153

الشعور بالفقر والجهل

شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج4

1988
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء

التاريخ 1429/04/12

جلسات المجموعة(7 جلسة)

التوضيح

يسترسل سماحة السيّد في المحاضرة الرابعة على التوالي فيما حدّثَ عنوان نفسه به قائلًا «
ففرّغت قلبي له»
، استرسال الحكيم المتبحّر في بيان بعض آخر مِن رشوحات تفريغ القلب، والّتي يمكن تلخيصها تحت العناوين التالية: «ففرّغت قلبي له» يعني الشعور بالفقر والجهل – السالك لا يحتفظ بشيء لنفسه – الارتباط الظاهريّ ليس ملاك التتلمُذ – مَن أفرغ قلبه يبحث عن الحقّ أينما وُجِد – إصلاح الخطأ فضيلة والإصرار عليه حُجب – المُحكم والمُتشابه في الآيات القرآنيّة والحياة العمليّة – يكون الفضل في تحمّل المسؤوليّة لا الجلوس في صندوق مقفل – لكلٍّ شأنه وتوفيقه.
/۱٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الشعور بالفقر والجهل

  • معنى قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) - القسم ٤

  •  

  • شرح حديث عنوان البصريّ -۱٥٣

  •  

  • ألقاها: 

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعن على أعدائِهم أجمعين إلى يوم الدين

  •  

  •  

  • ذكرتُ للإخوة أنَّ الإمام الصادق عليه السلام قال لعنوان «أوصيكَ بِتسعَة أشياء، فإنَّها وَصيّتي لمريدي الطريق إلى الله». ولم ينته الحديث عن هذا الموضوع بعدُ، ولكن استوقفتنا في عدد مِنَ الجلسات السابقة عبارة قالها عنوان وهي: «ففرّغت قلبي له»، وذلك بسبب أهميّها. فعندما قال الإمام عليه السلام «فإنَّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله»، لم يتأمّل عنوان في كلام الإمام ليرى إن كانت تلك الوصايا – الّتي يريد الإمام أن يوصيه بها – ستتلاءم مع ذوقه ومزاجه أم لا، بل قال: «ففرّغت قلبي له»؛ وليس معلوم إن كان جميع ما يُؤمر به المرء أو يُنهى عنه سيتوافق مع ذوقه ومزاجه، ففي بعض الأوامر والنواهي مرارةٌ وألمٌ، وفي بعضها شدّةٌ وصرامةٌ، فلا يتوقّع الإنسان أن يُقابَل دائمًا بما يجعله مبتسمًا.

  • يقول عنوان «ففرّغت قلبي له». ما الّذي يعنيه هذا الكلام؟ إنَّه يعني: قد استغرقتُ في التفكير للحظة، لأرى كيف ستكون ردّة فعلي تجاه ما يريد الإمام قوله. نعم، هذا هو معنى عبارة عنوان. وعلينا نحن أن نتصرّف بهذا الشكل أيضًا؛ فهل حصل أن ذهب أحدنا يومًا إلى مختبرِ تحليلات مرضيّة وهو يقول في نفسه: لن أقبل نتيجة هذا التحليل مهما كانت، إذ لَستُ مقتنعًا بصحّة ما يُرى تحت الميكروسكوب وأمثاله؟! كلّا، لا يمكن أن يحصل هذا، لماذا؟ لأنَّه سيكون أمام نتائج قد أثبتت التجارب صحّتها، فلا معنى لقبوله أو رفضه لها. وهكذا هو الأمر عندما يتعامل المرء مع الوقائع الخارجيّة. 

  • «ففرّغت قلبي له» يعني الشعور بالفقر والجهل

  • لقد مضت عدّة مجالس ونحن نتحدّث عن هذا الموضوع نظرًا لأهميّته، ووصل بنا الحديث إلى سبب حضور عنوان عند الإمام مِنَ الأساس، وما الّذي دعاه لأن يقول «ففرّغت قلبي له». والجواب على ذلك هو شعوره بالفقر والجهل والنقص، فلو كان عنوان يمتلك ما يمتلكه الإمام الصادق مِنْ معرفة، لَمَا حضر عنده، ولَمَا جاء ليطلب منه برنامجًا سلوكيًّا. فهل يمكن للإمام أن يُعطي نفسه برنامجًا سلوكيًّا، فيأمر نفسه بعمل وينهاها عن عمل آخر ! كلاّ، لا يمكن أن يحصل ذلك، لأنَّه إمام ولا مكان للجهل والفقر في نفس الإمام. على أنَّ الإمام يشعر بمطلق الفقر قِبال الله، ذلك الفقر الّذي لا يساويه فقرٌ، كما قال رسول الله «الفقر فخري»۱. فهذا الفقر يعني تلك الحقيقة الرابطة بين مقامَي المخلوقيّة والخالقيّة، وذلك الحبل الّذي يصِل بين مقامَي العبوديّة والربوبيّة، وتلك الحقيقة الّتي توضّح العلّاقة بين مقامَي المعلوليّة والعليّة.

    1. بحار الأنوار، الشيخ المجلسيّ، ج٦٩، ص ٢٢، ٣٤، ٥۱، ٥۷. (م)

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

3
  • فهكذا فقر يدعو للافتخار حقًّا. فالهدف مِن وراء كلّ نشاطٍ وسلوك ومجاهدة وعبادة، هو محاولة الوصول إلى تلك النقطة الّتي ينمحي عندها شعورنا بالأثرِ الوجوديِّ لأنفسنا. على أنَّ ذلك ليس بالأمر اليسير، ولا يمكن نيله بوقت قصير، بل يحتاج إلى الكثير مِنَ السعي والوقت .. هذا هو الفقر الّذي يجعل الإمام الصادق يرى نفسه أفقر الناس، والّذي يَشعر معه بالحاجة إلى الله أكثر مِن كلّ الناس .. وكيف يكون ذلك؟ ذلك أنَّ هذا الفقر ناشئ عن المعرفة، أمّا ما نتلفّظ به نحن كقولنا (نحن الفقراء إلى الله) فلا يتعدّى كونه مجرّد ادّعاءٍ، لأنَّه عندما تحلّ ساعة الامتحان سنرى أنفسنا أعلى مِنَ الله بستِ درجاتٍ ! وإن قال لنا أحدهم (أنت فقير)، فسنمزّق بطنه ونقول له: ما الّذي تقوله يا هذا، أنت تُهينني بقولك هذا، بل أنت الفقير وأنت الجاهل، فما هذا الكلام الّذي تتفوّه به!! ما الّذي يعنيه هذا التصرّف؟ هذا يُبيّن أنَّ ما نقوله لا يتجاوز كونه ادّعاءً، وأنَّ الأمر لا يتجاوز إطلاق الكلمات، حتّى لو نعت الإنسان نفسه بهذا المصطلحات، فلن يتعدّى كونه في حدود اللفظ.

  • أمّا إن قال شخص للإمام: أنت أفقر الناس إلى الله. فهذا الكلام لن يُزعج الإمام، بل سيستحسنه، ويمتدحه عليه. أمّا بالنسبة لنا، فإن قال لنا أحدهم: أنت فقير ولا تعلم شيئًا، وأنت بحاجة لأن تتعلّم. فسوف نردّ عليه فورًا ونقول: بل أنت الّذي تحتاج إلى التعلّم، وكلامك هذا مُهين لي! ما الّذي يعنيه هذا التصرّف؟ إنَّه يعني أنَّ ما نقوله لا يتعدّى كونه كذبًا ومجازًا. والحال أن لا طريق للمجاز في حياة الإمام، وذلك لأنَّ الإمام حقيقة مطلقة وطهارة مطلقة. إنَّ معنى الإطلاق هنا هو الصفاء الّذي لا يشوبه مقدار ذرّة مِنَ التعلّقِ الماديِّ والنفسيِّ.

  • هكذا يكون الإمام، وذلك ينطبق على الأربعة عشر۱ لا غير. كما أنَّ الأولياء الإلهيّين الّذين وصلوا إلى مقام الطهارة وتجاوزوا النفس مشمولون بهذا الأمر أيضًا. وقد تمّ الحديث عن هذا الموضوع في الجزء الثاني مِن كتاب (أسرار الملكوت)٢. بهذا يكون الإمام الصادق أفقر الناس إلى الله.

    1. أي أربعة عشر معصومًا؛ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وفاطمة وعلِيّ (عليهما السلام) وأحد عشر إمام مِن ولدهما (عليهم السلام). (م)
    2. كتاب (أسرار الملكوت) للمحاضِر نفسه سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله نفسه الزكيّة)، مؤلف مِن ثلاث أجزاء، ومترجم إلى العربيّة. وهو عبارة عن مقدمة في شرح حديث عنوان البصريّ عن الإمام الصادق عليه السلام.(م)

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

4
  • أمّا ما يتعلّق بالبصيرة وتشخيص العوائق الّتي يمكن أن تعترض سبيل السالك، والمهالك الّتي تحفّ به، وما يتعلّق بالخبرة في تشخيص مصلحة الإنسان الواقعيّة، فالإمام الصادق إمام معصوم، أمّا عنوان فهو بشر يقع في الخطأ.

  • هذا هو الفرق بين الإمام وبين عنوان، فكان لا بدّ لعنوان – والحال هذه – أن يحضر عند الإمام الصادق، ولا بدّ له أن يجثو على ركبتيه أمامه وأن يستمع إلى كلام الإمام بِأُذنِ قلبه ويقول «ففرّغت قلبي له». نعم كان عليه أن يقول هذا الكلام. لماذا؟ ذلك لأنّ مَن يجلس أمام عنوان الآن هو مَنْ قد وصل إلى مرتبة العلم المطلق والحياة المطلقة والإشراف والبصيرة والخبرة المطلقة، لذا كان لا بدّ أن يحضر عنده ولا يذهب إلى أيّ شخصٍ غيره.

  • هذا هو الفرق بين الإمام وعنوان، وهو ما دعاه للجثوِّ على ركبتيه أمام الإمام قائلًا «ففرّغت قلبي له». فهو يقول هنا: ما دام الأمر بهذه الكيفيّة، وما دمتُ أجلس أمام هكذا رجل، وما دمتُ في مرتبة النقص المطلق، وما دمتُ أعاني ما أعانيه مِن حالة الجهل المطلق .. تذكّرتُ الآن حكاية متعلّقة بأحد أصدقائي، وهو المرحوم السيِّد مرتضى المقدسيِّ (رحمه الله)، وبعض الإخوة الحاضرين الآن في هذا المجلس يعرفونه. فهو رجل قدير قد طوى جزءًا كبيرًا مِنَ الطريق، وهو مِن أهل الحال، ومِنْ السادة اللطفاء بحسب تعبير المرحوم العلّامة، وكان كثير المزاح، حتّى أنّه كان يمازح المرحوم العلّامة، إذ كان المرحوم العلّامة يسمح له بذلك. [والحكاية أنّه] سافرنا يومًا بمعيّة المرحوم العلّامة إلى إحدى الأماكن، وكان هذا السيّد يرافقنا. وفي إحدى الليالي حينما كان المرحوم العلّامة يتوضّأ جاءه السيّد مرتضى منشرحًا ومبتهجًا جدّا – لقد كان مِنْ أهل المزاح أصلًا، فكيف الحال وهو في حالة ابتهاج – وفي الوقت الّذي هَمَّ المرحوم العلّامة بالصعود إلى الأعلى، قال له السيّد مرتضى: أنا أعلم أنَّكم تمتلكون الكثير مِنَ العلم وأنت فخور بذلك، ولكن اعلموا أنّ جميع علمكم هذا لا يعادل حتّى ذرّةً واحدةً مِن جهلي!

  • وهذا هو واقع الحال، فنحن نجد أنفسنا في جهل مطلق إذا ما قورنّا بالإمام .. وقد يُعدُّ الفرق بيننا وبين الإمام يسير وذلك مِن ناحية أن كلانا يمتلك (المطلق)، غير أنَّ الإمام يمتلك العلم المطلق ونحن نمتلك الجهل المطلق. فمَن يقول أنَّ الفرق بينه وبين النبيّ أو الإمام مِن ناحية المعرفة هو فرق يسير، [لا نلومه كثيرًا] لأنّ الأمر تقريبًا كما قيل فهو مِن ناحية أنّ كليهما يمتلكان (المطلق)، غير أنَّهم [عليهم السلام] يمتلكون العلم المطلق، أمّا أنت أيّها القائل فتعيش الجهل المطلق، فالفرق بين الحالتين يسير!!

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

5
  • السالك لا يحتفظ بشيء لنفسه

  • لا بدّ للإنسان – شاء أم أبى – عندما يقف على حقيقة النقص الّذي يعاني منه ويرى الحال الّذي هو عليه، أن يقول «ففرّغت قلبي له». إذ لأيّ شيء يقوم الإنسان بكلّ هذا الجهد والدراسة والتتلّمذ على يد العظماء؟! إنَّه يقوم بذلك مِنْ أجل أن يتبدّل جهله وبشكلٍ تدريجيّ إلى علم، فيخرج الجهل مِن قلبه ليحلّ محلّه العِلم. فإن احتفظ أحدهم لنفسه بمكانة معيّنة واتّخذ لنفسه موقفًا مستقلًّا – ولو بمقدار ذرّة – في قبال ما يقوله الإمام عليه السلام، سيخسر بمقدار ما احتفظ به لنفسه وسيجهل بمقدار ذلك.

  • ما هي الأمور والأوضاع الّتي يجب أن يلاحظها ويراعيها مَن يريد السير في الطريق إلى الله ودخول ميدان المبارزة والجهاد مع النفس واعتلاء سلّم التجرّد، وكيف عليه أن يُقيِّم نفسه؟ نسأل الله أن يوفّقنا ويُعيننا لئلّا نتخلّى عن مسؤوليّتنا وواجبنا ابتداءً مِنْ خطوتنا الأولى في هذا الطريق. هنالك الكثير مِنَ الأفراد الّذين تعرّفنا عليهم في ذلك الزمان ممّن عانوا مِن هذه المشكلة؛ فعندما يتعرّفون على المرحوم العلّامة، كانوا مِن جهة يعلمون مقامَه الإرشاديّ والتربويّ، ومِنْ جهة أخرى كانوا غير قادرين على التخلّي عن مكانتهم الاجتماعيّة وخلفيّتهم الذهنيّة.

  • فلَمّا كانوا على هذا الحال، ولم يكونوا قادرين على الامتثال الكامل لأوامر الأستاذ ونواهيه، كانوا يبحثون لأنفسهم عن مبرّرات للتهرّب مِن تنفيذ الأوامر الّتي يتلقّونها؛ فكانوا يقولون بصحّة جزء مِنَ الأمر وعدم صحّة الجزء الآخر منه، أو أنَّهم كانوا يرون أفضليّة تشخيصهم على تشخيص الأستاذ لهذا الجزء مِنَ الأمر. أمّا ما يتعلّق بالعبادات والأوراد والأذكار وصلاة الليل وقراءة القرآن، فلم يروا بأسًا في تنفيذ ما يُطلب منهم ما دام ذلك لا يتعارض مع أمورهم الدنيويّة كالدراسة والتدريس في الجامعات والسوق والحوزة العلميّة وكالتجارة وسائر النشاطات الأخرى، فكانوا يقبلون مِنَ الأستاذ هذا القسم. أمّا الأوامر [السلوكيّة] الّتي تتعلّق بشخصيّتهم الظاهريّة والبيئة الاجتماعيّة الّتي يتعاملون معها، فكانوا يتوقّفون عندها ويُقيّمونها ليروا إن كانت تناسب حالهم، وإن كانت ستؤثِّر على مكانتهم عند الآخرين، وإن كانت ستَحفظُ وجاهتهم وظهورهم بمظهر المحقّ أمام الناس، وليروا كيف سيتعاملون مع تلك الأوامر الّتي لا يستسيغها المجتمع والّتي تتعارض مع العرف السائد؛ فقد يؤدِّي تنفيذ البعض منها إلى إضعاف مكانتهم الاجتماعيّة، ففي مثل هذه الحالات، ولَمّا كانوا لا يمتلكون القوّة اللازمة لمعارضة الأوامر والوقوف في وجهها، نراهم يقلّلون مِن شأنها ويسعون في إيجاد التأويلات العلميّة والعرفيّة والمنطقيّة والشرعيّة لكلام العظماء. إنَّ مَن يقوم بمثل هذه الأعمال لن يجني أيّةَ نتيجة مِن سيره. نعم، هكذا كانت تجري الأمور في ذلك الوقت.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

6
  • أتذكّر في العهد السابق، حين كان عمري حدود الثمانية عشر أو العشرين، أنّ أحد تلامذة المرحوم العلّامة كان يتمتّع بحالٍ معنويٍّ جيّدٍ، وربما كان مُعجبًا بنفسه ومغرورًا بحالته الّتي كان يتمتّع بها، وكان بسبب تلك الحالة يَعتبر نفسه ذات شأن مقابل المرحوم العلّامة، وكان ينظر إلى علاقته به بمنظار مختلف؛ فتراه يقول في نفسه: صحيح أنَّ ما حصل لي مِن حال كان بسبب ارتباطي بالمرحوم العلّامة وبسبب متابعتي للبرنامج السلوكيّ والتعليمات الّتي استلمتها منه، غير أنَّ ذلك لا يتنافى مع ما لي مِن خصوصيّة، وإلّا لماذا لم تحصل للآخرين الحالات الّتي حصلت لي، فهذا يدلّ على أنّ ما حصل لي مِن حالات هو بفضل ما أتفرّد به مِن خصوصيّة – طبعًا إنَّ الحالات الّتي كان يمتلكها البعض تشتدّ وتتّسع وتأخذ أبعادًا أخرى بعد أن يتعرّفوا على العظماء ويرتبطوا بهم – فأمره المرحوم العلّامة بإقامة علاقة مع المرحوم مطهّري، وأن يتبادل الزيارات ويتباحث معه حول بعض المواضيع. ففهم الرجل المسألة بشكل آخر، ورأى نفسه طاووس العليِّين، لأنّه تميّز عن جميع تلامذة المرحوم العلّامة بإقامة علاقة مع المرحوم مطهّري والتردّد على بيته .. فكانا يلتقيان مرّة في الأسبوع على ما يبدو. ومضى على هذا الأمر مدّة مِنَ الزمن، وعندما كنتُ أسأله عن طبيعة المواضيع الّتي كان يجري البحث حولها، لم أكن أستسيغ التعابير الّتي كان يستخدمها في وصف نفسه، رغم أنّي لم أتجاوز الثامنة عشر أو التاسعة عشر مِن عمري، حتّى أنَّه قال لي يومًا: مَن هو أفضل تلامذة المرحوم العلّامة برأيك؟ فصبرتُ قليلًا حتّى يُجيب عن سؤاله بنفسه، ثمّ قلتُ له: لا علم لي بذلك، قُلْ أنت فلعلّك تعلم ذلك. فقال: أنا أعتقد أنَّ أفضل تلامذته هو ذلك الّذي له مِنَ العلم والدراية ما لِفلان – يقصد بفلان الرجل الّذي يتردّد على بيته – وله مِنَ الكمال والرقيّ ما لِفلان – يقصد بفلان الرجل القدير الّذي ذكرتُ اسمه قبل دقائق – فهكذا تلميذ يستطيع أن يحتلّ هذه المرتبة المتميّزة. فرددت عليه قائلًا: أتعلم مَن يكون أفضل تلامذته بنظري، إنَّه ذلك التلميذ الّذي إن حضر مجالس العظماء يرى نفسه – حقيقة وواقعًا لا مجازًا وادّعاءً – أوطأ درجةً مِن جميع مَن في المجلس، فهو الّذي يستشعر في نفسه الصِغر والحقارة أمام مقام الله، نعم أن يشعر بهذا الأمر ويصدّقه في قرارة نفسه لا أن يستحضره في ذهنه مجرّد استحضار، فذلك هو أفضلهم. فانزعج مِن كلامي هذا كثيرًا. وكان غالبًا ما يحصل صدام بيني وبينه منذ البداية، وهو ما تسبّب في انقطاع العلاقة بيننا إلى الآن ولله الحمد، ولقد استراح ممّا كنت أسبّبه له مِن متاعب.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

7
  • ثمّ مضى على هذا مدّة مِنَ الزمن، وكنتُ أنتظر مجيء اليوم الّذي سوف ينكشف فيه الوجه الآخر للعملة. فحصل أن زارني برفقة صديقه عندما كنت أتابع دراستي في مدينة قم، وكان ذلك في فترة الصدامات الّتي كانت تحصل في مناسبات مختلفة بين السلطة الحاكمة – أي سلطة النظام الإيرانيّ السابق – وبين طلبة الحوزة العلميّة، ويبدو أنَّ تلك الزيارة كانت متزامنة مع الذكرى السنويّة لأحداث الخامس عشر مِنْ (خرداد)۱، حيث كانت تحصل اشتباكات في مثل هذه الذكرى في كلّ عام. وكان المرحوم العلّامة غير راضٍ عن مجيئهما بذلك الشكل وبدون إذنٍ مسبقٍ منه.

  • ذهبنا يومًا إلى بيت المرحوم المطهّري رحمه الله، ومِنَ العجيب أنَّ المرحوم العلّامة قد طلب مِن هذين الرجلين المجيء معنا، ولم يسبق له أن فعل مثل هذا. فتصوّر ذلك الرجل أنَّ استقبالًا حارّا سيكون في انتظاره، وسيتمّ مدحه وتمجيده في ذلك المجلس. فكان حضور الرجل للمجلس بهذا الأمل، ولم يكن يعلم ما ينتظره هناك. فحضر بمعيّة زميله وجرى حديث بين المرحوم العلّامة والمرحوم مطهّري، ثمّ انتقل الحديث حول الأحداث الّتي حصلت في مدينة قمّ وما جرى فيها مِنْ اشتباكات واعتقال لعدد مِنَ الأفراد. وبينما كان الحديث يدور حول تلك الأمور وإذا بالمرحوم العلّامة يقول فجأةً: نعم، وقد حضر السيّدان فلان وفلان في هذه الأحداث مِن دون استئذاني، ولقد أخطآ في هذا التصرّف. فما أن قال ذلك حتّى خيّم السكوت على المجلس! فما هذا الكلام الّذي نَطق به، ولأيّ سبب قاله؟ فانزعج زميل الرجل والّذي كان سيِّدًا، ولكن مِنَ الواضح أنّه هضم الموضوع في نفسه وقَبِل النتيجة.

  • إنَّ الأذى أذى على أيّة حال، فليس مِنَ الهَيِّنِ أن يتعرّض المرء إلى هكذا موقف في محضر عدد مِنَ الأشخاص. على أنَّ الإنسان قد يصل في بعض الأحيان إلى مرحلة تكون فيها أمثال تلك المواقف أحلى لديه مِن كلّ حُلوٍ، نعم يكون ذلك الموقف حلوًا واقعًا لا أنَّه يُقنع نفسه بحلاوته، غير أنَّنا لم نصل إلى تلك الدرجة بعدُ.

  • في مرحلة التربية والإعداد، عندما لا يشعر الإنسان بالحرج حين يتعرّض لمثل هذه المواقف، فعليه أن يعلم عندها أنّه قد وضع القَدم الأولى له على الطريق. فما كنَّا نفعله قبل تلك اللحظة هو عبور المراحل التمهيديّة اللازمة لطيّ ذلك الطريق. وهنالك مرحلة أرفع مِنْ تلك المرحلة، وهي أن ينتظر أحدنا حصول الظروف ليتعرّض للتوبيخ، وإن لم تحصل بنفسها فليبادر هو لإيجادها، ولكن يجب أن نحسب لمثل هذا التصرّف حسابه، لا أن نقوم به بصورة عشوائيّة، ولْتكن هذه المبادرة هي المرحلة الثالثة ممّا يجب القيام به، وذلك وإن كنَّا لا نزال عالقين في المرحلة الأولى ولم نبرحها بعدُ.

    1. (خرداد) اسم شهر فارسيّ وهو الثالث منها. وفي ۱٥ خرداد حصلت تلك الأحداث الّتي أدّت إلى تبعيد السيّد الخمينيّ مِن إيران. [المترجم]

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

8
  • فانزعج الرجل الثاني في بادئ الأمر، وكان ذلك ظاهر عليه إذ احمرّ لون وجهه واصفرّ، غير أنَّ قبوله للأمر كان ظاهرًا على وجنتيه، فقد قبِل التوبيخ الّذي كان بهدف التربية، واستقبل تلك الوخزة بكامل وجوده، فحصل في النهاية على درجة جيّدة في الامتحان. أمّا الرجل الأوّل فما كان يُخطط للقيام به كان واضحًا على قسمات وجهه، فأخذ يجول في نفسه ويغوص في التفكير .. وبكلمة واحدة انتهى جميع ما كان يُرجى مِن تردّده على بيت المرحوم المطهّري خلال السنة أو السنتين الأخيرتين. فكلّ ما حصل خلال تلكما السنتين، كان مِن أجل أن يحدث ما حدث هذا اليوم.

  • فقد كان يُؤمر بالذهاب إلى هناك والتحدّث والقيام ببعض الأعمال، ولم يكن عبد الله هذا قد لاحظ أنَّ مَن أمره بتلك الأعمال هو نفسه مَن قال له اليوم هذا الكلام. فلِمَ لم تحسب لهذا اليوم حسابه عندما كنتَ تفعل كلّ ذلك؟! ولماذا جعلتَ نفسك تنتفخ وتکبر إلى حدّ لم تستطع معه الخروج مِن هذا الباب؟! فلو كنتَ قد حسبت لمثل هذا اليوم حسابه لَتَصرّفتَ باعتدال، ولَمَا زادك ذاك الذهاب شيئًا، ولم يكن ليُضيف إلى مكانتك النفسيّة أيّة إضافة، بل كان ذلك سيعمل على رقيّك وتكاملك إذا ما تزامن مع التربية ومجاهدة النفس. لقد كان تصرّف المرحوم العلّامة هذا عجيبًا بالنسبة إلى المرحوم مطهّري، ولكنّه لم يكن تصرّفًا مستبعدًا لأنّ المرحوم مطهّري كان يعرف المرحوم العلّامة جيّدًا.

  • وبعد عدّة دقائق ممّا حصل، نهضنا وخرجنا مِنَ المجلس، وما إن جلسنا في السيّارة حتّى بدأ الرجل بالكلام. فبدل أن يتقبّل ما حصل ويطرق رأسه إلى الأرض ويسكت – إذ ما دمتَ قد تلقيت ما تلقيت، كان عليك أن تخفض رأسك وتسكت يا هذا – أخذ بالكلام فقال: لقد ضعفتْ ذاكرتي منذ مدّة فلم أعد أستطيع معرفة الأيّام جيّدًا .. ما الّذي يعنيه هذا الكلام؟ إنَّه اللفّ والدوران، وهو يعلم أنَّه بعمله هذا يخرّب الوضع أكثر فأكثر .. فبحضور مَن تقول مثل هذا الكلام يا هذا، ومِن أجل مَن تريد أن تبرّر ما قمتَ به، أتفعل هذا مِن أجلي؟! إن كنتَ تفعل ذلك مِن أجل التمويه علَيَّ فأنا أعرفك جيّدًا، وإن كنتَ تفعله مِن أجل ذلك الّذي يجلس الآن على الكرسيّ الخلفيّ للسيّارة فهو يعرف كلّ شيء عنك، فلديه عِلم عن بدايتك ونهايتك ووسطك وأعلاك وأسفلك .. فهل تبرّر له فعلتك بمثل قولك هذا: لقد ضعفت ذاكرتي منذ مدّة فأصبحتُ أخلط بين الخميس والجمعة – فما الضير في أن يُخطأ الإنسان في مثل هذه الأشياءأحيانًا – كما صِرت أخلط بين يوم السبت وغيره، ويحصل لي أحيانًا أن أتفق على موعدٍ وأذهب إليه في يوم آخر!! فأخذ يتكلّم ويتكلّم، وكان المرحوم العلّامة يستمع إليه ويكتفي بالتبسّم مِن دون أن ينطق بحرفٍ واحدٍ. فكان الرجل يتكلّم عسى أن تأتيه كلمة مِن الرجل الجالس في المقعد الخلفيّ تأييدًا لكلامه، إذ كنتُ وذلك الرجل نجلس على المقاعد الأماميّة للسيّارة [والعلّامة في الخلف]، ولكن كان المرحوم العلّامة يبتسم للهيكل والقيافة المباركة للرجل. ثمّ إلى ماذا آل الأمر؟! فقد اتّضحت هنا حقيقة تلك العلاقة.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

9
  • الارتباط الظاهريّ ليس ملاك التتلمُذ

  • تكمن هنا نكتة دقيقة ينبغي لأهل الدقّة التدبّر فيها؛ فقد يتصوّر أحدنا أنَّه مرتبط بالأستاذ وملتصق به وتربطه به علاقة وثيقة، وذلك بسبب بعض الأمور الظاهريّة مِن قَبيل التردّد على الأستاذ والجلوس معه على مائدةٍ واحدةٍ، وحضور مجالسه والترحيب بالأستاذ عند قدومه، وتوصية الآخرين بالرجوع إليه. غير أنَّ ذلك كلّه لا يُعتبر دليلًا على قرب الشخص مِن الأستاذ، ولا يُعتبر ملاكًا في الحكم على علوّ مكانته لدى الأستاذ.

  • وهذا ما نُبتلى به جميعًا، فها قد ألصقنا أنفسنا بدِين النبيّ – أنا أقصد نفسي بهذا الكلام – واعتبرنا أنفسنا مِنَ السائرين على نهج النبيّ والأئمّة عليهم السلام ومِنَ العاملين بأحكام الشريعة الإسلاميّة، واعتبرنا أنفسنا أحد أركان القضايا الحاصلة، هذا في الوقت الّذي لم نُخضِعها للاختبار باستمرار، ولذلك ما إن نتعرّض لامتحان تتعارض فيه مصالحنا الدنيويّة مع الدينيّة حتّى تظهر حقيقة ما كنَّا ندّعيه في الظاهر مِنْ وجود علاقة محكمة تربطنا بديننا، فتظهر هشاشتها لِلْعَلَنِ، ونبدأ عندها بالبحث عن تبريرات ما ظهر منَّا. فإن كانتَ علاقتك بالدين علاقةً حقيقيّةً، فما الداعي للبحث عن تبريرات؟! وإن كان التصاقك التصاقًا واقعيًّا ويستند إلى ملاك صحيح، لَمَا سُمِحَ حتّى للخاطر الباطل أن يخطر على ذهنك!

  • إنَّ تلك العلاقة لم تكن علاقة واقعيّة، ولم تكن لتتجاوز الادّعاء والعلاقة المجازيّة. وعلى الرغم مِنْ كون العلاقة بهذا الشكل، إلّا أنّك ترى أصواتهم تصل الأفلاك وتصكّ أسماع الثريّا قائلةً: نحن حملة لواء الإسلام، نحن كذا وكذا، وعلى الجميع الرجوع إلينا، لا يوجد مكان يستحقّ اللجوء إليه غير هذا المكان، ولا يجوز أخذ الأحكام الشرعيّة مِن غير هذا المكان .. وما شابه ذلك. والحال أنّ الحاصل معهم هو مجرّد ارتباط والتصاق خياليّ لا يتعدّى كونه خيالًا في خيال.

  • أمور الدنيا لا تسير على نسقٍ واحدٍ، بل هي في حال تغيِّر مستمر وصعودٍ ونزول .. عندما نتعامل مع قضيّة لا تتعلّق بنا أو بأحد أقاربنا نتصوّر أنَّنا نحكم فيها بين المتخاصمين بالعدل، ونتصوّر أنَّنا نُفتي في المسائل الّتي تُعرض علينا بما يُرضي الله. لماذا يتشكّل عندنا هذا التصوّر؟ ذلك لأنَّ القضيّة لم تكن ترتبط بنا، فلَمّا كان الأمر لا يعنينا نتصوّر ونتوهّم أنَّنا غير منحرفين عن جادّة الحقّ وأنّنا نسير مسيرًا معتدلًا، ونغترّ لأنّا حكمنا بموجب الحكم الإلهيّ وبما يُرضي الله ونفتخر بهذا الأمر، بل نرى أنفسنا وجميع شراشر وجودنا قد استحكمت في هذا الطريق، مرتبطين بالحقّ والعروة الوثقى والحبل المتين. غير أنَّه ما إن تُعرض علينا قضيّةٌ مرتبطة بنا حتّى نضعف ونتخلّى. فما الّذي حصل لك يا هذا، فقد حكمت بحكم كذا في قضيّة أولئك الزوجين، فلماذا تحكم بحكم آخر في هذه القضية [المشابهة]!؟ وقد حكمتَ بحكم معيّن في قضيّة تجاريّة بين أولئك الشريكين المختلفين، فلماذا تبدّل حكمك في هذه القضية [المشابهة] والمتعلّقة ببعض الأمور الماليّة [الّتي تخصّك]!؟ ولقد كان لك رأي معيّن في تلك المسؤوليّة الّتي يرجع إليها الناس في حوائجهم، فلماذا تبدّل رأيك عندما شَغلتَ تلك المسؤوليّة بنفسك؟! وكنتَ تحكم بشكل ما في مسألة العلاقات الأخويّة، فلماذا تبدّل حكمك في القضيّة الّتي تطال صديقك ومريدك ورفيقك؟!

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

10
  • فكلّ قضيّتين مِن تلك القضايا لم تختلفا عن بعضهما البعض في شيء سوى الأشخاص والمصاديق؛ فلَمّا كان الأمر واحدًا لم يتغيِّر، فلماذا يتبدّل لحن القول، ولماذا تتبدّل طبيعة الحكم؟! ما هو السبب الكامن وراء كلّ ذلك؟! إنَّ السبب يعود إلى انعدام الارتباط الواقعيّ مع الله، فما كان لم يكن ارتباطًا، بل كان مجرّد تصوّر مِن جانبنا، أي كنَّا نتصوّر أنّه يوجد ارتباطٌ حقيقيّ لنا مع الله، وكنَّا نرى أنَّ حالنا القلبيّ أثناء سلوكنا الطريق إلى الله هو حال واقعيّ وحقّ، ولم نكن نتصوّره بهيئة أخرى. على كلّ حال، فمِن مصلحة الإنسان أن يتعرّض لمثل هذه الأمور، لكي يتنبّه ويزداد فهمًا وإدراكًا للأمور، وهذا ممّا يحصل للجميع.

  • كنتُ قد ذكرت لكم مراتٍ عديدةٍ أنَّ مواقف المرحوم العلّامة في متابعة أوامر أساتذته كانت مواقف مشارًا إليها بالبنان مِنْ قِبَل باقي التلامذة، وكان أمرًا واضحًا ومعلومًا عند الجميع حتّى أنّهم كانوا يقولون فيما بينهم: لا يمكن لأحدنا أن يبلغ ما بلغه السيِّد محمّد حسين في هذا الأمر. وهكذا يجب أن يكون الحال، فهذا حال مَن قد صفّى قلبه وفرّغه. على أنَّ ما كان يتعرّض له المرحوم العلّامة لم يكن بالأمر اليسير؛ أتذكّر أنَّني بيّنت للإخوة إلى حدٍّ ما – في أحد المجالس الّذي عُقد قبل عدّة سنوات – الكيفيّة الّتي كانت عليها حياته الدينيّة والإرشاديّة في مدينة طهران بعد عودته مِنَ النجف. فذكرتُ حينها بعض أنواع المشاكل الّتي كان يواجهها، إذ كانت المشاكل تنهمر عليه وتنزل به مِن كلّ حدب وصوب وبطرق مختلفة.

  • فعندما أتذكّر الآن تلك القضايا الّتي كان يواجهها – والّتي أحتفظ في ذاكرتي بصورها لأنّني شاهدتها في مرحلة الطفولة والشباب – أرى نفسي غير قادرٍ على تحمّلها. فقد كان أمرًا عجيبًا حقًّا؛ كانت تلك المشاكل بسبب ارتباطه بأناس مختلفين، وبسبب مواجهته للنظام السابق أعني نظام شاه إيران السابق. كان ذلك النظام يعمل على إيذائه والتضييق عليه ووضع العوائق في طريقه فيما يتعلّق بأمور المسجد، وكان يصله منهم إنذارات متكرّرة بهذا الشأن، هذا إذا ما علمنا أنَّه كان قد اتّخذ لنفسه موقفًا لا يسمح له بالتنازل عن مبادئه. علاوة على المصادمات بينه وبين هيئة إدارة المسجد، والّذي هو فصل آخر مِن تلك الفصول المليئة بالأحداث. وقد ذكر المرحوم العلّامة بعضَ تلك المشاكل – لا كلّها – في كتاب (أنوار الملكوت)۱. هذا إضافة إلى ما يتعلّق بكيفيّة ذهابه إلى المسجد وإيابه منه. وعلى أيّة حال، فقد كانت الإحدى والعشرين سنة تلك الّتي قضاها في طهران تمثّل فترة عصيبة جدًّا بالنسبة إليه. وبالرغم مِن كلّ ذلك، لم أسمع منه يومًا خلال تلك الفترة أن تحدّث إلى أستاذه بشأنها – ولو مِنْ باب الإشارة أو التذكير – بأنّه: هل استمر على هذا الوضع الّذي أنا فيه وبهذا الطريق وبهذه الكيفيّة أم لا .. نعم، أنا لم أسمع منه شيئا مِن هذا القبيل، وإنَّه لأمر عجيب حقًّا.

    1. (أنوار الملكوت) هو كتاب من مجلدين لسماحة السيّد العلّامة محمّد حسين الطهرانيّ، بحث فيه المطالب التالية (نور ملكوت الصيام، ونور ملكوت الصلاة، ونور ملكوت المسجد، ونور ملكوت القرآن، ونور ملكوت الدعاء). ثم أفرد كتابًا مستقلًّا للبحث تفصيلًا عن (نور ملكوت القرآن) وأسماه بذلك، وهو مِن أربعة أجزاء، والمترجم إلى العربية الآن هو هذا الأخير. (م)

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

11
  • لم يخطر في بالي يومًا أن أهاجر مِن مدينة مشهد إلى مدينة قمّ، وإذا بالمرحوم العلّامة يأمرني – قبل ثلاث سنوات مِن رحيله – بالهجرة إلى مدينة قمّ، فقال لي: عليك بالسفر إلى مدينة قمّ والبقاء فيها لمدّة سنتين أو ثلاث، وبعد مضيّ سنتين مِنْ سفري، كتبتُ إليه قائلًا: ها قد مضت السنتان اللاتي أمرتني بالبقاء فيها في مدينة قمّ، فهل أعود الآن إلى مدينة مشهد؟ فردّ علَيّ برسالة قال لي فيها ما قال، ومِن جملة ما قاله: لقد أرسلتك إلى هناك لتقوم بكذا وكذا. فقلتُ في نفسي: إنَّه موضوع يطول أمده. وبالفعل لا يزال الأمر على ما هو عليه حتّى يومنا هذا. أمّا بالنسبة إليه، فلم أشاهد أو أسمع منه طيلة تلك الواحد والعشرين سنةً أنه تطرّق إلى ذكر هذه المسألة أبدًا. حتّى أنَّ هجرته إلى مدينة مشهد المقدّسة وتركه لمسجد القائم في طهران، وهو ما حصل بعد الثورة، كانت بأمرٍ مِن أستاذه، فكان قد أمره بالهجرة عندما التقى به في سوريا، حيث قال المرحوم السيّد الحدّاد له: عليك إنهاء إقامتك في مدينة طهران والهجرة إلى مدينة مشهد والاستقرار فيها۱.

  • هذا الّذي جعله منه ما كان عليه، فعندما يكون موقف التلميذ مِنْ أستاذه بهذا الشكل، فلا غرابة أن يقول الأستاذ حينئذ: لقد أخذ تلميذي عنِّي كلّ ما عندي٢. فلا يمكن للأمر أن يستقيم بمجرّد حصول الصورة الشكليّة للسلوك وبمجرّد حضور مجالس الأُنس وبمجرد الشعور بالفرح والسرور، وإن كانت هذه المظاهر تقتضيها التربية وتتزامن معها. نعم، صحيح أنّه لا بدّ مِنَ الضحك والابتهاج والسرور والترويح عن النفس، إذ جميع هذه المظاهر مظاهر جماليّة، غير أنَّ الجمال لا بدَّ وأن يقترن بالجلال.

  • مَن أفرغ قلبه يبحث عن الحقّ أينما وُجِد

  • كان عنوان قد قال «ففرّغت قلبي له»، أي قد فرّغتُ قلبي ولم أترك فيه أيّ شيء، وذلك مِن أجل أن أُصغي لكلّ ما سيقوله لي الإمام. وكم هو جميل أن نجرّب هذا في الموارد المختلفة الّتي تواجهنا. أتذكّر كيف كانت الأمور تجري في عهد المرحوم العلّامة، وإنَّه لأمر عجيب حقًّا، فبالرغم مِن أنّنا كنّا نعتبر أنفسنا مِن تلامذة المرحوم العلّامة وأصدقائه، غير أنّنا عندما نحضر عنده كان القلق ينتابنا مخافة أن ينبّهنا على عيب مِن عيوبنا. إنَّ هذه الحالة وأمثالها غير صحيحة، فلا يجب علينا أن نفكّر بهذا الشكل.

    1. كتاب (الروح المجرّد)، سماحة السيّد العلّامة محمّد حسين الطهرانيّ (قدّس الله سرّه)، ص ٦٤٦، قال: ومِن الألطاف الخاصّة بالسيّدة زينب سلام الله عليها أن كنتُ جالسًا يومًا في الحرم المطهّر [للسيّدة زينب عليها السلام في سوريا]، فقال السيّد [الحدّاد لي]: إنّ سفركم إلى الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام وإقامتكم عنده أمر حسن، فاذهبوا إلى مدينة مشهد وتوطّنوا فيها. (م)
    2. يشير سماحة السيّد إلى ما قاله السيِّد الحدّاد يومًا لأحد أبناء العلّامة الطهرانيّ: لقد أعطيتُ كلّ ما عندي لوالدك. (م)

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

12
  • فعندما كان يجري بحث – على سبيل المثال – بين الإخوة حول موضوع ما، كان كلّ واحد منهم يطرح رأيه ثمّ عندما يحضرون لدى المرحوم العلّامة، يقوم العلّامة بطرح نفس ذلك الموضوع – ألم يحصل لنا مثل هذا الشيء أيضًا – فيُصغي طرفي البحث جيّدًا ويترقّبان مجرى الحديث والمنحى الّذي سيأخذه، فتظهر البشاشة على وجوه البعض ولسان حالهم يقول أرأيتم كيف كنَّا مصيبين في رأينا، وما أن تَمضي لحظات وإذ بالمرحوم العلّامة يغيّر مجرى الحديث ويدعم وجهة نظر الطرف الآخر، فإذا بتلك الوجوه تتجهّم وتحمرّ وتنبسط أسارير الطرف الآخر ويبدو عليهم الانشراح، ويستمرّ الحال على هذا التذبذب بحيث لا يُعرف في نهاية المطاف أيّ مِنَ الطرفين قد تمّ تأيّيده بشكل كامل. وعند خروج الحاضرين مِنَ المجلس كنَّا نرى أحد أطراف المباحثة يقول: أرأيتم كيف أيّد المرحوم العلّامة وجهة نظري! وفي الوقت ذاته يقول الطرف الآخر: بل أيّد المرحوم العلّامة وجهة نظري أنا.

  • [أقول] ما الّذي يعكسه هذا التصرّف؟! لا فائدة تُرجى مِن هذا التصرّف، وصاحبه لن يَجني نفعًا، سواء بقي في هذه المدرسة شهرًا أو سنةً أو عشر سنواتٍ أو مائة سنةٍ .. ألم تلاحظوا بأنفسكم أنَّهم لم يجنوا بالفعل أيّة فائدة مِن تواجدهم في هذه المدرسة؟ فلماذا حصل معهم هذا؟ لقد حصل ذلك بسبب أنّنا نتواجد في هذه المدرسة ونضمر في قلوبنا شيئًا ما، ولم نعمل على تفريغها.

  • أمّا المرحوم العلّامة، فكيف كان يتصرّف؟ دعوني أحكي لكم عنه شيئًا؛ عندما كان يحضر عند أستاذه كان يعتبر أنّ كلام استاذه موجّه إليه فقط، ولم يكن يرى الكلام موجّه إلى أحدٍ غيره، فكان يرى نفسه المقصود مِن تلك الكناية والتلميح والإشارة الّتي تصدر عن أستاذه. لماذا؟ لأنّ كلام أولياء الله ليس كلامًا جزافًا ولا لغويّا، فليس أولياء الله في مقام يسمح لهم بسرد القصص والأحاديث عن أيّ موضوع كان. نعم، ليس ذلك شأنهم، علينا أن نعرف أنّهم إن تكلّموا عن موضوع مّا فهم لا يتكلّمون عنه اعتباطًا، فليسوا بحالة تسمح لهم بالجلوس إلى الآخرين للثرثرة والحديث عن مختلف القضايا. كلّا، فهم يحسبون لوقتهم حسابه، فبدلَ أن يصرفوا الوقت في التحدّث معنا بإمكانهم أن يصرفوه في الحديث مع أناس لا تستطيع عقولنا وأفهامنا أن تدرك مكانتهم. فمَن يحضر مجالس أولياء الله عليه أن يُدرك الأمور الّتي يشيرون إليها في أحاديثهم ويعرف الهدف مِن أقوالهم والسبب وراء ذلك.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

13
  • لقد شاهدتُ أمثال هذا بنفسي في كربلاء في بيت المرحوم الحدّاد، فعندما كان المرحوم الحدّاد يتكلّم حول موضوعٍ ما، وكان واضحًا أنَّه يقصد بكلامه أحد المتواجدين في المجلس، لا بل كان يصرّح بهذا الأمر، والحال أن الرجل المعنيّ كان يستمع إلى الكلام بلامبالاة. وعندما انتهى المرحوم السيّد الحدّاد مِن كلامه، قلتُ لذلك الرجل بأنَّه المقصود مِن كلام المرحوم الحدّاد. فيقول لي: لا يا هذا، لست أنا المقصود بهذا الكلام، ففي قول السيّد الحدّاد أسرارٌ لا تتمكّن أنتَ مِن إدراكها. فبالرغم مِن كوني في السادسة أو السابعة عشر مِنَ العمر، وسِنّي قليل مقارنة بسنّك البالغ أربعين أو خمسين عامًا، غير أنَّني كنتُ أستطيع أن أفهم بعض الأمور بما يتناسب مع عمري ذاك، وها أنا أرى الآن كيف أن إدراكي في ذلك السنّ كان هو الصحيح. فما الّذي آلت إليه عاقبة أمره؟ لقد كانت عاقبة أمره السقوط، نعم، كان لا بدّ له مِنَ السقوط ..

  • إصلاح الخطأ فضيلة والإصرار عليه حُجب

  • فما المانع أن يعترف مَن بلغ الخمسين عامًا بخطئه، نعم ما الضير في ذلك؟ فهل يجب أن نكون منزّهين عن كلّ خطأ، ومَن يستطيع أن يكون كذلك، فهل يجب أن نكون مبرّئين عن الوقوع في الخطأ؟! كلاّ، لا إلزام في ذلك، بل مِنَ الممكن أن نرتكب الأخطاء، ونحن نفتخر بذلك، ونستطيع التوبة عن أخطائنا، وهو أمر باعث على تكميل عقولنا وزيادة علمنا ومعرفتنا. فما الإشكال حينئذ في أن نقع في الخطأ، فنحن مِن بني البشر ولسنا معصومين؟! نعم لا يوجد أيّ إشكال في هذا، بل يتمثّل الإشكال في أن لا نرى أخطاءنا وزلّاتنا وأن نحمّل الآخرين نتائجها، فحينئذ كيف ستكون عاقبة أمرنا؟ سنستمر في ارتكاب الأخطاء وستتحوّل هذه الأخطاء إلى حجب.

  • ففي بداية الأمر لم يوجِد الخطأُ حجابًا، إذ مِنَ الممكن أن يتفوّه أحدنا بكلامٍ خاطئ وأن يحكم بحكم خاطئ وأن يطرح موضوعًا خاطئًا، فكلّ هذا لا بأس به وذلك لجواز وقوع الإنسان في الخطأ، كما أنّ الله لا يؤاخذه على هذا، ولكن على مَن يرتكب الخطأ أن يبادر إلى إصلاحه، فهذه المبادرة ترقّيه درجة، أمّا الإصرار على الخطأ فيُنزله درجة. ففي الواقع لا ضير في الخطأ الأوّل، لأنَّ الإنسان معرّض للوقوع في الخطأ، وهو عندما يحكم في قضيّة ما أو يُستشار في أمرٍ ما، فهو يتصوّر أنّه قد حكم أو أشار إلى الصواب، ولا ضير في هذا، غير أنّ الضير في الإصرار على الخطأ، فإن أصرَّ الإنسان على موقفه الخاطئ سيُبتلى بمهلكة التشابه .. لقد تحدّثت شيئًا ما عن موضوع المحكم والمتشابه في المجلس السابق، وسأتعرّض له هنا لدقائق معدودة على أن أُكمل الحديث فيه في المجلس القادم.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

14
  • المُحكم والمُتشابه في الآيات القرآنيّة والحياة العمليّة

  • إنَّ مسألة التشابه هي مِن أخطر ما يعترض طريق السالك، وهو لا يخصّ السالكين فقط، بل قد اعترض ويعترض طريق جميع مَن عاش على هذه الأرض وطوى الأزمنة منذ بداية التأريخ حتّى الآن، وكلّ مَن حكم، سواء بحكومة دنيويّة أم حكومة ذات طابع دينيّ، فلا بدّ أن يعترض التشابهُ طريقهم.

  • تقول الآية القرآنيّة{هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}۱. إنَّ الآيات القرآنيّة على قسمين؛

  • القسم الأوّل هي الآيات الّتي لا شُبهة ولا ترديد فيها، وهي المُبيَّنة في القرآن بعبارات واضحة وشفافة لا طريق للخدش في دلالتها، منها الآيات الداعية إلى إقامة الصلاة والصوم وأداء الحجّ، فهي آيات واضحة المعاني، ومنها الآيات الّتي تحثّ على التصدّق والإنفاق ومساعدة الفقراء. فهذه الآيات {هُنَّ أُمّ الْكِتَابِ}، أي إنهنَّ أصل وأساس الكتاب. يقول الله في هذه الآية أنَّ هذا القسم مِنَ الآيات، والّتي لها تلك الخصوصيّة، هو القسم المهمّ بالنسبة لكم. فكلمة «أُمّ» تعني أصل وأساس وواقعيّة الشيء، وتعني أساس المباني والمعتقدات. ولهذا يُقال للأُمّ أُمّ، وذلك لكونها أصل وأساس ومستقرّ الإنسان، حيث ينمو داخلها ويصل إلى مرتبة الإنسانيّة. فمعنى قوله {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، أنَّ هذه الآيات المحكمات هنَّ أُمّ وأساس الكتاب. وهي آيات متعدّدة تتحدّث عن مواضيع مختلفة مِن قبيل العبادات والعلاقات الاجتماعيّة وحياة الإنسان وسلوكه، فمواضيع هذه الآيات المحكمة هي الأساس الّذي يُرجع إليه.

  • إنَّ آية {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}٢ هي واحدة مِنَ الآيات المحكمات الّتي لا شبهة فيها. فعندما تجهل شيئًا لا تسأل عنه أيّا كان، فلا تسأل عنه جهلة الناس، بل لا بدّ أن ترجع فيه إلى الخبير. وعندما تمرض، لا يمكنك الرجوع إلى أيّ بائعٍ للأعشاب الطبيّة لتأخذ منه الدواء، بل لا بدّ أن ترجع إلى الطبيب المختصّ. فهذه واحدة مِنَ الآيات المحكمة، والّتي هي مِن أمَّهات الكتاب. إنَّ آية {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} تعني أنّ على الإنسان أن يقوم ببناء أساس حياته على مضمونها، فيجعلها نصب عينيه في سيرته الشخصيّة وفي تنظيم علاقاته الاجتماعيّة وروابطه مع سائر الناس، فعليه أن يجعل مِن هذه الآية أُمًّا وأصلًا، ثمّ يقوم بتنظيم طريقة حياته على أساسها. فهذه واحدة مِنَ الآيات المحكمة.

    1. سورة آل عمران (٣)، جزء مِنَ الآية ۷.
    2. سورة النحل (۱٦)، جزء مِنَ الآية ٤٣؛ سورة الأنبياء (٢۱)، جزء مِنَ الآية ۷.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

15
  • وهنالك آيات أخرى كآية وَلا {تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}۱، فعندما لا تمتلك العلم اللازم في موضوعٍ ما، عليك التوقّف وعدم الانجراف وراء سيل الناس الّذي يتحرّك في الشارع، وعليك ألّا تذهب معهم حيث يذهبون. نعم، عليك التوقّف، فلعلّهم يُلقون بأنفسهم في بئرٍ أو يتطايرون في الهواء أو يسيرون في طريق الضلال، فلماذا تتّبعهم وتذهب معهم أينما ذهبوا.

  • {وَلا تَقْفُ}، إنَّ كلمة (تَقْفُ) من قفا يقفو، وتعني المتابعة، فعليك عدم متابعة أيٍّ كان ولا الاستماع إلى كلّ متكلّم، ولا أن تتّبع كلّ مَن سلك لنفسه سبيلًا، فهل أنت كالنعجة الّتي تسير وراء كلّ ماعز! فمعنى (لا تَقْفُ) هو ضرورة التمهّل والتوقّف.

  • {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فعندما لا تمتلك لنفسك علمًا فلا تُتابع. ما الّذي يعنيه العلم هنا، إنَّه يعني أن ترى الحقيقة بعينيك هاتين، ويعني أنّك تستطيع أن تُقسم على صحّة ما تذهب إليه، أي أنّ الأمر واضح لديك وضوح أنّ ناتج ضرب الاثنين في الاثنين هو أربعة، فتُقسم على صحّة هذا الناتج، هذا هو العلم. لا أن يعتقد المرء بشيء، ليتبيّن له بعد ساعة أنّه كان مُخطئًا، فما يسميّه الناس في زماننا هذا علمًا لا يتجاوز كونه حدْسًا، فضلًا عن أن يصل إلى مرحلة الظنِّ أو الظنّ المتاخم للعلم أو القريب منه، بل لا يصل حتّى إلى مرحلة الحدْس. فمعظم ما يصيب بني البشر مِن مشاكل في حياتهم اليوميّة هو بسبب عدم جعل هذه الآية أُمًّا وأساسًا ترتكز عليه أمور حياتهم.

  • إنَّ آية {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، تعني عدم جواز الإقدام على شيء ما لم يكن للإنسان به عِلم. فعليك عدم تشغيل الآلة ما لم تكن واثقًا مِن اكتمال شرائط السلامة اللازمة لتشغيلها، فلعلّ تشغيلك لها سيتسبّب في قطع يدك، فلا يجوز لك أن تكتفي بتكليف العامل بتصليحها، كأن تقول في نفسك: لعلّه أصلحها. كلّا، لا يجوز لك ذلك، إذ لعلّه لم يقم بما أمرته به، ولعلّه نسي أو ذهب لتناول طعام الغداء فلم يقم بإصلاحها. فلا يصحّ أن تقوم بتشغيل الآلة قبل السؤال والتحقيق، فإن اطمأننتَ أنَّ العامل الفنِّي قد أصلحها بالفعل يمكنك تشغيلها عندئذٍ.

    1. سورة الإسراء (۱۷)، الآية ٣٦.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

16
  • فآية {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} تعني عدم جواز التعويل على الظنّ والحدْس في التعامل مع الآخرين، فلا يجوز لك أن تقول: بما أنَّني قد أبلغتُ فلانًا بهذا الأمر، فلا بدَّ أنّه قد أبلغ الآخر بدوره، أو لا بدّ أنّه قد أنجز العمل. كلّا، لا يجوز لك ذلك، بل عليك أن تتأكّد مِنَ الأمر بنفسك، فإن ضمنتَ قيامه بما أمرته به يمكنك حينئذٍ أن تتخذ قرارك، وذلك لكي لا تتحمّل التبعات وتتحسّر وتُطلق تلك الـ (آه) بسبب حصول مكروه وتقول: يا ليتني كنتُ قد فعلت كذا وكذا، أو يا ليتني كنتُ قد تأمّلت قليلًا، أو يا ليتني كنتُ قد سألت أحدهم، أو يا ليتني كنتُ قد دقّقتُ في الأمر. فبدلًا مِن كلَّ ذلك، كان عليك أن تدقّق وتتأمّل أوّلًا، وأن تُطلق تلك الـ (آه) مِنَ البداية.

  • تلك هي المُحكمات، فما دامت مُحكمات فهي أُمٌّ [أي أساسٌ]، لذا يجب ترتيب جميع الأمور الحياتيّة على أساسها. فإن بنينا حياتنا على أساس تلك الآيات المُحكمات، ألن يحصل عندها تبدّلٌ في حياتنا ووضعنا الفعليّ؟ [فما الّذي سيحصل] إن بنينا كلّ حياتنا على أساس العلم واليقين، وعدم متابعة الشائعات وما يقوله هذا وذاك، وعدم متابعة ما يُطلق هنا وهناك مِنْ إشاعات، وعدم السير وراء الشعارات الّتي تُرفع هنا وهناك، فنحقّق في الأمور الّتي نواجهها ونحصّل فيها اليقين؟ وإذا ما قرّرنا عند خروجنا مِنَ المنزل صباحًا أن نجعل هذه الآية نُصب أعيننا ونجعلها الأُمّ في تعاملنا مع الغير، فما الّذي سيحصل عندها؟ سنكون عندها قد عملنا بالمحكمات اللاتي هنَّ أُمّ الكتاب. كان هذا شرح موجز عن المحكمات.

  • أمّا فيما يتعلّق بالجزء الثاني مِنَ الآية وهو قوله {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}. فما هي الحاجة لوجود هذا الجزء مِنَ الآيات .. فلعلّ قائلًا يقول: هل كان الله مضطرًا لإنزال قرآنٍ يحتوي على نوعين مِنَ الآيات، فقد كان بإمكانه أن يجعل جميع الآيات محكمات ويُريح بال الناس؟! كلّا يا هذا، فوجود هذين النوعين مِنَ الآيات مبنيٌّ على حساب دقيق، ولكنّا سنؤجّل الحديث عن هذا الأساس الدقيق إلى المجالس القادمة.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

17
  • أمّا بالنسبة لنفس الآيات المتشابهات، فما هو معنى المتشابهات؟ هو يعني أنّه بإمكان كلّ واحد مِنَ الناس أن يفسّر الآية المتشابهة بما يصبُّ في مصلحته ويتلاءم مع الوضع الّذي هو عليه. فلنأخذ على سبيل المثال الآية الشريفة{أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}۱، فمعنى {أطيعوا الله} واضح وهو مِنَ المحكمات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى {وأطيعوا الرسول}، فلدينا نبيّ واحد لا نبيّان، فلسنا كالبهائيّة الّذين أوجدوا لأنفسهم نبيّا [إضافيّا]. ولكن بالنسبة إلى جزء الآية القائلة {وأولي الأمر منكم}، فصحيح أنَّ معنى (أولي الأمر) واضح لدى الشيعة مِن خلال ما جاء في الروايات، غير أنَّ الآية القرآنيّة لم تصرّح مَن هم أُولي الأمر، ولهذا نرى الحجّاج بن يوسف الثقفيّ يضرب أعناق الناس قائلًا: أنتم مهدوروا الدم بموجب هذه الآية، إذ قد خالفتم أولي الأمر، وأنا مِنْ أولي الأمر. [بناء على هذا الادّعاء سيكون] وليّ الأمر هو كلّ مَن يأمر وينهى وبيده مقاليد الحكم، فمَن يحمل تلك المواصفات هو الحاكم، وبما أنَّكم قد خالفتم الحاكم الّذي طاعته واجبة، ومخالفته حرام بموجب هذه الآية، فيتعيّن – والحال هذه – هدر دم كلّ مَن يخالفني. كيف يتسنّى [ادّعاء وحصول] ذلك؟ لأنَّ هذه الآية هي واحدة مِنَ الآيات المتشابهات، وهذا ما يحتجّ به الكثير مِن أهل السنّة وغيرهم. فهذا الجزء مِنَ الآية وكذلك آيات أُخر تعتبر مِنَ الآيات المتشابهات.

  • {فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ}، فهنا سيحصل فصل بين طائفتين مِنَ الناس، هما المتّصلون وغيرهم؛ فمَن فرّغ قلبه فسيتّبع الآيات المحكمات، ومَن لم يُفرّغ قلبه واتخذ موقفًا مقابلًا للحقّ، واحتفظ لنفسه بمكانة ما – كأن يحتفظ لنفسه بثلاثين في المائة مِنَ المكانة الشخصيّة – فسيتّبع المتشابهات.

  • على الإخوة الانتباه إلى هذه المواضيع الّتي أطرحها عليهم الآن، فهي مواضيع حسّاسة جدًّا، وها قد وصلت إلى بيت القصيد في حديثي.

  • علينا أن نعلم هنا ما الّذي يعنيه السلوك. فلا تتصوّروا أيّها الإخوة أنَّ الموضوع متعلّق بزمان الحَجّاج [الثقفيّ] وأمثاله فقط، بل هو متعلّق بنا، وبيومنا هذا الّذي هو يوم الجمعة، وبهذا المجلس الّذي نحضره، وبي أنا المتكلّم شخصيًّا، فلا يتفاوت الأمر بيني وبينكم، فعلَيَّ أيضًا أن أراجع نفسي وأزن الأمور جيّدًا، لأجد التصرّف المناسب في المواقف الّتي أُواجهها، وعلَيَّ أن أقوم بتهيئة نفسي لذلك. فليس مِنَ الصحيح أن يضع الإنسان نفسه في صندوق ويغلق عليها، بل عليه أن يخرج ويتّصل بالناس ويختلط بأصنافهم ويتحدّث معهم، فهذا سيضعه – بدون أدنى شكّ – في مواجهة أمور مختلفة حيث سيحكم عليها بأحكام مختلفة، وهذا ممّا لا مفرّ منه. فالمهمّ بالنسبة للإنسان أن يقوم بتقييم وضعه، لا أن يعمل على إخفاء نفسه في صندوق مقفل. فالدخول في الصندوق وإقفال بابه هو هروب مِن تحمّل الواجب الملقى على عاتقه، وهذا لا يُعدُّ فضلًا بل يُعدُّ فرارًا مِن تحمّل المسؤوليّة.

    1. سورة النساء (٤)، جزء من الآية ٥٩.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

18
  • إنَّ الفضل يتمثّل في أن يقوم الإنسان بدوره المتوجّب عليه، فإن أخطأ في شيء فعليه أن يُعلن أنّه ارتكب خطأ، نعم فالفضل يتمثّل في مثل هذا التصرّف، وهو تصرّفٌ مرموق موجبٌ للفخر. إنَّ الإنسان مُعرَّض للوقوع في الخطأ، فمَن منّا يريد أن يكون مثل إمام الزمان؟! كلّا، لم يطلب منَّا أحد ذلك، ولا يمكننا أن نكون كذلك أبدًا. أعلينا أن نحمل معنا إلى القبر تصوّرَ اليوم الّذي نكون فيه مثل إمام الزمان؟! كلّا، فإنَّ إمام الزمان رجل واحد لا يوجد سواه، نعم لا يوجد في عالم الوجود غير فردٍ شخصيٍّ واحدٍ لا أنّه فردٌ نوعيّ. إنَّه واحد لا غير، وهو المعصوم المطلق والأسوة الفريدة، أمّا سواه مِنَ الناس فهم عرضة للوقوع في الخطأ ولكن بدرجات متفاوتة. فأُسوتنا وقائدنا وحامل لواء الدين وإمامنا ومقتدانا هو إمام الزمان لا غير، أمّا باقي الناس جميعًا فقد يقعون في الخطأ وإن تفاوت الأمر مِن رجلٍ لآخر، وهذا ممّا لا بأس به، بل لا بدّ منه، لأنّ مقتضى جريان عالمَي التكوين والتشريع هو أن يعمل الإنسان بشكلٍ مستمرٍّ ودؤوبٍ على رفع النقص فيه واستبداله بالكمال. نعم، يجب أن تجري الأمور على هذا المنوال.

  • {فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، أي أولئك الّذين لم تكن قلوبهم صافية، بل كانت مكدّرة، يسيطر عليها الاضطراب والتشويش، حيث استولت الكدورة على قلوبهم بنسبة ثلاثين أو ستين أو سبعين في المائة، ولا قدّر الله أن ترتفع هذه النسبة أكثر مِن ذلك، فهؤلاء لا يتّبعون الآيات المحكمات، وإن اتّبعوها سيحيرون في أمرهم ولن يستطيعوا أن يبرّروا بها أفعالهم الشائنة أمام الناس، لذا تراهم يلجؤون إلى تلك الآيات الّتي يمكن تفسيرها بما يخدم أغراضهم {فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ}، أي يتمسّكون بالآيات المتشابهات الّتي تشبه الحقّ. فمواضيع تلك الآيات شبيهة بالحقّ غير أنَّها تحتمل الوجوه الباطلة أيضًا.

  • فلتلك الآيات وجهان يمكن أن تُحمل على وجهٍ باطلٍ في الوقت الّذي تُحمل فيه على وجه الحقّ. لذا تراهم يتمسّكون بهذه الآيات ليتسنّى لهم تفسيرها على الوجه الباطل، [وذلك] {ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ}. لماذا يفعلون ذلك، وما الّذي يبتغونه مِن ورائه، وما هو هدفهم؟! إنَّهم يفعلون كلّ ذلك مِن أجل إيجاد الفتنة، فهم يحبّون الفتنة ويحبّون حصول الاضطراب والتشويش، وينفرون مِن حلول الأمن والسلام.{ وَابْتِغاءَ تَأْويلِه ِ} ، أي إنَّهم يسعون لتأويل تلك الآيات بما يخدم مصالحهم، هذا والحال أنّه {وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللهُ}.

الشعور بالفقر والجهل - شرح قول عنوان البصريّ (ففرّغتُ قلبي له) – ج٤

19
  • يبدو أنَّ طاقتي على وشك النفاد، وهذا ظاهر على أسلوب كلامي، لذا أتمنّى أن أتمكّن – بمشيئة الله – مِن إكمال الحديث عن هذا الموضوع في المجلس القادم، حيث سأعمل على بيان موضوع (المتشابه) والفرق بين التشابه النفسيّ والتكوينيّ والتشابه التشريعيّ والاعتباريّ وكلّ جوانب هذا الموضوع. وذلك متوقّف على توفيق الله، فلا يمكن أن يحصل شيء بدون التوفيق الإلهيّ، فمَن يوفّقه الله سيتمكّن مِنَ السير في الطريق الصحيح، وإلّا لن ينفعه شيء.

  • علينا أن نعلم أنَّ كلّ شيء مِنَ الله. فإنّ الكلام الّذي طرق مسامع الإخوة الّذين حضروا اليوم، أو المطالب الّتي أدركوها في هذا المجلس، لا ينبغي نَسبها إليَّ. ولا ينبغي لكم أيضًا أن تقولوا في أنفسكم: كان في استطاعتنا الذهاب إلى أماكن أخرى، أو البقاء في بيوتنا، أو التجوال في الشارع، أو كذا وكذا، ولكن ما دمنا قد حضرنا هذا المجلس واستمعنا فيه إلى هذه المواضيع الّتي لم تصل إلى أسماع الآخرين [فنحن أفضل منهم].

  • كلّا، لا ينبغي لكم أن تفكّروا بهذا الشكل، فلا شأن لكم بالآخرين، فأولئك عباد الله أيضًا ومخلوقاته. ولكن علينا أن نعرف قدْر النعمة الّتي مَنَّ الله بها علينا، فإن أردنا مقارنة أنفسنا بغيرنا سنكون مِنَ الخاسرين. أليس أولئك الناس مِنَ عباد الله أيضًا ومِن خلق الله، أليس الله ربّهم؟ فما يدرينا لعلّ الله قد وفّقهم بشكل آخر. فعلينا أن ننظر إلى حالنا الفعليّ، وليس لنا علاقة بأمور الآخرين.

  • نعم، قد كان بإمكاننا الذهاب إلى أماكن أخرى، غير أنَّنا لم نذهب، لأنَّ الله قد منَّ علينا ومنحنا مثل هذا التوفيق. فإن شعرنا بمثل هذا الشعور، فهو شعورٌ جيّدٌ وممّا يرتضيه الله.

  • نسأل الله أن يمنَّ علينا دومًا، فيجعلنا راضين عمّا فيه خيرنا وصلاحنا، وأن يفرّغ قلوبنا لتلقّي الحقّ.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآلِ محمّد