل. و منه نسخ الحكم بوجوب الامتناع عن مباشرة النساء و الأكل و الشرب في ليالي شهر رمضان المبارك بالآية التي تبيح الأكل و الشرب و مباشرة النساء فيها حتى طلوع الفجر الصادق.
و كثير من الآيات المنسوخة بأحكام قرآنيّة جديدة.
ثمّ ذكر أمثلة من المحكم و المتشابه؛ و أمثلة من الآيات التي ظاهرها العموم، و معناها الخصوص؛ و الآيات التي ظاهرها الخصوص و معناها العموم؛ و الآيات التي لفظها ماضٍ و معناها مستقبل؛ و آيات العزائم و الرخص، و الاحتجاج على الملحدين، و الردّ على عَبدَة الأصنام، و الثنويّة، و الزنادقة، و الدهريّة، و النصارى، و غير ذلك ممّا فصّله صاحب كتاب «أعيان الشيعة». و هو يحتوي على موضوعات رائعة مركّزة. بَيدَ أنّا اكتفينا بذكر اصولها هنا مراعاة للإيجاز.۱
٦- كتاب الإمام عليه السلام إلى مالك الأشتر
و محمّد ابن الحنفيّة
هذان الكتابان المقطوع صدورهما عن الإمام، و أوّلهما في «نهج
البلاغة»، و الثاني ذكره صاحب «أعيان الشيعة» في ترجمة الأصبغ بن نُباتة، و سائر كتب الإمام الموجودة في «نهج البلاغة»، و غيره يمكن أن نعدّها بمجموعها من مدوّنات الإمام و مصنّفاته، ذلك أنّها رسائل خطّها يراعه المبارك.
و قد أحصى المرحوم الأمين هذه كلّها، و بعض الكتب التي دوّنها الإسلام في الفقه، كلًّا على حدة، فبلغت مع «مصحف فاطمة» اثني عشر أثراً. و لكنّا راعينا الإيجاز هنا فاجتزأنا بهذا المقدار بسبب إدغام بعضها في بعض، و عدم ذكر البعض.
«مصحف فاطمة» من مدوّنات على عليه السلام
۷- «مصحف فاطمة عليها السلام»
أو «كتاب فاطمة»
الذي هو من الكتب المعتبرة الموثوقة التي كتبها الإمام نفسه آخر كتبه المدوّنة المصنّفة في العدّ و الإحصاء، بِحَوْلِهِ وَ قوّته و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
الروايات في هويّة «مصحف فاطمة» ..
و نقل المجلسيّ في «بحار الأنوار» روايات كثيرة عن «بصائر الدرجات» تذكر أنّ للإمام كتاباً عنوانه «مصحف فاطمة»، و كان بخطّه عليه السلام؛ و جاء في كثير من هذه الأخبار أنّ هذا «المصحف» ليس فيه شيء من القرآن.
منها أنّه روى عنه، عن عبّاد بن سليمان، عن سعد، عن عليّ بن أبي حمزة. عن العبد الصالح عليه السلام أنّه قال: عِنْدِي «مُصْحَفُ فَاطِمَة» لَيْسَ فِيهِ شَيءٌ مِنَ القُرْآنِ.۱
و في بعضها: أنّه كلام جبرئيل عليه السلام و كان أمير المؤمنين عليه السلام يكتبه؛ كما في رواية «البصائر» عن الإمام الصادق عليه السلام، و منها:
قَالَ لَهُ: فَمُصْحَف فَاطِمَةَ؟! فَسَكَتَ طَويلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وَ عَمَّا لَا تُرِيدُونَ! إنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ و آلِهِ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ يَوْماً، وَ قَدْ كَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أبِيهَا، وَ كَانَ جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أبِيهَا وَ يُطَيِّبُ نَفْسَهَا وَ يُخْبِرُهَا عَنْ أبِيهَا وَ مَكَانِهِ وَ يُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا في ذُرِّيَّتِهَا، وَ كَانَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْتُبُ ذَلِكَ. فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ عَلَيْهِا السَّلَامُ.۱
و في بعضها: أنّ الله تعالى كان يرسل إليها ملكاً و أمير المؤمنين عليه السلام يكتب. كما في رواية المجلسيّ عن «بصائر الدرجات»، عن أحمد بن محمّد، عن عمران بن عبد العزيز، عن حمّاد بن عثمان أنّه قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول:
تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ سَنَةَ ثَمَانِيَةٍ وَ عِشْرِينَ وَ مِائَةٍ وَ ذَلِكَ لأنِّي نَظَرْتُ في مُصْحَفِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَ مَا «مُصْحَفُ فَاطِمَة»؟!
فَقَالَ: إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تعالى لَمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ. فَأرْسَلَ إلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي عَنْهَا وَ يُحَدِّثُهَا.
فَشَكَتْ ذَلِكَ إلى أمِير المُؤْمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ لَهَا: إذا أحْسَسْتِ
بِذَلِكَ وَ سَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لي. فَأعْلَمَتَهُ، فَجَعَلَ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ حتى أثْبَتَ مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أمَا إنَّهُ لَيْسَ مِنَ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ، وَ لَكِنْ فِيهِ عِلْمُ مَا يَكُونُ.
قال المجلسيّ في بيانه: قال في «القاموس»: أحْسَسْتُ وَ أحْسَيْتُ وَ أحَسْتُ بسين واحدة، و هو من شواذّ التخفيف: ظَنَنْتُ وَ وَجَدْتُ وَ أبْصَرْتُ وَ عَلِمتُ. وَ الشَّيْءَ: وَجَدْتَ حِسَّهُ.۱
و في بعضها أنّ ذلك المصحف كلام الله أنزله على فاطمة، و كان رسول الله يمليه، و أمير المؤمنين عليهم الصلاة و السلام أجمعين يكتبه. كما روى ذلك المجلسيّ عن «بصائر الدرجات» بسنده المتّصل عن محمّد بن مسلم أنّه قال:
قال أبو عبد الله عليه السلام لأقوام كانوا يأتونه و يسألونه عمّا خلّف رسول الله صلى الله عليه و آله و دفعه إلى عليّ عليه السلام، و عمّا خلّف عليّ عليه السلام و دفع إلى الحسن عليه السلام:
وَ لَقَدْ خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عِنْدَنَا جِلْداً مَا هُوَ جِلْدُ جِمَالٍ وَ لَا ثَوْرٍ وَ لَا جِلْدَ بَقَرَةٍ إلَّا إهَابَ شَاةٍ، فِيهَا كُلُّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ حتى أرْشُ الخَدْشِ وَ الظُّفْرِ.
وَ خَلَّفَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ مُصْحَفاً مَا هُوَ قُرْآنٌ، وَ لَكِنَّهُ كَلَامٌ مِنْ كَلَامِ اللهِ أنْزَلَهُ عَلَيْهَا، إمْلَاءُ رَسُولِ اللهِ وَ خَطُّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قال المجلسيّ في بيانه: قال الفيروزآباديّ: إهَاب ككتاب: الجلد أو
ما لم يُدبغ. و المراد برسول الله جبرئيل عليه السلام.۱
هذا من جهة المُملي لمصحف فاطمة؛ و أمّا من جهة المتن و المفاد، فقد رأينا في الروايات الواردة أنّه ليس قرآناً، و ليس من الحلال و الحرام، و إنّما يشتمل على الحوادث و الوقائع التي ستحدث في المستقبل. كما أنّ فيه ما يُسلّي سيّدة نساء العالمين و يطيّب نفسها المقدّسة و يخفّف عنها.
كما روى المجلسيّ عن «بصائر الدرجات» بسنده عن الوليد بن صبيح أنّه قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يَا وَلِيدُ! إنِّي نَظَرْتُ في مُصْحَفِ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ قُبَيْلَ فَلَمْ أجِدْ لِبَنِي فُلَانٍ فِيهَا إلَّا كَغُبَارِ النَّعْلِ.٢
و قال آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ في مصحف فاطمة عليها السلام: تكرّر ذكره في أخبار أهل البيت عليهم السلام. فعن «الإرشاد» و «الاحتجاج» في حديث:
كَانَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: وَ إنَّ عِنْدَنَا الجَفْرَ الأحْمَرَ وَ الجَفْرَ الأبْيَضَ وَ مُصْحَفَ فَاطِمَةَ (إلى أن قال:) وَ أمَّا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ فَفِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ حَادِثٍ وَ أسْمَاءُ مَنْ يَمْلِكُ إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ (الحديث).
و نقل المرحوم الأمين هنا الأخبار الواردة حول هذا المصحف مفصّلًا، و ذلك عن «بصائر الدرجات» و غيره. و ذكر في آخرها الروايات الآتية:
عن «البصائر» بسنده عن أبي بصير قال: سمعتُ أبا عبد الله عليه السلام يقول: مَا مَاتَ أبُو جَعْفَرٍ البَاقِر عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى قَبَضَ مُصْحَفَ فَاطِمَةَ.
و عنه، عن عبد الله بن جعفر، عن موسى بن جعفر، عن الوشّاء، عن أبي حمزة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: مُصْحَفُ فَاطِمَةَ مَا فِيهِ شَيءٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَ إنَّمَا هُوَ شَيءٌ ألْقِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتَ أبِيهَا صلى اللهُ عَلَيْهِمَا.
و لا يخفى أنّه تكرّر في هذه الأحاديث نفي أن يكون فيه شيء من القرآن مؤكّداً بالقسم. و الظاهر أنّه لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنّه أحد نُسخ المصاحف الشريفة، فنفي هذا الإيهام.
و جلّها ساكت عمّا حواه ذلك المصحف. و في بعضها أنّه: لَيْسَ فِيهِ مِنَ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ، وَ لَكِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَكُونُ. فهو مفسِّر لها. و في بعضها: إنَّ فِيهِ وَصِيَّتَها، و لعلّها أحد محتوياته. ثمّ إنّ بعضها دالّ على أنّه من إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و خطّ عليّ عليه السلام. و بعضها دالّ على أنّه ممّا نزل به جبرئيل بعد موت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم. و في «البحار» أنّ المراد برسول الله هو جبرئيل.
كلام العلّامة الامين حول عظمة مصحف فاطمة عليها السلام
و قال المرحوم الأمين هنا: فيرتفع التنافي، و لكن هذا بعيد و لم تجر عادة أن يُعبّر عن جبرئيل برسول الله، و إن كان من جملة رسل الله. و الأولى أن يقال إنّهما مصحفان: أحدهما: من إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و خطّ عليّ عليه السلام. و الآخر: من حديث جبرئيل عليه السلام.
و أنا أقول: ما ضرَّ لو كان مصحفاً واحداً بخطّ عليّ عليه السلام؟ غاية الأمر أنّ مقداراً منه كان بإملاء الرسول الأكرم في حياته، و مقداراً كان من حديث جبرئيل بعد مماته. و يبدو أنّ هذا التقريب أنسب لوجوه
معيّنة.
ثمّ قال المرحوم الأمين: لا استبعاد و لا استنكار في أن يحدّث جبرئيل الزهراء عليها السلام، و يسمع ذلك عليّ عليه السلام، و يكتبه في كتاب يطلق عليه «مصحف فاطمة» بعد ما روى ذلك عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ثقات أصحابهم.
و كأنّي بمن يستنكر ذلك أو يستبعده أو يعدّه غلوّاً، و هذا خارج عن الإنصاف. فهل يشكّ في قدرته تعالى، أو في أنّ البضعة الزهراء أهل لمثل هذه الكرامة، أو في صحّة ذلك، بعد ما رواه الثقات عن أئمّة الهدى من ذرّيّتها؟ و قد وقع من الكرامة العظيمة لآصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام، و هو ليس بأكرم على الله من آل محمّد، و لا سليمان أكرم عليه من محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم ما أخبر عنه القرآن الكريم.
و أخبر الكتاب العزيز عن امّ موسى بقوله: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ۱ (الآية). و قال ابن خلدون: إنّه روى عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ فِيكُمْ مُحَدَّثِينَ. و روى صاحب «إرشاد الساري» عن بعض الصحابة: كُنْتُ احَدَّثُ حتى اكْتَوَيْتُ.٢
و أنّه رأى بعض الصالحين الخضر يسدّد عمر بن عبد العزيز و لا يراه سائر الناس كما مرّت الإشارة إلى ذلك كلّه و هو من طريق غير الشيعة.
و روى صاحب «السيرة الحلبيّة» و غيره ما يدلّ على أنّ أهل البيت عليهم السلام جاءتهم التعزية من جبرئيل بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم يسمعون الصوت و لا يرون الشخص. أ فلا يرفع هذا استبعاد صدور
الكرامات من بَضْعَةِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ سَيِّدَة نِسَاءِ العَالَمِينَ، وَ مِنْ سَائِرِ العِتْرَةِ الطَّاهِرَةِ؟!۱
و نقل شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد بن مؤيّد الحمّوئيّ في كتابه النفيس الثمين رواية تنطبق على ما يحويه مصحف فاطمة سلام الله عليها؛ فلهذا نذكرها فيما يأتي لمناسبة حديثنا عن ذلك المصحف الشريف:
قال تحت عنوان: [أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَلِيَّاً بِكِتَابَةِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِ ثُمَّ بَيَانِ بَرَكَاتِ الأئمّة مِنْ وُلْدِهِ وَ أنَّ أوَّلَهُمْ هُوَ الإمَامُ الحَسَنُ وَ بَعْدَهُ الحُسَيْنُ وَ أنَّ الأئمّةَ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ وُلْدِهِ]:
كتابة على أسماء الائمّة بإملاء رسول الله صلوات الله عليهم
٥٢۷- أخبرني السيّد النسّابة جلال الدين عبد الحميد، عن ابنه الإمام شمس الدين شيخ الشرف فخّار بن مَعْد الموسويّ، عن شاذان بن جبرئيل القمّيّ، عن جعفر بن محمّد الدوريستيّ، عن أبيه، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن بابويه٢ قال: أنبأنا أبي قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن حَمَّاد بن عيسى، عن إبراهيم بن عُمَر اليمانيّ، عن أبي الطفيل:
عَن أبي جعفر عليه السلام قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لأمِيرِ المؤُمِنِينَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اكْتُبْ مَا امْلِي عَلَيْكَ!
قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ وَ تَخَافُ عَلَى النِّسْيَانَ؟!
فَقَالَ: لَسْتُ أخَافُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَ قَدْ دَعَوْتُ اللهَ عَزَّ وَ جلَّ لَكَ أنْ
يُحَفِّظَكَ وَ لَا يُنْسِيَكَ۱ وَ لَكِنِ اكْتُبْ لِشُرَكَائِكَ!
قَالَ: قُلْتُ: وَ مَنْ شُرَكَائِي يَا نَبِيّ اللهِ؟!
قَالَ: الأئمَّةُ مِنْ وُلْدِكَ، بهِمْ يُسْقَى امَّتِي الغَيْثَ، وَ بِهِمْ يُسْتَجَابُ دُعَاؤُهُمْ، وَ بِهِمْ يَصْرِفُ اللهُ عَنْهُمُ البَلَاءَ، وَ بِهِمْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ مِنَ السَّمَاءِ.
وَ هَذَا أوَّلُهُمْ- وَ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى الحَسَنِ، ثُمَّ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ وَ آلِهِ السَّلَامُ: الأئمَّةُ مِنْ وُلْدِهِ.٢
و لمّا كان كتاب «الجامعة» يدور حول أحكام الحلال و الحرام غالباً، و كتاب «الجفر» يحوم حول استخراج الوقائع بالرموز الكلّيّة، و «مصحف فاطمة» يشتمل على ذكر الوقائع و الحوادث التي ستكون في المستقبل تسلية للسيّدة الزهراء سلام الله عليها، فيمكن أن نخمِّن بأنّ هذه الموضوعات كتبها أمير المؤمنين عليه السلام في مصحف فاطمة عليها السلام بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم.
كلام الشيخ مغنية حول «مصحف فاطمة»
و تحدّث الشيخ محمّد جواد مغنية حول «مصحف فاطمة» مفصّلًا. و نلحظ في حديثه أنّه ممتعض جدّاً من تقوّلات بعض علماء العامّة و افتراءاتهم على الشيعة، و استغلالهم التشابه الاسميّ للمصحف، إذ نسبوا إلى الشيعة قولهم إنّ المراد من «مصحف فاطمة» قرآنٌ غير هذا القرآن المتداول. و أثبت الشيخ أنّ القول بتحريف القرآن و لو في كلمة واحدة أو حرف واحد زيادة كان أو نقصاناً أو تغييراً مدانٌ من قِبَل الشيعة و علمائهم.
و نجد الشيخ يخاطب في كلامه العالِم السنّيّ المصريّ المعاصر له الشيخ أبو زُهرة بخاصّة، و يدفع تهمه مستدلًّا و مبرهناً. و قال في ختام كلامه الموجّه إليه: بل إنّ أبا زهرة صرّح في كتاب «المذاهب الإسلاميّة» ص ٢۱، بأنّ الخلاف الذي نتج عن الاستنباط كان محمود العاقبة حسن النتيجة. فهل هذا الحسن يختصّ بعلماء طائفة دون اخرى؟
و قال بعد ذلك: و بعد هذه الوقفة القصيرة مع الشيخ أبي زهرة، نعود إلى الحديث عن «مصحف فاطمة»، و قد جاء ذكره في أخبار أهل البيت مع تفسيره، و أنّه كان من إملاء رسول الله على عليّ.
قال الإمام الصادق عليه السلام: عِنْدَنَا «مُصْحَفُ فَاطِمَةَ»، أمَا وَ اللهِ مَا فِيهِ حَرْفٌ مِنَ القُرْآنِ، وَ لَكِنَّهُ مِن إمْلَاءِ رَسُولِ اللهِ وَ خَطِّ عَلِيّ.
قال السيّد محسن الأمين في «الأعيان»، القسم الأوّل من ج ۱، ص ٢٤۸: إنّ نفي الإمام الصادق أن يكون فيه شيء من القرآن لكون تسميته بـ «مصحف فاطمة» يوهم أنّه أحد النسخ الشريفة، فنفى هذا الإيهام.
و في كتاب «الكافي» أنّ المنصور كتب يسأل فقهاء أهل المدينة عن مسألة في الزكاة، فما أجابه عنها إلّا الإمام الصادق. و لمّا سئل من أين أخذ هذا؟ قال: من «كِتاب فاطمة».۱
إذَن، «مصحف فاطمة» كتاب مستقلّ و ليس بقرآن. فنسبة التحريف
إلى الإماميّة على أساس قولهم بـ «مصحف فاطمة» جهل و افتراء.
و الأولى نسبة هذا القول إلى الذين زعموا بأنّ لعائشة قرآناً، فيه زيادات عن هذا القرآن. قال جلال الدين السيوطيّ في كتاب «الإتقان» ج ٢، ص ٢٥، طبعة حجازي بالقاهرة، ما نصّه بالحرف: قَالَتْ حَمِيدَةُ بِنْتُ أبِي يُونُسَ: قَرَأ أبِي وَ هُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً في «مُصحَفِ عَائِشَةَ»: «إنَّ اللهَ وَ مَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيمًا» وَ على الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصُّفُوفَ الأولى.۱
أ رأيت كيف يتّهمون غيرهم بما هم به أولى، تماماً كما فعلوا في مسألة الجفر، و مسألة الإيحاء، و غيرها؟!
و من ثمّ، فإنّ غرضي من هذا الفصل، و ما سبق من الفصول أن أثبت بالأرقام أنّه لا شيء عند الإماميّة إلّا و يوجد له أصل عند السنّة تفصيلًا أو إجمالًا، منطوقاً أو مفهوماً، و عليه فلا وجه لطعن أبي زُهرة، و من تقدّم، أو تأخّر. اللهمّ إلّا التعصّب و تأكيد الانقسام و الافتراق.
و هنا قال المرحوم مغنية في الهامش: وقع في يدي كتاب، و أنا احرّر هذا الفصل، و كنت أبحث و افتّش في المكتبات التجاريّة و غيرها عن المصادر، و اسم الكتاب «حَرَكَاتُ الشِّيعَةِ المُتَطَرِّفِينَ وَ أثَرُهُمْ في الحَيَاةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ وَ الأدَبِيَّةِ لِمُدُنِ العِرَاقِ إبَّانَ العَصْرِ العَبَّاسِّي الأوَّل» لمحمّد جابر عبد العال، مدير الشؤون الاجتماعيّة بجامعة القاهرة، خبط فيه كاتبه خبط
عشواء، و شحنه بالكذب و الافتراء، شأنه في ذلك شأن أسلافه الكثيرين، و لكن كلمة حقّ ظهرت على فلتات قلمه، و هو يكتب مقدّمة الكتاب من حيث يريد أو لا يريد، قال: إنَّنَا نَعْلَمُ أنَّ بَيْنَ أهْلِ السُّنَّةِ مَنْ تَعَصَّبَ عَلَى الشِّيعَةِ، وَ أمْعَنَ في ذَلِكَ إمْعَاناً جَعَلَهُ يَرْمِيهِمْ دُونَ تَثَبُّتٍ بِاتِّهَامَاتٍ يَتَبَيَّنُ لِذِي العَيْنِ البَصِيرَةِ أنَّهَا بَاطِلَةُ، أمْلَاهَا التَّعَصُّبُ وَ التَّشَاحُنُ المَذْهَبِيّ.۱
و قال المستشار عبد الحليم الجنديّ أيضاً: و من التراث العلميّ عند الشيعة ما يسمّى «مصحف فاطمة». حدّثوا عن الصادق، إذ سئل عنه: إنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ خَمْسَةً وَ سَبْعِينَ يَوْماً، وَ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا حُزنٌ عَلَى أبِيهَا. وَ كَان جِبرِئيل يَأتِيَها فَيُحْسِنُ عَزاءَهَا وَ يُطَيِّبُ نَفْسَهَا. وَ يُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا في ذُرِّيَّتَهَا. وَ كَانَ عَلِيّ يَكْتُبُ ذَلِكَ. فَهَذَا «مُصْحَفُ فَاطِمَةَ»!
فليس هذا مصحفاً بالمعنى الخاصّ بكتاب الله تعالى و إنّما هو أحد المدوّنات.٢
حديث لوح فاطمة عليها السلام
و ليعلم أنّ مصحف فاطمة عليها السلام غير لوح فاطمة عليها السلام. ف- «لوح فاطمة» لم يكن بإملاء رسول الله و خطّ أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام، بل كان لوحاً زمرّداً نزل من السماء و فيه أسماء الأئمّة الطاهرين عليهم السلام و مواصفاتهم.
و ورد ذكره مفصّلًا في «فرائد السمطين» كالآتي:
[في حديث اللوح الذي كتب الله فيه- أو أمر بعض كرام الكاتبين بأن يكتب فيه- أسماء أوصياء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. ثمّ أهداه إلى نبيّه فأهداه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم إلى امّ الأوصياء صلوات الله عليها].
٤٣٢- أنبأني المشايخ الكرام: السيّد الإمام جمال الدين رضي الإسلام أحمد بن طاووس الحسنيّ، و السيّد الإمام النسّابة جلال الدين عبد الحميد بن فخّار بن مَعْد بن فخّار الموسويّ، و علّامة زمانه نجم الدين أبو القاسم جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلّيّون رحمهم الله كتابةً عن السيّد الإمام شمس الدين شيخ الشرف فخّار بن معد بن فخّار الموسويّ، عن شاذان بن جبرئيل القمّيّ، عن جعفر بن محمّد الدوريستيّ، عن أبيه، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ۱ رضي الله عنهم، قال: حدّثني أبي و محمّد بن الحسن رضي الله عنهما، قالا: حدّثنا سعد بن عبد الله و عبد الله بن جعفر الحميريّ جميعاً عن أبي الخير٢ صالح بن أبي حمّاد و الحسن بن طريف جميعاً، عن بكر بن صالح.
و حدّثنا أبي و محمّد بن موسى بن المتوكّل و محمّد بن عليّ ماجيلويه و أحمد بن عليّ [بن ماجيلويه و أحمد بن عليّ] بن إبراهيم، و الحسن بن
إبراهيم بن ناتانة۱ و أحمد بن زياد الهمدانيّ رضي الله عنهم. قالوا: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، عن بكر بن صالح، عن عبد الرحمن بن سالم، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أبي عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاريّ: إنّ لي إليك حاجة فمتى يخفّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟! فقال له جابر: في أيّ الأوقات شئتَ، فخلا به أبي عليه السلام فقال له:
يَا جَابِرُ! أخْبِرْنِي عَنِ اللَّوْحِ الذي رَأيْتَهُ في يَدَيْ امِّي فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ مَا أخْبَرَتْكَ بِهِ أنَّ في ذَلِكَ اللَّوْحِ مَكْتُوباً!
قال جابر: أشهد بالله أنّي دخلتُ على امّك فاطمة في حياة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم اهنّئها بولادة الحسين، فرأيتُ في يدها لوحاً أخضر ظننتُ أنّه زمرّد، و رأيتُ فيه كتاباً أبيض شبه نور الشمس، فقلتُ لها: بأبي و امّي يا بنت رسول الله، ما هذا اللوح؟! فقالت: هذا اللوح أهداه الله جلّ جلاله إلى رسوله صلى الله عليه و آله فيه اسم أبي، و اسم بَعْلِي، و اسم ابنَيّ، و أسماء الأوصياء من ولدي. فأعطانيه أبي ليبشّرني بذلك.٢
قال جابر: فأعطتنيه امّك فاطمة فقرأته و انتسخته. فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علَيّ؟! قال: نعم. فمشى معه أبي حتى انتهى إلى منزل جابر، و أخرج إلى أبي صحيفة من رَقّ.
فقال [له أبي]: يَا جَابِرُ! انْظُرْ إلَى كِتَابِكَ لأقْرَأ عَلَيْكَ! فَنَظَرَ جَابِرٌ في نُسْخَتِهِ، فَقَرأهُ أبِي، فَمَا خَالَفَ حَرْفٌ حَرْفاً.۱ فَقَالَ: قَالَ جَابِرٌ: فَأشْهَدُ بِاللهِ أنِّي رَأيْتُهُ هَكَذَا في اللَّوْحِ مَكْتُوباً:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ لِمُحَمَّدٍ نُورِهِ وَ سَفِيرِهِ وَ حِجَابِهِ وَ دَلِيلِهِ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينِ مِنْ عِنْدِ رَبِّ العَالَمِينَ.
عَظِّمْ يَا مُحَمَّدُ أسْمَائِي، وَ اشْكُرْ نَعْمَائِي، وَ لَا تَجْحَدْ آلَائِي، فَإنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا، قَاصِمُ الجَبَّارِينَ، وَ مُذِلُّ الظَّالِمِينَ [وَ مُبِيرُ المتكَبِّرِينَ] وَ دَيَّانُ الدِّينِ.
إنِّي أنَا اللهُ لَا إلَهَ إلَّا أنَا، فَمَنْ رَجَا غَيْرَ فَضْلِي [أ] وَ خَافَ غَيْرَ عَدْلِي عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لَا اعَذِّبْهُ أحَداً مِنَ العَالَمِينَ.
فَإيَّايَ فَاعْبُدْ، وَ عَلَيّ فَتَوكَّلْ، إنِّي لَمْ أبْعَثْ نَبِيَّاً فَأكْمَلْتُ أيَّامَهُ وَ انْقَضَتْ مُدَّتُهُ إلَّا جَعَلْتُ لَهُ وَصِيّاً!
وَ إنِّي فَضَّلْتُكَ عَلَى الأنْبِيَاءِ، وَ فَضَّلْتُ وَصِيَّكَ عَلَى الأوْصِيَاءِ، وَ أكْرَمْتُكَ بِشِبْلَيْكَ بَعْدَهُ وَ سِبْطَيْكَ حَسَنٍ وَ حُسَيْنٍ!
فَجَعَلْتُ حَسَناً مَعْدِنَ عِلْمِي بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ أبِيهِ.
وَ جَعَلْتُ حُسْيناً خَازِنَ وَحْيِي وَ أكْرَمْتُهُ بِالشَّهَادَةِ، وَ خَتَمْتُ لَهُ بِالسَّعَادَةِ، فَهُوَ أفْضَلُ مَنِ اسْتُشْهِدَ، وَ أرْفَعُ الشَّهَادَةِ دَرَجَةً.
جَعَلْتُ كَلِمَتِي التَّامَّةُ مَعَهُ وَ الحُجَّةُ البَالِغَةَ عِنْدَهُ.
بِعِتْرَتِهِ اثِيبُ وَ اعَاقِبُ.
أوَّلُهُمْ [عَلِيّ] سَيِّدُ العَابِدِينَ وَ زَيْنُ أوْلِيَاءِ المَاضِينَ (كذا).
وَ ابْنُهُ شَبِيهُ۱ جَدِّهِ المَحْمُودُ مُحَمَّدٌ البَاقِرُ لِعِلْمِي وَ المَعْدِنُ لِحُكْمِي.٢
سَيَهلِكُ المُرتَابُونَ في جَعْفَرٍ؛ الرَّادُّ عَلَيْهِ كَالرَّادِّ عَلَيّ، حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأكْرِمَنَّ مَثْوَى جَعْفَرٍ، وَ لأُسَرَّنَّهُ في أشْيَاعِهِ وَ أنْصَارِهِ وَ أولِيَائِهِ.
وَ انْتَجَبْتُ بَعْدَهُ موسى، وَ لُاتِيحَنَّ [ظ] بَعْدَهُ فِتْنَةً عَمْيَاءَ حِنْدِسَ،٣ لأنَّ خَيْطَ فَرْضِي لَا يَنْقَطِعُ، وَ حُجَّتِي لَا تَخْفَى، وَ أنَّ أوْلِيَائِي لَا يَشْقُّونَ.
ألَا وَ مَنْ جَحَدَ واحِداً مِنهُمْ [فَقَدْ] جَحَدَ نِعْمَتِي، وَ مَنْ غَيَّرَ آيَةً مِنْ كِتَابِي فَقَدِ افْتَرَى عَلَيّ.
وَ وَيْلٌ لِلْمُفْتَرِينَ الجَاحِدِينَ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ عَبْدِي موسى وَ حَبِيبِي و خِيَرَتِي. إنَّ المُكَذِّبَ بِالثَّامِنِ مُكَذِّبٌ بِجَمِيع أوْلِيَائِي.٤
وَ عَلِيّ وَلِيّ وَ نَاصِرِي، وَ مَنْ أضَعُ عَلَى [عَاتِقِه] أعْبَاءَ النُّبُوَّةِ، وَ أمْنَحُهُ بإلاضْطِلَاعِ [بِهَا]،٥ يَقْتُلُهُ عِفْرِيتٌ٦ مُسْتَكْبِرٌ، يُدْفَنُ بِالمَدِينَةِ التي بَنَاهَا العَبْدُ الصَّالِحُ [ذُو القَرْنَيْنِ] إلَى جَنْبِ شَرِّ خَلْقِي.
حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لُاقِرَّنَّ عَيْنَهُ بِمُحَمَّدٍ ابْنِهِ وَ خَلِفَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَهُوَ وارِثُ عِلْمِي وَ مَعْدِنُ حُكْمِي،۱ وَ مَوْضِعُ سِرِّي وَ حُجَّتِي عَلَى خَلْقِي.
فَجَعَلْتُ الجَنَّةَ مَأواهُ، وَ شَفَّعْتُهُ في سَبْعِينَ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتوجَبُوا النَّارَ.٢
وَ أخْتِمُ بِالسَّعَادَةِ لِابْنِهِ عَلِيّ وَلِيِّي وَ نَاصِري وَ الشَّاهِدِ في خَلْقِي وَ أمِينِي عَلَى وَحْيِي.
وَ اخْرِجُ مِنْهُ الدَّاعِيَ إلَى سَبِيلِي، وَ الخَازِنَ لِعِلْمِي الحَسَنَ.
ثُمَّ اكْمِلُ ذَلِكَ بِابْنِهِ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ، عَلَيْهِ كَمَالُ موسى وَ بِهَاءَ عيسى وَ صَبْرُ أيُّوبَ.
وَ سَيَذِلُّ أوْلِيَائِي في زَمَانِهِ، وَ يَتَهادَون رؤوسَهُمْ كَمَا يَتَهَادَون رؤوسَ التُّرْكِ وَ الدَّيْلَمِ،٣ فَيُقْتَلُونَ وَ يُحَرَقُونَ وَ يَكُونُونَ خَائِفِينَ مَرْعُوبِينَ وَجِلِينَ، تُصْبَغُ الأرْضُ بِدِمَائِهِمْ [وَ يَنْشَأ] الوَيْلُ وَ الرَّنِينُ في نِسَائِهِم.٤
أولئِكَ أوْلِيَائِي حَقَّاً، بِهِمْ أدْفَعُ كُلَّ فِتْنَةٍ عَمْيَاءَ حِنْدِسَ (كذا)، وَ بِهِمْ أكْشِفُ الزَّلازِلَ، وَ أرْفَعُ الآصَارَ وَ الأغلَالَ.٥
اولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِن رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ اولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ.
قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك، فَصُنْهُ إلّا عن أهله.۱
و رواه المجلسيّ رضي الله عنه عن «إكمال الدين و إتمام النعمة»، و «عيون أخبار الرضا» و هما للشيخ الصدوق.
ثمّ روى مثله عن «الاحتجاج» للطبرسيّ،٢ و «الاختصاص» للمفيد بسند آخر،٣ و «الغيبة» للشيخ الطوسيّ بسند آخر أيضاً،٤ و «الغيبة» للنعمانيّ أيضاً بسند آخر.٥ له بعد ذلك بيان مفصّل في حلّ بعض ما أشكل منه.٦
و روى المجلسيّ أيضاً في «بحار الأنوار» عن «إكمال الدين»، و «عيون أخبار الرضا»، عن الطالقانيّ، عن الحسن بن إسماعيل، عن سعيد بن محمّد القطان، عن الرويانيّ، عن عبد العظيم الحسنيّ، عن عليّ بن الحسين بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني عبد الله بن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليهما السلام أنّ محمّد بن عليّ باقر العلوم جمع ولده، و فيهم عمّهم زيد بن عليّ عليه السلام. ثمّ أخرج إليهم
كتاباً بخطّ عليّ عليه السلام و إملاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، مكتوب فيه: هَذَا كِتَابٌ من الله العزيز العليم- حديث اللوح إلى الموضع الذي يقول فيه:- وَ اولئكَ هُم المهتدون. ثمّ قال في آخره: قال عبد العظيم: العَجَبُ كُلُّ العجب لمحمّد بن جعفر و خروجه و قد سمع أباه يقول هذا و يحكيه؛ ثمّ قال: هذا سرّ الله و دينه و دين ملائكته، فصُنه إلّا عن أهله و أوليائه.۱
و كذلك رواه الكلينيّ،٢ و الشيخ الطبرسيّ.٣
و ذكر إبراهيم بن محمّد بن مؤيّد الحمّوئيّ حديثاً بعد الحديث الأوّل الذي نقلناه عنه سابقاً، و قال: [و بالسند المتقدّم قال ابن بابويه]: و حدّثنا عليّ بن الحسين [شاذويه] المؤدِّب، و أحمد بن هارون الفاميّ رضي الله عنهما قالا: حدّثنا محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميريّ عن أبيه، عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاريّ الكوفيّ، عن مالك السلوليّ، عن دُرُسْت، عن عبد الحميد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن جبلة، عن أبي السَّفَاتج، عن جابر الجُعفيّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال:
دخلتُ على [مولاتي] فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ قُدَّامَهَا لَوْحٌ يَكَادُ ضَوْؤُهُ يَغْشَي الأبْصَارَ. فِيهِ اثْنَا عَشَرَ اسْماً: ثَلَاثَةٌ في ظَاهِرِهِ، وَ ثَلَاثَةٌ في بَاطِنِهِ، وَ ثلَاثَةُ أسْمَاءٍ في آخِرِهِ، وَ ثَلَاثَةُ أسْمَاءٍ في
طَرَفِهِ. فَعَدَّدْتُهَا فإذَا هي اثْنَا عَشَرَ.
فَقُلْتُ: أسْمَاءُ مَنْ هَذَا؟!
قَالَتْ: هَذِهِ أسْمَاءُ الأوْصِيَاءِ: أوَّلُهُمْ ابْنُ عَمِّي وَ أحَدَ عَشَرَ وُلْدِي، آخِرُهُمُ القَائِمُ!
قَالَ جَابِرٌ: فَرَأيْتُ فِيهَا مُحَمَّداً مُحَمَّداً مَحَمَّداً في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعِ، وَ عَلِيَّاً [وَ] عَلَيَّاً [وَ] عَلِيَّاً [وَ] عَلِيَّاً في أرْبَعَةِ مَواضِعَ.۱
و رواه المجلسيّ بالسند نفسه عن كتاب «إكمال الدين»، و «عيون أخبار الرضا».٢
و رواه الحمّوئيّ أيضاً عن الشيخ الصدوق بالنحو الآتي: [و قال أيضاً]: و حدّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار رحمه الله، قال: حدّثنا أبي عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: دخلتُ على فاطمة عليها السلام، وَ بَيْنَ يَدَيْهَا لَوْحٌ فِيهِ أسْمَاءُ الأوْصِيَاءِ: فَعَدَّدْتُ اثْنَي عَشَرَ آخِرُهُمُ القَائِمُ. ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مُحَمَّدٌ، وَ أرْبَعَةٌ مِنْهُمْ عَلِيّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.٣
و رواه المجلسيّ أيضاً بالسند ذاته عن «إكمال الدين»، و «عيون أخبار الرضا».٤
و كذلك رواه عن خصال الصدوق بسند آخر،۱ و عن «إكمال الدين» بسندين،٢ و عن «عيون» بسند آخر،٣ و عن «الغَيبة» للشيخ الطوسيّ بسند آخر.٤
و من الجدير ذكره أنّ الحمّوئيّ روى حديثاً رابعاً تحت التسلسل ٤٣٥ عن الشيخ الصدوق بعد الأحاديث الثلاثة المتقدّمة. و مضمونه مفصّل رائع. روى فيه أسماء الأئمّة و كُناهم، و أسماء امّهاتهم عن جابر، في لوح فاطمة عليها السلام.٥ بَيدَ أنّا لم نورده هنا لأنّنا سبق أن نقلناه في الجزء الثالث عشر من كتابنا هذا: «معرفة الإمام» الدرس ۱٩۱ إلى الدرس ۱٩٥، فلا حاجة إلى تكراره.
و رواه المجلسيّ في «بحار الأنوار» بسند الحمّوئيّ نفسه عن الشيخ الصدوق.٦
و من الحريّ بالذكر أيضاً أنّ الأخبار الواردة عن الرسائل السماويّة المختومة بشأن ولاية أمير المؤمنين و إمامة الأئمّة الاثني عشر بأسمائهم و علاماتهم، التي كان يأتي بها جبرئيل كلًّا على حدة، هي غير الأخبار الواردة عن اللوح، مع أنّ المجلسيّ رضي الله عنه ذكرها كلّها في باب واحد
لاشتراكها في المفاد و المضمون. و نتبرّك فيما يأتي بذكر عدد من أحاديث الخواتيم لمزيد البصيرة.
حديث الرسائل السماويّة المختومة في ولاية الائمّة الاثني عشر.
روى المجلسيّ رحمه الله عن «إكمال الدين»، و «الأمالي» للشيخ الصدوق عن ابن الوليد، عن ابن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن الحسين الكنانيّ، عن جدّه، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قَالَ:
إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ كِتَاباً قَبْلَ أنْ يَأتِيَهُ المَوْتُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! هَذَا الكِتَابُ وَصِيَّتُكَ إلَى النَّجِيبِ مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ!
فَقَالَ: وَ مَنِ النَّجِيبُ مِنْ أهْلِي يَا جَبْرَئِيلُ؟!
فَقَالَ: عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ كَانَ عَلَى الكِتَابِ خَوَاتِيمُ۱ مِنْ ذَهَبٍ. فَدَفَعَهُ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيِهِ وَ آلِهِ إلَى عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ أمَرَهُ أنْ يَفُكَّ خَاتَماً مِنْهَا وَ يَعْمَلَ بِمَا فِيهِ.
فَفَكَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَماً وَ عَمِلَ بِمَا فِيهِ. ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى ابْنِهِ الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَكَّ خَاتَماً وَ عَمِلَ بِمَا فِيهِ.
ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: أنِ اخْرُجْ بِقَوْمٍ إلَى الشَّهَادَةِ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ إلَّا مَعَكَ، وَ اشْرِ نَفْسَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ، فَفَعَلَ.
ثُمَّ دَفَعَهُ إلى عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ:
اصْمُتْ وَ الزَمْ مَنْزِلَكَ، وَ اعْبُد رَبَّكَ حتى يَأتِيَكَ اليَقِينُ، فَفَعَلَ.
ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى مُحَمَّدُ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَفَكَّ خَاتَماً فَوَجَدَ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَ أفْتِهِمْ وَ لَا تَخَافَنَّ إلَّا اللهَ، فَإنَّهُ لَا سَبِيلَ لأحَدٍ عَلَيْكَ!
ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيّ فَفَكَكْتُ خَاتَماً فَوَجَدْتُ فِيهِ: حَدِّثِ النَّاسَ وَ أفْتِهِمْ وَ انْشُرْ عُلُومَ أهْلِ بَيْتِكَ، وَ صَدِّقْ آبَاءَكَ الصَّالِحِينَ، وَ لَا تَخَافَنَّ أحَداً إلَّا اللهَ، و أنْتَ في حِرْزٍ وَ أمَانٍ؛ فَفَعَلْتُ.
ثُمَّ ادْفَعْهُ إلَى موسى بْنِ جَعْفَرٍ، وَ كَذَلِكَ يَدْفَعُهُ موسى إلَى الذي مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ كَذَلِكَ أبَداً إلَى قِيَامِ المَهْدِيّ.۱
و ذكر مثله عن أمالي الشيخ الطوسيّ، عن الصدوق، عن ابن الوليد.٢ و روى المجلسيّ هذا المضمون أيضاً بسندٍ عن «علل الشرائع»،٣ و بسند آخر عن «إكمال الدين»٤ باختلاف يسير في اللفظ.٥
و رواه باختلاف كبير في اللفظ و اتّحاد المضمون عن «الغَيبة» للنعمانيّ٦. و روى مضمونه أيضاً بسندين آخرين مختصرين عن الكتاب
المذكور نفسه.۱
أجل، تبيّن ممّا ذكرناه أنّ أوّل مدوِّنٍ في الإسلام هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام من خلال تدوين كتاب «الجامعة»، و «الجفر»، و «كتاب الستِّين» في علوم القرآن، و كتاب «الديات» و كتاب «الفرائض و المواريث»، و «مصحف فاطمة»، و مجموع رسائله و عهوده التي بعثها إلى ولاته على الأمصار، و منها عهده إلى مالك الأشتر رضوان الله عليه حين ولّاه أمر مصر، فهو عليه السلام الحائز على المقام الأوّل في الكتابة و التأليف و التصنيف و التدوين حقّاً.
و يأتي بعده أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم الذي كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام المخلَصين، إذ زاول التدوين سواء في حياة النبيّ. أم بعد وفاته. و ذكر المرحوم آية الله السيّد حسن الصدر ترجمته كما يأتي:
أبو رافع أوّل مؤلّف بين الشيعة بعد أمير المؤمنين عليه السلام
أبو رافع مولى الرسول صلى الله عليه و آله
أوّل مَن دوّن الحديث
و أوّل من دوّن الحديث من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعده أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم. قال النجاشيّ في أوّل كتابه «فهرس أسماء المصنّفين من الشيعة» ما نصّه:
الطبقة الأولى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله. و اسمه أسلم، كان للعبّاس بن عبد المطّلب رحمه الله فوهبه للنبيّ. فلمّا بُشِّر النبيّ بإسلام العبّاس، أعتقه. أسْلَمَ أبو رافع قديماً بمكّة، و هاجر إلى المدينة.
و شهد مع النبيّ مشاهده، و لزم أمير المؤمنين من بعده. و كان من خيار الشيعة، و شهد معه حروبه، و كان صاحب بيت ماله بالكوفة. و ابناه عبيد الله و عليّ كاتبا أمير المؤمنين عليه السلام ... إلى أن قال:
و لأبي رافع كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا»، ثمّ ذكر إسناده إليه باباً باباً: الصلاة، و الصيام، و الحجّ، و الزكاة، و القضايا.
قال الحافظ ابن حجر في «التقريب»: أبو رافع القبطيّ مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: اسمه إبراهيم؛ و قيل: أسلم، أو ثابت، أو هرمز. مات في أوّل خلافة عليّ على الصحيح.
قلتُ: أوّل خلافة عليّ أمير المؤمنين سنة خمس و ثلاثين من الهجرة، فلا أقدم من أبي رافع في التأليف بالضرورة.۱ و قال السيّد الصدر أيضاً:
الصَّحِيفَةُ الاولَي
في أوّل مَن جمع الحديث؛ و رتّبه بالأبواب من الصحابة
الشيعة هو أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم
قال النجاشيّ في كتاب «فهرس أسماء المصنّفين من الشيعة» ما لفظه: و لأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا». ثمّ ذكر النجاشيّ إسناده إلى رواية الكتاب باباً باباً.
و ذكر المرحوم الصدر هنا ما نقلناه سلفاً نصّاً. ثمّ قال: فلا أقدم منه في ترتيب الحديث و جمعه بالأبواب بالاتّفاق، لأنّ المذكورين في أوّل من
جمع، كلّهم في أثناء المائة الثانية، كما في «التدريب» للسيوطيّ.
و حكى فيه عن ابن حجر في «فتح الباري» أنّ أوّل من دوّنه بأمر عمر بن عبد العزيز: ابن شهاب الزهريّ، فيكون في ابتداء رأس المائة، لأنّ خلافة عمر كانت سنة ثمان أو تسع و تسعين، و مات سنة إحدى و مائة. و لنا فيما أفاده ابن حجر إشكال ذكرناه في الأصل (كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام»).۱
و سار آية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ على هذا المنوال أيضاً، فقال في كتاب «الفصول المهمّة»: أبو رافع القبطيّ مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و اسمه أسلم، أو إبراهيم، و قيل: هرمز، و قيل: ثابت، و قيل غير ذلك. و له أولاد و أحفاد كلّهم خصّيصون بأهل البيت، و منقطعون إليهم.
أمّا أولاده: فرافع، و الحسن، و المغيرة، و عبيد الله (الذي أفرد كتاباً فيمن حضر صفّين مع عليّ بن أبي طالب عليه السلام من الصحابة، و قد نقل عنه صاحب «الإصابة» و غيره)، و عليّ الذي ألّف كتاباً في فنون الفقه على مذهب أهل البيت، و هو أوّل كتاب فقهيّ عُمل في الإسلام بعد «صحيفة عليّ عليه السلام».
و أمّا أحفاد أبي رافع: فالحسن، و صالح، و عبيد الله أولاد عليّ بن أبي رافع، و الفضل بن عبيد الله بن أبي رافع، و لهم ذرّيّة كلّها صالحة.٢
و أشار إلى هذه الحقيقة صديقنا الأكرم المرحوم آية الله السيّد محمّد عليّ القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ قدّس سرّه في تعليقته على كتاب «جنّة المأوى» في آخر تعريفه و ثنائه على «كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ». و فيما يأتي نصّ كلامه:
كتاب جليل معتمد، صنّفه سُليم بن قيس الهلاليّ المتوفّى حدود سنة ٩۰ هـ. من أولياء أمير المؤمنين عليه السلام، و صاحبه، و من خواصّه.
و كتابه من الاصول الشهيرة المعتمدة عند الخاصّة و العامّة. قال الإمام الكبير النعمانيّ رحمه الله في كتابه «الغَيبة» ما هذا لفظه: و ليس بين جميع الشيعة ممّن حمل العلم و رواه عن الأئمّة عليهم السلام خلاف في أنّ «كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ» أصل من أكبر كتب الاصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت عليهم السلام و أقدمها، لأنّ جميع ما اشتمل عليه الأصل إنّما هو من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و أمير المؤمنين عليه السلام، و المقداد، و سلمان الفارسيّ، و أبي ذرّ، و من جرى مجراهم ممّن شهد رسول الله صلى الله عليه و آله، و أمير المؤمنين عليه السلام، و سمع منهما. و هو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها و تعوّل عليها- انتهى.
و قال ابن النديم في «الفهرست»: هو أوّل كتاب ظهر للشيعة. و مراده
أنّه أوّل كتاب ظهر فيه أمر الشيعة، كما اشير إليه في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام في توصيفه بأنّه أبجد الشيعة.
قال عليه السلام:
مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ شِيعَتِنَا وَ مُحِبِّينَا «كِتَابُ سُلَيْمِ ابْن قَيْسٍ الهِلَالِيّ» فَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ أمْرِنَا شَيءٌ وَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أسْبَابِنَا شَيْئاً؛ وَ هُوَ أبْجَدُ الشِّيعَةِ، وَ هُوَ سِرٌّ مِنْ أسْرَارِ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و قال القاضي بدر الدين السبكيّ المتوفّى سنة ۷٦٩ هـ في كتابه: «محاسن الوسائل في معرفة الأوائل»: إنّ أوّل كتاب صنّف للشيعة هو «كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ»- انتهى.
تقدّم سنن أبي رافع على كتاب سُلَيم
و لكن القارئ العزيز خبير أنّ «كتاب السُّنن» تصنيف أبي رافع المتوفّى في العقد الرابع۱ الذي اشترى معاوية داره بعد موته هو مقدّم عادةً على تصنيف سُليم المتوفّى سنة ٩۰ هـ.٢
و صرّح العالم الخبير السيّد محمّد صادق بحر العلوم بهذه الحقيقة في مقدّمة «كتاب سليم بن قيس»، و نقل نفس عبارات ابن النديم في «الفهرست» و عبارات القاضي بدر الدين السبكيّ، ثمّ أشار إلى تقدّم أبي رافع في التصنيف.٣
و اعترف محمّد عجّاج الخطيب بهذه الحقيقة طوعاً أم كرهاً، و هو الذي يُصرّ إصراراً تامّاً على تدوين الحديث عند أهل السُّنَّة. قال: و كان
عند أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله (سنة ٣٥ هـ)۱ كتاب فيه استفتاح الصلاة، دفعه إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث (سنة ٩٤ هـ)٢ أحد الفقهاء السبعة.٣
التدوين عند أهل السنّة كان بعد قرنين
و أورد ذلك آية الله السيّد حسن الصدر تحت عنوان: تَقَدُّمُ الشِّيعَةِ في تأسِيسِ عُلُومِ الحَدِيثِ، و في ذيله المعنون: أوَّلُ مَنْ جَمَعَ الحَدِيثَ النَّبَوِيّ، و تحته عبارة: الصحيفة الأولى في أوّل من جمَعَ الحديث النبويّ في الإسلام و دوّنه، و ذكر فيها أبا رافع كأوّل مدوِّن. ثمّ تحدّث مستدلًّا عن تأخّر أهل السنّة عن تدوين الحديث و جمعه قرنين من الزمان؛ و يردّ بشدّة على السيوطيّ الذي يقول: و أمّا ابتداء تدوين الحديث فإنّه وقع في رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره.
قال رحمه الله: و أوّل من دوّن الحديث من شيعة أمير المؤمنين بعده أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله. و بعد أن شرح تأخّر أهل السنّة في التدوين. رجع إلى أبي رافع فذكر خصائص تأليفه، و قد مرّ ذكره.
أمّا ما استدلّ به على تأخّر أهل السنّة، فهو قوله: و قد و هم الحافظ جلال الدين السيوطيّ في كتابه «تدريب الراوي» حيث زعم أنّ ابتداء تدوين الحديث وقع في رأس المائة.
قال: و أمّا ابتداء تدوين الحديث، فإنّه وقع في رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره؛ ففي «صحيح البخاريّ» في أبواب العلم: و كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث
رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم فاكتبه، فإنّي خفتُ دروس العلم و ذهاب العلماء!
و أخرجه أبو نعيم في «تاريخ إصفهان» بلفظ: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله فاجمعوه!
قال في «فتح الباري»: يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبويّ. ثمّ أفاد أنّ أوّل من دوّنه بأمر عمر بن عبد العزيز، ابن شهاب- (انتهى ما في «تدريب الراوي»).
قال السيّد حسن الصدر: قلتُ: كانت خلافة عمر بن عبد العزيز سنتين و خمسة أشهر، مبدؤها عاشر صفر سنة ثمان أو تسع و تسعين. و مات سنة إحدى و مائة لخمس أو لستّ مضين، و قيل: لعشر بقين من رجب. و لم يؤرّخ زمان أمره، و لا نقل ناقل امتثال أمره بتدوين الحديث في زمانه.
و الذي ذكره الحافظ ابن حجر من باب الحدس و الاعتبار، لا عن نقل العمل بأمره بالعيان. و لو كان له عند أهل العلم بالحديث أثر بالعيان لما نصّوا على أنّ الإفراد لحديث رسول الله صلى الله عليه و آله كان على رأس المائتين كما اعترف به شيخ الإسلام و غيره. قال: فأوّل من جمع الآثار ابن جُرَيح بمكّة، و ابن إسحاق أو مالك بالمدينة، و الربيع بن صبيح، أو سعيد بن أبي عروبة، أو حمّاد بن سلمة بالبصرة، و سفيان الثوريّ بالكوفة، و الأوزاعيّ بالشام، و هيثم بواسط، و مَعْمَر باليمن، و جرير بن عبد الحميد بالري، و ابن المبارك بخراسان. قال العراقيّ و ابن حجر: و كان هؤلاء في عصر واحد، فلا ندري أيّهم أسبق؟
قال ابن حجر: إلى أن رأى بعض الأئمّة أن تفرد أحاديث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم خاصّة، و ذلك في رأس المائتين و عدّد جماعة.
و قال الطيّبيّ: أوّل من كتبه و صنّف من السلف ابن جُرَيح. و قيل: مالك، و قيل: الربيع بن صبيح. ثمّ انتشر التدوين و ظهرت فوائده- (انتهى).
و يقول المرحوم الصدر هنا لتأييد كلامه: أ لا تراه لم يذكر تدوين أحد قبل ابن جريح؟!
و كذلك الحافظ الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» نصّ أنّ أوّل زمن التصنيف و تدوين السُّنن و تأليف الفروع بعد انقراض دولة بني اميّة و تحوّل الدولة إلى بني العبّاس. قال: ثمّ كثر ذلك في أيّام الرشيد. و كثرت التصانيف، و أخذ حفظ العلماء ينقص. فلمّا دوّنت الكتب اتّكل عليها. و إنّما كان قبل ذلك علم الصحابة و التابعين في الصدور، فهي كانت في خزائن العلم لهم- (انتهى كلام الذهبيّ).
و لا يُقاس بالذهبيّ غيره في الخبرة بالتواريخ في أمثال هذه الامور، فلم يذكر ما ذكره السيوطيّ، بل كلّ مَن كتب في الأوائل من علماء السنّة لم يذكره. اللهمّ إلّا أن يقال باستبعاد عدم الأخذ بقول مثل عمر بن عبد العزيز. فلعلّه جُمع بعده، فلا يكون الحكم بجمعه في رأس المائة من القول السديد المحقّق. عصمنا الله من التسرّع في القول.
إذا عرفتَ هذا فاعلم أنّ الشيعة أوّل من تقدّم في جمع الآثار و الأخبار، في عصر خلفاء النبيّ المختار عليه و عليهم الصلاة و السلام اقتدوا بإمامهم أمير المؤمنين عليه السلام. فإنّه عليه السلام صنّف فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله.
و ذكر المرحوم الصدر هنا شرحاً حول تدوين «الجامعة» عن أصل «بصائر الدرجات». ثمّ تحدّث عن تدوين أبي رافع مفصّلًا.۱
ردّ محمّد عجّاج الخطيب على السيّد حسن الصدر.
و نقل محمّد عجّاج الخطيب في كتابه كلام المرجع الدينيّ الأكبر السيّد حسن الصدر (۱٢۷٢- ۱٣٥٤ هـ) في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ثمّ ردّ بزعمه على إشكالاته كلّها.
قال: إنّ ما ذكره السيوطيّ ليس وهماً بل حقيقة علميّة، كما تبيّن لنا من البحث. و أمّا قصر مدّة خلافة عمر بن عبد العزيز، و عدم تأريخ زمن أمره فإنّه لا ينافي استجابة العلماء لأمر الخليفة. و أمّا أنّه لم ينقل هذا ناقل، فهذا حكم يناقض الدليل، فقد كثر الناقلون. و نصّ ابن عبد البرّ على أنّ ابن شهاب امتثل لأمر الخليفة و كتب الحديث في دفاتر، و بعث الخليفة إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً.۱
و لم يكن ما ذكره ابن حجر من باب الحدس و التخمين. ثمّ إنّ ما ذكره علماء الحديث من أنّ إفراد تدوين حديث رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم كان على رأس المائتين، لا ينافي قطّ تدوينه استجابة لأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، و نحن لا نشكّ في أنّ بعض المدوّنات الأولى في عصر رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم، و في عصر الصحابة كانت خالية من فتاوى الصحابة.
و أقوى دليل على هذا «الصحيفة الصادقة»، و «الصحيفة الصحيحة»، و إن كان بعض المصنّفين قد كتب عمل الصحابة، و فتاواهم إلى جانب الحديث، فهذا لا ينافي كونهم دوّنوا الحديث على رأس المائة الأولى و قبلها.
و استشهاده بما ذكره الحافظ الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» لا يجدي نفعاً، لأنّ الحافظ الذهبيّ لخّص الحالة في القرن الأوّل، و لم يدرس
التدوين دراسة موضوعيّة تفصيليّة، و مع هذا نراه يذكر في تراجم مَن صنّف مِن العلماء أنّهم أوّل من صنّفوا في بلادهم. و ليس من المفروض على الذهبيّ أن يفصّل في التدوين، لأنّ تذكرته في رجال الحديث، لا في علم الحديث و مصطلحه.
و أمّا أنّ أحداً من الأوائل الذين كتبوا في الحديث و علومه- لم يذكر ما ذكره الجلال السيوطيّ- فهذا مردود بما كشف عنه بحثنا؛ فقد ذكر ذلك الرامهرمزيّ، و بيّن سبب كراهة مَن كره الكتابة في الصدر الأوّل، و جمع بين أحاديث السماح بالكتابة و النهي عنها.
و إذا كان الرامهرمزيّ لم ينقل إلينا النصّ كالسيوطيّ حرفيّاً، فقد ذكر ما يفهم منه أنّ بعض العلماء كانوا قد دوّنوا في القرن الأوّل،۱ كما بيّن اهتمام عمر بن عبد العزيز بنشر السُّنّة و المحافظة عليها.٢ و وضع الخطيب البغداديّ كتابه «تقييد العلم» لعرض سِير التدوين في العصر الأوّل، و بيّن كثيراً ممّا خفي على الناس، و أثبت أنّ بعض طلّاب العلم و أهله قد مارسوا التدوين في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم و بعده.
و روى أبو عُبيد القاسم بن سلام (۱٥۷- ٢٢٤ هـ) بسنده عن محمّد بن عبد الرحمن الأنصاريّ، قال: لمّا استُخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم في الصدقات، و كتاب عمر بن الخطّاب ... فنُسخا له.٣
فما أظنّ بعد هذا أن يدّعي إنسان أنّ أمر عمر بن عبد العزيز لم ينفّذ
أو لم يؤخذ به. فما ذهب إليه علماء الحديث من أنّ ابتداء تدوين الحديث وقع في رأس المائة الأولى ليس من باب الحدس و التسرّع بالقول. و يحمل قولهم هذا على التدوين الرسميّ الذي تبنّته الدولة. أمّا التدوين الشخصيّ و الفرديّ فكان منذ عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم.
بعد ما ذكره السيّد حسن الصدر ذكر كتاباً لعليّ رضي الله عنه كان عظيماً مدرجاً، و ذكر صحيفته المعلّقة بسيفه. ثمّ ذكر كتاباً لأبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم سمّاه «كتاب السُّنن و الأحكام و القضايا»؛ و قد توفّي أبو رافع في أوّل خلافة عليّ رضي الله عنه، قال السيّد حسن الصدر: و أوّل خلافة عليّ أمير المؤمنين سنة خمس و ثلاثين من الهجرة، فلا أقدم من أبي رافع في التأليف بالضرورة.۱
قال محمّد عجّاج الخطيب: إذا صحّ هذا الخبر فإنّ أبا رافع يكون ممّن دوّن في عصر الصحابة، و قد سبقه عبد الله بن عمرو الذي كتب في عهده صلى الله عليه و آله. و إذا صحّ هذا الخبر و كان كتابه مرتّباً على الأبواب (الصلاة، و الصيام، و الحجّ، و الزكاة، و القضايا) كما ذكر السيّد
حسن الصدر، كان لأبي رافع شرف الأولويّة في التأليف لا في التدوين، و صحّة هذا لا تحملنا على أن ننفي ما ثبت تاريخيّاً من أخبار التدوين في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز.۱
و قد ذكرنا فيما تقدّم كلام الخطيب نصّاً حتى هوامشه لتتبيّن جوانب إشكاله كلّها. و إذا أردنا حقّاً أن نوضّح و نثبت صحّة كلام المرحوم السيّد حسن الصدر، و نفصّل الحديث في جميع الإشكالات المثارة عليه، فسيستوعب هذا كتاباً لا محالة. بَيدَ أنّا لا بدّ لنا أن نتبسّط في الكلام هنا نوعاً ما رفعاً للشبهات، و إن استلزم ذلك التفصيلَ إجمالًا.
كلام الشيخ محمود أبو ريّة في كيفيّة التدوين عند أهل السنّة
نبيّن قبل كل شيء شرحاً للعالم الواعي السنّيّ المصريّ المتحرّر من التعصّب المرحوم الشيخ محمود أبو ريّة حشره الله مع أمير المؤمنين و أبنائه المعصومين، و أبعده ممّن يتبرّأ منه و يُبغضه في كتابه القيِّم الكريم «أضواء على السنّة المحمّديّة» الذي أرى من الضروريّ لكلّ طالب علم يخطو في طريق الحديث و الفقه و الاصول أن يطالعه بدقّة و يُنعم النظر فيه من أوّله إلى آخره.
تحدّث هذا العالم الجليل عن تدوين الحديث تحت عنوان: كَيْفَ نَشأ تَدوِينُ الحَدِيثِ؟ و بلغ في حديثه قوله:
و قد رأيتَ فيما تقدّم من الفصل السابق أنّ الصحابة في عهد أبي بكر قد جمعوا القرآن في موضع واحد، ممّا كان قد كتب في حياة الرسول صلوات الله عليه، و ما حفظ في الصدور، و أنّهم قد عنوا بذلك عناية فائقة. أمّا أحاديث الرسول فإنّهم لم يكتبوها و لم يجمعوها، لأنّها لم تُكتب في عهد النبيّ كما كتب القرآن ... إلى أن قال:
و قال الشيخ أبو بكر بن عقال الصقليّ في فوائده على ما رواه ابن بشكوال: إنّما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صلى الله عليه و آله في مصحف كما جمعوا القرآن، لأنّ السنن انتشرت و خفي محفوظها من مدخولها، فوكل أهلها في نقلها إلى حفظهم، و لم يوكلوا من القرآن إلى مثل ذلك. و ألفاظ السنن غير محروسة من الزيادة و النقصان كما حرس الله كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الإتيان بمثله، فكانوا في الذي جمعوه من القرآن مجتمعين. و في حروف السُّنن و نقل نظم الكلام نصّاً مختلفين، فلم يصحّ تدوين ما اختلفوا فيه.۱
و قد ظلّ الأمر في رواية الحديث على ما ذكرنا. تفعل فيه الذاكرة ما تفعل. لا يُكتب و لا يدوّن طوال عهد الصحابة و صدراً كبيراً من عهد التابعين إلى أن حدث التدوين- على ما قالوا- في آخر عهد التابعين.٢
قال الهرويّ:٣ لم يكن الصحابة و لا التابعون يكتبون الأحاديث، إنّما كانوا يؤدّونها لفظاً، و يأخذونها حفظاً، إلّا كتاب الصدقات و الشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس و أسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزميّ٤ فيما كتب
إليه: انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةٍ أوْ حَدِيثٍ فَاكْتُبْهُ. و قال مالك في «الموطّأ» رواية محمّد بن الحسن: إنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: أنِ انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ، أوْ سُنَنِهِ فَاكْتُبْهُ لي! فَإنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وَ ذَهَابَ العُلَمَاءِ! و أوصاه أن يكتب له ما عند عُمرة ابنة عبد الرحمن الأنصاريّة- و كانت تلميذة عائشة رضي الله عنها- و القاسم بن محمّد بن أبي بكر.
أمّا أمر عمر بن عبد العزيز فقد كان على رأس المائة الأولى.۱
و يبدو أنّه لمّا عاجلت المنيّة عمر بن عبد العزيز، انصرف ابن حزم عن كتابة الحديث، و بخاصّة لمّا عزله يزيد بن عبد الملك عند ما تولّى بعد عمر بن عبد العزيز سنة ۱۰۱ هـ. و كذلك انصرف كلّ من كانوا يكتبون مع أبي بكر. و فترت حركة التدوين إلى أن تولّى هشام بن عبد الملك سنة ۱۰٥ هـ. فجدّ في هذا الأمر ابن شهاب الزهريّ.٢ بل قالوا: إنّه أكرهه على تدوين الحديث، لأنّهم كانوا يكرهون كتابته- كما سيتبيّن لك بعدُ- و لكن لم تلبث هذه الكراهيّة أن صارت رضيً. و لم يلبث ابن شهاب أن صار حظيّاً عند هشام فحجّ معه، و جعله معلّم أولاده إلى أن توفّي قبل هشام
بسنة، و توفّي هشام سنة ۱٢٥ هـ. و بموته تزعزع ملك بني اميّة و دبّ فيه الاضطراب.
ثمّ شاع التدوين في الطبقة التي تلي طبقة الزهريّ، و كان ذلك بتشجيع العبّاسيّين. و قد اعتبر ابن شهاب الزهريّ أوّل من دوّن الحديث، و لعلّ سبب ذلك أخذ بني اميّة عنه.
و جاء في «تذكرة الحفّاظ»: أنّ خالد بن معدان الحِمْصيّ لقي سبعين صحابيّاً. و كان يكتب الحديث و له مصنّفات، و لكن لم يأت لهذه المصنّفات ذِكر في كتب الحديث. و مات ابن معدان سنة ۱۰٤ هـ.
و قال الحافظ ابن حجر في مقدّمة «فتح الباري» بعد أن بيّن أنّ آثار النبيّ لم تكن في عصر أصحابه و كبار تبعهم مدوّنةً في الجوامع و لا مرتّبة، لأنّهم نهوا عن ذلك، كما ثبت في «صحيح مسلم»: ثمّ حدث في أواخر التابعين تدوين الآثار و تبويب الأخبار، لمّا انتشر العلماء في الأمصار، و كثر الابتداع من الخوارج و الروافض ... إلى آخره.
و روى البخاريّ، و الترمذيّ عن أبي هريرة أنّه قال: ما من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله أحد أكثر حديثاً منّي إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنّه كان يكتب و لا أكتب.۱ و المحدّثون لا يعدّون ما يوجد في صحيفة محدّث أو عالم رواية صحيحة عنه إلّا أن حدّث أنّه سمعها من صاحبها. و يسمّونها «الوِجادة».
و قال العلّامة الشيخ مصطفى عبد الرزّاق: ممّا أكّد الحاجة لتدوين
السُّنن شيوع رواية الحديث، و قلّة الثقة ببعض الرواة، و ظهور الكذب في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم لأسباب سياسيّة أو مذهبيّة. أمّا أوّل تدوين للسُّنن بالمعنى الحقيقيّ فيقع ما بين سنة ۱٢۰ هـ و سنة ۱٥۰ هـ.۱
لم يدوِّنوا الحديثَ إلّا مُكرَهِين
لمّا امِروا بتدوين الحديث لم يستجيبوا للأمر إلّا مكرهين، ذلك بأنّهم كانوا يتحرّجون من كتابته بعد أن مضت سنّة مَن كان قبلهم من الصحابة على عدم تدوينه.
فقد حدّث مَعْمَر عن الزُّهريّ قال:
كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ العِلْمِ حتى أكْرَهَنَا عَلَيْهِ٢ هَؤْلَاءِ الامَرَاءُ فَرَأيْنَا ألَّا نَمْنَعَهُ أحَداً مِنَ المُسْلِمِينَ.٣
و قال الزُّهريّ كذلك: اسْتَكْتَبَنِي المُلُوكُ فَاكْتَتَبْتُهُمْ، فَاسْتَحْيَيْتُ اللهَ إذْ كَتَبَهَا المُلُوكُ ألَّا أكْتُبَهَا لِغَيْرِهِمْ.٤
و ذلك لأنّ المسلمين كان همّهم في أوّل الإسلام مقصوراً على كتابة القرآن، أمّا الحديث فقد كانوا يتناقلونه من طريق الرواية معتمدين في ذلك على ذاكرتهم.
لم يعتبروا التدوين في عصر بني اميّة
تدويناً منسّقاً
لم يعتبر العلماءُ عصرَ بني اميّة عصر تصنيفٍ منسّق، لأنّهم لم يجدوا من آثار هذا العصر كتباً جامعة مبوّبة، و إنّما وجدوا أنّ ما صنعوه إنّما كان في مجموعات لا تحمل علماً واحداً، و إنّما كانت تضمّ الحديث و الفقه و اللغة و الخبر، و ما إلى ذلك.
قال الاستاذ العالم أحمد السكندريّ في كتابه «تاريخ آداب اللغة العربيّة»۱: انقضى عصر بني اميّة و لم يدوّن فيه غير قواعد النحو، و بعض الأحاديث، و أقوال فقهاء الصحابة في التفسير. و يروي أنّ خالد بن يزيد٢ وضع كتباً في الفلك و الكيمياء، و أنّ معاوية استقدم عبيد بن سارية٣ من صنعاء، فكتب له كتاب «الملوك و الأخبار الماضية». و أنّ وهب بن منبّه، و الزهريّ، و موسى بن عقبة كتبوا في ذلك أيضاً كتباً. و لكن ذلك لم يُقنع الباحثين في تأريخ العلوم و تصنيفها أن يعتبروا عصر بني اميّة عصر تصنيف، إذ لم تتمّ فيه كتب جامعة حافلة مبوّبة مفصّلة. و إنّما كان كلّ ذلك
مجموعات تدوّن حسب ورودها و اتّفاق روايتها.۱
و قال الغزّاليّ في «إحياء العلوم»: بل الكتب و التصانيف محدثة لم يكن شيء منهما في زمن الصحابة و صدر التابعين. و إنّما حدث بعد سنة ۱٢۰ هـ، و بعد وفاة جميع الصحابة و جلّ التابعين رضي الله عنهم، و بعد وفاة سعيد بن المسيِّب (توفّي سنة ۱۰٥ هـ)، و الحسن البصريّ (توفّي سنة ۱۱۰ هـ)، و خيار التابعين، بل كان الأوّلون يكرهون كتب الحديث، و تصنيف الكتب، لئلّا يشتغل الناس بها عن الحفظ و عن القرآن، و عن التدبّر و التذكّر، و قالوا: احفظوا كما كنّا نحفظ ... .٢
و الذي يخلص من ذلك كلّه: أنّ أوّل تدوين الحديث قد نشأ في أواخر عهد بني اميّة، و كان على طريقة غير مرتّبة من صحف متفرّقة تلفّ و تدرج بغير أن تقسّم على أبواب و فصول. و لعلّ هذا التدوين كان يجري على نمط ما كان يُدرس في مجالس العلم في زمنهم، إذ كانت غير مخصّصة لعلم من العلوم، و إنّما كان المجلس الواحد يشتمل على علوم متعدّدة.
قال عطاء: ما رأيتُ مجلساً أكرم من مجلس ابن عبّاس، و لا أكثر فقهاً و لا أعظم هيبة. أصحاب القرآن يسألونه، و أصحاب العربيّة يسألونه، و أصحاب الشعر يسألونه، فكلّهم يصدر من وادٍ فسيح.٣
و قال عمر بن دينار: ما رأيتُ مجلساً أجمع لكلّ خير من مجلسه (ابن عبّاس)، الحلال و الحرام و تفسير القرآن و العربيّة و الشِّعر. و هذا هو الطور الأوّل من التدوين و لم يصل إلينا منه أيّ كتاب.
التدوين في العصر العبّاسيّ
و قال السكندريّ:
هبّ العلماء في العصر العبّاسيّ إلى تهذيب ما كُتب في الصحف و تدوين ما حُفظ في الصدور، و رتّبوه و بوّبوه و صنّفوه كتباً. و كان من أقوى الأسباب في إقبال العلماء على التصنيف في هذا العصر حَثُّ الخليفة أبي جعفر المنصور۱ عليه، و حمله الأئمّة الفقهاء على جمع الحديث، و الفقه. و أنّه قد بذل- على بخله- في هذا السبيل أموالًا طائلة.
و ذكروا أنّ عنايته بالعلم لم تقف عند تعضيد العلوم الإسلاميّة، بل إنّه حمل العلماء و المترجمين من السريان و الفرس أن ينقلوا إلى العربيّة من الفارسيّة و اليونانيّة علوم الطبّ و السياسة و الحكمة و الفلك و التنجيم و الآداب و المنطق و غيرها.٢ فكان بذلك أوّل حاكم ترجمت له الكتب من اللغات الاخرى إلى العربيّة، على أنّ عنايته بالحديث و جمعه و تدوينه كانت فائقةً، حتى لقد قيل له: هَلْ بَقِي مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ لَمْ تَنَلْهُ؟! فَقَالَ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ: أنْ أقْعُدَ في مِصْطَبَةٍ وَ حَوْلِي أصْحَابُ الحَدِيثِ!
و هو الذي أشار على مالك بن أنس أن يضع كتاب «الموطّأ» في بعض الروايات.
و قال الصوليّ: كان المنصور أعلم الناس بالحديث و الأنساب.
و لا عجب في أن يكثر رجال الحديث في عهد المنصور، و لا في أن يشتدّ العلماء في طلب آثار الرسول، و في أن يرغبوا في جمعها و تدوينها. و قد قال عمر بن عبد العزيز: إنَّ السُّلْطَانَ بِمَنزِلَةِ السُّوقِ يُجْلَبُ إلَيْهَا مَا يَنْفَقُ فِيهَا؛ فَإنْ كَانَ بَرَّاً أتَوْهُ بِبِرِّهِمْ، وَ إنْ كَانَ فَاجِراً أتَوْهُ بِفُجُورِهِمْ.۱
قال ابن تغري بردي في حوادث سنة ۱٤٣ ما يلي: قال الذهبيّ: و في هذا العصر (سنة ۱٤٣ هـ) شرع علماء الإسلام في تدوين الحديث و الفقه و التفسير:
فصنّف ابن جُريح٢ التصانيف بمكّة (مات سنة ۱٥۰ هـ).
و صنّف سعيد بن أبي عروبة (مات سنة ۱٥٦ هـ).
و حمّاد بن سلمة (مات سنة ۱٦۷ هـ) و غيرهما بالبصرة.
و صنّف أبو حنيفة الفقه و الرأي بالكوفة (مات سنة ۱٥۰ هـ).
و صنّف الأوزاعيّ بالشام (مات سنة ۱٥٦ أو ۱٥۷ هـ).
و صنّف مالك «الموطّأ» بالمدينة (مات سنة ۱۷٩ هـ).
و صنّف ابن إسحاق المغازي (مات سنة ۱٥۱ هـ).
و صنّف مَعْمَر باليمن (مات سنة ۱٥٣ هـ).
و صنّف سفيان الثوريّ كتاب «الجامع» بالكوفة (مات سنة ۱٦۱ هـ).
ثمّ بعد يسيرٍ صنّف هشام۱ كتبه (مات سنة ۱۸۸ هـ).
و صنّف الليث بن سعد (مات سنة ۱۷٥ هـ).
و صنّف عبد الله بن لهيعة (مات سنة ۱۷٤ هـ).
ثمّ ابن المبارك (مات سنة ۱۸۱ هـ).
و القاضي أبو يوسف يعقوب (مات سنة ۱۸٢ هـ).
و ابن وهب (مات سنة ۱٩۷ هـ).
و كثر تبويب العلم و تدوينه، و رُتِّبت و دُوِّنت كتب العربيّة و اللغة و التأريخ و أيّام الناس. و قبل هذا العصر كان سائر العلماء- و في رواية (كان الأئمّة)- يتكلّمون عن حفظهم و يروون العلم عن صحف غير مرتَّبة ... إلى آخر كلام الذهبيّ.٢
و لأنّهم كانوا في عصر واحد فإنّه لا يُعلم على التحقيق أيّهم كان الأسبق بالتدوين فبعضهم قال: إنّ أوّل من صنّف سعيد بن أبي عروبة، و بعضهم قال: ابن جريح، و بعضهم قال: الربيع بن صبيح، و بعضهم قال: حمّاد بن سلمة.
و قال ابن حجر: أوّل من جمع ذلك الربيع بن صبيح، و سعيد بن أبي عروبة، إلى أن قام كبار الطبقة٣ الثالثة فدوّنوا الأحكام. فصنّف مالك
«الموطّأ»، و توخّى فيه القويّ من حديث أهل الحجاز، و مزجه بأقوال الصحابة و فتاوى التابعين و من بعدهم.
و قال الحافظان ابن حجر، و العراقيّ: و كان هؤلاء في عصر واحد فلا يُدري أيّهم أسبق. ثمّ تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمّة منهم أن يفرد حديث النبيّ خاصّة، و ذلك على رأس المائتين.
و لم يصل إلينا من هذه المجموعات إلّا موطّأ مالك، و وصف لبعض المجموعات الاخرى. و كذلك كان التدوين في هذا العصر يمزج الحديث بأقوال الصحابة، و فتاوى التابعين، و من بعدهم كما قال ابن حجر. و ظلّ على ذلك إلى تمام المائتين. و هذا هو الطور الثاني من أطوار التدوين.
التدوين بعد المائتين
أخذت طريقة تدوين الحديث بعد المائتين صورة اخرى، ذلك أن يفرد حديث النبيّ خاصّة بالتدوين، بعد أن كان مشوباً بغيره ممّا ليس بحديث. فصنّف عبيد الله بن موسى العبسيّ الكوفيّ (م ٢۱٣ هـ) مسنداً، و صنّف مسدد بن مسرهد البصريّ (م ٢٢۸ هـ) مسنداً، و صنّف الحميديّ (م ٢۱٩ هـ) مسنداً، و غيرهم. و اقتفى الأئمّة بعد ذلك أثرهم كالإمام أحمد (م ٢٤۱ هـ)، و إسحاق بن راهويه (م ٢٣۷ هـ) و غيرهما.
و لئن كانت هذه المسانيد قد أفردت الحديث وحده بالتدوين، و لم تخلط به غيره من أقوال الصحابة و لا غيرهم و أنّها كانت تجمع بين الصحيح و غير الصحيح، ممّا كان يحمله سيل الرواية في هذا الزمن من الأحاديث، إذ لم يكن قد عُرف إلى هذا العصر تقسيم الحديث إلى ما تعارفوا عليه من صحيح، و حَسَن، و ضعيف. و لذلك كانت هذه المسانيد
دون كتب السُّنن في المرتبة، و لا يسوغ الاحتجاج بها مطلقاً. و سنتكلّم عن هذه المسانيد فيما بعد، و عن منزلتها بين كتب الحديث المعروفة.
و قد استمرّ التدوين على هذا النمط إلى أن ظهرت طبقة البخاريّ، و من ثمّ أخذ صورة اخرى و دخل في دور جديد، هو دور التنقيح و الاختيار. قال الحافظ ابن حجر في مقدّمة «فتح الباري»: لمّا رأى البخاريّ هذه التصانيف و رواها، و انتشق رياها، و استجلى مُحيّاها، و جدها بحسب الوضع جامعةً بين ما يدخل تحت التصحيح و التحسين، و الكثير منها يشمله التضعيف.۱ فلا يقال لغة سمين؛ فحرّك همّته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، و قويّ عزمه على ذلك ما سمعه من استاذه أمير المؤمنين في الحديث و الفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ المعروف بابن راهويه ... .
قال أبو عبد الله بن إسماعيل البخاريّ: كنّا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنّة رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم! قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصحيح.٢
الأطوار التي تقلّب فيها التدوين
تبيّن لك فيما تقدّم أنّ أحاديث رسول الله صلوات الله عليه لم تدوّن في حياته و لا في عصر الصحابة و كبار تابعيهم، و أنّ التدوين لم ينشأ إلّا في القرن الثاني للهجرة في أواخر عهد بني اميّة، و أنّه لم يتّخذ طريقاً واحداً،
بل تقلّب في أطوار مختلفة.
فكان في أوّل أمره جمعاً من رواية الرواة ممّا وعت الذاكرة من أحاديث رسول الله. و كان ذلك في صحف لا يضمّها مصنَّف جامع مبوَّب. و كانت هذه الصحف تضمّ مع الحديث فقهاً و نحواً و لغة و شعراً، و ما إلى ذلك، ممّا يقضي به طفولة التدوين. و هذا هو «الطور الأوّل» من التدوين. و لم يصل إلينا منه شيء في كتاب خاصّ جامع.
ثمّ أخذ التدوين في طوره الثاني في عصر العبّاسيّين، فهذّب العلماء- بما اقتبسوا من مدينة فارس- ما في هذه الصحف و رتّبوه، بعد أن ضمّوا إليه ما زادته الرواية في هذا العصر. و صنّفوا من كلّ ذلك كتباً كسروها على الحديث، و ما يتّصل به من أقوال الصحابة، و فتاوى التابعين، و لم يُدخلوا فيها أدباً و لا شعراً. و كان كثير من المتقدّمين يطلقون اسم الحديث على ما يشمل آثار الصحابة و التابعين.
و أخذ التدوين هذا النمط تبعاً لارتقاء التأليف في العصر العبّاسيّ. و تميّزت العلوم بعضها من بعض، و جُمعت مسائل كلّ علم على حدة. و ظلّ التأليف يجري على هذه السنن إلى آخر المائة الثانية. و لم يصل إلينا من الكتب المبوّبة في هذا الطور إلّا موطّأ مالك رحمه الله.
و بعد المائة الثانية أخذ التدوين يسير في طريق اخرى دخل بها في الطور الثالث، فأنشأ العلماء يُفردون كلّ ما روى من الأحاديث في عهدهم بالتدوين بعد أن كان من قبل مشوباً بأقوال الصحابة و غيرهم- كما بيّنّا- و صُنّفت في ذلك مسانيد كثيرة أشهرها «مسند أحمد»، و هو لا يزال موجوداً بيننا. و سنتحدّث عنه عند الكلام على كتب الحديث، و نبيِّن منزلته من الصحّة و قيمته بينها.
و المُسْنَدُ أن يجعل جميع ما يروي عن كلّ صحابي- أي ما يسند
إليه- في باب على حدة مهما كان موضوع الحديث، و أيّاً كانت درجته من الصحّة إذ لم يكن قد ظهر تمييز الصحيح من غير الصحيح في التأليف.
و لقد كانت هذه المسانيد تحمل الأحاديث الصحيحة و الموضوعة كما قلنا. و جرى العمل على هذا النهج حتى ظهر البخاريّ و طبقته، فانتقل التدوين إلى الطور الرابع، و هو طور «التنقيح و الاختيار» كما ذكرنا آنفاً. فوضعوا كتباً مختصرة في الحديث اختاروا فيها ما رأوا أنّه من الصحيح على طريقتهم في البحث، كما فعل البخاريّ، و مسلم، و من تبعهما. و سنتكلّم عن هذه الكتب كلّها عند الكلام على كتب الحديث. و هذا الطور من التصنيف هو الأخير، إذ أصبحت هذه الكتب هي المعتمدة عند أهل السُّنّة. أمّا الشيعة فلهم كتب في الحديث يعتمدون عليها و لا يثقون إلّا بها، وَ لِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَ إمَامُهَا.
و بهذا يخلص لك أنّ التدوين المعتمد لدى الجمهور لم يقع إلّا حوالي منتصف القرن الثالث إلى القرن الرابع.۱
الادلّة على أنّ التدوين عند العامّة بدأ في رأس المائة الثالثة
و يبدأ الشيخ محمود أبو ريّة هنا ببيان مثالب تأخير التدوين و تفصيلها. أجل، إنّ ما نهدفه من عرض كلام أبي رَيَّة المفصَّل هو أن نجيب عن المزاعم الواهية التي طرحها محمّد عجّاج، علماً أنّ جوابنا ورد في سياق كلام أبي ريّة المتقدّم. و عرفنا في هذا الكلام بداية التدوين، و مجرى الحديث حتى طوره الرابع حيث كان تصحيح الحديث بعد إفراده و فرزه عن أقوال الصحابة، و الآثار الاخرى، و العلوم المباينة للحديث نفسه كالشِّعر و اللغة. و علمنا أنّ تدوين السُّنّة تحقّق في بداية القرن الثالث و نهاية
القرن الثاني. و لم يؤدّ اهتمام عمر بن عبد العزيز بهذا الأمر دوره العمليّ المهمّ لوجوه:
أوّلًا: قصر مدّة حكومته، إذ لم يحكم غير سنتين و بضعة أشهر. و لا ندري هل كان أمره بالتدوين في أوّل حكومته، أو وسطها، أو آخرها، إذ لو كان في آخرها أو في وسطها القريب من آخرها، فإنّه سوف لن يتّخذ طابعاً عمليّاً بسبب الحواجز و الموانع الخارجيّة. و هذا هو مفاد و مغزى كلام السيّد الصدر في غموض تأريخ أمره.
ثانياً: لقد سُمّ الحاكم المذكور لعدله النسبيّ، و مودّته أهل البيت، و عدم إفراطه في بذل الأموال كأسلافه الأمويّين؛ كما أنّ خلفه في الحكومة يزيد بن عبد الملك لم يفعل شيئاً بعده، و لم يصدر عنه أمر بالتدوين، إلى أن مات بعد مضى أربع سنين على حكمه، فتولّى هشام بن عبد الملك.
ثالثاً: كان أمر عمر بن عبد العزيز موجّهاً إلى أبي بكر بن حزم أساساً لا إلى ابن شهاب الزهريّ. فقد كتب إليه كتاباً دعاه فيه إلى تدوين السُّنّة النبويّة. بَيدَ أنّه امتنع و لم يستجب لدعوته لحظر الحكّام السابقين- بخاصّة أبي بكر و عمر- ذلك. و كان يرى أنّ التدوين خلاف المشروع و مباين لسيرة الصحابة. و ما فتئ يتعلّل إلى أن مات ابن عبد العزيز. و عند ما تسلّط يزيد بعده، و لم يصدر عنه أمر بالتدوين، اغتنم ابن حزم الفرصة فانصرف عن التدوين. و كان يحسب أنّ وفاة عمر، و تولّى يزيد معونة إلهيّة و منزلة دينيّة روحانيّة له.
رابعاً: استجاب ابن شهاب لدعوة هشام بن عبد الملك إلى التدوين لقربه من البلاط الأمويّ و هشام، و إمضائه زهاء عشرين سنة في إمارته و ولايته و سفره و حضره. فقام بالتدوين. (علماً أنّ التدوين هنا بمعنى مجموعة من التدوينات المعروفة يومئذٍ للسُّنّة و الحديث و آراء الصحابة
و الحكّام الاوَل أبي بكر و عمر و عثمان، و شعر العرب و آدابها، و أمثال ذلك).
من هنا نعرف أنّ ابن شهاب لمّا كان من وعّاظ السلاطين البارزين، و كان بنو اميّة يأخذون منه آراءهم و أحكامهم، و كان مرجع قضائهم حتى اشتهر به، فقد نُسب إليه التدوين، لا في عصر عمر بن عبد العزيز، بل في عصر من تلاه من الحكّام بعد سنين مضت على حكمهم.
و لم يعدّوا خالد بن مَعْدان الحِمْصيّ أوّل مدوِّن مع أنّه كان قد أدرك سبعين صحابيّاً، و توفّي قبل الزهريّ بعشرين سنة (إذ كانت وفاته سنة ۱۰٤ هـ، و وفاة الزهريّ سنة ۱٢٤ هـ). و كان له كتاب و تدوين. و يعود ذلك إلى أنّه لم يكن من وعّاظ السلاطين القابعين في بلاطهم، في حين ينبغي عدّه أوّل مدوِّن وفقاً لنهج العامّة لو كانوا منصفين.
و عند ما اعتبره السيّد محمّد رشيد رضا أوّل مدوِّن في منطق الحقيقة، و قال: و لكنّ المشهور أنّ أوّل من كتب الحديث ابن شهاب الزهريّ، و لعلّ سبب ذلك أخذ امراء بني اميّة عنه.۱ هاجمه الخطيب، و سجّل عليه مؤاخذتين لا وزن لهما.٢
و كان الذهبيّ عديم المثيل أو نادر المثال بين العامّة في حقل التأريخ، و علوم الحديث، و الاطّلاع الواسع على مثل هذه الامور. فَرَفْضُ شهادته في مقابل كلام السيوطيّ بلا دليل بعيدٌ عن الإنصاف.
و أمّا عدّه عبدَ اللهِ بن عمرو صاحب «الصحيفة الصادقة»، و اعتبار
صحيفته من المدوّنات الخالصة في السُّنّة النبويّة في عصر النبيّ، و حسبانها أقدم و أسبق من جميع الصُّحف بما فيها صحيفة أبي رافع، فذلك زعم لو كشفنا عنه، لزكمت رائحته الانوف.
و عبد الله هذا هو ابن عمرو بن العاص المعروف المشهور الذي ملأ جانباً كبيراً من التأريخ في محادّة النبيّ صلى الله عليه و آله، و إنشاد الشعر في هجائه.
و كان عبد الله يزور النبيّ صلى الله عليه و آله، و يكتب عنه أشياء. و كان من المؤيّدين لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، إذ كان خبيراً بصيراً بمقامه الشامخ و ولايته لما سمعه من رسول الله بشأنه.
و لهذا عند ما كتب معاوية إلى أبيه عمرو بن العاص يدعوه إلى قتال الإمام عليه السلام، استشار عمرو ولديه: محمّد و عبد الله المذكور. أمّا محمّد فقد حرّضه على الحرب. و أمّا عبد الله فقد أنّبه، و نوّه له بفضائل الإمام. و ذكّره بأنّ مخاصمته من أجل حكومة مصر و دعم معاوية بيعٌ لآخرته بدنياه، و ذهاب إلى جهنّم.
بَيدَ أنّ عمرو لم يسمع كلامه، و سمع كلام محمّد، فتوجّه إلى الشام. لكنّا لم نجد في التأريخ أنّ عبد الله خالف أباه عمليّاً، أو التحق بأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين ليؤازرهم، بل وجدنا أنّه كان مع أبيه في أصحاب معاوية عليه الهاوية.۱
و نلحظ معلومات متضاربة كثيرة في كتب علماء العامّة حول
الأحاديث المرويّة عن عبد الله بن عمرو، و كتابه الذي سمّاه «الصحيفة الصادقة».
و نقرأ في الأحاديث الكثيرة المرويّة عن أبي هريرة الذي تفرّد بين أهل السُّنّة في وضع الحديث دعماً لمعاوية و بلاطه، و مشاقّةً لأمير المؤمنين عليه السلام، و ملأت أحاديثه كتب العامّة، إنّه كان يقول: ما من أصحاب النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم أحد أكثر حديثاً عنه منّي إلّا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنّه كان يكتب و لا أكتب.
و قد ألّف المرحوم أبو ريّة كتاباً عن أبي هريرة بعنوان: «شيخ المضيرة: أبو هريرة» اقتداءً بالمرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين في كتاب «أبو هريرة». ثمّ ألّف كتابه «أضواء على السنّة المحمّديّة»، و أماط اللثام فيهما عن موضوعات مهمّة لم يكشف عنها أحد من العامّة إلى الآن.
كلام أبو ريّة حول الإسرائيليّات في الحديث
فلا بدّ لنا هنا من نقل شيء منها، ممّا ذكره في سياق كلامه عن أبي هريرة، أو عن دخول الإسرائيليّات و الأخبار الكاذبة في الحديث، و ذلك لتتبيّن هويّة «الصحيفة الصادقة»، و أحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص. يقول أبو ريّة تحت عنوان: الإسرائيليّات في الحديث:
لمّا قويت شوكة الدعوة المحمّديّة و اشتدّ ساعدها، و تحطّمت أمامها كلّ قوّة تنازعها، لم ير من كانوا يقفون أمامها و يصدّون عن سبيلها، إلّا أن يكيدوا لها من طريق الحيلة و الخداع، بعد أن عجزوا عن النيل منها بعدد القوّة و النزاع.
و لمّا كان أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود، لأنّهم بزعمهم شعب الله المختار، فلا يعترفون لأحد غيرهم بفضل، و لا يقرّون لنبيّ بعد موسى برسالة، فإنّ رهبانهم و أحبارهم لم يجدوا بدّاً- و بخاصّة بعد أن غُلبوا على
أمرهم و اخرجوا من ديارهم-۱ من أن يستعينوا بالمكر، و يتوسّلوا بالدهاء، لكي يصلوا إلى ما يبتغون، فهداهم المكر اليهوديّ إلى أن يتظاهروا بالإسلام و يطووا نفوسهم على دينهم، حتى يخفى كيدهم، و يجوز على المسلمين مكرهم. و قد كان أقوى هؤلاء الكهّان دهاءً و أشدّهم مكراً كعب الأحبار، و وهب بن منبّه، و عبد الله بن سلام.
و لمّا وجدوا أنّ حيلهم قد راجت بما أظهروه من كاذب الورع و التقوى، و أنّ المسلمين قد سكنوا إليهم، و اغترّوا بهم، جعلوا أوّل همّهم أن يضربوا المسلمين في صميم دينهم، و ذلك بأن يدسّوا إلى اصوله التي قام عليها ما يريدون من أساطير و خرافات، و أوهام و ترّهات، لتوهين و تضعيف هذه الاصول.
و لمّا عجزوا عن أن ينالوا من القرآن الكريم، لأنّه قد حُفظ بالتدوين، و استظهره آلاف من المسلمين، و أنّه قد أصبح بذلك في منعة من أن يزاد فيه كلمة أو يتدسّس إليه حرف، اتّجهوا إلى التحدّث عن النبيّ فافتروا- ما شاءوا أن يفتروا- عليه أحاديث لم تصدر عنه.٢
و أعانهم على ذلك أنّ ما تحدّث به النبيّ في حياته لم يكن محدود المعالم، و لا محفوظ الاصول، لأنّه لم يُكتب في عهده صلوات الله عليه كما كتب القرآن، و لا كتبه صحابته من بعده، و أنّ في استطاعة كلّ ذي هوى أو دخلة سيّئة، أن يتدسّس إليه بالافتراء، و يسطو عليه بالكذب،
و يسّر لهم كيدهم أن وجدوا الصحابة يرجعون إليهم في معرفة ما لا يعلمون من امور العالم الماضية. و اليهود بما لهم من كتاب، و ما فيهم من علماء، كانوا يعتبرون أساتذة العرب فيما يجهلون من امور الأديان السابقة، إن كانوا مخلصين صادقين.
قال الحكيم ابن خلدون۱ عند ما تكلّم عن التفسير النقليّ، و أنّه كان يشتمل على الغثّ و السمين و المقبول و المردود: و السبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم، و إنّما غلبت عليهم البداوة و الامّيّة. و إذا تشوّفوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّف إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات و بدء الخليقة و أسرار الوجود، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، و يستفيدونه منهم.٢ و هم أهل التوراة من اليهود، و من تبع دينهم من النصارى، مثل كعب الأحبار، و وهب بن مُنَبِّه، و عبد الله بن سلام، و أمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم. و تساهل المفسّرون في مثل ذلك، و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات و أصلها كلّها كما قلنا من التوراة، أو ممّا كانوا يفترون.
و قال في موضع آخر من مقدّمته: و كثيراً ممّا وقع للمؤرّخين و المفسّرين، و أئمّة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّاً أو سميناً، لم يعرضوها على اصولها، و لا قاسوها بأشباهها، و لا سبروها بمعيار الحكمة، و الوقوف على طبائع الكائنات، و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحقّ، و تاهوا في بيداء
الوهم و الغلط.۱
و قال الدكتور أحمد أمين: اتّصل بعض الصحابة بوهب بن منبّه، و كعب الأحبار، و عبد الله بن سلام. و اتّصل التابعون بابن جريج؛٢ و هؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة و الإنجيل و شروحها و حواشيها. فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصّوها بجانب آيات القرآن، فكانت منبعاً من منابع التضخّم٣- انتهى.
من أجل ذلك كلّه أخذ اولئكَ الأحبار يبثّون في الدين الإسلاميّ أكاذيب و ترّهات، يزعمون مرّة أنّها في كتابهم أو من مكنون علمهم، و يدّعون اخرى أنّها ممّا سمعوه من النبيّ صلى الله عليه و آله، و هي في الحقيقة من مفترياتهم. و أنّى للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم، و هم من ناحية لا يعرفون العبرانيّة٤ التي هي لغة كتبهم، و من ناحية اخرى كانوا أقلّ منهم دهاءً و أضعف مكراً؟ و بذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب، و تلقّى الصحابة و من تبعهم كلّ ما يُلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص، معتبرين أنّه صحيح لا ريب فيه.٥
و قال أبو ريّة أيضاً تحت عنوان، هَلْ يَجُوزُ رِوايَةُ الإسْرَائِيلِيَّاتِ؟:
جاءت الشريعة الإسلاميّة فنسخت ما قبلها من الشرائع- و إن كانت قد
أبقت على اصول العقائد و ما لا يتعارض معها من الامور التي أرسل الله بها جميع الرسل إلى خلقه- و قد بيّن القرآن الكريم أنّ أهل الكتاب (اليهود و النصارى) قد كتبوا من عند أنفسهم كتباً ليشتروا بها ثمناً قليلًا.
نهي النبيّ صلّى الله عليه و آله المؤكّد عن رواية الإسرائيليّات
و من أجل ذلك نهي رسول الله أن يأخذ المسلمون على أهل الكتاب أمراً يخالف اصول دين الله و أحكامه و آدابه. و كان يغضب أشدّ الغضب إذا رأى أحداً ينقل عنهم شيئاً. فقد روى أحمد عن جابر بن عبد الله أنّ عمر بن الخطّاب أتى النبيّ بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبيّ فغضب و قال: أ مُهَوَّكُونَ۱ فِيهَا يا بْنَ الخَطَّاب؟! وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أنَّ موسى حَيّ مَا وَسِعَهُ إلَّا أنْ يَتَّبِعَنِي!
و في رواية: فَغَضِبَ وَ قَالَ: لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً! لَا تَسْأَلُوا أهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ.
و روى البخاريّ عن أبي هريرة: لَا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ وَ لَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَ قُولُوا: آمَنَّا بِاللهِ وَ مَا انزِلَ إلَيْنَا وَ مَا انْزِلَ إلَيْكُمْ وَ إلَهُنَا وَ إلَهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
و روى البخاريّ من حديث الزهريّ عن ابن عبّاس أنّه قال:
كَيْفَ تَسَألُونَ أهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيءٍ وَ كِتَابُكُمُ الذي أنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أحْدَثُ الكُتُبِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضاً لَمْ يَشُبْ. وَ قَدْ حَدَّثَكُمْ أنَّ أهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللهِ وَ غَيَّرُوهُ وَ كَتَبُوا بِأيْدِيهِمُ الكِتَابَ وَ قَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا! أ لَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسأَلَتِهِم؟! لَا وَ اللهِ مَا رَأيْنَا مِنْهُمُ رَجُلًا يَسألُكُمْ عَنِ الذي انْزِلَ إلَيْكُمْ!
و روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: لَا تَسْألُوا أهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيءٍ فَإنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَ قَدْ ضَلُّوا. إمَّا أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ!
هذه هي الروايات الصحيحة التي تتّفق مع الدين و العقل، و التي كانت معروفة عند المحقّقين.۱
هذا بعض ما رُوي عن النبيّ صلوات الله عليه في النهي عن الأخذ عن أهل الكتاب، و لكن ما لبث الأمر أن انقلب بعد أن اغترّ بعض المسلمين بمن أسلم من أحبار اليهود خدعةً. فظهرت أحاديث رفعوها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله تُبيح الأخذ و تنسخ ما نهى عنه.
فقد روى أبو هريرة، و عبد الله بن عمرو بن العاص، و غيرهما أنّ رسول الله قال: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَ لَا حَرَجَ! و أبو هريرة، و عبد الله بن عمرو من تلاميذ كعب الأحبار.
و قد جاءت الأخبار بأنّ الثاني- و هو عبد الله بن عمرو بن العاص- أصاب يوم اليرموك زاملتين٢ من علوم أهل الكتاب، فكان يحدِّث منهما. و زاد ابن حجر: فَتَجَنَّبَ الأخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أئِمَّةِ التَّابِعِينَ.٣
ضعف روايات أبي هريرة و عبد الله بن عمرو
أجل، لقد جاءت هذه المعلومات من أجل التعرّف على جذر الإسرائيليّات و كيفيّة تسلّل كعب الأحبار و أقرانه في صفوف المسلمين و دسّهم و تزويرهم في الأحاديث سواء بنقلهم هم أنفسهم، أم بإسنادهم إلى
رسول الله صلى الله عليه و آله. و إذا ما عرفنا أنّ أبا هُريرة، و عبد الله بن عمرو كانا من أعظم تلامذة كعب الأحبار، وقفنا على سخف مرويّاتهما جميعها، إذ هي من مبتدعات ذلك اليهوديّ المنافق المتظاهر بالإسلام ذي السابقة المعروفة، مضافاً إلى أنّنا لم نلحظ بين السُّنّة أكثر من هذين الشخصين رواية بحيث إنّ كتبهم مشحونة برواياتهما، و إنّ اصولهم و فروعهم متوكِّئة عليها. و لو قُدِّر فرز رواياتهما و روايات استاذهما كعب الأحبار و إخراجها من الكتب- و لا سبيل لهم إلّا الإخراج- فإنّ القسم الأعظم من كتبهم سوف يتهرّأ، و إنّهم سوف يفلسون. و هذه مسألة تهدّد أساس صحاحهم و مسانيدهم و سننهم بشدّة. و اثيرت في الأوساط السنّيّة ضجّة عظيمة بعد تأليف العالم المحقّق السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ كتابه عن أبي هريرة، و كذلك تأليف العالم الواعي المُتجرِّد الشيخ محمود أبي ريّة كتابه عنه تحت عنوان «شيخ المضيرة»، فإنّهما كتابان نفيسان دقيقان رحم الله مؤلِّفَيْهِما على دراساتهما العلميّة العميقة فيهما. مضافاً إلى أنّ دراسات المستشرقين و اكتشافاتهم، و إزاحة الستار عن أكاذيب أبي هريرة، و عبد الله بن عمرو و ما شابهها هزّت سنّتهم الجوفاء على أشدّ ما يكون فلا يجد أهلها مناصاً إلّا الرجوع إلى روايات أهل البيت و أحاديثهم و تأريخهم و تفسيرهم كما سنأتي عليه في مباحثنا القادمة إن شاء الله تعالى.
ردُّ أبي ريّة على أحاديث أبي هريرة
و أورد أبو ريّة في كتاب «شيخ المضيرة: أبو هريرة» بحثاً تحت عنوان: «أبو هريرة أكثر الصحابة تحديثاً». و لمّا كان يناسب موضوعنا الحالي حول عبد الله بن عمرو و صحيفته الصادقة كثيراً، فمن الضروريّ أن نشير إليه علماً أنّ الكلام دار فيه حول عبد الله و صحيفته:
قال: أجمع رجال الحديث على أنّ أبا هريرة كان أكثر الصحابة
تحديثاً عن رسول الله، على حين أنّه لم يصاحب النبيّ إلّا عاماً واحداً و بضعة أشهر فحسب كما قلنا.
و قد ذكر أبو محمّد بن حزم أنّ «مسند بقي بن مخلّد» قد احتوى من حديث أبي هريرة على ٥٣۷٤. روى البخاريّ منها ٤٤٦ ممّا جعل الصحابة ينكرون عليه و يُكذِّبون بعض رواياته كما ستراه بعد.۱
هذا هو المعروف المشهور، و لكنّا رأيناه يقول كما روى البخاريّ و غيره:٢
مَا مِنْ أصْحَابِ النَّبِيّ أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً مِنِّي إلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛٣ فَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ وَ لَا أكْتُبُ.٤
و لو بحثنا عن كلّ ما رواه ابن عمرو هذا لوجدناه (۷۰۰) حديث عند ابن الجوزيّ، أي: بنسبة ممّا رواه أبو هريرة، روى البخاريّ منها ثمانية، و مسلم عشريناً.
و لعلّ اعتراف أبي هريرة هذا قد صدر عنه أوّل أمره حينما كان يعيش بين كبار الصحابة و علمائهم، إذ كان يخشى أن ينكروا عليه
مرويّاته. و لكن لمّا خلا له الجوّ، و استباح الرواية- بعد مقتل عمر و موت كبار الصحابة-۱ أكثر و أفرط، و بخاصّة في عهد معاوية الذي حمي ظهره، و أعلى قدره، و جعله محدّث دولته، كما سترى ذلك إن شاء الله.
و قد يظنّ بعضهم من قول أبي هريرة هذا أنّ عبد الله بن عمرو قد كتب ما سمعه من رسول الله، و بذلك تكون مرويّاته متواترة في لفظها و معناها، و أنّ ما كتبه قد حفظ من بعده بالكتابة كذلك، كما حفظ القرآن بالكتابة؛ فيفيد العلم بنفسه، و يكون أصلًا صحيحاً معتمداً بين المسلمين، بعد كتاب الله المبين.
و لكنّ المعروف أنّ ما لابن عمرو من الحديث في كتب السنّة قد جاء من طريق الرواية، لا من سبيل الكتابة. و كلّ ما عُلم عمّا كتبه أنّه (صحيفة) كان يسمّيها «الصادقة».
و قد ذكروا أنّها كانت تحمل أدعية منسوبة إلى النبيّ يقولها المرء إذا أصبح و إذا أمسى. و يبدو أنّ هذه الصحيفة لم تكن عند المحقّقين ذات قيمة و لا تساوي شيئاً.
فقد جاء في كتاب «تأويل مختلف الحديث»،٢ و كتاب «المعارف»٣ و كلاهما لابن قُتيبة ما يلي:
و قال مغيرة: كَانَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو صَحِيفَةٌ تُسَمَّى الصَّادِقَةَ، مَا
يَسُرُّنِي أنَّهَا لي بِفَلْسَيْنِ!!۱
و الآن، إذ استبانت هويّة كعب الأحبار، و أبي هريرة، و عبد الله بن عمرو نوعاً ما، يجدر بنا أن نُذكِّر بأنّ روايات هؤلاء لا وزن لها عند الشيعة، و أنّ حديثهم مرفوض. فإذا ما انتهى إلى أحدهما سندُ حديثٍ ما، فذلك الحديث لا اعتبار له.
تفاهة صحيفة عبد الله بن عمرو و عدم قيمتها
أمّا العامّة، فإنّهم يرون أنّ كلّ من صحب النبيّ صلى الله عليه و آله- بالمعنى الأعمّ للصحبة، أي: كلّ من لقيه و هو مسلم في الظاهر- عادل.
و هم ينزّهون جميع الصحابة و يبرّئونهم من الكذب و الخيانة. لذلك صاروا يقبلون أحاديثهم مهما كان مضمونها، و يقرّون بها بلا مراء و بدون ملاحظة انطباق مضمونها على الواقع بمجرّد اتّصال سندها بالصحابيّ. و لا يفرّقون بين روايات كعب اليهوديّ المخرّب الهدّام للإسلام، و أبي هريرة المتصدّر مجلس التزوير و الخداع و المكر و وضع الأحاديث الكاذبة في بلاط معاوية الذي كان أوّل متهتّكٍ في الإسلام، و بين روايات غيرهما من الصحابة، فالصحابة جميعهم مغفور لهم، مشمولون برحمة الله تعالى، سواء كانوا معاوية و أمثاله أم غيرهم، فالكلّ قولهم و عملهم صحيحان عندهم. و على هذا الأساس من جهة، و من جهة اخرى ما يلاحظ في تضاعيف كتاب «السنّة قبل التدوين» من الانحياز إلى بني اميّة و أمثالهم، و عدم إقامة وزن و اعتبار لأهل البيت، نجد أنّ مصنّف الكتاب المذكور محمّد عجّاج الخطيب يثمّن «الصحيفة الصادقة» لعبد الله بن عمرو، و «الصحيفة الصحيحة» لوهب بن مُنَبِّه تثميناً كبيراً، و يحاول جهده أن يعدّهما من الصحف المعتبرة المتداولة المشهورة، و يعدّ صاحبيهما من المعصومين المنزّهين عن الكذب و الخيانة أمَّا أنَّي لَهُ ذَلِكَ؟ و نحن نرى أنّ بين أهل السنّة مَن تحرّر من نصب العداء لآل محمّد، فهو يعتقد بأنّ هذه الصحيفة و أمثالها لا وزن لها و لا اعتبار بسبب خيانة مصنّفها.
دفاع محمّد عجّاج عن «صحيفة عبد الله بن عمرو»
و نلقي فيما يأتي نظرة على شيء من كلام محمّد عجّاج في هذا المجال، ثمّ نناقشه بإيجاز:
قال: «الصَّحِيفَةُ الصَّادِقَةُ» لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ (۷ قبل الهجرة- ٦٥ هـ).
كان رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قد سمح لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه بكتابة الحديث، لأنه كان كاتباً محسناً، فكتب عنه
الكثير. و اشتهرت صحيفة ابن عمرو رضي الله عنه بـ «الصحيفة الصادقة»، كما أراد كاتبها أن يسمّيها، لأنّه كتبها عن رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم، فهي أصدق ما يروي عنه. و قد رآها مجاهد بن جبر (٢۱- ۱۰٤ هـ) عند عبد الله بن عمرو، فذهب ليتناولها، فقال له: مَهْ يَا غُلَامَ بَنِي مَخْزُومٍ. قال مجاهد: قلتُ ما كتبتَ شيئاً! قال: هَذِهِ الصَّادِقَةُ فِيهَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ لَيْسَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ أحَدٌ.۱
و كانت هذه الصحيفة عزيزة جدّاً على ابن عمرو حتى قال: مَا يَرْغُبُنِي في الحَياةِ إلَّا الصَّادِقَةُ وَ الوَهْطُ.٢ و ربّما كان يحفظها في صندوق له حلق خشية عليها من الضياع.٣ و قد حفظ هذه الصحيفة أهله من بعده؛ و يرجّح أنّ حفيده عمرو بن شعيب كان يُحدِّث منها.٤
و تضمّ صحيفة عبد الله بن عمرو ألف حديث كما يقول ابن الأثير؛٥ إلّا أنّ إحصاء أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جدّه لا يبلغ خمسمائة حديث. و إذا لم تصلنا الصحيفة الصادقة كما كتبها ابن عمرو بخطّه، فقد نقل إلينا الإمام أحمد محتواها في مسنده كما ضمّت كتب السنن الاخرى جانباً كبيراً منها.
و لهذه الصحيفة أهمّيّة علميّة عظيمة، لأنّها وثيقة علميّة تأريخيّة، تثبت كتابة الحديث بين يدي رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم و بإذنه.
و علّق محمّد عجّاج هنا على كلامه فقال في الهامش: ورد طعن في «الصحيفة الصادقة» من بعض أهل العلم كالمغيرة بن مقسم الضبّيّ الذي قال: كَانَتْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو صَحِيفةً تُسَمَّى الصَّادِقَةَ، مَا تَسُرُّنِي أنَّهَا لي بِفَلْسَيْنِ. انظر «تأويل مختلف الحديث» ص ٩٣. و في «ميزان الاعتدال» ج ٢، ص ٢٩۰: ما يسرُّني أنّ صحيفة عبد الله بن عمرٍ و عندي بتمرتَين أو بِفَلْسَيْنِ.
ثمّ قال: إذا صحّت هذه الرواية عن المغيرة، فلا يجوز حملها على ظاهرها، و لا قبولها هكذا مقتضية، لأنّه ذَكَرَ ذلك في معرض الكلام على الروايات الضعيفة. فإذا ضعّف نسخة ابن عمرو فإنّما ضعّفها لأنّها انتقلت وِجادةً۱ فهو لا يقبل أن تكون عنده هذه الصحيفة بالطريق الذي حملها الرواة. لأنّ الوجادة أضعف طرق التحمّل. فقد كانوا لا يحبّون أن ينقلوا الأخبار من الصحف، بل عن الشيوخ. و لا يجوز أن يُحْمَل قول المغيرة على غير هذا الوجه، لأنّه ثبت أنّ عبد الله قد كتبها بين يدي النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم.
و يواصل عجّاج حديثه فيقول: و كان عبد الله يُملي الحديث على تلاميذه.٢ و قد نقل عنه تلميذه حسين بن شفيّ بن ماتع الأصبحيّ في مصر
كتابين: أحدهما فيه: قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] في كَذَا، وَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ كَذَا. و الآخر: مَا يَكُونُ مِنَ الأحْدَاثِ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.۱
و نحن هنا لم نتعرّض إلّا لـ «الصحيفة الصادقة»، فقد كان عند ابن عمرو كتب كثيرة عن أهل الكتاب أصابها يوم اليرموك في زاملتين.
و قد ادّعى بِشْرُ المريسيّ أنّ عبد الله بن عمرو كان يرويهما للناس عن النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم. و كان يقال له: لَا تُحَدِّثنَا عَنِ الزَّامِلَتَيْنِ. و هذه الدعوة باطلة، فقد ثبت أنّ ابن عمرو، و كان أميناً في نقله و روايته، لا يحيل ما روى عن النبيّ صليّ الله عليه [و آله] و سلّم على أهل الكتاب.٢
و قال عجّاج في الهامش أيضاً: و قد ذكر محمود أبو ريّة صاحب كتاب «أضواء على السنّة المحمّديّة» في الصفحة ۱٦٢، هامش ٣: أنّ عبد الله بن عمرو كان قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب. و كان يرويها للناس (عن النبيّ) فتجنّب الأخذ عنه كثير من أئمّة التابعين. و كان يقال له: لَا تُحَدِّثْنَا عَنِ الزَّامِلَتَيْنِ. («فتح الباري» ج ۱، ص ۱٦٦)- انتهى.
ثمّ قال بعد ذلك: و من العجيب أن يسمع إنسان مثل هذا الخبر و يصدّقه، لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أصدق الناس لساناً، و أنقى الامّة قلوباً، و أخلص البريّة للرسول صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. فلا يعقل أن يكذب أمثال عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما على رسول الله فيعزو
إليه ما سمعه من أهل الكتاب. فهرعتُ إلى «فتح الباري» و إذا به- شهد الله- خالياً من عبارة أبي ريّة. فليس في قول ابن حجر (عن النبيّ) إنّما زادها الكاتب من عنده.
فهل تكذيب الصحابة، و الافتراء عليهم، و الانتحال على العلماء، أمثال ابن حجر، و غيره من الأمانة العلميّة؟؟ و قد ثبت لنا سوء نيّة أبو ريّة في مواضع كثيرة يظهر بعضها في بحثنا عن أبي هريرة.۱
نقد كلام محمّد عجّاج في ردّه على أبي ريّة
و الآن، إذ عرفنا وجوه الكلام الذي ذكره الخطيب، و استبان زعمه و دليله إجمالًا، فمن المناسب أن نحلّله و نكشف مواطن ضعفه و إشكاله:
إنّه يعتقد كما رأينا أنّ عبد الله بن عمرو أمين في النقل، و صحيفته صحيفة مدوّنة بإملاء الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم، و هي أوّل كتاب مدوَّن في الإسلام، و هي سابقة لكتاب أبي رافع. بَيدَ أنّ هذه المزاعم كلّها موضع تأمّل و إشكال.
فكيف نقبل أمانته في النقل و نحن نجد أنّ العالم الجليل المتتبِّع ابن قتيبة الدينوريّ إمام أهل السنّة، المتّفق عليه عند علماء العامّة جميعهم يضعِّف صحيفته في كتاب «المؤتلف و المختلف»، و كتاب «المعارف»؟!
و نجد أنّ العالم السنّيّ الخبير الذي لا غبار على كلامه في الوسط السنّيّ، أعني: المغيرة بن مقسم الضبِّيّ لا يشتري تلك الصحيفة بتمرتَين أو بفَلسَين؟!
و نجد أنّ بِشر المريسيّ الذي يستند العامّة إلى كلامه قد فسّقه بصراحة و قال: إنّ عبد الله بن عمرو قرأ الروايات المأخوذة من الزاملتين، من الكتب الواصلة في غنائم اليرموك، و رواها للناس عن النبيّ.
و نجد أنّ ابن حجر ذكر في «فتح الباري» أنّ كثيراً من أئمّة التابعين تجنّبوا الأخذ عنه لنقله عن زاملتين من كتب أهل الكتاب؟!
و نقول: إنّ النقل عن رسول الله و إسناد الزاملتين إليه خيانة عظمى؛ و إنّ تجنّب كثير من أئمّة التابعين رواياته و صحيفته الصادقة ليس اعتباطيّاً.
و أمّا قول الخطيب: إنّ هذا الكلام باطل، لأنّ عبد الله بن عمرو كان أميناً في النقل، و هل يعقل أن يكذب الصحابيّ على نبيّه و يخونه؟!
فإنّه مصادرة بالمطلوب،۱ و إدخالٌ للدليل في الزعم نفسه. أجل إنّ الصحابة لم يكونوا كلّهم عدولًا، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من البشر، ففيهم الصحيح و السقيم، و الحسن و الرديء و الصالح و الطالح. و إنّه وَهْمُ العامّة و باطلهم، إذ يتصوّرون أنّ الصحابة جميعهم عدول، و منزّهون عن المعاصي، و صادقون مخلصون. و يضفون عليهم صفة العصمة و الطهارة، سواء كان هؤلاء الصحابة كعب الأحبار و وهب بن منبِّه و عبد الله بن سلام، أم أبا هريرة و عبد الله بن عمرو بن العاص، أم عمرو بن العاص نفسه و معاوية بن أبي سفيان، أم المغيرة بن شُعبة و أبي عبيدة الجرّاح، أم عثمان بن عفّان و مروان بن الحكم، أم أبا بكر و عمر. و أخيراً كلّ من لقي النبيّ فهو صحابيّ معصوم. هذا هو منطق العامّة.
و هذا المنطق من منظورهم قَلَبَ الإسلام، و بدّل المَلَكَ شيطاناً، و الشيطان مَلَكاً. و ظهر اليوم بين العامّة رجال أمثال الدكتور طه حسين، و الشيخ محمّد عبده، و السيّد محمّد رشيد رضا، و أحمد أمين، و عبد الحليم
الجنديّ، و الشيخ محمود أبي ريّة، و الكثير من نظائرهم، ممّن داسوا هذه العقيدة الجاهليّة، و أعلنوا في كتبهم العديدة بصراحة أنّ سنّة رسول الله لن تتحرّر إلّا إذا أمسكنا عن الاعتقاد بعدالة الصحابة، و عن حصر الاجتهاد في الأئمّة الأربعة. و نكتفي هنا بهذا الموجز من الكلام حول عدالة الصحابة، لأنّنا سنأتي عليه في بحث مستقلّ مستقبلًا إن شاء الله.
و الآن افرضوا أنّ عبد الله بن عمرو لم ينسب إسرائيليّات الزاملتين إلى النبيّ، بل قالها من عنده، أو بيّنها بذكر السند من كتب اليهود، فهذه خيانة أيضاً. و عند ما أكّدت الأحاديث النبويّة الموثّقة منع مطالعة الكتب المأثورة عن أهل الكتاب، و نقل لنا التأريخ غضب النبيّ على عمر، إذ أمره أن يقرأ فقط القرآن المنزّه المنقّي، و يعمل بسنّته الشريفة فحسب، فلا مسوّغ حينئذٍ للمسلمين أن يطالعوا الكتب المنسوخة المزوّرة المحرّفة لليهود و النصارى؛ بخاصّة مع النهي القرآنيّ المؤكّد عن الاقتراب منهم و التعرّف عليهم و الارتباط بهم، و هو ما استوعب قسماً كبيراً من كتاب الله.
و هذه مسألة غير غامضة؛ إذ كلّ من كان له أدنى اطّلاع على السيرة النبويّة و الأحاديث الشريفة المأثورة يدرك في أوّل وهلة أنّ رواية أبي هريرة و عبد الله بن عمرو عن رسول الله بأنّه قال: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَ لَا حَرَجَ! رواية موضوعة مفتراة وضعها هذان الدجّالان الكذّابان من أجل تمشية امورهما.
و نحن إذ لاحظنا رواية مجهولة، فيجب أن نعرض متنها و مضمونها على كتاب الله. و هذه الرواية المرويّة عنهما إذا عُرضت على كتاب الله فإنّه يرفضها بشدّة. و علينا أن نضربها عرض الحائط حسب القاعدة المعروفة: فَاضْرِبُوهُ عَلَى الجِدَار، و ذلك لمخالفتها كتاب الله.
و من العجيب أنّ محمّد عجّاج مع اعترافه بأنّ عبد الله بن عمرو مات سنة ٦٥ هـ، و إقراره بكتاب أبي رافع الذي توفّي سنة ٣٥ هـ، بَيدَ أنّه يصرّ على أنّ كتاب عبد الله مقدّم على كتاب أبي رافع في حين نلحظ أنّ أبا رافع سبقه بثلاثين سنة.۱ و انظروا أيضاً في عبارته إذ يقول: إذا صحّ هذا الخبر- «كتاب أبي رافع»- كان لأبي رافع شرف الأولويّة في التأليف لا في التدوين!
و هل التأليف هنا غير التدوين؟! أ ليس أبو رافع الذي كان غلام العبّاس، ثمّ غلام النبيّ، و قد تزوّج في زمانه بمولاته سلمى، و رُزق منها رافعا أكبر أولاده في حياة النبيّ، و كان عاقلًا رشيداً، و دوّن كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا» في عهد النبيّ نفسه، مقدّماً في كلّ شيء على عبد الله ابن عمرو، الذي ولد قبل الهجرة بسبع سنين، و كان ابن ثماني عشرة سنةً يوم توفّي النبيّ؟!
و أنا حائر لمعيار الخطيب في التقييم، إذ كيف عدّ عبد الله مقدّماً على أبي رافع في التدوين؟!
إذا كان معيار التقدّم الكتابة في زمن النبيّ، و فرضنا أنّ «الصحيفة الصادقة» كانت قد كتبت في عهده، فإنّ أبا رافع قد دوّن كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا» في عهده أيضاً! و إذا كان المعيار هو العمر، فإنّ أبا رافع كان أكبر من عبد الله! و إذا كان المعيار هو الموت، فإنّ أبا رافع توفّي قبل عبد الله بثلاثين سنة!
أجل، إنّي كلّما أفكّر، أجد أنّ ذنب أبي رافع الوحيد هو تشيّعه و ولاؤه الخالص لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، حيث كان هو و اسرته من شيعته المتفانين في حبّه. هذا هو ذنب أبي رافع الذي أخّره عن عبد الله بن عمرو صاحب الصحيفة المجهولة المطعونة!
أتذكّر هنا عبارة للشيخ محمود أبو ريّة في كتاب «الأضواء» بعد عرض الحوادث و المحن التي مرّ بها أمير المؤمنين، كوحدته، و عدم تثمين قيمته الرفيعة، و الإعراض عنه، و تقديم غيره عليه و هو بحر عميق من العلم، فكأنّه قال، دون أن يدري: لَكَ اللهُ يَا عَلِيّ!
أوه أيّها الخطيب! يا مثقّف العصر! ما ذنب السيّد حسن الصدر غير أنّه عدّ أبا رافع الشيعيّ مقدّماً في التدوين، حتى يحلو لك أن تردّ عليه في صفحتين مليئتين بمعلومات سقيمة تَعَمَّلتَها و ليس لها أيّة قيمة علميّة؟!
إن كلّ طالب حديث عهد بالعلم يدرك أنّ ردّ المغيرة الضبّيّ على «الصحيفة الصادقة» التي لا تساوي عنده فلسين ليس عنوان الوِجادة، بل هي الخيانة التي لاحظها كثير من أمثال أئمّة التابعين عند عبد الله.
من المناسب لك أن تبادر عاجلًا إلى التنازل عن كلامك، و عن دعم كتب السُّنن المشحونة بروايات أبي هريرة و أمثاله، و إلّا فستكون غرضاً لمناقشات جولد تسيهر الألمانيّ و أضرابه، و عندئذٍ تُنعى إليك جميع كتب سننكم و مسانيدكم، و هي مَنْعِيّة سلفاً، و ستسمع كلامنا عندئذٍ و تقرّ بأنّ أوّل مدوّن في الإسلام أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ أبو رافع، و سلمان، و أبو ذرّ، و السجّاد عليه السلام في صحيفته السجّاديّة، ثمّ تأتي كتب الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام.
لقد تحدّثتَ أيّها الخطيب في كتابك ذي الخمسمائة و الخمس و الثلاثين صفحة عند التدوين في الإسلام، و اكتفيتَ بالإشارة إلى تدوين
أمير المؤمنين عليه السلام في سطرين فقط،۱ و إلى تدوين الباقر عليه السلام بسطر و نصف، و إلى تدوين الصادق عليه السلام بسطر و نصف أيضاً حيث قلتَ في ذلك:
وَ كَانَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ البَاقِرِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنَ (٥٦- ۱۱٤ هـ) كُتُبٌ كَثِيرَةٌ سَمِعَ بَعْضَهَا مِنْهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَ قَرَأ بَعْضَهَا.٢
وَ كَانَ عِنْدَ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ البَاقِرِ (۸۰- ۱٤۸ هـ) رَسَائِلُ وَ أحَادِيثُ وَ نُسَخٌ، وَ كَانَ مِنْ ثِقَاتِ المُحَدِّثِينَ.٣
لقد ظهر من علم الإمام الصادق عليه السلام ما ملأ الخافقين. فإنّ عدم ذِكر اسمه، و الاقتصار على كلمات قليلة في الحديث عن مذهبه العظيم لا يعبّر إلّا عن عِرقٍ أمويّ، و انحياز إلى بلاط معاوية و شرذمته. و قد ألّف المستشار عبد الحليم الجنديّ المصريّ السنّيّ كتاباً بعنوان «الإمام جعفر الصادق». و يقع كتابه في ٣۸۸ صفحة. و تحدّث فيه بنحو دقيق و عميق حتى أنّ الإنسان ليعجب حقّاً إذ يقرأ مثل هذا الكلام لرجل سنّيّ. إنّه يثبت فيه أنّ التشيّع ليس وحده رهيناً بعلم الإمام و خدماته، بل الإسلام كلّه رهين بذلك أيضاً، بل البشريّة و دنيا العلم و الحقيقة يتوكّآن على العلوم الجعفريّة. فهذا هو الإمام الصادق.
و أمّا نصّ كلام أبو ريّة الذي نقله من «فتح الباري» ج ۱، ص ۱٦۷، فهو كالآتي:
فَقَدْ رَوَى أبُو هُرَيْرَةَ وَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بْنَ العَاصِ وَ غَيْرهُمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَ لَا حَرَجَ! وَ أبُو هُرَيْرَةُ وَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَمْرٍو مِنْ تَلَامِيذِ كَعْبِ الأحْبَارِ؛ وَ قَدْ جَاءَتِ الأخْبَارُ بِأنَّ الثَّانِي- وَ هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرو بْنَ العَاصِ- أصَابَ يَوْمَ اليَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ عُلُومِ أهْلِ الكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا.
وَ زَادَ ابْنُ حَجَرٍ: فَتَجَنَّبَ الأخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أئِمَّةِ التَّابِعِينَ.۱
و ما ذكره ابن حجر في «فتح الباري» ج ۱، ص ۱٦۷، الأسطر السبعة الأخيرة في الصفحة، و هو يتحدّث عن الدليل الرابع في سبب عدم أخذ العلماء عنه، و سبب قلّة رواياته قياساً بروايات أبي هريرة، مع أنّ أبا هريرة يعترف بأنّ روايات عبد الله أكثر من رواياته، هو قوله:
رابِعُهَا: أنَّ عَبْدَ اللهِ كَانَ قَدْ ظَفَرَ في الشَّامِ بِحَمْلِ جَمَلٍ مِنْ كُتُبِ أهْلِ الكِتَابِ فَكَانَ يَنْظُرُ فِيهَا وَ يُحَدِّثُ مِنْهَا، فَتَجَنَّبَ الأخْذَ عَنْهُ لِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أئمَّةِ التَّابِعِينَ، وَ اللهُ أعْلَمُ.٢
و كلّما نظرنا و أنعمنا النظر، لا نجد تبايناً بين ما حكاه أبو ريّة، و ما ذكره ابن حَجَر. فنسبة الدسّ و التزوير إلى أبي ريّة تقوّل واهٍ لا يقوم على أساس.
و محصّل كلامنا هو أننا أثبتنا أنّ أوّل مدوّن في الإسلام هو أبو رافع.
و استبان بعد هذا و للّه الحمد و له الشكر أنّ كلام آية الله السيّد حسن الصدر في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» بحث صحيح و رأى مطابق للواقع.
أجل، لقد ذكرنا في بداية الفصل عن أبي رافع أنّ عبيد الله بن أبي رافع ألّف كتاباً «فيمن حضر صفّين مع عليّ و أولاده»، و أنّ عليّاً بن أبي رافع ألّف كتاباً في فنون الفقه على مذهب أهل البيت.۱
سلمان الفارسيّ و أبو ذرّ الغفاريّ صحابيّان مدوِّنان
قال السيّد حسن الصدر: أوَّل مَنْ صَنَّفَ في الآثار أبو عبد الله سلمان الفارسيّ. و أوّل من صنّف في الآثار مولانا أبو عبد الله سلمان الفارسيّ رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله. صنّف كتاب حديث الجاثليق الروميّ الذي بعثه ملك الروم بعد النبيّ صلى الله عليه و آله. ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في فهرست مصنّفي الشيعة. و قال الشيخ رشيد الدين أبو عبد الله محمّد بن عليّ بن شهرآشوب المازندرانيّ في كتابه في رجال الشيعة المسمّى بـ «معالم العلماء»: و الصحيح أنّ أوّل من صنّف فيه أمير المؤمنين، ثمّ سلمان الفارسيّ.
و قد تقدّم عن أبي حاتم سهل بن محمّد السجستانيّ المتوفّى سنة مائتين و خمسين في كتاب «الزِّينة» في الجزء الثالث في تفسير الألفاظ المتداولة بين أهل العلم بأنّ أوّل اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم هو الشيعة. و كان هذا لقب أربعة من الصحابة،
و هم أبو ذرّ، و سلمان الفارسيّ، و المقداد بن الأسود، و عمّار بن ياسر إلى أوان صِفّين، فانتشرت بين موالي عليّ عليه السلام. فهؤلاء الأربعة من الصحابة من الشيعة بنصّ الإمام أبي حاتم المذكور.
ثمّ قال المرحوم السيّد حسن الصدر: فاعلم أنّ أوّل من صنّف في الآثار بعد سلمان الفارسيّ هو أبو ذرّ الغفاريّ.
أبو ذرّ الغفاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله. له كتاب «الخطبة» يشرح فيها الامور بعد النبيّ صلى الله عليه و آله، ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في «الفهرست»، و أوصل إسناده في روايته إلى أبي ذرّ. و قال الشيخ ابن شهرآشوب المازندرانيّ في «معالم العلماء»: و الصحيح أنّ أوّل من صنّف فيه أمير المؤمنين، ثمّ سلمان الفارسيّ، ثمّ أبو ذرّ الغفاريّ رضوان الله عليهما.۱
و قال المرحوم الصدر في كتاب «الشيعة و فنون الإسلام»: و لكن قد ذكر الشيخ ابن شهرآشوب في أوّل كتابه «معالم العلماء» في جواب ما حكاه عن الغزّاليّ: أوّل كتاب صُنِّف في الإسلام كتاب ابن جريح في «الآثار و حروف التفاسير» عن مجاهد، و عطاء بمكّة، ثمّ كتاب معمر بن راشد الصنعانيّ باليمن، ثمّ كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس، ثمّ جامع سفيان الثوريّ، ما لفظه بحروفه: بل الصحيح أنّ أوّل من صنّف في الإسلام أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، ثمّ أبو ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه، ثمّ أصبغ بن نُباتة، ثمّ عبيد الله بن أبي رافع، ثمّ «الصحيفة الكاملة» عن زين العابدين عليه السلام، إلى آخر كلامه.
و قد ذكر الشيخ أبو العبّاس النجاشيّ الطبقة الأولى من المصنّفين
- كما ذكرنا- و لم يُعيِّن السابق، و لا ذكر ترتيباً بينهم. و كذلك الشيخ أبو جعفر الطوسيّ ذكرهم بلا ترتيب. فلعلّ الشيخ ابن شهرآشوب عثر على ما لم يعثرا عليه. وَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَلِيّ التَّوفِيقِ.
تنبيه: نصّ الحافظ الذهبيّ في ترجمة أبان بن تغلب على أنّ التشيّع في التابعين و تابعيهم كثير، مع الدين و الورع و الصدق، ثمّ قال: فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة؛ و هذا مفسدة بيّنة- انتهى.
و قال السيّد حسن الصدر هنا: قُلْتُ: تدبّر هذا الكلام من هذا الحافظ الكبير، و اعرف شرف تقدّم الذين ذكرناهم و سنذكرهم بعد ذلك من التابعين و تابعيهم من الشيعة.۱
اللهمّ صلِّ على المصطفى محمّد، و المرتضى عليّ، و البتول فاطمة، و الحسن و الحسين سيِّدَي شباب أهل الجنّة، و على التسعة الطيّبة الطاهرة من ولد الحسين؛ و العن اللهمّ ظالميهم و معانديهم و غاصبي حقوقهم و منكري فضائلهم و مناقبهم من الآن إلى قيام يوم الدين.
للّه الحمد و له المنّة إذ تمّ هذا الجزء من «معرفة الإمام» من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة عصر يوم الجمعة قبل غروب الشمس بساعة، في الرابع من شهر ربيع الثاني سنة ألف و أربعمائة و ثلاث عشرة من الهجرة بقلم العبد الفقير المسكين المستكين، و ذلك في مدينة مشهد المقدّسة تحت قبّة الإمام الرضا عليه و على آبائه و أبنائه أفضل السلام و التحيّة و الإكرام، و عند عتبته المنوّرة المقدّسة.
و أنا الأحقر السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ بن السيّد محمّد الصادق بن السيّد إبراهيم الطهرانيّ.