14

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

2461
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمالمرأة والأسرة

المجموعةالمرأة والأسرة - طهران

جلسات المجموعة(2 جلسة)

التوضيح

تتضمن المحاضرة مجموعة أسئلة وأجوبة فتوائيّة وإرشاديّة، وتتلخّص بالعناوين التالية؛ الاستفادة من المنتزهات العامّة – التعامل مع الأبناء في الأمور الدينيّة - عموميّة الزيّ الدينيّ – ذو القرنين وكورش وزردشت – حرمة الموسيقى – الفَرَج الباطنيّ والظاهريّ للإمام عليه السلام – الجمع بين استبطان الكفر والوجود في مراتب راقية كالشيطان قبل المعصية العلنيّة – تساوي غيبة الإمام وظهوره – العهد مع الأئمّة والأنس بهم – ارتباط سيرنا في هذا العالم بعالم الذرّ – عمل المرأة في بيئة سليمة – طرق نفي الخواطر – طريقة اختبار النفس – السلوك طريق جادّ لا يقبل التساهل – نيّة السالك هي الله تعالى وحسب – أولياء الله وسر بقاء حرقة الفراق – الحذر من رضاية النفس بالأوهام – إن كان دخول النار واجب كفائيّ فهناك من فيه الكفاية – مكانة سماحة السيّد وملاك العلاقة به – الله يتكلم معنا ونحن نتكلم معه بالقرآن – التحقّق بالصدق وخلوص النيّة هما ملاكا صحّة السلوك.
/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

  • المرأة والأسرة - طهران - الجلسة الرابعة عشرة

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم 

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم 

  • الحمد لله ربّ العالمين 

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين 

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين الى يوم الدين 

  •  

  •  

  • لقد اقتضى التقدير والمشيئة الإلهيّة – وبسبب عزمي على السفر إلى مدينة مشهد بعد انتهاء هذا المجلس – أن تكون فرصة اللقاء بكم قليلة، لذا أعتذر مِنَ الأصدقاء والسيّدات لعدم الحديث عن الموضوع الّذي كنتُ أنويه، والّذي يكون عادةً بمثابة المقدّمة لطرح الأسئلة. ولهذا سأكتفي – بمقدار ما يسمح به الوقت – بالإجابة عن الأسئلة الّتي تقدّم بها الأصدقاء، ومعظم هذه الأسئلة تتشابه. سأبدأ بتلك الّتي تحتاج إلى إجابات قصيرة قبل الأسئلة التي تتطلّب توضيحات أزيد. ولعلّي لن أتواجد في هذا المجلس لأكثر مِنْ ثلاثين أو خمس وثلاثين دقيقة؛ لذا فأنا أكرّر اعتذاري.. فالأمر ليس بيدي.. ولْنرى ما الّذي ستقتضيه المشيئة الإلهيّة.

  • توجيهات سلوكيّة وتربويّة واجتماعيّة وعلميّة

  • [سؤال:] تمّ توجيه سؤال عن جواز الذهاب إلى المتنزهات، خصوصًا أنَّه قد جرى النهي عن حضور تلك المجالس الّتي ترتكب فيها المعاصي.

  • [الجواب:] من الطبيعيّ عدم جواز الذهاب إلى تلك المتنزهات الّتي تُرتكب فيها المعاصي الظاهرة، والّتي تؤدِّي إلى تلويث مَنْ يتردّد عليها. أمّا إن لم يصل الأمر إلى هذا الحدّ ولم يؤدِّ الذهاب إليها إلى إشغال الوقت بالتفرّج على هذا وذاك وإشغال الذهن بمسائل متفرّقة، فلا بأس بالذهاب إليها بين الفَيْنة والأخرى في مثل هذه الحالات.

  • [سؤال:] كيف علينا أن نتعامل مع الأبناء الّذين لا يصلّون، والّذين أخذوا بالتشكيك وصار عندهم وسوسة تجاه هذا الموضوع؟

  • [الجواب:] [يجب التعامل معهم بدقّة]...، فلا ينبغي التشدّد معهم بالشّكل الّذي يجعلهم يكرهون الدّين وينحرفون عنه، ولا يمكن ترك الحبل على الغارب بحيث يدفعهم للتنصّل من الالتزام بالتكاليف الشرعيّة. فيجب حثّهم وترغيبهم على الالتزام بالمسائل الدينيّة، وإن اقتضى الأمر التضييق عليهم وسلبهم بعض الامتيازات لكي يعودوا إلى رشدهم، ولا ضير في التعامل معهم بهذا الأسلوب.

  • [سؤال:] هل الزيّ الدينيّ هو زيّ خاصّ بطلبة العلوم الدينيّة أم أنَّه زيّ عامّ لجميع الناس؟

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

3
  • [الجواب:] كلا، بل إنَّ هذا الزيّ هو زيٌّ عامّ لجميع الناس، غير أنَّه أصبح الآن مختصّاً بالّذين يدرسون العلوم الإسلاميّة. وعلى الجميع – بحسب مقدورهم – أن يهتمّوا به. حتّى إنَّني أتذكر كيف ناقش المرحوم العلاّمة أحد الأصدقاء – وهو طبيب متخصّص ولا يعيش في إيران في الوقت الحاضر – في موضوع طبيعة اللباس، فقال ذلك الطبيب: وفقًا لما تطرحونه الآن بشأن الزيّ، يتوجّب حتّى عليَّ أنا أن أضع العمامة على رأسي. فقال العلّامة: نعم، وما المانع مِنْ أن تضع العمامة على رأسك، ألم يكن الأطباء القدامى من المعمّمين، ألم يكن ابن سينا ومحمّد بن زكريّا الرازيّ والخواجه نصير الدين الطوسيّ من المعمّمين؟! ولقد كان هؤلاء من الأطباء. وعمومًا، ففي السابق كان علم الطب أحد الفروع العلميّة الّتي يدرسها أهل العلم.. كانوا يدرسون كتب الطب القديمة مثل كتاب تحفة الحكيم۱ وقانون الطب لابن سينا وكتب الرازيّ وغيرها.. ولقد كانت مِنَ الكتب الّتي يتداولها الناس ويعكفون على دراستها في ذلك الزمان. فما المانع من ذلك يا دكتور؟!

  • [سؤال:] هناك سؤال عن ذي القرنين جاء فيه؛ ذكر المرحوم العلاّمة في كتاب معرفة المعاد أنَّ ذا القرنين كان مؤمنًا بالله ويومِ القيامة ورجلًا متديّنًا، وكان قد قَدّم الشواهد على كون ذي القرنين هو كورش – هذا والحال أنّ كورش لم يكن من المؤمنين بالله ويوم القيامة وكان رجلًا مجوسيّا – ثمّ نفى المرحوم العلّامة ذلك في البحث الّذي استغرق عدّة صفحات، ولم يوضّح بعدها مَنْ هو ذو القرنين. 

  • [الجواب:] لم يكن كورش مجوسيّا. وزرادشت بُعث بالنبوّة بعد زمان كورش كما جاء في بعض الروايات. ولقد كان كورش رجلًا موحّدًا وعابدًا لله. أمّا ما يتعلّق بكون كورش هو ذو القرنين أم لا، فهذا الموضوع محلّ تأمّل ويتطلّب مزيدًا من البحث والتحقيق. ولمّا كانت الروايات قد امتنعت عن التصريح بهذا الأمر، لذا لا يمكن إثبات أكثر ممّا تمّ إثباته.٢

  • مناط الأحكام الشرعيّة ميتافيزيقيّة غالبًا

  • [سؤال:] زوجي يؤمن بجميع المبادئ، ما عدا موضوع حرمة الموسيقى، ولقد عجزتُ عن إقناعه بذلك، فهل يمكن لكم أن تذكروا سبب التحريم؟

    1. هو كتاب في الطبّ القديم ألّفه محمّد مؤمن الحسينيّ الديلميّ التنكابنيّ. (م)
    2. لمزيد من الاطلاع على هذا الموضوع راجع؛ معرفة المعاد، ج ٤، ط ۱، سنة ۱٤۱۷ هـ قـ، ص ٣٥. (م)

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

4
  • [الجواب:] إنَّ السبب في حرمة الموسيقى واضح، وقد ذُكر سبب حرمتها في الروايات، فهي محرّمة طبقًا للأدلّة الواردة.ولا يختلف الأمر هنا [في الموسيقى] عن سائر المحرّمات أو الواجبات، فسبب التحريم والتحليل لا يعود إلى أسباب ماديّة صِرفة، بل إنَّ السبب وراء معظم تلك المسائل– وأستطيع القول وراء خمس وتسعين [بالمائة] منها – يعود إلى أسباب ميتافيزيقيّة أي ما وراء المادّة والطبيعة.

  • ويمكن إجابة هذا النمط من الناس بالشكل التالي: إنَّ العالِم بالحلال والحرام وبالأسباب الكامنة وراء التحريم والتحليل هو الله فقط. فإن أردنا البحث عن تلك الأسباب من جانبها الماديّ والطبيعيّ فقط، فسيؤدِّي هذا إلى أن نتخلّى عن تسعين بالمائة من أعمالنا، ولن يبقى لنا سوى العشرة بالمائة من عباداتنا ومعاملاتنا، وذلك لأنَّنا سنواجه نفس تلك المشكلة في جميع ما نقوم به مِنْ أعمال [وهي أننا لن نجد أسبابًا ماديّة وراءها]. وبناء على هذا لن نتمكّن من الإجابة عن الأسئلة حول سبب وجوب الحج أو الصلاة أو الصيام ووجوب سائر العبادات الأخرى، وستبقى تلك الأسئلة دون إجابات، لأنّنا لن نعثر على سبب ماديّ أو تبرير متعلّق بعالم الطبيعة للذهاب إلى الحج ولبس الإحرام والطواف حول الأحجار والوقوف في صحراء عرفات.

  • غير أنَّ أهل المعنى يعرفون أيّة أسرار كامنة وراء هذه الأعمال العباديّة. [ولقد بلغ التأكيد على بعض العبادات كالحجّ] إلى الحدّ الّذي ذُكر فيه أنَّ الملائكة تقوم بتخيير المحتضر الّذي كان مستطيعًا لأداء فريضة الحجّ ولم يؤدِّها، تقوم بتخييره بين الموت على الديانة اليهوديّة أو الديانة النصرانيّة، فيقولون له: أنت لم تَمُتْ على دين محمّد. هكذا هي أهميّة الحجّ۱. وهذا مكشوف للخواصّ مِنَ الأفراد.

  • أمّا ما يمكن قوله عن موضوع الموسيقى هو: أنَّ الموسيقى تترك أثرًا على النفس بحيث يمنعها من إدامة مسيرها التكامليّ. فيعمل هذا الأثر على إيقاف النفس في درجة ما، فلن تستطيع حينئذٍ الوصول إلى كمالها المطلوب وفعليّتها. وهذا دليل قاطع على حرمتها. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنَّ الموسيقى قد تسبّب بعض الأمراض والمشاكل الأخرى. وعلى أيّة حال، ليس المطلوب مِنَ الزوجة تهديد زوجها وإجباره على ترك الاستماع إلى الموسيقى، بل لكلّ واحد من الزوجين تكليفه الخاصّ به.

    1. الظاهر أنَّه إشارة إلى ما رواه الكليني رحمه الله في الكافي عن‌ أبِي عبدِ اللّهِ‌ عليهِ‌ السلامُ‌ قال‌: مَنْ‌ مات‌ ولم‌ يحُجّ‌ حجّة‌ الإِسلامِ‌ لم‌ يمنعهُ‌ مِن‌ْ ذلِك‌ حاجةٌ‌ تُجحِفُ‌ بِهِ‌ أو مرضٌ‌ لا يُطِيقُ‌ فِيهِ‌ الحجّ‌ أو سُلطانٌ‌ يمنعُهُ‌ فليمُت‌ يهُودِيّا أو نصرانِيّا.
      وفي رواية أخرى: إِن‌ شاء‌ يهُودِيّا وإِن‌ شاء‌ نصرانِيّا.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

5
  • جاءني قبل فترة شاب وزوجته مِنَ الّذين لم يكونوا ملتزمين سابقًا بالأمور الأخلاقيّة وبتعاليم الدين الإسلاميّ، غير أنَّ الشاب التزم بها فيما بعد وظلّت زوجته على ما كانت عليه. ومِنْ بين المسائل الّتي طرحاها وكانت سببًا لخلافهما هي رغبة الزوجة في الاستماع إلى الموسيقى، الأمر الّذي كان يعارضه الزوج. فقلت للرجل: دع زوجتك على حريّتها في الاستماع للموسيقى. ثمّ قلتُ للزوجة: لا يمكنك رفع الصوت بالشكل الّذي يسبّب انزعاج زوجك، عليك استعمال سماعة الأذن أو أن تستمعي للموسيقى في غرفة أخرى، ولكِ أن تستمعي إلى أيّ نوع مِنْ أنواع الموسيقى، ولكن أنتِ الّتي ستتحمّلين عاقبة ما سيحصل لكِ.

  • وهكذا ينبغي أن يكون الأمر مع الزوجة؛ فهي لا تستطيع منع زوجها مِنَ الاستماع إلى الموسيقى، إذ لكلّ واحد منهما تكليفه الخاصّ به. ولكن إن أراد الزوج إجبار زوجته على الاستماع إلى الموسيقى، فلا يجب عليها الاستجابة له، لأنّ الزوج إن أراد أن يأمر زوجته بالعمل الحرام، فعلى الزوجة عدم إطاعته في ذلك.

  • حقيقة مقام الإمامة ومكر الشيطان بالسالك

  • [سؤال:] ما هو المقصود من الفَرَج الباطنيّ لإمام الزمان عليه السلام الّذي تدعو به سماحتكم؟

  • [الجواب:] إنَّ المقصود من الفرج والظهور الباطنيّ هو أن ينكشف للمرء مقام وولاية إمام الزمان عليه السلام. فالظهور الخارجيّ هو عبارة عن رؤية إمام الزمان عليه السلام كشخص مِنَ الأشخاص وهو إمامٌ و له الصفات الفلانية. 

  • أمّا أن يُدرك أحدنا حقيقة الإمام عليه السلام ويعلم مَنْ يكون الإمام وما يمتلكه مِنْ القدرة وما هي مكانته ودوره، فيكون بذلك قد حصل على ذلك الإكسير الّذي لا يمنحه الله لأيٍّ كان. نسأل الله أن يمنَّ علينا بالتوفيق لنيل رعايته وأن يتفضّل علينا بالوصول إلى ذلك السرّ ونيل ذلك الإكسير.

  • هذا هو المقصود مِنَ الوصول إلى ولاية إمام الزمان عليه السلام ومِنَ الظهور الباطنيّ وفرج الإمام. فالفرج هو عبارة عن الوصول إلى حقيقة التوحيد ومعرفة الله. فمَنْ يتمكّن مِنْ معرفة إمام الزمان يكون قد عرف الله ويكون قد وصل إلى الغاية وبلغ مرتبة الكمال.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

6
  • [سؤال:] بناءً على ما يقوله العلاّمة الطباطبائيّ في تفسيره للآية {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}۱، مِنْ أنَّ الشيطان كان يخفي كفره قبل أن يَكشِفَه اللهُ لِلعَلَن، فكيف يمكن للشيطان أو لأيّ عبد من عبيد الله – والحال هذه – أن يستبطن الكفر ومع ذلك يجد طريقًا إلى عالم القدس والقُرب ويصير في صفّ الملائكة؟

  • [الجواب:] لا يوجد أيّ إشكال في ذلك، لأنَّ للإنسان مراتبَ مختلفة، وتستطيع نفسه أن تتأقلم مع جميع تلك المراتب، فعندما يتجاوز المرء عالم المادّة تتضح له أمورٌ، وسيكون له حالة خاصّة في كلّ زمان وفي كلّ مرحلة من تلك المراحل.

  • فللطّفل في السنوات الأولى مِنْ عمره – مثلًا – طلبات ورغبات تتلاءم مع مرحلة الطفولة الّتي يمرّ فيها، وبعد أن يكبر تتبدّل رغباته وميوله؛ فالرغبة والطلب يَبْقَيَان على حالهما، وما تبدّل هو مظهر الطلب فقط. وهكذا عندما يتقدّم في العمر ويصل إلى سنّ الثلاثين، يتبدّل مظهر طلبه، أمَّا نفس الرغبة والطلب فهو باقٍ على حاله. وعندما يهرم المرء ويصل إلى سنِّ مائة عام، سوف تنتفي لديه –طبعًا – ميولات مرحلة الشباب ورغباتها، ولكن سيبقى لديه رغبة وطلب غير أنّ الطلب لديه سيظهر بأشكال مختلفة، فالطلب يظهر في هذه المرحلة على شكل رئاسة وأنانيّة وتفرْعُن، وهي رغبات لا يمكن مقارنتها برغبات مرحلة الشباب في سنّ العشرين أو الخمسة والعشرين حيث تكون على شكل حبّ التنزّه والتسلية والمرح.

  • وهنا تشتبه الأمور على الناس، فتراهم يقولون: انظر إلى فلان فهو يكتفي مِنَ الطعام بالخبز والخلّ فقط، كم هو معرِضٌ عن الدنيا ! وانظر إلى فلان كيف يقتصر في وجباته على الخبز والبصل، فهو قد أعرض عن الدنيا ! كلاّ، ليس الأمر كذلك، بل حقيقة الأمر أنَّه يفضّل الآن الخبز والبصل على وجبات الروبيان ولحوم الطير، ويشتهي الطعام البسيط عوضًا عن الالتذاذ بتلك الوجبات، لأنَّه سيتمكّن بواسطة هذا الطعام البسيط – من الخبز والبصل – مِنَ الوصول إلى مقام الرئاسة وتحقيق ما كان يصبو إليه مِنْ رغبات نفسانيّة. بناءً على هذا، لا يمكن الاستدلال على صفاء قلب أحدهم وتجاوزه للأهواء النفسانيّة بمجرد إعراضه عن بعض المسائل الظاهريّة. 

    1. سورة البقرة (٢)، جزء من الآية ٣٣.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

7
  • وهنا يمكن للشيطان أن يلعب دورًا خطيرًا خصوصًا في المراتب العالية، حيث إنّ نفس الإنسان إذا سقطت في تلك المراتب وبدأت بإظهار نفسها، فإنّك تجد صاحبها يقف حتّى في وجه الله ورسوله، هذا بالرّغم من أنّه لم يكن على هذه الكيفيّة في السابق. لماذا [حصل هذا]؟ لأنَّ أنانيّته ونفسه لم تكن ظاهرة في المراتب الدانية بل كانت مختبّئة ومتخفّية ومستترة، ولكنّه بمجرّد أن وصل إلى تلك المراتب العالية – ولأنّ النفس ما زالت موجودة ترافق الإنسان في حركته كلّ هذه المدة، غاية الأمر أنّها كانت متخفّية ومختبئة – فإنّ النفس تأتي لتُظهر نفسها وتشكّل سدّا ومانعًا أمام سلوك الإنسان. وهذا هو الخطر الّذي حذّر منه العظماء عندما قالوا: لا يمكن الابتهاج بالعاقبة والاطمئنان لها بمجرد حصول المكاشفات ومشاهدة بعض الأمور، ولا يصحّ له أن يتصوّر أنَّه قد وصل إلى نهاية المطاف بسبب حصول [المكاشفات والمشاهدات]. فما لم يصل المرء إلى درجة الأولياء الخُلَّصين، وما لم يخرج من الأنانيّة بشكل كامل – ومهما كان الشيء الّذي يشاهده [وينكشف له] – لا يمكن اعتباره دليلًا على عبور الإنسان عن النفس ووصوله إلى درجة الكمال.

  • إنَّ الموضوع – طبعًا – بحاجة إلى مزيد من الشرح والتوضيح، وسيتم بحثه في فرصة أخرى إن شاء الله وإن مُنحنا التوفيق بحول الله وقوته ومشيئته... وستحصل لنا فرصة أكبر للحديث عن هذا الموضوع إن شاء الله.

  • [سؤال:] كيف يمكن أن تتساوى غيبة وظهور الإمام بالنسبة إلى الإنسان، في حين أنّه لو أخذنا عنوان البصريّ كنموذج؛ فلولا لقاءه بالإمام الصادق، كيف كان ليحصل على برنامج عمليّ من الإمام، وكيف كان ليشرع في السلوك، وكيف كان ليسأل الإمام عمّا يهمّه من أمره؟ والسؤال الثاني هو: هل يتوجّب على كلّ مَنْ يريد سلوك طريق الله أن يتّصل بالإمام في عصر الغيبة لكي يحصل منه على برنامجه السلوكيّ ويبدأ سلوك الطريق؟

  • [الجواب:] إنَّ الكيفيّة الّتي يتعامل بها الإمام عليه السلام مع ما يجري مِنْ حوله تختلف جذريّاً عمّا نتصوّره نحن. فهو إمام ويعلم كيف عليه أن يطرح الأمور وكيف عليه أن يتعامل معها. غير أنَّنا – ووفقًا لِمَا نعانيه مِنْ نقص – نجهل ما الّذي يجري الآن في بيوتنا ونحن جالسون في هذا المكان، ونجهل ما الّذي يجري الآن في الزقاق والشارع. ولَمَّا كانت قدراتنا محدودة لا نستطيع التصرّف بالأشياء الموجودة في الشارع ونحن جالسون هنا في هذا المكان. [فنتخيّل أنّ الإمام مثلنا]. بينما حال الإمام هو أنّه يكون أقرب إليّ وإلى كلّ واحد منكم في هذا الوقت الّذي أتحدّث فيه إليكم. نعم، هكذا هو إمامنا. فقبل أن يصل صوتي إلى آذانكم، وقبل أن ينتقل الصوت إلى المخّ وتستقبله النفس المجردّة عن طريق المخّ، وقبل أن تفهموا ما الّذي قلته، يكون الإمام قد تلقّاه والتفت إليه. لا [بل الأمر أعلى من ذلك] لأن الإمام لا يتلقّى الكلام مثلنا، بل هذا الكلام يكون مدوّنًا في صحيفة إمام الزمان قبل ذلك. فإن كان الأمر كذلك فهل يوجد فرق بين حضور وغياب هكذا شخص. هذا فيما يتعلّق بالسؤال الأوّل.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

8
  • أمّا بالنسبة إلى السؤال الثاني المتعلّق بالحاجة إلى الأستاذ في زمان غيبة الإمام عليه السلام، [أقول] لا يتفاوت هذا الأمر في عصر الغيبة عنه في عصر الحضور أبدًا، فالسالك بحاجة إلى الأستاذ في كلٍّ من عصرَي الغيبة والظهور على السواء؛ أمّا في عصر الظهور، فالأمر واضح ولا يحتاج إلى دليل. وأمّا في عصر الغيبة فالأمر كما ذكرته مرارًا، وسأشرحه في الجزء الثاني من كتاب شرح حديث عنوان البصريّ إن شاء الله وبحوله وإرادته، فها هو الجزء الأول من الكتاب على وشك الانتهاء۱. وأعتقد أنَّي تطرقتُ في بعض المحاضرات إلى كيفيّة ارتباط الإنسان بإمام الزمان عليه السلام وبالله في عصر الغيبة. وسأقوم بشرح الموضوع بشكل تفصيليّ في الجزء الثاني من كتاب [شرح حديث عنوان البصريّ] إن شاء الله، وبالشكل الّذي يرتفع فيه أيّ شكّ أو شبهة عن أيّ جانب من جوانب الموضوع، وسأتكلم فيه عن كيفيّة تهيئة الأرضيّة لسلوك الطريق، وكيف أنّها واحدة دون أيّ اختلاف في كلا العصرين [الظهور والغيبة]، وسيُعلم عندها كيف أنّ سير وسلوك الناس واحدٌ لا يختلف أبدًا؛ سواء كان السالك يسكن في نفس المدينة الّتي يسكنها الإمام أو أنَّه يتواجد في أقصى الكرة الأرضيّة، أو كان السالك يعيش على القمر والإمام يعيش على الأرض. وسرّ الأمر وأساسه يكمن في أنّ السير أمرٌ باطنيٌّ ولا علاقة له بالظاهر. بناءً على هذا، فعلى كلّ واحدٍ منّا أن يسعى في باطنه للسير في طريق الله وأن يعمل على إصلاح باطنه، كما عليه تجنّب الاشتغال بالمسائل الظاهريّة وتجنّب متابعة هذا الأمر أو ذاك، إلّا اللهمّ إن كان ذلك طبقًا لتكليفٍ [من الأستاذ].

  • [سؤال:] هل العهد الّذي عاهدناه مع الأئمة عليهم السلام في عالم الذرّ، كنّا قد عاهدناه لأولياء الله أيضًا؟

  • لماذا نَأنَسُ ببعض الأئمّة أكثر مِنْ بعضهم الآخر؟ وكيف كان هذا الأُنس في عالم الذّر؟ وهل أنَّ سيرنا في هذه الدنيا يرتبط بذلك العالم أم لا؟ 

  • هل أستطيع أن أكتب لكم عن المنامات الّتي أشاهدها والحالات الّتي تحصل لي، أم عليّ أن أطرحها على شخص معيّن [تحدّدونه أنتم]؟ 

    1. وهو الكتاب الموسوم بـ (أسرار الملكوت؛ مقدّمة في شرح حديث عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام). والجدير بالذكر أن الكتاب المشار إليه متوفّر الآن بأجزاء ثلاثة باللغة العربيّة. (م)

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

9
  • كما أرجوا بيان رأيكم في عمل النساء في حال كانت بيئة العمل سليمة وكان العمل في وسطٍ نسائيّ؟

  • [الجواب:] إنَّ هذا الموضوع يحتاج إلى مقدار من التوضيح، وسأكتفي هنا بتقديم شرح موجز له؛ فموضوع العهد والأُنس يختلفان عن بعضهما. وذلك لكون مسألة العهد والميثاق تعني كيفيّة طيّ الطريق والسير وفقًا [لإرادة الإمام]، أمّا موضوع حصول الأُنس بأحد الأئمّة أكثر من غيره من الأئمة فهو موضوع آخر. ولكنّ المهمّ في الأمر هو السير وفقًا لمسير أيٍّ مِنْ الأئمة [عليهم السلام].

  • لا أتذكّر الآن أين تحدّثتُ عن هذا الموضوع، ولعلّه عندما كان بعض الأصدقاء ينوي التشرّف بزيارة العتبات المقدّسة، فجرى الحديث عن موضوع [الثواب المترتّب] على زيارة الأئمّة عليهم السلام وبالخصوص زيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا، حيث جاء في الرواية المنقولة عن الرسول الأكرم أنَّ مَنْ زاره عارفًا بحقّه فله ثواب حجّة، فتساءلت عائشة عن ذلك متعجّبة، فقال لها بل حجتين.. وبقي يزيد حتّى وصل إلى ألف حجّة وعمرة مقبولة، فيزداد بذلك تعجّب عائشة، ثمّ قال النبيّ: بل لا يمكن حصر ثواب تلك الزيارة. فكلّ ذلك يعتمد على درجة معرفة الزائر بالإمام، أي كلّما ازدادت معرفته بالإمام ستكون لزيارته مكانة ومرتبة أعلى تتناسب مع تلك المعرفة.

  • أتعلمون ما هو معنى معرفة الإمام، وما هي المعرفة الّتي يجب أن تكونوا عليها عند ذهابكم لزيارة الإمام الرضا عليه السلام، وما هي طبيعة العهد الّذي تعقدونه مع الإمام عليه السلام ومع سيِّد الشهداء؟ إنَّ هذا العهد يعني أنَّنا إن تعرّضنا لأيّ موقفٍ مِنْ تلك المواقف الّتي كان يتعرّض لها الإمام عليه السلام، فسوف نتصرّف بنفس تصرّف الإمام. فهل نحن كذلك حقّا؟ هذا هو معنى الميثاق الّذي أخذه الله علينا في عالم الذّر. بالطبع هناك ميثاق آخر قد أخذه الله [من عامّة الناس] وهو الإقرار بربوبيّة الله ووحدانيّته، ولا علاقة لهذا الميثاق باختيار الإنسان. أمّا الميثاق الّذي أخذه الله من المؤمنين على وجه الخصوص وبه ربط كلّاً منهم بإمام زمانه، فمعناه أنَّه يتوجّب علينا أن نضع أقدامنا حيث وضع الإمام عليه السلام قدمه. فبالقدر الّذي اقتربتْ به أنفسنا من نهج الإمام، نكون قد التزمنا بالميثاق، وبقدر مخالفتنا نكون قد ابتعدنا عن ذلك المقام.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

10
  • أمّا ما يتعلّق بالرؤية في المنام والحالات الّتي تحصل، فلا مانع من إرسالها عبر رسالة. والجدير بالذّكر هنا أنَّ أكثر الرؤى الّتي ترسلها السيّدات لي تبدو وكأنّه لا ضرورة لعرضها عليَّ. وكنتُ قد ذكرت مرارًا أنّ: الرؤى الّتي يجب الاستعلام عنها هي الّتي تولّد لدى الإنسان حالة من الشك، وإلّا فلا حاجة لذكر جميع ما يراه الإنسان من رؤى. وأغلب تلك الرؤى هي رؤى جيدة ولكن لا حاجة لذكرها. فالمنامات الّتي يجب الاستفسار عنها هي الّتي يُحتمل احتواؤها على رسالةٍ أو دستورٍ ما، أو كان فيها ما يبعث على القلق، فإن كانت كذلك فلا مانع من إرسالها عن طريق رسالة.

  • وأما بالنسبة لعمل المرأة فلا مانع مِنْ عمل المرأة خارج المنزل إن كان ذلك بموافقة الزوج وكانت بيئة العمل بيئة سليمة. ولكن على المرأة أن تأخذ بنظر الاعتبار: أنّه يجب ألّا يصبح هذا العمل حائلًا ومانعًا، وأن لا يشغل هذا الأمر ذهن المرأة إن لم تتمكّن من الذهاب إلى العمل يومًا ما. وكلّما بقيتْ المرأة في بيتها واشتغلتْ بمسائلها العلميّة في البيت وبتربية الأطفال وإدارة أمور بيتها، كان ذلك أفضل لها ولحالتها النفسيّة، وستستفيد مِنْ هذه الناحية بشكل أكبر. أمّا إن رأتْ نفسها مضطرّة على العمل وشعرت بحاجتها إليه، فلا مانع مِنْ عملها خارج المنزل إن لم يحصل اختلاط ومحادثات مع الرجال.

  • تخلية الخاطر مِمّا سوى الله تعالى

  • [سؤال:] ما الّذي يتوجّب علينا فعله من أجل محاربة الخواطر، سواء منها المتعلّقة بالأحداث الماضية أم تلك الّتي ترد على الذهن دفعة واحدة (إذ يحصل أحيانًا أن تهجم علينا تلك الخواطر بشكل غير طبيعي)؟

  • [الجواب:] إنَّ محاربة الخواطر والأخْيِلَة تتم بواسطة المراقبة، فكلّما كانت مراقبة المرء أشدّ، كانت الخواطر والأخيِلَة الّتي تخطر على ذهنه أقلّ. ولقد كان المرحوم العلّامة الطباطبائيّ يقول: كلّما كانت مراقبتي في النهار أشدّ، كانت المكاشفات الّتي تحصل لي مساءً أكثر صفاءً ونقاءً، ويكون حالي عندئذٍ أفضل. وبالطبع فإنَّ موضوع المراقبة واضح ومشخّص الحدود. ولقد تمّ الحديث عن هذا الموضوع مرارًا في بعض المجالس، ولا حاجة لتكرار الحديث عنه هنا.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

11
  • [سؤال:] هل تسمحون لنا بمطالعة كتاب الروح المجرّد باستمرار، أيّ في الليل والنهار؟ وهل علينا الإكثار مِنْ قراءة القرآن نهارًا؟

  • [الجواب:] نعم، لا بأس بالإتيان بكلا الأمرين.

  • [يقول سماحته:] بما أنَّه لم يبقَ لنا مجال لطرح المزيد من المواضيع بسبب الظروف الّتي طرأت، فإن وفقنا الله سأخصّص مجلسًا آخر يكون فيه الوقت أفسح للحديث مع الأصدقاء.

  • ولكن ههنا مجموعة من المواضيع الّتي أرغب أن أتحدّث عنها في ما بقي من الوقت.. وقد وردتني عدة مسائل مرتبطة بذلك حيث سئلتُ: ما الّذي علينا القيام به للتقليل من التوجّه نحو الكَثْرة؟ وما هو السبب الّذي يبعث على قلّة التوجّه نحو الله والعجز عن الإتيان بصلاة الليل؟ كيف نعرف إن كنَّا على اتصال [بالمبدأ] أم محجوبين عنه؟ ما هو تفسير الآية {صِبْغَةَ اللهِ}۱؟ ما هو دور الولاية العظمى في...٢؟ ما هو السبيل لمحاربة الخيال في الصلاة ولإزاحة الحُجب؟ وهل يحصل ذلك للإنسان دفعةً واحدة أم أنَّها تحصل بشكل تدريجيٍّ؟ هذه الأسئلة مشتركة بين أكثر هذه الرسائل.

  • [جواب سماحة السيّد:] سوف أعرض على الأصدقاء معيارًا عامّا، نستطيع بواسطة هذا المعيار والملاك اختبار أنفسنا بصورة مستمرّة، والمعيار هو: تقييم مواقفنا تجاه التكاليف الّتي فرضها الله علينا. وها أنا أقولها لكم بدون إحراج وبكلّ صراحة: أيّها الأصدقاء إنَّ طريق الله طريق جادّ لا يقبل المزاح والمماطلة، ولا يمكن طيّ هذا الطريق بالتساهل وبـ (ليت، ولعلّ، ولنرى كيف سنتعامل مع الموقف)، بل لا بدّ من طيّ الطريق؛ بالتحقّق بالصدق وخلوص النيّة، وبالتخلّص من الأنانيّة وطرد الأوهام والتصوّرات الباطلة، والامتناع عن التعامل مع الآخرين على أساس المصالح الدنيويّة، والابتعاد عن الأوهام والمسائل الاعتباريّة. نعم، يمكن طيّ طريق الله بالاستعانة بهذه الأمور، وإلّا سيتبدّل هذا الطريق – بعد مدّة من الزمن – إلى طريق مناقضٍ تمامًا، وستتبدّل جميع القِيَم إلى أضدادها، وسيُستبدل اللهُ الّذي نسعى للوصول إليه بالشيطان، وسيتبدّل هذا الطريق الّذي نطويه إلى طريق الأبالسة وطريق الابتعاد عن الله.

  • كان أويس القرنيّ يمرّ من مكان، فرأى رجلًا يصلّي في قبر، فقال له: ماذا تفعل؟ قال: أُصلّي. فقال: لأيّ شيء تصلّي؟ قال: من أجل النجاة من عذاب القبر ومن أجل تسهيل مسائلة منكرٍ ونكيرٍ لي. فقال: منذ متى وأنت على هذا الحال؟ قال:منذ عشرين عامًا. فقال: لقد ابتعدت عن الله طيلة العشرين عامًا تلك.

    1. سورة البقرة (٢)، جزء من الآية ۱٣۸.
    2. للأسف الصوت غير واضح، فوضعنا ثلاث نقاط مكان الكلام. (م)

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

12
  • إنّما تقرّب الصلاةُ العبدَ مِنْ ربّه متى كانت النيّة هي التقرّب إليه، لا لتسهيل مساءلة منكرٍ ونكيرٍ أو لرفع عذاب القبر. فعليك أن تؤدي الصلاة لله سواء كان سيحصل عذاب القبر أو مساءلة منكرٍ ونكيرٍ أم لا.

  • يُقال أنَّ السيِّدة نفيسة خاتون – المدفونة في مصر والّتي تُنقل عنها بعض الكرامات – كانت قد ختمت القرآن ستين مرّة في أطراف القبر الّذي تمّ تهيئته لتُدفن فيه بعد موتها. وأنا أعتقد أنَّ هذا العمل الّذي قامت به هو عمل خاطئ، فلا ينبغي أن يُقرأ القرآن مِنْ أجل النجاة مِنْ عذاب القبر، بل يجب أن يُقرأ لله.

  • واعلم بأنَّك عندما تقرأ القرآن فإنَّ الله يتكلّم معك، وعند الصلاة أنت الّذي تتكلّم مع الله وفي معرض الطلب منه. كان المرحوم العلاّمة يقول: عندما يقرأ السالك القرآن، عليه أن يتصوّر أنَّ القارئ للقرآن في هذه اللحظة هو الله، وهو مستمعٌ ليس إلّا. فلْنفرض الآن أنّه يوجد فردان في هذا المكان، أحدهما فتح القرآن والآخر يقرأ منه والأوّل يتابع ويستمع إلى القراءة، ففي هذه الحالة سيكون التأثير على مَنْ يستمع إلى القرآن أكبر مِنْ تأثيره على الآخر.

  • [يجب أن يكون الهدف مِنْ قراءة القرآن هو الله] لا أن يُقرأ مِنْ أجل النجاة مِنْ عذاب القبر أو مِنْ أجل أن يراعيه منكرٌ ونكيرٌ في الحساب، فهذا كلّه ابتعاد عن المبدأ ونسيان للمقصد. وعلى الإنسان أن يعلم بأنَّه كلّما جعل غير الله محطّ نظره وكلّما شغل فكره وباله بغيره، كان ذلك بمثابة السدّ الّذي يقطع عليه الطريق؛ وإنْ كان ذلك لله [في ظاهر الأمر]، وإنْ كان يبدو له أنَّ عمله ذو أهميّة كبيرة؛ وهذا يحصل خصوصًا مع المكلّفين بمسؤوليّة معيّنة، فعليهم مراقبة تصرفاتهم بشدّة، لئلّا تصبح تلك المسؤولية حاجزًا وحجابًا يسدّ الطريق في وجوههم، فيحدث أن يتجاوز الأفراد الّذين معنا [أي الّذين هم تحت إشرافنا وإدارتنا] العقبات ويعبروها، بينما يراوح أصحابُ المسؤوليّة مكانهم. فيجب أن يُعطى هذا الأمر أقصى درجات الأهميّة، فالسلوك ليس مزاحًا ولا يمكن التعامل معه باستخفاف.

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

13
  • طريقة اختبار السالك لنفسه

  • فيجب علينا أن نختبر أنفسنا باستمرار وذلك؛ مِنْ أجل أن يستمر سيرنا في هذا الطريق، ومِنْ أجل أن نتمكّن مِنْ أداء ما يترتب علينا من تكاليف. ويجب علينا أن نقارن أنفسنا [بمَنْ هم أكمل منَّا] وأن نعمل على تقييم مكانتنا وقياسها بمكانتهم لنرى أين نحن منهم.

  • فنحن نستطيع أن نُقيّم أنفسنا.. يستطيع الإنسان أن يختبر نفسه بسهولة، وسأطرح عليكم أحد الاختبارات الآن لكي نختبر أنفسنا في هذا المجلس ولِنَرى مقدار ثباتنا على الطريق الّذي نسلكه ومقدار ثباتنا على مبادئنا ومعتقداتنا. ولْنبدأ الاختبار بلحاظ جنبة ماديّة؛ لو تمّ منحنا – على سبيل المثال – امتيازًا ماديّا ذا أهميّة كبيرة جدّا وذلك مقابل أن نتخلّى عن طريقنا الّذي نسلكه. وليس الكلام هنا عن التخلّي عن الصلاة أو الصيام، بل الكلام عن التخلّي عمّا يتوجّب علينا رعايته مِنْ التزام ومراقبة وعمّا نحن عليه مِنْ مسير وسير. فهل سنقبل بذلك أم لا؟

  • كنتُ قد طرحتُ هذا الموضوع على أحد الأصدقاء الفضلاء مِنْ أهل العلم – كان قد جاء إلى هنا مِنْ مكانٍ ما قبل عدة ليالٍ – فقلتُ له: اختبر نفسك الآن، فلو قيل لك سنمنح جميع قِواك الفكريّة إلى فلان من العلماء – وذكرتُ له اسم ذلك الرجل، ومِنْ غير الصحيح أن أذكر اسمه الآن – وفي المقابل سنمنحك ما له من علوم ومكانة وقوى فكريّة، فهل ستوافق على ذلك؟ فأجاب على الفور: كلّا، لا أوافق. فقلتُ له عندها: دعنا نترقّى درجة، فلو خُيِّرتَ بأن تُمنح مكانة فلان مِنَ العبّاد الزهّاد الّذي يُقال أنَّه مِنْ أهل المكاشفة والمراقبة والإخبار بالغيب وببواطن الآخرين وما إلى ذلك مِنْ أمور وهو رجل معروف بحيث – على سبيل الفرض – قد سمعتم باسمه جميعًا، فيتمّ منحكَ مكانته وجميع حالاته ومشاهداته ومكاشفاته، وكلّ ما يطّلع عليه ويمكنه الإخبار به عن نفوس الآخرين، وفي مقابل ذلك سنعطيه مدركاتك، فهل كنتَ ستوافق على ذلك أم لا؟ فقال على الفور: كلّا. فقلتُ له: ولماذا لا توافق؟ قال: لأنَّ طريقه يختلف عن طريق العرفان. فقلتُ له: أحسنت، أحسنت، لقد توصّلتَ إلى ما لم يتوصّل إليه ذاك وحصلتَ على ما لم يحصل عليه. ثم قلتُ له: تعال واختبر نفسك الآن، فإن قيل لك: في مقابل ألف ألف من...

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

14
  • كنتُ قد سألتُ المرحوم العلّامة يومًا: لماذا يتكلّم حافظ [الشيرازيّ] كلّ هذا الكلام عن الهجران والفراق والألم والمعاناة من حرقة عشق المحبوب وعذاب فراقه إلى هذا الحدّ؟ إذ كان بإمكانه – وبدلًا عن ذلك كلّه – أن يتخلّى عن هذا العشق. فقال المرحوم العلّامة: حتّى لو استمرّ هذا الهجران وعدم الوصال ألف عام، فإنّ حافظ مستعدٌّ أن يتحمّل هذا الفراق لألف عامٍ وأن لا يفقد انتسابه له وارتباطه به. وهذا هو المهمّ في الأمر.

  • عندما كان أمير المؤمنين يقول: «وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ»۱، فإنّه كان في هذا المقام. فهو عليه السلام يقول هبني كنتُ قادرًا على الصبر على تحمّل نار جهنّم وعلى تحمّل عقابك، ولكنَّني لا أستطيع الصبر على بعدك، إذ كيف أصبر عن النظر إلى كرامتك، فأنا لا أستطيع الصبر على إعراض وجهك عنِّي، وأنا مستعدّ للصبر ألف سنة على عدم النظر إلى وجهك ما دام لديّ أمل؛ فأيّ أمل هذا؟ إنَّه الأمل في أن تقْبَلني، فإن كنتَ لا تسمح لي بوصالك، فليكن ذلك، أمّا أن أنفصل عنك وأتابع حياتي اليوميّة وأتمتّع بعيش رغيد وأواصل حياتي وأعمالي اليوميّة بدون أن يكون لديّ ألم وحرقة الفراق، فلا. فَعَلِيٌّ [×] مستعدٌّ للتضحية بجميع دنياه وآخرته من أجل الحفاظ على ألم الطلب.

  • فالمهمّ هو أن يرى الإنسان – مع ما يدّعيه، ومع حالته الّتي جعلته يدّعي أنَّه داعٍ إلى سبيله – كم عَمِلَ على تقريب نفسه منه، وإلى أي حدّ قد قَرُبَ ممّا يدّعيه، وما مدى صدق كلامه ومطابقته للواقع. فالأمر يتجاوز اللهو، فليست المسألة بأن يُقنع الإنسان نفسه [ويرضى]؛ بما يشتغل فيه من بحث وتدريس ومخالطة ومعاشرة للآخرين، وبحالة الابتهاج الّتي تحصل له لِمَا يقوم به مِنْ إلقاء المحاضرات واعتلاء المنبر للخطابة، وبقدوم الناس مِنْ كافة الأنحاء والأكناف مِنْ أجل حضور مجالسه. [فليعلم] بأنَّ جميع هذه الأمور لا تتجاوز الخيال والوهم وهي لا تساوي فِلسًا.

  • لذا فإنّ الّذين يحتملون أنَّهم قد يتعرّضون لمثل هذه المخاطر، مِنَ الضروريّ جدّاً لهم أن يُبعدوا أنفسهم عن تلك المسائل. وعلى الّذين يحتملون أن تتسبّب تلك المسائل بانحرافهم وتحويل مسيرهم عن القِيَم، أن يعملوا على إبعاد أنفسهم عنها. [فلا تقُل إنّ الناس بحاجة لي]، فللآخرين ربّ، وهو الّذي يعلم ما عليهم فعله، فإنّك غير موكّل بصحيفتهم، بل أنت مكلّف بأمر وقد أنجزته، وبهذا الحدّ تكون الأمور قد جرت على ما يرام، وبإمكان الآخرين أن يذهبوا إلى أيّ مكان آخر، فما الضير في ذلك؟!

    1. إحدى فقرات دعاء معروف باسم (دعاء كميل). (م)

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

15
  • ذكر المرحوم العلّامة في كتابه «توحيد علمى وعينى»۱ بأنَّ جمعًا من الإيرانيين الّذين كانوا يسكنون في مدينة النجف جاءوا إلى السيِّد أحمد الكربلائيّ رضوان الله عليه – والّذي كان من الفقهاء والمراجع المسلّم بأعلميّتهم في زمانه وكان معاصرًا للميرزا الشيخ محمّد تقي الشيرازيّ – وذلك بعد وفاة الميرزا الشيرازي، وعرضوا عليه أمر تقليدهم له. أتعلمون ما الّذي قاله لهم، لقد قال لهم: إن كان دخول جهنّم واجبًا كفائيّا فهناك الكثير ممّن فيه الكفاية. وهذا يعني بالكلام العرفي: إن كان ولا بدّ مِنْ وجود مَنْ سيدخل جهنّم، فلماذا أدخلها أنا في الوقت الّذي يوجد أفواج مِنْ أولئك المستعدّين لدخولها. هكذا هي نظرة العظماء لموضوع المرجعيّة. فها هو يقول: لماذا يكون عليَّ أن أزيد مِنَ الأعباء الّتي أتحمّلها، ولماذا أسمح بأن يضع الآخرون أثقالهم على أكتافي. فكلّ واحد يعلم – فيما بينه وبين الله – ما الّذي عليه فعله، فلماذا حينئذ أقوم أنا بتحمّل مسؤوليّة أعمال الآخرين. لاحظوا كيف أنّ الموضوع غاية في الدقة والأهميّة.

  • توصيف سماحته لدوره الّذي يؤديه

  • كثيرٌ من الأفراد يسألونني عن المكانة الّتي يتمتع بها هذا العبد٢. ولقد قلتُ ولمرّات عديدة أنَّني لست بأستاذٍ ولا أمتلك هكذا مسؤوليّة، بل أنا رجل عاديّ، نعم، رجل عاديّ كبقيّة الناس. أمّا ما أقوم بطرحه فعلى كلّ واحد أن يقارنه بالمباني، فإن وجده صحيحًا يستطيع عندئذٍ أن يعمل بموجبه ويكون هو المسؤول عن عمله، وإلّا فهو مَنْ سيتحمّل المسؤوليّة أمام الله ولا علاقة لي بهذا الأمر أبدًا. لذا، فلا مجال هنا للحديث عن موضوع التصدّي لمسؤوليّة القيادة والهداية.

  • وبناء على هذا، فلم يحصل أن ادّعى أحد أنّه المتحدّث بلساني، لا يوجد لدي متحدّثٌ بلساني أو ممثّلٌ لي أبدًا.

  • كما أنّه ليس لأحد علاقةٌ خاصّة معي تختلف عن علاقاتي بالآخرين، فإن وُجِدَ مثل هذا الشيء فهو لا يتعدّى كونه من تصوّرات الناس. إنَّ طبيعة العلاقة بيني وبين المحبّين والأصدقاء والّذين يشعرون بالحاجة والمعاناة وهم يبحثون عن علاج، تتمثّل فيما يلي: إنّ أقربهم منِّي وأقربهم إلى قلبي هو أكثرهم طاعة وسعيًا وراء ضالّته، وقد يكون هذا ممّن يعتاد الجلوس في زاوية مِنْ زوايا المجلس ولا يعرفه أحد، فأنا أكثر تعلّقًا به مِنْ ذلك الّذي يحيط نفسه بجمْع مِنَ الناس وبأهل الادّعاء، وذلك لأنَّ جميع هذه الأمور هي عبارة عن تخيّلات وأمور اعتباريّة ليس لها طريق إلى المدرسة الإلهيّة ومدرسة التوحيد. 

    1. هو كتاب فارسي، وترجمة العنوان بالعربيّة هو (التوحيد العلميّ والعينيّ). (م)
    2. يشير سماحته قده إلى نفسه. (م)

تخلية القلب مِمّا سوى الله تعالى

16
  • ولقد كان لمثل هذه الأمور وجود في عهد المرحوم العلّامة، ولا يزال لها وجود حتّى الآن، كما كان لها وجود أيضًا قبل زمن [العلّامة].. حيث كان هناك مَنْ يدّعي أنَّه المتصدّي لأمور الآخرين والمتكفّل بها. [وأنا أقول] بأنَّ جميع تلك الادّعاءات لا تتجاوز كونها تصوّرات وتخيّلات.

  • أمّا ما يتعلّق مِنَ الأمر بهذا العبد۱، فأنا أقول: إنَّ جميع مَنْ يرتبط بي وجميع الأصدقاء متساوون لديّ، وأنا أنظر إليهم بالتساوي كأسنان المشط. وأنَّ أقربهم إليَّ هو الّذي؛ يكون نظره دائمًا إلى الأرض ويعمل بما يؤمر به، ويكون؛ الأكثر انشغالًا بنفسه، ولا يسعى للتظاهر بما لديه، وليس مِمّن يدّعي كونه كذا وكذا، وكون علاقته بي أكثر مِنَ الآخرين. فلا محلّ في هذا المكان لترويج مثل هذا الكلام. هذا ما كنت أوّد بيانه للأصدقاء.

  • كان في ذهني المزيد ممّا كنتُ أنوي الحديث عنه، غير أنَّ الأمور قد جرت على هذا المنوال. وسيتمّ عقد المجلس القادم إن شاء الله وبحوله وقوّته بعد شهر مِنَ الآن، لكي يتم تعويض ما فات، ومِنْ أجل جبران التأخير الّذي حصل، ولتعويض تقصير هذا العبد في هذا المجال، وإن كان البعض منه خارجًا عن إرادتي، إلّا أنّه سيتم تعويض ذلك إن شاء الله. والآن قد مضى الوقت ولم يتبقَّ على موعد المغادرة سوى ساعة واحدة، فليس هناك توفيق للبقاء مع الأصدقاء أزيد مِنْ ذلك. فإن كان لدى السيّدات مِنْ سؤال فلْيكتبنَ أسئلتهنَّ. وسأتحدّث في المجلس القادم بتفصيل أكثر إن شاء الله.

  •  

  • اللهمَّ صلِّ عَلى محمَّد وآلِ محمَّد

    1. يشير سماحته قده إلى نفسه. (م)