6

معرفة الإمام ج6

معرفة الإمام ج6 2781
مشاهدة المتن

المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسم العقائد

المجموعة معرفة الإمام


التوضيح

مجموعة‌ من‌ البحوث‌ التفسيريّة‌، والفلسفيّة‌، والروائيّة‌، والتأريخيّة‌ والاجتماعيّة‌ في الإمامة‌ والولاية‌ بشكل‌ عامّ، وفي إمامة‌ وولاية‌ أمير المؤمنين‌ علي بن‌ أبي طالب‌ والأئمّة‌ المعصومين‌ سلام‌ الله‌ عليهم‌ أجمعين‌ بشكل‌ خاصّ ؛ وذلك‌ في هيئة‌ دروس‌ استدلاليّة‌ علميّة‌ متّخذة‌ من‌ القرآن‌ الكريم‌ والروايات‌ الواردة‌ عن‌ الخاصّة‌ والعامّة،‌ وأبحاث‌ حليّة‌ ونقديّة‌ عن‌ الولاية‌ .
وتضمّ هذه‌ المجموعة‌ 270 درساً في ثمانية‌ عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من‌ قبيل‌: العصمة‌، الولاية‌ التكوينيّة‌، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة‌ وجود الإمام‌ للمجتمع‌، معنى الولاية‌، شرح‌ حجّة‌ الوداع‌، شرح واقعة‌ غدير خمّ، حديث‌ الولاية، حديث المنزلة‌، شرائط‌ القيادة‌، علم الغيب و...
/۲۲٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

معرفة الإمام ج٦

1

معرفة الإمام ج٦

2
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ السَّبْعُونَ إلى الدَّرْسُ الثَّامِنِ وَ السَّبْعِينَ اساسُ نَصْبِ أَمِير المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلام في مَقامِ الوَلَايَة الْكُلْيَّة في غَديرِ خُمٍ‌

  •  

  •  

معرفة الإمام ج٦

3
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين‌

  • و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين‌

  • و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم‌

  •  

  •  

  • قال الله الحكيم في كتابه الكريم:

  • {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ‌}.۱

  • هذا التهديد الإلهيّ الشديد وجّهه الله سبحانه إلى نبيّه في شأن غدير خُمّ، و نصب مولى الموالى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وليّاً و إماماً و خليفة لرسول الله بلا فصل، و تعريفه لعامّة الناس. و قال الشاعر في هذا المجال:

  • غديريّة آية الله العظمى الشيخ محمّد حسين الغروي‌

  • باده بده ساقيا ولى ز خُمّ غدير***چنگ بزن مطربا ولى به ياد أمير (۱)٢
    1. الآية ٦۷، من السورة ٥: المائدة.
    2. يقول:
      (۱) يقول: أيّها الساقي اسقني كأساً و لكن من غدير خمّ *** و اغرف أيّها المطرب و لكن بذكر الأمير (أمير المؤمنين).
       *** استعار الشاعر الفارسيّ لفظ «خمّ» الذي يعني بالفارسيّة (الدنّ) فقال: اسقني كأساً و لكن من دنّ الغدير. و يقصد اسقني من غدير خم.(م)

معرفة الإمام ج٦

4
  • تو نيز أي چرخ پير بيا ز بالا به زير***داد مَسِرَّت بده ساغر عشرت بگير (٢)
  • بلبل طبعم چنان قافيه پرداز شد***كه زُهره در آسمان به نغمه دمساز شد (٣)
  • محيط كون و مكان دائره ساز شد***سَروَر روحانيان هو العليّ الكبير (٤)
  • نسيم رحمت و زيد؛ دهرِ كهن شد جوان‌***نهال حكمت دميد پر از گل ارغوان (٥)
  • مسند حشمت رسيد به خُسرو خُسروان‌***حجاب ظلمت دريد ز آفتاب منير (٦)
  • وادى خمّ غَدير، منطقة نور شد***يا ز كف عقل پير تجلّى طور شد (۷)۱
    1. يقول:
      (٢) و أنتِ أيّتها الأفلاك المغرقة في القِدَم اهبطي و ابتهجي و شاركي في الفرحة و خذي حظّك من كأس السعادة.
      (٣) انفجرت قريحتي بالشعر كما يصدح البُلبل حتّي أنّ الزهرة في السماء قد غرّدت و صدحت (الزهرة مظهر الموسيقى).
      (٤) كلّ شي‌ء في الوجود قد غنّي و طرب في حلقة مستديرة، فسيّد الروحانيّين هو العليّ الكبير.
      (٥) هبّ نسيم الرحمة، و رجع الدهر العجوز شابّاً، و اخضرّت براعم الحكمة و امتلأت بورود الأرجوان.
      (٦) انتقل عرش العظمة و الجلال إلي ملك الملوك (الإمام عليّ) و انكشف حجاب الظلمة عن وجه الشمس المنيرة.
      (۷) لقد أنارت أرض غدير خمّ، و تجلّي النور في الطور من يد صاحب العقل الكبير.(روح القدس).

معرفة الإمام ج٦

5
  • يا كه بيانى خطير ز سرّ مستور شد***يا شده در يك سرير قِران شاه و وزير (۸)
  • شاهد بَزم ازَل، شمع دل جمع شد***تا افُق لَمْ يَزَل روشن از آن جمع شد (٩)
  • ظلمت ديو و دَغَل، ز پرتوش قَمعْ شد***چون شه كيوان محل شد به فراز سرير (۱۰)
  • چون به سر دست شاه شير خدا شد بلند***به تارك مِهر و ماه ظلّ عنايت فكند (۱۱)
  • به شوكت فرّ و جاه به طالعى ارجمند***شاه ولايت پناه به أمر حقّ شد أمير (۱٢)
  • مژده كه شد مير عشق وزير عقل نخست‌***به همّت پير عشق اساس وحدت درست (۱٣)۱
    1. يقول:
      (۸) و ظهر عن ذلك السرّ المستور بيان مهم و رفيع، و تربّع الملك و الوزير (النبيّ و عليّ) على أريكة العرش.
      (٩) لقد صار شاهد محفل الأزل شمع قلوب الجميع، فاستناروا بنوره ما دام الافق و الزمان.
      (۱۰) و انزاح بنوره ظلام الشيطان و مكره و كيده، إذ تربّع ذلك الملك العالي (النبيّ) على العرش.
      (۱۱) و عند ما ارتفع أسد الله (الإمام عليّ) بيد الملك (النبيّ)، فإنّه ألقي ظلال لطفه و رحمته على الشمس و القمر.
      (۱٢) و بذلك الجلال و الجاه و الحظّ المقبل، أصبح ملك الولاية (الإمام عليّ) أمير المؤمنين بأمر الحقّ.
      (۱٣) بشراكم أيّها الناس فإنّ أمير العشق (الإمام عليّ) أصبح وزيراً للعقل الأوّل (النبيّ) و بجهود شيخ العشّاق (الإمام عليّ) استقام أساس التوحيد.

معرفة الإمام ج٦

6
  • به آب شمشير عشقْ نقش دوئيّت بشست‌***به زير زنجير عشق شير فلك شد أسير (۱٤)
  • فاتِح اقليم جود، به جاى خاتم نشست‌***يا به سپهر وجود نيّر أعظم نشست (۱٥)
  • يا به محيط شهود، مركز عالم نشست‌***روى حَسُود عَنُود سياه شد همچو تير (۱٦)
  • صاحب ديوان عشق عرش خلافت گرفت‌***مسند ايوان عشق زيب و شرافت گرفت (۱۷)
  • گلشن خندان عشق حُسن و لطافت گرفت‌***نغمة دَستانِ عشق رفت به أوج اثير (۱۸)
  • جلوه به صد ناز كرد ليلى حُسْن قِدَم‌***پرده ز رخ باز كرد بَد مُنير ظُلَم (۱٩)۱
    1. يقول:
      (۱٤) و قد أزاح معالم الشرك بسيف عشقه، و أصبح أسد الأفلاك (عالم الإمكان) مأسوراً مصفّداً في أغلال العشق (عشق الولاية).
      (۱٥) و جلس فاتح إقليم الجود مجلس خاتم الأنبياء و استقرّت الشمس الساطعة (الإمام عليّ) في سماء الوجود.
      (۱٦) و لقد استقرّ قلب عالم الوجود في دائرة الشهود فاسودّ- كالقير- وجه الحسود العنود.
      (۱۷) و تربّع صاحب ديوان العشق على عرش الخلافة فازيّن العرش و ازدان متشرّفاً به.
      (۱۸) و غطّى الحُسن و الظرافة روضة العشق الضاحكة، و تعالت نغمات نشيد العشق لتلامس الأثير.
      (۱٩) و تجلّت ليلي الحُسن الأزليّ بمائة لون من الغنج و الدلال، فقد أزاح البدر المنير الستار عن وجهها.

معرفة الإمام ج٦

7
  • نغمه گرى ساز كرد معدن كلّ حِكَم‌***يا سخن آغاز كرد عن اللطيف الخبير (٢۰)
  • به هر كه مولا منم، على است مولاى او***نسخة اسما منم، على است طُغراى او (٢۱)
  • سِرِّ مُعَمّا منم؛ على است مَجْلاى او***محيط إنشا منم؛ على مدار و مدير (٢٢)
  • طور تجلّى منم، سينة سينا على است‌***سِرِّ انَا اللهْ منم، آيت كبرى على است (٢٣)
  • دُرِّة بيضا منم، لُؤلُؤ لالا على است‌***شافع عُقبى منم، على مُشار و مُشير (٢٤)
  • حلقة أفلاك را سلسلة جنبان على است‌***قاعدة خاك را اساس و بنيان على است (٢٥)
  • دفتر إدراك را طراز و عنوان على است‌***سيّد لَوْلاك را على وزير و ظهير (٢٦)۱
    1. يقول:
      (٢۰) و لقد أنشد العازفُ معدنُ الحكم كلّها و بدأ الكلام عن اللطيف الخبير.
      (٢۱) من كنت مولاه فعليّ مولاه، و أنا نسخة الأسماء الإلهيّة و عليّ طُغراها.(علامة المسكوكات السلطانية)
      (٢٢) و أنا السرّ الملغّز و عليّ موضّحه، و أنا بحر الإيجاد و الإنشاء و عليّ مداره و مديره.
      (٢٣) و أنا طور التجلّي و عليّ قلب سيناء، و أنا سرّ (أنا الله) و عليّ الآية الكبرى.
      (٢٤) أنا الدّرة البيضاء، و عليّ هو اللؤلؤة المتألّقة، و أنا الشافع في العقبي و عليّ هو المشار و المشير.
      (٢٥) و عليّ هو الذي يدير دائرة الأفلاك و يوجّهها، و عليّ هو الوتد و الأساس الذي ترتكز عليه الأرض.(٢٦) و عليّ عنوان عالم الفهم و العلم و الإدراك و زينته، و عليّ هو الوزير و الظهير لسيّد الأفلاك التي لولاه لما كانت.

معرفة الإمام ج٦

8
  • دائرة كُنْ فكان، مركز عزم على است‌***عرصة كون و مكان خِطّه رزم على است (٢۷)
  • در حرم لا مكان خلوت بزم على است‌***روى زمين و زمان به نور او مُستنير (٢۸)
  • قبلة أهل قبول، غُرّة نيكوى اوست‌***كعبة أهل وصول، خاك سر كوى اوست (٢٩)
  • قوس صعود و نزول حلقة ابروى اوست‌***نقد نفوس و عقول به بارگاهش حقير (٣۰)
  • طلعت زيباى او ظهور غيب مصون‌***لَعْل گهر زاى او مصدر كاف است و نون (٣۱)
  • سِرِّ سويداى او منزّه از چند و چون‌***صورت و معناى او نگنجد اندر ضمير (٣٢)۱
    1. يقول:
      (٢۷) و عليّ هو مركز دائرة كن فيكون، و عليّ هو قطب الرحي في الاستبسال في كلّ مكان.
      (٢۸) و عليّ هو سمير المجلس في الحرم الإلهيّ، و بنوره استنار وجه الأرض و الزمان.
      (٢٩) غرّته الحسناء قبلة الراجين من أهل القبول، و تراب المكان الذي يقطنه كعبة أهل الوصول.
      (٣۰) حاجبه قوس العروج و الهبوط، و كلّ شي‌ء في الوجود من نفوس و عقول حقير في جنبه.
      (٣۱) طلعته البهيّة موضع لظهور الغيب المصون، و شفته الياقوتيّة التي تنثر الجواهر مصدر الكاف و النون‌‌ [كُن‌].
      (٣٢) سرّ سويداء قلبه منزّه عن الخوض فيه، و لا ضمير يسعه صورة و معني.

معرفة الإمام ج٦

9
  • يوسف كَنعانِ عشق، بندة رخسار اوست‌***خِضْرِ بيابان عشق تشنة گفتار اوست (٣٣)
  • موسى عمرانِ عشق طالب ديدار اوست‌***كيست سليمانِ عشق بر در او يك فقير (٣٤)
  • أي به فروغ جمال، آينه ذوالجلال‌***مُفتَقِرِ خوش‌مقال مانده به وصف تو لال (٣٥)
  • گر چه بُراق خيال در تو ندارد مجال‌***ولى ز آب زلال تشنه بود ناگزير (٣٦)۱
  • الإمام على عليه السلام ميزان الحقّ و محوره‌

  • وَ قَالُوا: عَلِيّ عَلَا، قُلْتُ: لا***فَإنَّ الْعُلَى بِعَلِيّ عَلَا
  • وَ لَكِنْ أقُولُ كَقَوْلِ النَّبِيّ‌***وَ قَدْ جَمَعَ الْخَلْقَ كُلَّ الْمَلَا
  • ألَا إنَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلَى لَهُ‌***يُوَالي عَلِيّاً وَ إلّا فَلَا.٢
  • و هذه الأبيات للصاحب بن عبّاد، و البيت الأوّل منها قيّم للغاية.

    1. يقول:
      (٣٣) يوسف كنعان العاشق عبدٌ لسيماه، و الخضر الهائم في فيافي العشق ظامئ لكلامه.
      (٣٤) و موسى بن عمران العاشق توّاق لرؤيته و زيارته، و ليس سليمان العاشق إلّا فقيراً على بابه.
      (٣٥) أنت يا عليّ ضياء الجمال المتألّق، و أنت مرآة ذي الجلال، و المفتقر المصقع ألكن أبكم لا يهتدي إلى وصفك‌‌ [المفتقر عنوان اختاره الشاعر لنفسه‌].
      (٣٦) و مع أنّ بُراق الخيال لا قِبَل له أن يسرح في رحابك، إلّا أنة لا بدّ له من التكلّم كى يبلّ صداه و يروي غليله.
    2. «الغدير» ج ٤، ص ٤۱؛ و «مناقب ابن شهرآشوب»، الطبعة الحجريّة، ج ۱، ص ٥٣۱.
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

معرفة الإمام ج٦

10
  • ... ۱

    1. (...تتمة الهامش من صفحة السابقة)جاء في «أعيان الشيعة» ج ۱۱، ص ٢٣۱، الطبعة الثانية في ترجمة إسماعيل ابن عبّاد ما ملخّصه: أبو القاسم الملقّب بكافي الكفاة و الصاحب؛ إسماعيل بن عبّاد، ولد سنة ٣٢٦، و توفّى سنة ٣۸٥. ينحدر من اصطخر فارس أو الطالقان، و مسكنه بالري، كان يصحب استاذه أبا الفضل بن العميد، لذلك اطلق عليه هذا اللقب؛ و لمّا تولّى الوزارة، بقى علماً عليه. و صار وزيراً لمؤيّد الدولة الديلميّ، و من بعده وزيراً لفخر الدولة. صلّى على جنازته بعد موته أبو العبّاس الضَّبِّيّ الذي صار وزيراً بعده. و يقول في ص ٢٥۷: و مرّ عن المجلسيّ الأوّل وصفه: بأنه من أفقه فقهاء أصحابنا، و مرّ عن ولده في مقدّمات بحاره: أنه كان من الإماميّة؛ و ذكره القاضي نور الله في «مجالس المؤمنين» في عداد وزراء الشيعة؛ و مرّ قول صاحب «أمل الآمل» إنّه كان شيعيّاً إماميّاً؛ و عدّه ابن شهرآشوب في شعراء أهل البيت المجاهرين كما مرّ؛ و يأتي عند ذكر تلاميذه: و عدّه الشهيد الثاني من أصحابنا.و جاء في «الغدير» ج ٤، ص ٤۷: كانت للصاحب مكتبة عامرة و قد نوّه بها لمّا أرسل إليه صاحب خراسان الملك نوح بن منصور السامانيّ في السير يستدعيه إلى حضرته، و يرغّبه في خدمته، و بذل البذول السنيّة، فكان من جملة أعذاره قوله: ثمّ كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي؟ و عندي من كتب العلم خاصّة ما يُحمل على أربعمائة حمل أو أكثر!في «معجم الادباء»: قال أبو الحسن البيهقيّ: و أنا أقول: بيت الكتب الذي بالري دليل على ذلك بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين. فإنّي طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلّدات، فإنّ السلطان محمود لمّا ورد إلى الري، قيل له: إنّ هذه الكتب كتب الروافض و أهل البدع، فاستخرج منها كلّ ما كان في علم الكلام و أمر بحرقه.و يظهر من كلام البيهقيّ هذا أنّ عمدة الكتب التي احرقت هي خزانة كتب الصاحب، و هكذا كانت تعبث يد الجور بآثار الشيعة و كتبهم و مآثرهم.و قد حاز الصاحب بن عبّاد على المقام الأوّل في اللغة و الأدب و الشعر و الكلام و الفقه و السياسة و الكياسة و الرصانة؛ و يروق لنا حقّاً أن نعدّه في الدرجة الاولى بين أساتذة العلم و الأدب و الدراية؛ و من مفاخر الشيعة حقّاً. و من المراثي التي انشدت عند موته:
      مَضَى نَجْلُ عَبَّادٍ الْمُرْتَجَي‌***َمَاتَ جَمِيعُ بَنِي آدَم‌
      أوَارِي بِقَبْرِكَ أَهْلَ الزَّمان***فَيَرْجَحُ قَبْرَكَ بِالْعَالَمِ
       *** - «الغدير» ج ٤، ص ۷۸ و ۷٩.و أنشد السيّد أبو الحسن محمّد بن الحسين الحسينيّ المعروف بالوصيّ الهمدانيّأبياتاً في رثائه، نذكرها هنا:
      نَوْمُ الْعُيُونِ على الْجُفُونِ حَرَامُ‌***وَ دُمُوعُهنَّ مَعَ الدِّمَاءِ سِجَامُ‌
      تَبْكِي الْوَزِيرَ سَلِيلَ عَبّادِ الْعُلَا***وَ الدِّينُ وَ الْقُرآنُ وَ الإسْلَامُ‌
      تَبْكِيهِ مَكَّةُ وَ الْمَشَاعِرُ كُلُّهَا***وَ حَجِيجُهَا وَ النُّسْكُ وَ الإحْرَامُ‌
      تَبْكِيهِ طَيْبَةُ وَ الرَّسُولُ وَ مَنْ بِهَا***وَ عَقِيقُهَا وَ السَّهْلُ وَ الأعْلَامُ‌
      كَافِي الْكُفَاةِ قَضَى حَمِيدَاً نَحْبَهُ‌***ذَاكَ الإمَامُ السَّيِّدُ الضَّرْغَامُ‌
      مَاتَ الْمَعَالِي وَ الْعُلُومُ بِمَوْتِهِ‌***فَعَلَى الْمَعَالِي وَ الْعُلُومِ سَلَامُ
       *** - «الغدير» ج ٤، ص ۷۸ و ص ۷٩.

معرفة الإمام ج٦

11
  • و هو مُقتبس من‌ كلام النبيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: اللهُمَّ أدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ. فلم يقل: اللهُمَّ أدِرْ عَلِيَّاً مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ دَارَ!

  • و حقّاً فإنّ هذه الكلمة التي نطق بها رسول الله تضمّ عالَماً من الحكمة، و ينبغي تأليف الكتب الكثيرة لشرحها و تحليلها، فمعيار الحقيقة و الأصالة، و القطب في قياس الحقّ و الحقيقة هو عليّ لا غير؛ ينبغي جعل أفعاله و صفاته و أخلاقه و ملكاته في جميع العوالم، قدوةً يُتأسّى بها، لأنّ الحقّ يقوم على أساس ذلك. و هو اسم الله الأعظم، و مركز الولاية، و من هذا المنطلق، تستمدّ الأصالة و الحقيقة وجودهما، لا أنّ شيئاً موجوداً خارج الاسم و الولاية يحمل عنوان الحقّ و الحقيقة، فينبثق اسم الله الأعظم و حقيقة الولاية منه؛ و لذلك ينبغي قياس جميع المواعظ و الأفكار و الآراء و النوايا و العقائد و الصفات و المحاسن بمواعظ عليّ و أفكاره و آرائه و نواياه و عقائده و صفاته و محاسنه. و النظر إليها على أنها صالحة إذا كانت مطابقة، و قبيحة إذا كانت مخالفة؛ و إلّا فإنّ كلّ مَن يقول: إنّني أقيس أعمال عليّ على الحقّ، فما وافقه منها آخذه، و ما خالفه أتركه‌. يجب أن يُقال له: إنّ 

معرفة الإمام ج٦

12
  • الحقّ الذي تأخذ به هو من زعم خيالك؛ و وليد النفس الوضيعة و أسير الوهمّ، و لهذا يخيّل إليك أنّ عمل عليّ خلاف الحقّ! هيّا تخطّ مرحلة النفس، و اخرج من الأنانيّة و العجب و حبّ الذات و التمحور حولها سيتّضح لك كوضوح الشمس أنّ عليّاً هو عين الحقّ و منبع الحقّ، و هو الأصالة و الواقعيّة نفسهما.

  • الحقّ مع على عليه السلام يدور معه حيث دار

  • و قد وردت روايات كثيرة عن الخاصّة و العامّة ذكرها أعلامهم في كتبهم، تدور حول الحديث الشريف القائل بأنّ عليّاً مع الحقّ و الحقّ مع على يدور معه حيثما دار، و يديره الله معه حيثما دار. نورد فيما يلي قسماً منها نقلًا عن كتاب «غاية المرام» للسيّد هاشم البحرانيّ رحمة الله عليه الذي ذكر فيه خمسة عشر حديثاً عن طريق العامّة، و أحد عشر حديثاً عن طريق الخاصّة.

  • أمّا عن طريق العامّة فقد روى إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ و هو من أعيان علماء العامّة، بسلسلة سنده المتّصل عن أبي حَيَّان التَّيْميّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "رَحِمَ اللهُ عَلِيَّاً؛ اللهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ".۱

  • و روى بسند آخر أيضاً عن أخِ دِعْبِل بن عَلِيّ الخُزاعِيّ أنه قال: حدّثني هارون الرشيد، عن أَزرق بن قَيْس، عن عبد الله بن عبّاس، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "الْحَقُّ مَعَ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ حَيْثُ دَارَ".٢

  • و جاء في كتاب «الجمع بين الصحاح الستَّة» لمؤلّفة: رَزِين- إمام

    1. «غاية المرام» الطبعة الحجريّة، المقصد الثاني، ص ٥٣٩، الحديث الثاني.
    2. نفس المصدر، الحديث الثالث.

معرفة الإمام ج٦

13
  • الحرمين - في الجزء الثالث منه في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام من‌ صحيح البخاريّ، قال: عن أمير المؤمنين عليه السلام:

  • قَالَ: سَمِعْتُ قَالَ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَقُولُ: "رَحِمَ اللهُ عَلِيَّاً؛ اللهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ".۱

  • و روى في الجزء الأوّل من كتاب «الفردوس» عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "رَحِمَ اللهُ عَلِيَّاً، اللهُمَّ أدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ".٢

  • و بعد أن روى موفّق بن أحمد الخوارزميّ هذا الحديث بسلسلة سنده المتّصل عن أبي الحَبَّاب التَّيْمِيّ عن أبيه، عن عليّ عليه السلام، قال: أخرجه أبو عيسى الترمذيّ في جامعه.٣

  • و قال إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ: كتب إليّ عزّ الدين أحمد بن إبراهيم أنّ أبا طالب عبد الرحمن الهاشميّ نقيب العبّاسيّين بواسط حدّثه بسنده المتّصل عن الأعْمَشْ، عن إبراهيم، عن عَلْقَمَةَ وَ الأسْوَد قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصاريّ، و قلنا له: يا أبا أيّوب! إنّ الله تبارك و تعالى أكرم نبيّه، وصفا لك من الله ما فضلك الله بها، أخْبِرْنا بمخرجك مع عليّ عليه السلام تقاتل أهل لَا إلَهَ إلَّا اللهُ!

  • [قال‌]: اقسم لكما بالله، لقد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في هذا البيت الذي أنتما فيه معي و ما في البيت غير رسول الله، و عليّ جالس عن يمينه، و أنا جالس عن يساره، و أنس قائم بين يديه، إذ حُرِّك 

    1. الحديث الرابع.
    2. «غاية المرام» المقصد الثاني ص ٥٣٩، الحديث الخامس.
    3. «المصدر السابق»، الحديث السابع.

معرفة الإمام ج٦

14
  • الباب.

  • فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "افتح لعمّار الطيّب المطيّب!" ففتحوا له الباب، و دخل عمّار، فسلّم على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فرحّب به. ثمّ قال لعمّار: "إنّه سيكون في امّتي بعدي هنات حتّى يختلف السيف فيما بينهم، و حتّى يقتل بعضهم بعضاً".

  • فإذا رَأيتَ ذَلِكَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الأصْلَعِ عَنْ يَمِينِي- يَعْنِي عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ- فَإنْ سَلَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً وَ سَلَكَ عَلِيّ وَادِياً فَاسْلُكْ وَادِيَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ خَلِّ عَنِ النَّاسِ! يَا عَمَّارُ؛ إنَّ عَلِيّاً لَا يَرُدُّكَ عَنْ هُدَى، وَ لَا يَدُلُّكَ على رَدىً! يَا عَمَّارُ؛ طَاعَةُ عَلِيّ طَاعَتِي؛ وَ طَاعَتِي طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ!۱

  • و أمّا عن طريق الخاصّة: روى الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده عن مَالِكِ بْنِ حَفَوَيْه، عن امِّ سَلَمَةَ رَضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ وَ هُوَ آخِذٌ بِكَفِّ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: الْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ.٢

  • و روى في أماليه أيضاً بسنده عن جماعة، عن أبي المفضّل، عن صِلَةِ بْنِ زُفَر، أنهُ أدْخَلَ رَأسَهُ تَحْتَ الثَّوْبِ بَعْدَ مَا سُجِّيَ على حُذَيْفَةَ؛ فَقَالَ لَهُ: إنَّ هَذِهِ الفِتْنَةَ قَدْ وَقَعَتْ؛ فَمَا تَأمُرُونِي؟!

  • قَالَ: "إذَا أنْتَ فَرَغْتَ مِنْ دَفْنِي، فَشُدَّ على رَاحِلَتِكَ وَ الْحَقْ بِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فإنّه على الْحَقِّ وَ الْحَقُّ لَا يُفَارِقُهُ".٣

    1. «غاية المرام» الطبعة الحجريّة، المقصد الثاني، ص ٥٤۰، الحديث الحادي عشر.
    2. «المصدر السابق»، ص ٥٤۰ و ٥٤۱، الحديث الأوّل.
    3. «المصدر السابق»، ص ٥٤۱، الحديث الثاني.

معرفة الإمام ج٦

15
  • على عليه السلام و أهل بيته ميزان الحقّ‌

  • و روى ابن بابويه أيضاً بسنده عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسِ أَنه قال: لمّا كان‌ يوم الجمل، قلتُ: لا أكون مع عليّ و لا أكون عليه، و توقّفت عن القتال إلى انتصاف النهار، فلمّا كان قرب الليل، ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع عليّ، فقاتلت معه حتّى كان من أمره ما كان، ثمّ أتيت المدينة، فدخلت على امّ سلمة.

  • قالت: من أين أقبلت؟! قلتُ: من البصرة!

  • قالت: مع أيّ الفريقين؟!

  • قلتُ: كنت يا امّ المؤمنين توقّفت عن القتال إلى انتصاف النهار، فألق الله عزّ و جلّ في قلبي بأن اقاتل مع عليّ.

  • قالت: نِعْمَ ما عملت! لَقَد سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ حَارَبَ عَلِيَّاً فَقَدَ حَارَبَنِي؛ وَ مَنْ حَارَبَنِي فَقَدْ حَارَبَ اللهُ".

  • قلتُ: أ فَتَرَيْنَ أنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيّ؟!

  • قالت: إي و الله، عَلِيّ مَعَ الْحَقِّ وَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيّ. و الله ما أنصفوا امّة محمّد نبيّهم إذ قدّموا من أخّره الله عزّ و جلّ و أخّروا من قدّمه الله، و إنّهم صانوا حلائلهم في بيوتهم و أبرزوا حليلة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى القتال.

  • وَ اللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: "إنَّ لُامَّتِي فُرْقَةً وَ خُلْفَةً فَجَامِعُوها إذَا اجْتَمَعَتْ، وَ إذَا افْتَرَقَتْ مِنَ النَّمَطِ الأوْسَطِ، ارْقُبُوا أهْلَ بَيْتِي! فَإنْ حَارَبُوا فَحَارِبُوا، وَ إنْ سَالَمُوا فَسَالِمُوا، وَ إنْ زَالُوا فَزُولُوا، فَإنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ حَيْثُ كَانُوا"

  • قلتُ: فمن أهل البيت؟

  • قالت: أهل بيته الذين أمرنا الله بالتمسّك بهم، و هم الأئمّة بعده كما قال عدد نقباء بني إسرائيل، عليّ، و سبطاه، و تسعة من صُلب الحسين، أهل 

معرفة الإمام ج٦

16
  • بيته هم المطهّرون و الأئمّة المعصومون.

  • قلتُ: إنَّا لِلَّهِ، هَلَكَ النَّاسُ إذاً.

  • قالت: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ.۱

  • و ذكر الشيخ في مجالسه بسنده عن جماعة، عن أبي المفضَّل، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد مرفوعاً، عن أبي ذَرّ أنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ عَلِيّاً عَلَيهِ السَّلَامُ، وَ عُثْمَانَ، وَ طَلْحَةَ، وَ الزُّبَيْرَ، وَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْن عَوْف، و سَعْدَ بْنَ أَبي وَقَّاص أن يدخلوا بيتاً و يغلقوا عليهم بابه و يتشاوروا في أمرهم، و أجَّلهم ثلاثة أيّام. فإن توافق خمسة على قول واحد و أبي رجل منهم، قتل ذلك الرجل. و إن توافق أربعة و أبي اثنان، قتل الاثنان.

  • فلمّا توافقوا جميعاً على رأي واحد، قال لهم على بن أبي طالب عليه السلام: إنّي احبّ أن تسمعوا منّي ما أقول لكم! فان يكن حقّاً فاقبلوه! و إن يكن باطلًا فانكروه!

  • قالوا: قل؛ ثمّ ذكر فضائله، و ما قال فيه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و هم يصدّقونه، إلى أن قال:

  • أ تَعْلَمُونَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: "الْحَقُّ بَعْدِي مَعَ عَلِيّ؛ وَ عَلِيّ مَعَ الْحَقِّ يَزُولُ الْحَقُّ مَعَهُ حَيْثُ زَالَ؟ قَالُوا: نَعَمْ!"٢

  • غديريّة ابن حمّاد العَبْدي‌

  • و ما أروع الأبيات التي وصف بها ابْنُ حَمَّاد الْعَبْدِيّ‌٣ عيد الغدير في‌

    1. «غاية المرام» المقصد الثاني، ص ٥٤۱ و ص ٥٤٢، الحديث السادس.
    2. «المصدر السابق»، ص ٥٤٢، الحديث الثامن.
    3. أبو الحسن عليّ بن حمّاد بن عبيد الله بن حمّاد العَدْويّ البَصْرِيّ؛ و ذكر صاحب «الغدير» في ج ٤، من ص ۱٤۱ إلى ص ۱۷۱ معلومات رائعة و مؤثّرة في ترجمته و غديريّاته و مراثيه و قصائده، و شعره جذّاب و سهل و غزير المحتوي؛ و يمكن أن نعتبره في الطبقة الاولى من شعراء أهل البيت. و كأنّ سلاسة الألفاظ و نظم المعاني يموجان من داخله، و تماسكت المعاني في قالب الألفاظ ترتيباً و تسلسلًا. شعره صادر عن عاشق لأهل البيت متحمّس لهم. و قد أقضّت مظلوميّتهم مضجعه فحرمته لذيذ الرقاد و الطعام. إنّه يصوّر حادثة الطفّ و غيرها من الحوادث تصويراً رائعاً. و كان هذا الشاعر يعيش في القرن الرابع، عاصر الشيخ الصدوق و كان من أقرانه؛ أدركه النجاشيّ؛ و روى عن كتب أبي أحمد الجلودة البصريّ المتوفّى سنة ٣٣٢ هـ. ق.

معرفة الإمام ج٦

17
  • غديريّاته، و بيّن فيها منزلة أمير المؤمنين عليه السلام كغيره من الشعراء الكثيرين، إلى أن قال:

  • يَوْمُ الْغَدِيرِ لأشْرَفُ الأيَّامِ‌***وَ أجَلُّهَا قَدْراً على الإسْلَامِ‌
  • يَوْمٌ أقَامَ اللهُ فِيهِ إمَامَنَا***أعنِي الْوَصِيّ إمَامَ كُلِّ إمَامِ‌
  • قَالَ النَّبِيّ بِدَوْحِ خُمٍّ رَافِعاً***كَفَّ الْوَصِيّ يَقُولُ لِلأقْوَامِ‌
  • مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَذَا مَوْلىً لَهُ‌***بِالْوَحْي مِنْ ذِي الْعِزَّةِ العَلَّامِ‌
  • هَذَا وَزِيِرِي في الحَيَاةِ عَلَيْكُمُ‌***فَإذَا قَضَيْتُ فَذَا يَقُومُ مَقَامِي‌
  • يَا رَبِّ وَ إلى‌۱ مَنْ أقَرَّ لَهُ الْوَلَا***وَ أنْزِلْ بِمَنْ عَادَاهُ سُوءَ حِمَامِ‌
  • فَتَهَافَتَتْ أيْدِي الرِّجَالِ لِبَيْعَةٍ***فِيهَا كَمَالُ الدِّينِ وَ الإنْعَامِ‌٢
  • لقد برهنّا في الأبحاث السابقة بحول الله و قوّته أنّ الولاية من أهمّ أركان الدين المبين، بل يمكن القول إنّها أعظم ركن و مسند للإيمان و الأصالة الواقعيّة، تشدّ القلوب جميعها إليها، و تهديها نحو كعبة المقصود؛ و لذلك نجد أنّ حديث العشيرة الذي أدلى به رسول الله صلّى الله عليه و آله 

    1. والي فعل أمر من وَالَى يُوالِي، و ينبغي أن تكتب (والِ) بحذف ياء الفعل، لأنّ الحرف الأخير يحذف في الأفعال الناقصة عند جزمها. لكن لو كتبت هكذا فإنّها تخلّ بالوزن الشعريّ، لذلك أشبعوا كسرة اللام فنتجت عنها الياء.
    2. «الغدير» ج ٤، ص ۱٤۸. و ذكر ابن شهرآشوب الأبيات الستّة الاولى في مناقبه، الطبعة الحجريّة، ج ۱، ص ٥٣۱.

معرفة الإمام ج٦

18
  • و سلّم لتبيان آية الإنذار جعل الإسلام و الإقرار بنبوّة رسول الله بمستوى‌ الولاية و قبول مقام الأولويّة لمولي الموالى أمير المؤمنين عليه السلام. و كأنّ النبوّة و الولاية غصنان قد نميا من جذر واحد؛ أو كأنهما طفلان قد ارتضعا من ثدي واحد. و خلافة الإمام و وصايته و ولايته هي امتداد لخلافة رسول الله الإلهيّة و ولايته. و العلّة المبقية للحياة و السير التكامليّ للنفوس نحو مقام الأمن الإلهيّ، و السكينة في حريم القلب و كعبة التوحيد التي تلى اجتياز عالم الكثرة و صخب القوى الخياليّة و الوهميّة و شغبها، بعد العلّة المحدثة لذلك، المتمثّلة في رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.

  • و من هذا المنطلق، فقد كان رسول الله يرعى هذا الأمر الخطير مراراً و تكراراً، في سفره و حضره، و ليله و نهاره، و خلوته و ظهوره بين الناس، و للعوامّ و الخواصّ؛ و لم يدّخر وسعاً في تبليغ وصاية أمير المؤمنين و ولايته، و التعريف بشخصيّته و تعداد مناقبه و مكارم أخلاقه و حسن شيمه و شمائله، و التذكير بمقام علمه وسعته و وعيه و بصيرته، مرسياً دعائم الولاية على ذلك.

  • إلّا أنّ آيةً لم تنزل لتبيّن هذه المسألة بصراحة و وضوح حتّى السنة الأخيرة من حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و لم يقدّم رسول الله عليّاً في تجمّع علنيّ ضمن كلمة يلقيها أو خطبة يخطبها، و لم ينصّبه لمقام الخلافة و الولاية بالنسبة إلى جميع المؤمنين و المؤمنات.

  • و من الوضوح بمكان أنّ تنصيب الإمام عمل عسير و محرج، إذ كان العرب حديثي عهد بالإسلام، و قد نبت لحمهم على التقاليد الجاهليّة التي تفاعلوا معها؛ لم يعرفوا النبوّة كما هي؛ و لم يفرّقوا بينها و بين الحكومة، و كانوا يحسبون الولاية رئاسة و زعامة ظاهريّة فحسب، و كان بينهم عدد كبير من المنافقين الذين أسلمت ألسنتهم و لم تسلم قلوبهم، إذ انطوت على

معرفة الإمام ج٦

19
  • أحقاد بدريّة، و حُنَيْنِيَّة، و خَيْبَريّة، و احُديّة كانت تغلي. فهؤلاء لم يرق لهم‌ أمر الولاية، و لم يرضوه بيسر، كدأبهم مع النبوّة التي لم يقرّوا بها بسهولة.

  • و قد بيّن النبيّ الأكرم جميع التعاليم و القوانين الإلهيّة للناس طيلة ثلاث و عشرين سنة- ثلاث عشرة سنة في مكّة و عشر سنوات في المدينة- و فصّل لهم اصول المعارف، و التوحيد، و إرسال الرسل، و إنزال الكتب، و المعاد عند ما يقف الخلائق في ساحة الربوبيّة يوم القيامة؛ و ذكّرهم بالمهلكات و المنجيات، و المفاسد و المصالح، و طريق الشقاء و طريق السعادة بشكل مفصّل. و لكن آن الأوان ليكمل دين الله، و يتمّ نعمته على الناس، و يختم دائرة التبليغ و يكملها بتعريف عليّ بن أبي طالب عليه السلام للناس، و نصْبِه في مقام الولاية و الخلافة الشامل لزعامته و حكومته المطلقة؛ فيجري على الناس الخير و الرحمة و البركة و الفيض الإلهيّ ما دامت الدنيا قائمة. و بذلك يرأب جميع الصدوع و الشقوق التي طرأت على الدين و يسدّ كلّ نقص و يرفع كلّ تقصير، ما أمّ نجم في السماء نجماً.

  • وصيّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الاكيدة في آخر سنة من حياتة

  • و كان هذا الأمر متواصلًا حتّى السنة الأخيرة من حياة رسول الله، إذ كثرت و ازدادت التوصيات، و قويت و اشتدّت التأكيدات فيها، ذلك أنّ رسول الله كان يعلم أنه سيرحل عن الدنيا، و ليس هناك غير عليّ إنسان جدير بالولاية، و مضطلع بأعباء الخلافة، و حافظ و حارس لدين الله و القرآن الكريم و روح النبوّة و سرّها. و كانت ولاية عليّ- في الحقيقة- قائمة على امتداد ثلاث و عشرين سنة لنبوّة رسول الله، و حافظة لخطّه، و ما لم تعلن الولاية و تعرَّف للناس، فإنّ نبوّة رسول الله تظلّ ناقصة، و جهوده الشاقّة تذهب سدىً.

  • من هذا المنطلق، نجد أنّ لرسول الله في تلك السنة توصيات أكيدة و مهمّة في أمير المؤمنين، و ولايته على كلّ مؤمن و مؤمنة، و خلافته 

معرفة الإمام ج٦

20
  • و زعامته؛ إلى أن تلقّى النبيّ الأمر من الله ليجهر بولايته و يعلنها على‌ رؤوس الأشهاد؛ و يقدّمه إلى الامّة في مكان اجتمع فيه الناس بمختلف طبقاتهم و أصنافهم و أمصارهم و حواضرهم و قراهم و بلدانهم، و ليقوم هؤلاء بعد ذلك بإيصال ذلك النداء الإلهيّ إلى الناس كافّة.

  • حجّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و عمراته‌

  • و في تلك السنة، و هي السنة العاشرة للهجرة، توجّه النبيّ العظيم إلى حجّ بيت الله الحرام بعد أن جرى الإعلان عن ذلك في المدينة قبل مدّة من سفره. و لم تكن تلك السفرة عاديّة؛ لأنّ رسول الله أعدّ عدّته و تجهّز بصورة تامّة لأداء مناسك الحجّ مصطحباً معه جميع زوجاته، و كانت كلّ واحدة منهنّ في هودجها، و تحرّكن معه محرمات من ذي الْحُلَيْفَة (مسجد الشجرة) باتّجاه مكّة. و كان معه في تلك الرحلة أصحابه و أقاربه جميعاً. و تحرّك معه ما لا يحصى من المسلمين؛ رجالًا و نساءً و شيوخاً و شبّاناً، و أغنياء و فقراءً، و مقتدرين و عاجزين، أحرموا كلّهم قاصدين مكّة. و جاء في الروايات و كتب السير و التأريخ أنّ عددهم كان مائة ألف، و ذكر الكثيرون أنّ عددهم كان مائة و أربعة و عشرين ألفاً. و خلاصة القول إنّ كلّ واحد منهم قد تحرّك مع رسول الله على النحو الذي كان متيسّراً له، و انضمّ إلى موكب النبوّة باتّجاه مكّة. و قد رافق رسول الله في هذا السفر أهل المدينة كلّهم ما عدا المرضي و الشيوخ العاجزين الذين ليست لهم قدرة على الحركة. فما أعظمها و أروعها من سفرة!

  • علماً أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يحجّ بعد هجرته إلى المدينة إلّا مرّة واحدة فقط. و هي الحجّة التي كانت في السنة العاشرة من الهجرة. و اعتمر ثلاث مرّات أيضاً:

  • الاولى: عمرة الحُدَيبيّة حيث أحرم رسول الله و أصحابه قاصدين مكّة إلّا أنّ كفّار مكّة حالوا دون ذلك و منعوهم من دخول مكّة، فأمر 

معرفة الإمام ج٦

21
  • فأحلّوا من إحرامهم. و عقد معاهدة مع كفّار قريش اشترطَ فيها أن يعود المسلمون إلى مكّة للعمرة في السنة القادمة.

  • الثانية: عمرة القضاء في السنة التي تلت عمرة الحديبيّة إذ أحرم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مع أصحابه إحرام العمرة، فدخل مكّة المكرّمة و أدّى مناسك العمرة.

  • الثالثة: العمرة التي كانت بعد غزوة حُنَيْن عند ما قسّم رسول الله الغنائم على المسلمين، و قفل راجعاً من طريق الطائف، فدخل مكّة، و أحرم من الجِعْرَانَة۱ و أدّى مناسك العمرة.

  • و لا اختلاف بين الشيعة و السنّة في هذه العمرات الثلاث؛ إلّا أنّ كتب التأريخ السنيّة تذكر عمرة اخرى لرسول الله. و هي العمرة التي أدّاها مع حجّه في السنة العاشرة من الهجرة. فكان حجّه متزامناً مع عمرته؛ و بهذا تصبح عمراته أربعاً بعد الهجرة.٢

  • غير أنّ أكثر الأخبار الشيعيّة تردّ ذلك و تثبت- وفقاً لمصادر أهل السنّة أنفسهم- أنّ رسول الله أدّى مناسك الحجّ فقط في حجّة الوداع، و لم يعتمر معها.٣

    1. الجِعْرَانَة و الجِعِرَّانَة بكسر الجيم و سكون العين، أو بكسر العين و فتح الراء المشدّدة. كلاهما صحيح.
    2. «البداية و النهاية» الطبعة الاولى بمصر سنة ۱٣٥۱ هـ، ج ٥، ص ۱۰٩ و ۱۱٤؛ و «المناقب» لابن شهرآشوب عن الطبريّ عن ابن عبّاس، الطبعة الحجريّة، ج ۱، ص ۱٢۱.
    3. روى في «الكافي» بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "اعتمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلَّم ثلاث عمر مفترقات: عمرة في ذي القعدة، أهَلَّ من عَسْفان و هي عمرة الحُدَيْبيّة، و عمرة أهَلَّ من الجُحفة و هي عمرة القضاء، و عمرة أهَلَّ من الجِعرانَة بعد ما رجع من الطائف من غزوة حنين".(الكافي، طبعة الآخوندي، الجزء الرابع من الفروع ص ٢٥۱). و أمّا الرواية المنقولة في «بحار الأنوار» طبع الكمباني، ج ٦، ص ٦٦٦ عن «الخصال» للصدوق، أو «الأمالي» للطوسيّ، عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم اعتمر أربع عمر، عمرة الحديبيّة و عمرة القضاء من قابل، و الثالثة من الجِعْرانة و الرابعة مع حجّته؛ فهي غير موثوقة.

معرفة الإمام ج٦

22
  • قيل: كانت العمرات الثلاث كلّها في شهر ذي القعدة الحرام.۱

  • و لكن هل حجّ رسول الله قبل الهجرة؟ أو قبل النبوّة؟ إذ كان الحجّ من شرائع إبراهيم عليه السلام. و كان المشركون في الجزيرة العربيّة يؤدّون مناسك الحجّ قبل الإسلام عملًا بسنّة خليل الرحمن عليه السلام مع تشويه و تحريف لتلك المناسك. و على أيّ حال، فإنّ حجّ رسول الله محلّ خلاف. يقول ابن كثير: كان رسول الله يحجّ قبل النبوّة و بعدها، و قبل الهجرة.٢

  • و يقول ابن سعد: لم يحجّ رسول الله غيرها [حجّة الإسلام في السنة العاشرة للهجرة] منذ تُنُبّئ إلى أن توفّاه الله. و كان ابن عبّاس يكره أن يقال: حِجَّة الوَدَاع، و يقول: حِجَّة الإسلام.٣

  • و يقول ابن برهان الحلبيّ الشافعيّ ما ملخّصه: لم يحجّ رسول الله غير حجّة الوداع منذ أن هاجر إلى المدينة. و أمّا قبل الهجرة، فقد حجّ ثلاث مرّات. و قيل: مرّتين. و هما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العَقَبة. و في كلام ابن الأثير كان يحجّ كلّ سنة قبل أن يهاجر. و في كلام ابن الجوزيّ حجّ قبل النبوّة و بعدها حججاً لا يعلم عددها إلّا الله.٤

    1. «البداية و النهاية» الطبعة الاولى بمصر، ج ٥ ص ۱۰٩، عن البخاريّ، و مسلم و أحمد.
    2. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۰٩.
    3. «الطبقات الكبرى» ج ٢، ص ۱۷٣. طبعة دار بيروت، سنة ۱٤۰٥.
    4. «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢۸٩.

معرفة الإمام ج٦

23
  • و يقول ابن شهرآشوب: [قال‌] البخاريّ: حجّ النبيّ عليه السلام قبل النبوّة، و بعدها لا نعرف عددها، و لم يحجّ بعد الهجرة إلّا حجّة الوداع. و عن جابر الأنصاري أنه حجّ ثلاث حجج: حجّتين قبل الهجرة. و حجّة الوداع.

  • العلاء بن رزين، و عمرو بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حجّ رسول الله عشرين حجّة.

  • الطبريّ عن ابن عبّاس: اعتمر النبيّ عليه السلام أربع عمر: الحُدَيبيّة و القضاء، و الجِعْرانة، و التي مع حجّته.

  • معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام: اعتمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ثلاث عمر متفرّقات. ثمّ ذكر الحُدَيبيّة، و القَضَاء، و الجِعْرَانَة. و أقَام بالمدينة عشر سنين، ثمّ حجّ حجّة الوداع، و نصب عليّاً إماماً يوم غدير خمّ.۱ و نقل الكلينيّ في «الكافي» بسنده عن الإمام الصادق عليه السلام قال: لم يحجّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بعد قدومه المدينة إلّا واحدة، و قد حجّ بمكّة مع قومه حجّات.٢

  • و في «الكافي» أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: حجّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عشرين حجّة.٣

  • كيفيّة حجّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قبل الهجرة

  • و روى الصدوق في «علل الشرائع» بسنده عن الإمام الصادق‌

    1. «المناقب» لابن شهرآشوب الطبعة الحجريّة، ج ۱، ص ۱٢۱.
    2. «فروع الكافي» طبعة مطبعة الحيدريّ، ج ٤، ص ٢٤٤. و «الوفاء بأحوال المصطفي» طبعة مصر، مطبعة الكيلانيّ، ج ٢، ص ٢۰٩.
    3. «المصدر السابق»، ص ٢٤٥.

معرفة الإمام ج٦

24
  • عليه السلام أنّ سليمان بن مهران قال: قلت لجعفر بن محمّد عليهما السلام: كم حجّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؟

  • فقال: عشرين مستتراً في حجّه يمرّ بالمِأزَمَينْ،۱ فينزل فيبول.

  • قال: و لِمَ كان ينزل هناك فيبول؟!

  • قال: لأنّه أوّل موضع عبد فيه الأصنام، و منه اخذ الحجر الذي نُحت منه هُبَلُ الذي رمى به عليّ [بن أبي طالب‌] من ظهر الكعبة لمّا علا ظهر رسول الله. فأمر [رسول الله‌] بدفنه عند باب بني شيبة، فصار الدخول إلى المسجد من باب بني شيبة سنّة لأجل ذلك ...٢

  • طبيعيّاً أنّ الإشكال الذي يبدو في حجّات رسول الله قبل الهجرة يتمثّل في شيئين:

  • الأوّل: من حيث المكان، و هو أنّ قريشاً كانوا لا يخرجون من الحرم في موسم الحجّ، و لا يذهبون من المُزدَلَفة إلى عرفات ضمن أداء المناسك. و يقولون: إنّ قريشاً وهم من أعاظم الناس ينبغي أن لا يخرجوا من الحرم. و نحن نعلم أنّ الوقوف في عرفات هو أحد أعمال الحجّ.

  • تفيدنا الروايات هنا أنّ رسول الله كان يذهب إلى عرفات ضمن حجّه؛ و يقف مع سائر الناس الذين يقفون في عرفات من غير قريش، ثمّ يأتي المشعر الحرام و المُزْدَلَفة.

  • الثاني: من حيث الزمان، كان العرب في الجاهليّة يؤخّرون زمن الحجّ أيّاماً من حساب الشهور القمريّة التي عليها الأعمال، و ذلك ليقع‌

    1. المِأزَم هو المضيق بين جبلين، و لذلك سمّي الموضع الذي بين عَرَفات و المشعر، و يضيق فيه الطريق: المِأزَمَيْن.
    2. «علل الشرائع» طبعة المطبعة الحيدريّة في النجف، ج ٢، ص ٤٥۰.

معرفة الإمام ج٦

25
  • الحجّ في جوّ معتدل لطيف دائماً. و قد عبّر القرآن عن هذا العمل بالنَّسِي‌ء و ذكر أنه زيادة في الكفر. و في ضوء ذلك فقد كان الحجّ في جميع السنين يقع دائماً في غير وقته المحدّد له. و لم يقع في وقته المعيّن إلّا مرّة واحدة كلّ ثلاث و ثلاثين سنة، إذ يطابق زمان الشهر الهلاليّ و وقته المعيّن في النصف الأوّل من شهر ذي الحِجّة الحرام. و هذه المطابقة كانت فقط في السنة التي أدّى فيها رسول الله حجّة الوداع. و كما سنرى، فإنّ رسول الله أعاد الحجّ إلى مجاريه الطبيعيّة و أعلن وقته المحدّد في خطبته بترك النسي‌ء في النصف الأوّل من شهر ذي الحِجَّة.

  • من هذا المنطلق، فلو كان رسول الله قد أراد الحجّ مع الناس قبل سنة حِجَّة الوَدَاع بثلاث و ثلاثين سنة، أي: قبل نبوّته بعشر سنين، فإنّه يكون قد أدّاه في غير وقته المعيّن، و شمله حكم التأخير و النسي‌ء. و هو ممّا لا يصدر عن رسول الله، لا سيّما و أنّ القرآن يعتبر ذلك كفراً. إذاً ينبغي أن نقول: إنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يؤدّي مناسك الحجّ في وقتها المقرّر.

  • و في ضوء ذلك، مضافاً إلى الرواية التي نقلناها عن «علل الشرائع» فإنّ ثمّة روايات اخرى تنصّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يحجّ خفية. و جاء ذلك في «الكافي» عن سَهْل، عن ابن فضّال، عن عيسى الفرّاء، عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عِشْرِينَ حَجَّةً مُسْتَتِرَّةً كُلَّهَا، يَمُرُّ بِالْمَأزِمَيْنِ فَيَنْزِلُ فَيَبُولُ"‌.۱ و على هذا لا يبقى إشكال في اختلاف الموقف أيضاً.

    1. «فروع الكافي» طبعة المطبعة الحيدريّة، ج ٤، ص ٢٥۱، و ص ٢٥٢.

معرفة الإمام ج٦

26
  • [قال عليّ بن برهان الدين الحلبيّ‌]: الجمهور: فَرْضُ الحجّ كان سنة ستّ من الهجرة. و صحّحه الرافعيّ في باب السِّيَر؛ و تبعه النووي.۱ قيل فُرض سنة تسع؛ و قيل سنة عشر- انتهى. و به قال أبو حنيفة و من ثمّ إنّه قال بوجوبه على الفور؛ و قيل فُرض قبل الهجرة و استُغرب.٢

  • و أمّا ما نستنتجه من بعض روايات الخاصّة التي تدلّ على أنّ رسول الله علّم المسلمين أحكام الدين كلّها من صلاة، و صيام، و زكاة. و لم يبق منها إلّا الحجّ و الولاية حيث علّمهم إيّاهما في سفره هذا؛ فشرح لهم مناسك الحجّ كلّها و كرّر عليهم ذلك. و عرّف لهم أمير المؤمنين عليه السلام في خطبه بمكّة، و عرفات، و منى بشكل عامّ عن طريق وصيّته بأهل البيت؛ و نصبه في مقام الولاية و الإمامة بإذن الله، و ذلك في خطبة غدير خمّ بشكل خاصّ عن طريق التعريف الشخصيّ و الشهوديّ و الوجدانيّ. و بذلك أكمل دين الله و أتمّ نعمته؛ لنستفيد من ذلك أنّ وجوب الحجّ كان في السنة العاشرة للهجرة.

  • و في تلك السنة، بدأ رسول الله نشاطاً خاصّاً متميّزاً منذ الأوّل من ذي القعدة، فكتب إلى شتّى الأطراف و الأعلام من المسلمين يعلمهم بعزمه على الحجّ و التحرّك نحو بيت الله الحرام.٣ قال الله تعالى:

    1. أيّد صاحب «شذرات الذهب» هذا القول في كتابه المذكور، ج ۱، طبعة مصر سنة ۱٣٥۰، ص ۱۱ و ۱٣.
    2. «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢۸٩. و ذكره ابن كثير في «البداية و النهاية» الطبعة الاولى بمصر ملخّصاً، ج ٥، ص ۱۰٩.
    3. جاء في «الكافي» الفروع، ج ٤ ص ٢٤٩ عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ الحَجَّ، فَكَتَبَ إلي مَنْ بَلَغَهُ كِتَابُهُ مِمَّنْ دَخَلَ في الإسْلَامِ أنَّ رَسُولَ اللهِ يُريدُ الحَجَّ يُؤَذّنهم بِذَلِكَ، لِيَحِجَّ مَنْ أطَاقَ الحَجَّ".

معرفة الإمام ج٦

27
  • دعوة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى حجّة الوداع

  • {وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‌ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى‌ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ‌}.۱

  • و قال الحسن، و الجبائيّ: إنّ هذه الآية خطاب للنبيّ؛ و جاء عن أمير المؤمنين، و ابن عبّاس، أنّ الخطاب فيها لإبراهيم، و به قال جمهور المفسّرين و اختاره أبو مسلم.٢

  • و لمّا جاء في الآية التي سبقت الآيات المذكورة قوله: {وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ}. و هذه الآية معطوفة على قوله: طَهِّرْ بَيْتِي، لذلك نقول إنّ المخاطب هنا إبراهيم، و ما قيل إنّ المخاطب هو رسول الله بعيد من السياق.٣

  • و طبيعيّاً فإنّ رسول الله كان يدعو الناس إلى الحجّ على سبيل الإعلان على هذا النداء، و كان يقرع أسماع الناس بأذان الله الصادر على لسان إبراهيم، فيبلغ أمر الله بهذه الآية.

  • تقاطر الناس من كلّ حدب و صوب تلقاء المدينة المُنَوَّرة ليحجّوا مع رسول الله و يتعلّموا منه مناسك الحجّ بلا فرق بين شيخهم و شابّهم، و رجلهم و امرأتهم، و غنيّهم و فقيرهم. بل كان على كلّ من استطاع سبيلًا أن يبادر إلى هذا السفر و ليؤدّي فريضة الحجّ متشرّفاً برفقة رسول الله، و واجباً عليه‌

    1. الآيات ٢۷ إلي ٢٩، من السورة ٢٢: الحجّ.
    2. تفسير «مجمع البيان» طبعة صيدا، ج ٤، ص ۸۰.
    3. «الميزان» ج ۱٤، ص ٤۰٤.

معرفة الإمام ج٦

28
  • أن يتأهّب لذلك بأيّ نحو كان، و هكذا خرج مع رسول الله كلّ من كان مستطيعاً من أهل المدينة، إلّا العجزة و المرضى و من جاء من خارج المدينة مسافراً إليها.

  • يقول صاحب «السيرة الحلبيّة»: و عند خروجه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم للحجّ، أصاب الناس بالمدينة الجُدَرى (بضم الجيم و فتح الدال و بفتحهما) أو حصبة منعت كثيراً من الناس من الحجّ معه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.۱ و مع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلّا الله تعالى. قيل: كانوا أربعين ألفاً. و قيل: كانوا سبعين ألفاً. و قيل: كانوا تسعين ألفاً. و قيل: كانوا مائة ألف و أربعة عشر ألفاً. و قيل: و عشرين ألفاً. و قيل: كانوا أكثر من ذلك.٢

  • يقول مير خواند البَلْخِيّ: ساق رسول الله ما يقارب مائة بَدَنةَ هديه الخاصّ به، و أشعر إحداها و قلّدها بيده المباركة، و جعل عليها نَاجِيَةَ٣ بْنَ جُنْدُبْ، قال ناجية: سألت النبيّ عن إحدى الإبل إذا شارفت الموت؟!

  • قال: انحرها! و لطّخ قلّادتها بالدم، و أشعرها في صفحة سنامها

    1. و قد قال صلّى الله عليه‌‌ [و آله‌] و سلّم عند ذهابه: "عُمْرَةٌ في رَمَضَانَ تَعْدلُ حِجَّةً. أو قالَ: حِجَّةً مَعِي"، أي قال ذلك تطييباً لخواطر من تخلّف، و صوّب بعضهم أنّ هذا إنّما قاله صلّى الله عليه‌‌ [و آله‌] و سلّم بعد رجوعه؛ أي إلى المدينة. قاله لُامّ سنان الأنصاريّة، لمّا قال لها: ما منعك أن تكوني حججت معنا، و قالت: لنا ناضحان. حجّ أبو فلان، تعني زوجها، و ولدها على أحدهما، و كان الآخر نسقي عليه أرضاً لنا! و قال ذلك أيضاً لغيرها من النسوة. قاله لأمِّ سليم، و امّ طَلْق و امّ الهيثم.( «السيرة الحلبية» طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣، ج ٣، ص ٢۸٩.)
    2. نفس المصدر.
    3. في المصدر «ناحية»، و قد صحّحه المؤلّف- انظر «تنقيح المقال» للمامقانيّ، ج ٣، ص ٢٦٥.(م)

معرفة الإمام ج٦

29
  • الأيمن. و ليس لك و لأيّ من رفقائك أن تأكلوا منها. و كان صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أجلس فَاطِمَة عليها السلام و جميع امّهات المؤمنين في الهوادج، و قد خصّصهن بشرف المرافقة. و في رواية كان في ركابه السماويّ مائة ألف و أربعة عشر ألفاً.۱

  • و يقول المؤرّخ الشهير خواند مير غياث الدين الحسينيّ: كان معه في ذلك السفر سَيِّدَةُ النِّساء فاطمة الزهراء و امَّهات المؤمنين، كلّهن في الهوادج، و سعد بالتلبية معه مائة ألف و أربعة عشر ألفاً في رواية، و في قول: مائة و أربعة و عشرون ألفاً.٢

  • أسماء آخر حجّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • و قيل لهذه الحجّة: حِجَّةُ البَلَاغ، وَ حِجَّةُ الإسلَامِ، وَ حِجَّةُ الوَدَاعِ،٣ و حِجَّةُ التَّمامِ، وَ حِجَّةُ الكَمَالِ.٤

  • أمّا حِجَّة البَلَاغ فلأنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يقول في خطبه التي كان يلقيها على المسلمين و يستشهد الله عليها. اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟!٥

  • و أمّا حِجَّةُ الإسلام فلأنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بيّن للمسلمين فيها أحكام الحجّ وفقاً للتعاليم الإسلاميّة، و عيَّن حدود عَرَفات و المَشعر، و مِنى، و بيّن وجوب الإفاضة و التحرّك من عرفات ليلة عيد الأضحى، بعد ما

    1. «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة بالقطع الرحليّ، ج ٢، في أوّل قصّة حجّة الوداع.
    2. «حبيب السِّيَر» طبعة حيدري، ج ۱، ص ٤۰٩.
    3. «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢۸۸.
    4. «السيرة» للسيّد أحمد زَيْنِي دَحْلان، ج ٣، ص ۱ في هامش «السيرة الحلبيّة».
    5. يقول المرحوم العلّامة الأمينيّ في الجزء الأوّل من «الغدير» هامش ص ٩: الذي نظنّه «و ظنّ الألمعيّ يقين» أنّ الوجه في تسمية حجّة الوداع بالبلاغ هو نزول قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الآية)، كما أنّ الوجه في تسميتها بالتمام و الكمال هو نزول قوله سبحانه:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (الآية).

معرفة الإمام ج٦

30
  • كان المشركون قد نسخوه لقريش؛ و أعاد الحجّ إلى وقته الحقيقيّ؛ و تطرّق إلى التأخير، و هو النسي‌ء المفضي إلى زيادة في الكفر، و تحدّث عنه بالتفصيل مستدّلًا بالآية الكريمة؛ و اعتبر السعي بين الصفا و المروة من شعائر الله؛ و قد سعى هو نفسه. و وضّح الآداب الاخرى للحجّ كالطواف و الصلاة، و وجوب حجّ التمتّع لمن كانت بيوتهم بعيدة عن مكّة، و وضّحه بشكل خاصّ، مع التأكيد على بقاء ذلك الوجوب حتّى يوم القيامة. و تحدّث عن كلّ ذلك على جبل المروة مفصّلًا بعد نزول جبرائيل بالوحي الإلهي.

  • و أمّا حِجَّةُ الوَدَاع فلأنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم ودّع المسلمين ضمن الخطب التي كان يلقيها عليهم؛ و قد تحقّق هذا التوديع بوفاته بعد برهة وجيزة، كانت سبعين يوماً بعد غدير خمّ، و ثمانين يوماً بعد خطبته في عرفات و مِنى؛ ودّع الناس و أوصاهم بكتاب الله: القرآن الكريم، و عترته: أهل بيته، و أنهما لا يفترقان، و هما ثقلان لا يضلّ مَن تمسّك بهما.

  • و أمّا حِجَّة۱ التَّمام و الإكمال فلنزول الآية التي تصرّح بإكمال الدين و إتمام النعمة بعد خطبته صلّى الله عليه و آله و سلّم التي أتحف بها الناس يوم غدير خمّ، و للّه الحمد حيث كمل الدين و تمّت نعمة الله على عباده.

  • خروج أمير المؤمنين عليه السلام من إليمن إلى مكّة للحجّ‌

  • و من الطبيعيّ أنه لا بدّ أن يُعلم بأنّ الحشد الغفير الذي تحرّك مع رسول الله من مكّة كان مركّباً من أهل المدينة خاصّة و القرى المجاورة لها؛ و ازداد عددهم بمن جاء من سائر الأماكن كاليمن. و جاء أمير المؤمنين‌

    1. حِجَّة الوداع و حجّة الإسلام- بكسر الحاء- تدل على الهيئة. و ما هو مشهور على ألسنة الناس أنها بفتح الحاء، فهي تدلّ على المرّة، و أنها خطأ شائع.

معرفة الإمام ج٦

31
  • عليه السلام مع أبي موسى الأشعريّ‌۱ من اليمن، و التحقا برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مكّة.

  • و توضيح ذلك: أنّ رسول الله بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن، يدعوهم إلى الإسلام. فأقام خالد مع جيشه ستّة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه.٢

  • إلى أن بعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام إليهم مع ثلاثمائة نفر، و عقد له لواءً، و عمّمه بعمامة لها ثلاث ذوائب معلّقة من طرفين، من الأمام بمقدار ذراع، و من الخلف بمقدار شبر؛٣ و قال له: إذا بلغت ذلك المكان فاعقل خالداً! فإن أراد أحد ممّن كان مع خالد أن يعقب معه فاتركه. و لا تبدأ أهل اليمن بقتال إلّا إذا بدءوك به!

  • و كان هذا أوّل جيش يدخل بلاد مَذْحِجْ على هذا النسق من ناحية نَجْرَان.٤ و فرّق أمير المؤمنين عليه السلام الجيش لأخذ الخمس و الغنائم، و جمع مقداراً من الغنائم، و استخلف على الغنائم بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْب الأسْلَمِيّ؛٥ ثمّ دعاهم إلى الإسلام؛ فأبوا، و بدءوا بالرمي و قذف الحجارة.

    1. «سيرة زيني دحلان» في هامش «السيرة الحلبيّة»، ج ٣، ص ٤.
    2. «البداية و النهاية» طبعة مصر، مطبعة السعادة، سنة ۱٣٥۱ هـ، ج ٥، ص ۱۰٥.
    3. «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة ج ٢، وقائع السنة العاشرة للهجرة، ذكر توجّه أمير المؤمنين و ترجمته؛ و «حبيب السِّيَر» طبعة الحيدريّ، ج ۱، ص ٤۰۸.
    4. جاء في «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، سنة ۱٣۸٣ هـ، مطبعة المدني، ج ٤، ص ۱۰٩ قوله: وَ بَعَثَ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ رضوان الله عليه إلَى أهْلِ نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ صَدَقَتَهُمْ، وَ يَقْدم عَلَيهِ بِجِزْيَتِهِمْ. و ذكر الطبريّ هذه العبارة بتفاوت يسير في اللفظ في تأريخه، ج ٣، طبعة دار المعارف بمصر الطبعة الثانية، ص ۱٤۷. و «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ٢٣٢ و ٢٣٣.
    5. بُرَيْدَة بن حُصَيْب الأسلميّ، رئيس وفد طائفة أسلم الذين وفدوا على النبيّ. «تاريخ اليعقوبيّ» طبعة بيروت، سنة ۱٣۷٩ هـ، ج ٢، ۷٩.

معرفة الإمام ج٦

32
  • فنظّم الإمام جيشه، و سلّم مَسْعُود بن سَنَان السُّلَّمِيّ لواءه؛ و حمل عليهم فقتل منهم عشريناً و هزم الباقين.

  • و لم يلاحق الفارّين، بل دعاهم إلى الإسلام، فأجابوا مسرعين و بايعوه. و أسلمت قبيلة هَمْدان بدون قتال، و استجابت كلّها بمجرّد أن قرأ عليهم أمير المؤمنين كتاب رسول الله.

  • و كتب الإمام إلى رسول الله في إسلام هَمْدان. فلمّا بلغه ذلك سجد للّه شكراً و قال ثلاثاً: السَّلَامُ على هَمْدان؛ ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام عقيب إسلام قبيلة هَمْدان.۱

  • ثمّ أقرع أمير المؤمنين عليه السلام لأخذ الخمس من الغنائم؛ و هكذا قسّمت الغنائم إلى خمسة أقسام. و كتب على سهم أنه سَهْم الله. و لمّا أقرع، كان سهم الخمس أوّل ما خرج من السهام، فختمه الإمام ليوصله إلى النبيّ؛ ثمّ وزّع بقيّة الغنائم و هي أربعة أخماس بين أصحابه و جنوده.

  • و جاء في «الإرشاد» للمفيد، و «علل الشرائع» للصدوق أو «التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ»: كاتب [رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌] أمير المؤمنين عليه السلام بالتوجّه إلى الحجّ من اليمن. و لم يذكر له نوع الحجّ الذي قد عزم عليه ٢

  • و قسّم عليّ [عليه السلام‌] على أصحابه بقيّة المغنم، ثمّ قفل [راجعاً من اليمن مع عسكره و سهم الخُمس من الغنيمة قاصدين مكّة، فأحرموا في‌

    1. «الكامل في التاريخ» طبعة بيروت سنة ۱٣۸٥ هـ، لابن الأثير، ج ٢ ص ٣۰۰؛ و «الإرشاد» للمفيد، الطبعة الحجريّة، ص ٣٣؛ و «إعلام الوري» طبعة المطبعة الحيدريّ، طهران، ص ۱٣۷.
    2. «بحار الأنوار» طبعة كمباني، ج ٦، ص ٦٦٣.

معرفة الإمام ج٦

33
  • الطريق‌] فوافى النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم بمكّة.۱

  • و كانت حركة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من المدينة بعد صلاة الظهر يوم السبت الخامس و العشرين من ذي القعدة؛ لأنّه- وفقاً للروايات الكثيرة- تحرّك لِخَمْسٍ بَقينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.٢ هذا أوّلًا، و ثانياً: من الثابت أنّ اليوم الأوّل من شهر ذي الحجّة كان يوم الخميس، لإجماعهم على أنّ يوم عرفة الذي خطب فيه رسول الله على جبل عرفات كان يوم الجمعة على نحو اليقين؛ لذلك فإنّ الأيّام الخمسة الباقية ليوم الخميس و هو الأوّل من ذي الحجّة تدلّ على أنه سيكون يوم السبت. و غاية الأمر أنه لا يمكن أن يكون شهر ذي القعدة ثلاثين يوماً و ذلك أنّ يوم السبت سيكون اليوم السادس و العشرين، و في روايات أنه اليوم الخامس و العشرون. و لا يمكن أن نقول إنّ خروج رسول الله من المدينة كان يوم الجمعة. لأنّ الروايات المأثورة عن أنس بن مالك تفيد أنه صلّى الله عليه و آله و سلّم صلّى الظهر بالمدينة أربعاً.٣ و لمّا كانت صلاة الظهر يوم الجمعة تقام مع الخطبتين، لذلك لا يمكن أن تكون أربع ركعات؛ و من جهة اخرى، لا يمكن أن يكون خروج رسول الله في يوم الخميس، لأنّه في مثل هذه الحالة ستبقى ستّ ليال من شهر ذي القعدة، لا خمس؛ و أمّا يوم السبت‌

    1. «الطبقات الكبرى» لابن سعد، طبعة دار بيروت سنة ۱٤۰٥ هـ، ج ٢، ص ۱٦٩ و ۱۷۰.
    2. «تاريخ الطبريّ» طبعة مصر، مطبعة دار المعارف، ج ٣، ص ۱٤۸؛ و «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، ۱٣۸٣ هـ، ج ٤، ص ۱۰٢۰؛ و «الطبقات» لابن سعد، طبعة دار بيروت، ج ٢، ص ۱۷٣؛ و «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣، ج ٣، ص ٢۸٩؛ و «البداية و النهاية» طبعة مصر، مطبعة السعادة، سنة ۱٣٥۱ الطبعة الاولى، ج ٥، ص ۱۱۱.
    3. «البداية و النهاية» طبعة مصر الاولى، سنة ۱٣٥۱ هـ، ج ٥، ص ۱۱۱. عن البخاريّ و مسلم و النسائيّ، عن أبي قلابة، عن أنس؛ و عن أحمد، عن إبراهيم بن ميسرة، عن أنس.

معرفة الإمام ج٦

34
  • فقط فإنّه يدلّ على أنّ خمسة أيّام بقيت لآخر الشهر.

  • كيفيّة إحرام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • و اغتسل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و مشّط شعره، و ادّهن و لبس إزاره و ردائه. و تحرّك بعد صلاة الظهر نحو (ذي الحُلَيفة) على بعد فرسخ واحد عن المدينة، و صلّى العصر هناك قصراً، و استخلف على المدينة أبَا دُجَانة سِماك بن خَرَشَة الساعِدِيّ أو سِبَاع بن عُرفُطَة الغِفَارِيّ.۱

  • و أحرمت فاطمة الزهراء عليها السلام مع نساء النبيّ في ذي الحُلَيفة؛ و لبّين من هناك؛ و لمّا كان هذا الحجّ حجّ إفراد، و لم يجلبن معهنّ الهَدْي (بعيراً، أو بقرة أو شاة) لذلك كان عقد إحرامهن بالتلبية، ثمّ جلسن في الهوادج، و عز من على الرحيل. و كانت نساء النبيّ التسع كلهنّ حاضرات في ذلك السفر.

  • غير أنّ رسول الله جلب معه الهَدْي و هو عبارة عن مائة من الإبل، أو ستّ و ستّين، أو أربع و ستّين، أو ثلاث و ستّين. فيكون المجموع مائة مع الهدي الذي جلبه أمير المؤمنين عليه السلام من اليمن، و مقداره ثلاثون و نيف.

  • و قد أشعر رسول الله إحدى هذه الإبل التي جلبها معه و قلّدها بيده الكريمة في ذي الحُلَيفة.٢ و تولّى إشعار بقيّة الهدي و تقليده غيره. و صار عقد حجّه، و هو حجّ القران، بالإشعار و التقليد. ثمّ ركب راحلته 

    1. «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، ۱٣۸٣ هـ، ج ٤، ص ۱۰٢۰؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۱۰؛ و «سيرة زيني دحلان» طبعة مصر، محمّد على صبيح، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٣.
    2. الإشعار هو عبارة عن طعن البدنة في سنامها الأيمن و يلطّخونها بالدم بحيث يجري الدم على جانب السنام ليعرف أنها هدي مسوق إلي مكّة. و التقليد هو أن يجعل في عنق البدنة أو البقرة أو الشاة خَلق نعل صلّى بها الإنسان فيُعلَم أنها هدي.

معرفة الإمام ج٦

35
  • «القصواء» و انطلق فلمّا استوت على البيداء، أهلّ:۱ "لَبَّيْكَ! اللهُمَّ لَبَّيْك! لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك! إنَّ الْحَمْدَ وَ النِّعْمَةَ لَكَ وَ الْمُلْك! لَا شَرِيكَ لَكَ!"٢

  • و في ذي الحُلَيْفة ولدت أسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْس٣ محمّداً من زوجها أبي بكر.٤ و أرسلت إلى رسول الله تطلب منه أن يخبرها ما ذا تفعل. فأمر رسول الله أن تحرم و تلبّى! بعد ما تحشو بنحو قطن و تربط طرفى تلك الخرقة بشى‌ء تشدّه في وسطها، و تحرم.٥

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۱۷ إلى ۱٢۰.
    2. «فروع الكافي» طبعة الحيدري- طهران، ج ٤، ص ٢٥۰؛ و «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢٩٢؛ و «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة في ضمن بيان حجّة الوداع، ج ٢.
    3. أسماء بِنتُ عُمَيْس الخثعَميّة من النساء العظيمات و المكرّمات في الإسلام. و هي اخت ميمونة زوج النبيّ. تزوّجها جعفر بن أبي طالب عليه السلام في السنة الثانية للهجرة. و في هجرتها معه إلى الحبشة ولدت له عبد الله، و عَوْناً، و مُحَمّداً. و في السنة السابعة رجعت معه إلى المدينة. استشهد جعفر في موقعة مؤتة سنة ۸ هـ فتزوّجها أبو بكر و ولدت له محمّداً. ثمّ مات عنها، فتزوّجها أمير المؤمنين عليه السلام فولدت له يحيى.(ابن عَبْد البرّ في «الاستيعاب» طبعة مكتبة النهضة- مصر، ج ٤ ص ۱۷۸٥). و في ج ٤ ص ۱۸٩۷ منه يقول ضمن ترجمة فاطمة بنت رسول الله عليهما السلام: أوصت فاطمة عليها السلام أسماء قائلة: إذا أنا متُّ فاغسليني أنتِ و عَلِيّ! و لا تُدخلي عَلِيّ أحداً. فلمّا توفّيت، جاءت عائشة تدخل، فقالت أسماء: لا تدخلي. فشكت إلى أبي بكر، فقالت: إنّ هذه الخثعميّة تحول بيننا و بين بنت رسول الله. فجاء أبو بكر فوقف على الباب، فقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبيّ أن يدخلن على بنت رسول الله؟! فقالت: أمرتني أن لا يدخل عليها أحد. فقال أبو بكر: اصنعي ما أمرتك. ثمّ انصرف. فغسّلها عليّ عليه السلام و أسماء.
    4. ينقل في «بحار الأنوار» طبعة كمباني، ج ٦، ص ٦٦٢. روايتين في هذا الموضوع عن «الكافي». و في ص ٦٦٥ من «إعلام الورى» أيضاً.
    5. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٢؛ و «حبيب السِّيَر» ج ۱، ص ٤۰٩؛ و «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة ج ٢. ضمن بيان حجّة الوداع.

معرفة الإمام ج٦

36
  • قال الإمام الصادق عليه السلام: و كان في ولادتها البركة للنساء لمن ولدت منهنّ أو طمثت ...، يعملن بما أمر به رسول الله و يحرمن من غير قدح في حجّهن.۱

  • دخلت أسماء مكّة على تلك الحالة. و لمّا انقضى نفاسها و الدم لم ينقطع بعد، ... «فأمرها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن تطوف بالبيت و تصلّى و لم ينقطع عنها الدَّم، ففعلت ذلك».٢

  • كيفيّة حركة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في سفر حجّة الوداع‌

  • أجل، لقد توقّف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم تلك الليلة في ذي الحليفة لأجل أسماء.٣ و تحرّك في صباحها و معه المسلمون. و ما أروعه من منظر! جميع المسلمين يحيطون بنبيّهم العظيم من كلّ جهة مغتسلين محرمين، وهم ما بين فارس و راجل، تراهم على امتداد البصر في تلك البيداء الشاسعة، و يصل نداء التلبية إلى الأسماع من كلّ جهة. و القلوب تعرج هائمة والهة عشقاً لجذبات ذلك الاسم الإلهيّ الأعظم. و ها هو رسول الله يبعث الحياة في امّته و ينفخ فيها الروح بجذبة إلهيّة مغناطيسيّة، و قد عبّأ تلك الجموع و هم حفاة مكشوفي الرأس في ذلك الوادي الفسيح، و دفعها لتذوب في حبّ محبوبها الأزليّ و بارئها السرمديّ، و الكلّ يردّد بخشوع: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْك! لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك.

  • يقول أبو الفرج بن الجوزيّ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه [عليهما السلام‌] قال: قلت لجَابِرِ بنِ عَبدِاللهِ [الأنْصَارِيّ‌]: أخبرني عن حجّة

    1. «فروع الكافي» طبعة مطبعة الحيدري- طهران، ج ٤، ص ٤٤٤ عن الصادق عليه السلام.
    2. .«المصدر السابق»، ص ٤٤٩، عن الباقر عليه السلام.
    3. «إعلام الوري» طبعة مطبعة الحيدري- طهران. ص ۱٣۷.

معرفة الإمام ج٦

37
  • رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.

  • فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم مكث تسع سنين لم يحجّ، ثمّ اذِّنَ في السنة العاشرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم حاجّ. فقدم المدينة بشر كثيرون، و كلّ يريد أن يأتمّ برسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، و يعمل مثل عمله.

  • [يقول جابر]: فخرجنا معه حتّى أتينا ذا الحُلَيْفَة، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم في المسجد، ثمّ ركب القصواء. حتّى استوت به ناقته على البيداء، نظرتُ إلى مدّ بصري بين يديه، بين راكب و ماشٍ، و عن يمينه مثل ذلك، و عن يساره مثل ذلك، و من خلفه مثل ذلك.

  • فأهلّ بالتوحيد «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْك، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْك، إنَّ الحَمْدَ وَ النِّعْمَةَ لَكَ وَ المُلْك لَا شَرِيكَ لَك».۱

  • و نجد ذلك الرجل العظيم الحاكم على القلوب، و المسيطر على الأفئدة و المهيمن على الأرواح قد جمع تلك الكتل البشريّة حوله كالفراش المبثوث، و جعلها تحترق كالشمع هائمة في عشق الجمال الأزلي، و هو صلّى الله عليه و آله و سلّم على ناقة قصواء ليس عليها إلّا رحل رثّ بالٍ و معه قطيفة قد بليت أليافها لقدمها، و لا أدري هل تساوي أربعة دراهم أو لا؟

  • و نقل ابن كثير الدمشقيّ، عن الحافظ أبي بكر البزّار بسنده عن أنس قال: إنَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِه‌] وَ سَلَّمَ حَجَّ على رَحْلٍ رَثٍّ وَ تَحْتَهُ‌

    1. «الوفاء بأحوال المصطفي» طبعة مطبعة الكيلانيّ، مصر، ج ٢، ص ٢۰٩؛ و «الطبقات» لابن سعد، طبعة دار صادر، بيروت، ج ٢، ص ۱۷۷؛ و «الكافي» الفروع، مطبعة الحيدري، طهران. ج ٤، ص ٢٥۰.

معرفة الإمام ج٦

38
  • قَطيفَةٌ، وَ قَالَ: "حِجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَ لَا سُمْعَةُ".۱

  • و ذكر الحافظ أبو يعَلى الموصليّ، في مسنده من وجه آخر عن أنس [بن مالك‌] قال: حَجَّ رَسُولُ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِه‌] وَ سَلَّمَ على رَحْلٍ رَثٍّ وَ قَطِيفَةٍ تُسَاوي- أو لَا تُسَاوِي- أرْبعة دَرَاهِمَ، فَقَالَ: «اللهُمَّ حِجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا».٢

  • و ينبغي أن يعلم أنّ رسول الله الذي يحجّ على رحل رثّ و قطيفة لا قيمة لها يسوق معه مائة من الإبل للهَدي في سبيل الله و إطعام المساكين و المعوزين، و ينحرها كلّها، و يقسّمها على الفقراء و المحتاجين؛ و يأمر أمير المؤمنين أن لا يهب جلودها و جلالها القصّاب! و أن ينفقها جميعها في سبيل الله! فهو قدوتنا و اسوتنا.

  • {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.٣

  • و أمّا أهل الثراء الذين يحجّون منّا فإنّهم لا ينحرون أكثر من شاة واحدة في مِنى؛ و لا أتذكّر أنّ أحداً منّا قد نحر بعيراً هناك، و لم أسمع بذلك؛ مع أنّ مصاريف الذهاب و الإياب باهظة، و الثروة طائلة أيضاً.

  • اعتراض عائشة على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • جاء في «السيرة الحلبيّة» عن بعضهم أنّ في هذه الحجّة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفّة حمل عائشة. و كان جمل صفيّة [إحدى زوجات النبيّ‌] بطي‌ء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخّر الركب‌

    1. ۱ و ٢- «البداية و النهاية» طبعة مصر، مطبعة السعادة، سنة ۱٣٥۱ هـ، ص ۱۱٢ و ۱۱٣ و ذكرهما عليّ بن برهان الدين الحلبيّ؛ الشافعيّ في «السيرة الحلبيّة» طبعة محمّد على صبيح بمصر، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢٩۰؛ و كذلك ذكرهما ابن سعد في «الطبقات الكبرى» ج ٢، ص ۱۷۷.
    2. الآية ٢۱، من السورة ٣٣: الأحزاب

معرفة الإمام ج٦

39
  • بسبب ذلك.

  • فأمر صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم أن يجعل حمل صفيّة على جمل عائشة، و أن يجعل حمل عائشة على جمل صفيّة. فجاء صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها، فقال لها: يَا امَّ عَبْدِ اللهِ! حملك خفيف و جملك سريع المشي، و حمل صفيّة ثقيل و جملها بطي‌ء فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها و حملها على جملك ليسير الركب!

  • فقالت له: إنّك تزعم أنك رسول الله؟!

  • فقال صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: أ في شكّ أني رسول الله أنتِ يَا امَّ عَبْدِ اللهِ؟!

  • قالت: فما لك لا تعدل؟!

  • قالت: فكان عند أبي «أبي بكر» حدّة، فلطمني على وجهي، فلامه رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم!

  • فقال: أ ما سمعت ما قالت؟!

  • فقال: دَعْهَا فَإنَّ المَرْأةَ الغَيْرَاءَ لَا تَعْرِف أعْلَى الوَادِي مِنْ أسْفَلِهِ.۱

  • و عن أحمد بن حنبل بإسناده أنّ أسْمَاء بِنْتِ إبي بَكْرِ قالت: خرجنا مع النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم حجّاجاً حتّى أدركنا بالعرج، نزل رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و جلست إلى جنب أبي، و كانت زمالة٢ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و زمالة أبي بكر واحدة مع غلام 

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٣.
    2. الدّابة من الإبل يحمل عليها (المنجد).

معرفة الإمام ج٦

40
  • أبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه فطلع عليه و ليس معه بعيره‌

  • فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة: فقال أبو بكر: بعير واحد تضلّه؟ فطفق يضربه و رسول الله صلّى عليه [و آله‌] و سلّم يبتسم و يقول: «انظروا إلى هذا المحرم و ما يصنع!».۱

  • فلمّا بلغ بعض الصحابة أنّ زاملة رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم ضلّت، جاء بحيْس [طعام يعدّونه من الدقيق و الدهن و التمر] و وضعه بين يديه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فقال صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم لأبي بكر و هو يغتاظ على الغلام: هوّن عليك يا أبا بكر! فإنّ الأمر ليس لك و لا إلينا. و قد كان الغلام حريصاً على أن لا يضلّ بعيره، و هذا غذاء طيّب قد جاء الله به و هو خلف عمّا كان معه.

  • فأكل صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و أبو بكر و من كان يأكل معهما حتّى شبعوا. فأقبل صَفْوَانُ بنُ الْمُعَطِّل و كان على ساقة القوم و البعير معه و عليه الزاملة، حتّى أناخه على باب منزله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم لأبي بكر: أنظر هل تفقد شيئاً من متاعك؟ فقال: ما فقدتُ شيئاً إلّا قعْباً كنّا نشرب فيه! فقال الغلام: هذا القعْبُ معي.

  • و لمّا بلغ سعد بن عُبادة و ابنه قيس أنّ زاملته صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قد ضلّت، جاءا بزاملة و قالا؛ أي كلّ واحد منهما: يَا رَسُولَ اللهِ؛ بلغنا أنّ زاملتك ضلّت الغداة، و هذه زاملة مكانها. فقال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: قد جاء الله بزاملتنا، فارجعا بزاملتكما بارك الله لكما.٢

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۱٣.
    2. «السيرة الحلبيّة» طبعة محمّد على صبيح بمصر، سنة ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢٩٣.

معرفة الإمام ج٦

41
  • الاماكن التي قطعها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في سفر الحجّ‌

  • يقول المقريزيّ: أصبح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يوم‌ الأحد بـ (يَلَمْلَمْ)،۱ ثمّ راح فتعشّى بـ (شَرَف السَّيَالةَ)، و صلّى هناك المغرب و العشاء. ثمّ صلّى الصبح بـ (عِرْقَ الظبْيَة)، ثمّ نزل (الرَّوْحَاء)، ثمّ سار من (الرَّوْحاء) فصلّى العصر بـ (الْمُنْصَرَف). و صلّى المغرب و العشاء بـ (المُتَعَشَّى)، و تعشّى به. و صلّى الصبح بـ (الأثَايَة)، و أصبح يوم الثلاثاء بـ (العَرْج)، و احتجم بـ (لحي جمل)٢ «و هو عقبة الجُحْفَة»، و نزل (السُّقيَا) يوم الأربعاء. و أصبح بـ (الأبْوَاء)، و صلّى هناك، ثمّ راح من (الأبواء) و نزل يوم الجمعة (الْجُحْفَة)، و منها إلى قُدَيْد و سبت فيه، و كان يوم الأحد بـ (عُسْفَان). ثمّ سار فلمّا كان بـ (الغَمِيمِ)، اعترض المشاة فصفّوا صفوفاً، فشكوا إليه المشي، فقال: استعينوا بالنَّسَلان (مشي سريع دون العدو) ففعلوا، 

    1. يَلَمْلَمْ خطأ و الصحيح يَلْيَل، و ذلك كما قال صاحب «معجم البلدان» يَلَمْلَمْ موضع على ليلتين من مكّة، و هو ميقات أهل اليمن، و يَلْيَل اسم قرية قرب وادي الصفراء من أعمال المدينة. شَرَفُ السيَّالَة بين مَلَلْ و الرَوْحَاء. و عِرْقُ الظُّبَية موضع بين مكّة و المدينة. و مُنْصَرَف موضع بين مكّة و بَدْر بينهما أربعة برد. و أثاية موضع في طريق الْجُحْفَةَ بينه و بين المدينة خمسة و عشرون فرسخاً؛ و العَرْج عقبة بين مكّة و المدينة على جادّة الحاجّ، تذكر مع السُّقْيا. و الْجُحْفَة قرية كبيرة ذات منبر على طريق المدينة من مكّة على أربع مراحل ... و بينها و بين المدينة ستّ مراحل؛ و بينها و بين غدير خمّ ميلان. و السُقيا قرية من أعمال فُرْع بينهما و بين الجُحْفَة تسَعة عشر ميلًا. و الأبْوَاء قرية من أعمال ألْفُرع من المدينة بينها و بين الجحفة ممّا يلي المدينة ثلاثة و عشرون ميلًا. و قُدَيْد اسم موضع قرب مكّة. و العسْفَانْ على مرحلتين من مكّة على طريق المدينة و الجُحفة على ثلاث مراحل. و الغَمِيْمِ و كُراعُ الغُمَيم موضع بين مكّة و المدينة يقع بين رابِغ. و الجُحفة؛ و الظَّهران واد قرب مكّة و عنده قرية يقال لها: مَرّ، تضاف إلي هذا الوادي فيقال: مَرُّ الظَّهْرَان؛ و سَرِفْ موضع على ستّة أميال من مكّة.(«معجم البلدان» حسب الترتيب الهجائيّ). و المُتَعَشَّي ليس موضعاً كما يبدو، بل هو اسم مكان من الفعل تَعَشَّي، أي: المكان الذي يؤكل فيه العشاء.
    2. الحِجَام: شي‌ء يوضع على فم الجمل حتّي لا يعضّ و لا يهيج.

معرفة الإمام ج٦

42
  • فوجدوا لذلك راحة. و كان يوم الأثنين بـ (مَرّ الظَّهْران)، فلم يبرح حتّى أمسى و غربت‌ له الشمس بـ (سَرِف). فلم يصلّ المغرب حتّى دخل مكّة، و لمّا انتهى إلى الثَّنِيَّتَيْن، بات بينهما فدخل مكّة نهار الثلاثاء.۱

  • و جاء في «الطبقات» لابن سعد أيضاً: و كان يوم الاثنين بمَرّ الظَّهْران فغربت له الشمس بسِرف، ثمّ أصبح فاغتسل، و دخل مكّة نهاراً.٢ و نحن نعلم طبعاً أنه لمّا كان يوم الخميس هو الأوّل من ذي الحجّة، فإنّ دخوله مكّة سيكون يوم الثلاثاء السادس من ذي الحجّة.

  • فلمّا كان [رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌] بِسَرِف [على بعد ستّة أميال عن مكّة] أمر الناس أن يحلّوا بعمرة [أن يحوّلوا نيّتهم عن الحجّ إلى العمرة] و يلبّوا بنيّة العمرة؛ و يعتمروا إذا دخلوا مكّة إلّا من ساق الهدي [أضحية، سواء كانت من الإبل أو من البقر أو من الضأن، فإنّهم يظلّون على نيّة الحجّ، ليوصلوا هَدْيهم إلى محلّه بمِنى. و ينحرونه هناك‌]، و كان رسول الله صلّى الله عليه [و آله و سلّم‌] قد ساق الهدي و ناس معه.٣

  • و عملًا بأمر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقد استبدلت فاطمة الزهراء عليها السلام و المؤمنات، و أزواج النبيّ التسع نيّة حجّ الإفراد بالعمرة، و لبّين جميعهنّ بهذه النيّة؛ و لبّت عائشة أيضاً بقصد العمرة، و حاضت في سَرِف؛ و من المعلوم أنّ الحائض لا تستطيع أن تدخل 

    1. «الغدير» الطبعة الثانية، دار الكتب الإسلاميّة، سنة ۱٣۷٢ هـ، ج ۱، ص ٩ و ۱۰ عن امتاع المقريزيّ، ص ٥۱٣ إلي ٥۱۷.
    2. «الطبقات» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۷٣؛ و «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، سنة ۱٣۸٣ هـ، ج ٤، ص ۱۰٢۰.
    3. «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، ج ٢، ص ٣۰٢؛ و «سيرة ابن هشام»، ج ٤، ص ۱۰٢۰. و اللفظ للأوّل.

معرفة الإمام ج٦

43
  • المسجد الحرام، و تطوف، و تصلّى، بينما تستلزم العمرة طوافاً و صلاة و دخولًا في المسجد.

  • تقول عائشة: دخل على رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و أنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة ... لعلّك نفستِ؟! أي حضت، قلتُ: نعم! و الله لوددتُ أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر!

  • قال: لا تقولنّ ذلك! فهذا شى‌ء كتبه الله على بنات آدم ... إنّما أنتِ امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب الله عليهنّ! أهلّي بالحجّ! و في رواية ارفضي عمرتك! أي لا تشرعي في شى‌ء من أعمالها و أحرمي بالحجّ فإنّك تقضين كلّ ما يقضي الحاجّ، أي تفعلين كلّ ما يفعل الحاجّ و أنت حائض إلّا أنك لا تطوفين بالبيت.۱

  • تقول عائشة: ففعلت ذلك؛ أي أدخلتُ الحجّ على العمرة و وقفتُ المواقف و دخلت مكّة، لكنّي لم أدخل المسجد الحرام.

  • حكم المرأة الحائض في الحجّ‌

  • فوقفتْ بعرفة و هي حائض، حتّى إذا طَهُرَتْ، و ذلك يوم النحر، و قيل: عشيّة عرفة، طافت بالبيت و بالصفا و المروة؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قد حللتِ من حجّكِ‌٢ و عمرتك جميعاً.

  • هذا هو الحجّ الذي أدّته عائشة؛ حجّ إفراد ليس معه عمرة؛ بَيدَ أنّ الزهراء عليها السلام و أزواج النبيّ الاخريات، و المؤمنات اعتمرن عمرة 

    1. «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، محمّد على صبيح، ج ٤، ص ۱۰٢۰؛ و «البداية و النهاية» طبعة مصر سنة ۱٣٥۱ هـ، الطبعة الاولى، ج ٥، ص ۱٦٤؛ و «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر، محمّد على صبيح، سنة ۱٣٥٣ هـ، و اللفظ للأخير.
    2. نفس المصدر السابق

معرفة الإمام ج٦

44
  • مفردة فور دخولهنّ مكّة؛ ثمّ حللن من الإحرام، إلى يوم الثامن من‌ ذي الحجّة، و هو يوم التَّرْوية، حيث أحرمن للحجّ من مكّة، و لبّين بنيّة حجّ الإفراد و جئن إلى عرفات؛ و أدّين مناسك الحجّ في المشعر و منى، و طفن و سعين و صلّين في مكّة، و أتممن حجّهن، ثمّ حللن؛ و لذلك فقد أدّين في سفرهنّ هذا عمرة كاملة و حجّاً كاملًا يقال له: حجّ التمتّع.

  • و أتمّ رسول الله أيّام الحجّ، و عاد إلى مكّة بعد أيّام التشريق.

  • و لمّا نزل صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم بالمُحَصَّب‌۱ صلّى به الظهر و العصر و المغرب و العشاء و رقد رقدة، ثمّ إنّ عائشة قالت له: يا رسول الله؛ أرجعُ بحجّة ليس معها عمرة؟!

  • فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: اخرج باختك من الحرم، ثمّ افرغا من طوافكما حتّى تأتياني هاهنا بالمُحصّب! قالت: فقضى الله العمرة. و في لفظ: فاعتمرنا من التنعيم‌٢ مكان عمرتي التي فاتتني، و فرغنا من طوافها في جوف الليل. فأتيناه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم بالمحصّب.٣

  • فقال: فرغتما من طوافكما؟! قلنا: نعم!٤

    1. المُحَصَّب موضع فيما بين مكّة و مني، و هو إلي مني أقرب. و هو بطحاء مكّة، و هو خيف بني كنانة. و حدّه من الحَجون ذاهباً إلي مني.(«معجم البلدان»، باب الميم و الحاء و ما يليهما).
    2. التنعيم موضع بمكّة في الحلّ. و هو بين مكّة و سرِف على فرسخين من مكّة.(«معجم البلدان» باب التاء و النون و ما يليهما).
    3. جاء في «كامل التواريخ» ج ٥، ص ۱٦٤: أعمرها تطييباً لقلبها كما جاء مصرّحاً به في الحديث.
    4. «السيرة الحلبيّة»؛ ج ٣، ص ٣۰٦؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ٩٥؛ و «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢۰؛ و «تاريخ الطبريّ» طبعة دار المعارف، ج ٣، ص ۱٤۸؛ و «الطبقات» لابن سعد، طبعة دار صادر، بيروت، ج ٢، ص ۱۸٩، و اللفظ للأوّل.

معرفة الإمام ج٦

45
  • ثمّ نزل بذي طوى فبات بها تلك الليلة و صلّى بها الصبح أيّ بعد أن‌ اغتسل بها، ثمّ سار صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم [يوم الثلاثاء] و نزل بالمسلمين ظاهر مكّة. و دخل مكّة نهاراً، أي وقت الضُحى من الثَّنِيَّة العُلْيَا التي هي ثنيّة كَدَاء (بفتح الكاف و المدّ) قال أبو عبيدة: لا ينصرف و هي التي ينزل منه إلى المَعَلاة مقبرة مكّة، و هي التي يقال لها الآن: الحُجون التي دخل منها رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم يوم فتح مكّة كما تقدّم.

  • كبّر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند رؤيته بيت الله‌

  • و دخل المسجد الحرام صبحاً من باب عبد مناف، و هو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام. و كان صلّى الله عليه و آله و سلّم إذا أبصر البيت قال: رفع يديه و كبّر و قال: "اللهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ، وَ مِنْكَ السَّلَامُ، فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ! اللهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفاً وَ تَعْظِيماً، وَ مَهَابَةً وَ بِرَّاً، وَ زِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَ كَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفاً وَ تَكْرِيماً وَ تَعْظِيماً وَ بِرَّاً!". و في رواية: كان صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم إذا دخل مكّة فرأى البيت رفع يديه‌۱ و كبّر و قال‌: "اللهُمَّ أنْتَ السَّلَامُ، وَ مِنْكَ السَّلَامُ فَحِيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ"٢

  • طريقة طواف وسعي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • فعن جابر بن عبد الله [الأنصاريّ‌] رضي الله تعالى عنهما، قال: دخلنا مكّة عند ارتفاع الشمس، فأتى النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم باب المسجد، فأناخ راحلته، ثمّ دخل المسجد، فبدأ بالحَجَر الأسْوَد، فاستلمه و فاضت عيناه بالبكاء ... فلمّا فرغ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قبّل الحَجَرَ، 

    1. جاء في «تاريخ اليعقوبيّ» طبعة بيروت ۱٣۷٩ هـ، ج ٢، ص ۱۰٩؛ فلمّا رأي البيت رفع يديه فوق زمام ناقته و بدأ بالطواف قبل الصلاة.
    2. «سنن البيهقيّ» طبعة حيدرآباد الدكن، سنة ۱٣٥٢ هـ، الطبعة الاولي، ج ٥، ص ۷٣؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٤؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٥٢؛ و «الطبقات» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۷٣؛ و اللفظ لـ «السيرة الحلبيّة».

معرفة الإمام ج٦

46
  • و وضع يديه عليه، و مسح بهما وجهه.۱

  • و عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم سجد على الحجر.٢

  • و روى الشافعيّ، قال: استقبلَ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم الحجر فاستلمه، ثمّ وضع شفتيه عليه طويلًا. و كان صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم إذا استلمَ الحجر، قال:

  • بِسْمِ اللهِ وَ اللهُ أكْبَرُ ... وَ قالَ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ لعمر: "إنَّكَ رَجُلٌ قَوِيّ لَا تُزَاحِمْ على الْحَجَرِ (أي الأسْوَدَ) تُؤذِي الضَّعِيفَ، إن وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَ إلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَ هَلِّلْ وَ كَبِّرْ"٣

  • ثمّ بعد الطواف صلّى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم ركعتين عند مقام سيّدنا إبراهيم عليه الصّلاة و السلام ... قرأ فيهما مع امّ القرآن: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ‌، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. و دخل صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم زمزم، فنزع له دلو، فشرب منه، ثمّ مجّ فيه، ثمّ أفرغها في زمزم، ثمّ قال: لو لا أنّ الناس يتّخذونه نسكاً لنزعتُ ...

  • ثمّ رجع صلّى الله عليه و آله و سلّم، إلى الْحَجَرِ الأسْوَد فاستلمه، ثمّ خرج إلى الصَّفَا، و قرأ: {إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ‌ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ 

    1. «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۷٤؛ و «السيرة الحلبية» ج ٣، ص ٢٩٤؛ و «الكافي» الفروع، طبعة الحيدري، طهران، ج ٤: ص ٢٥۰.
    2. «المصدر السابق»، ص ۷٥؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٥٥.
    3. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٤؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٥٩ و اللفظ للأوّل و جاء في «البداية»: و إلَّا فَكَبِّرْ و امْضِ.

معرفة الإمام ج٦

47
  • عَلِيمٌ‌}.۱

  • ثمّ قال: أبْدَا بِمَا بَدَأ اللهُ.٢

  • و رقى الصفا حتّى بانت الكعبة، و استقبل الكعبة و قال ثلاثاً: "اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ"، ثمّ هلّل، ثمّ قال: "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَ يُمِيتُ، وَ هُوَ على كُلِّ شَي‌ءٍ قَدِيرٌ؛ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أنْجَزَ وَعْدَهُ، وَ نَصَرَ عَبْدَهُ، وَ هَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ". ثمّ دعا، و أعاد ما قاله من التكبير و التهليل و الدعاء حتّى بلغ ثلاثاً.

  • ثمّ نزل من الصفا، و سار نحو الْمَرْوَة إلى أن استقرّ به المقام في بطن (مَسيل)٣ فبدأ يسير رَملًا٤ إلى أن رقى من بطن «مسيل»، فسار ماشياً حتّى بلغ الْمَرْوَة.

  • رقى رسول الله من المروة حتّى بانت الكعبة فاستقبلها و فعل هناك كما فعل على الصفا من التكبير و التهليل و الدعاء؛ ثمّ سار نحو الصفا، فلمّا بلغ مكانه الأوّل- بطن مسيل- هرول حتّى خرج من المسيل و رقى الصفا، و بعد استقبال بيت الله و التكبير و التهليل و الدعاء كما في المرّة الاولى، نزل من الصفا، ثمّ رقى المروة على الكيفيّة التي كانت في المرّة الاولى من الهَرْوَلة و المشي في المواضع الخاصّة، و استقبل و دعا و كبّر. و استمرّ هذا 

    1. الآية ۱٥۸، من السورة ٢: البقرة.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٥؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦۰؛ و «الكافي» طبعة الحيدري، طهران، الفروع، ج ٤، ص ٢٤٩؛ و اللفظ للأوّل.
    3. موضع بين الصفا و المروة و يعرف بالمَسْعَي. و كان وادياً أيّام النبيّ، و قسم منه مسيل و سطحه أعمق من المواضع الاخري بين الصفا و المروة. و كانت هرولة رسول الله و رَمَله في بطن هذا المسيل.
    4. هرولة.

معرفة الإمام ج٦

48
  • السعى فبلغ سبعاً، و انتهى في الشوط السابع على جبل المروة.۱

  • انفصال الحجّ عن العمرة قبل حجّة الوداع‌

  • و ينبغي أن يعلم أنّ الحجّ و العمرة كانا عملين مستقلّين حتّى ذلك الحين. فالحجّ هو عبارة عن الإحرام من الميقات، و الوقوف في عرفات، و المشعر، و مناسك منى، و الطواف حول الكعبة، و السعي بين الصفا و المروة. و تجري هذه الأعمال في أشهر خاصّة. {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ}‌.٢ و من أحرم للحجّ في غير هذه الأشهر فحجّه باطل.

  • و العُمْرَة عبارة عن الإحرام من الميقات، و الطواف حول بيت الله الحرام، و الصلاة، و السعي بين الصفا و المروة، و الحَلْق أو التقصير. و ليس لهذه الأعمال وقت معيّن. بل هي في كلّ وقت من السنة، و ليس لها يوم أو ليلة معيّنة.

  • و لمّا كان الحجّ فريضة أوجبها الله على المسلمين لقوله: {وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.٣ لذلك يجب على كلّ متمكّن أن يحرم للحجّ في أحد أشهره: شَوَّال، وذي القعدة حتّى الثامن من ذي الحجّة. و يأتي عَرَفات ظهر يوم التاسع، و يؤدّي مناسك الحجّ.

  • و على كلّ من كان متمكّنا من العُمْرَة- طيلة السنة- أن يقوم بها في حينها، فيحرم من الميقات، و يأتي مكّة، و يعتمر. و من الطبيعيّ أنّ العمرة عمل يسير نوعاً ما نسبيّاً، لأنّ الإحرام من 

    1. «سنن البيهقيّ» طبعة حيدرآباد الدكن، سنة ۱٣٥٢ هـ، الطبعة الاولي، ج ٥، ص ٩٣ و ٩٤؛ و «السيرة الحلبية» ج ٣، ص ٢٩٥؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦۰؛ و «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة، ج ٢ ضمن ذكر حجّة الوداع؛ و «الوفاء بأحوال المصطفي» مطبعة الكيلانيّ بالقاهرة، ج ۱، ص ٢۰٩ و ٢۱۰.
    2. الآية ۱٩٦، من السورة ٢: البقرة.
    3. الآية ٩۷، من السورة ٣: آل عمران.

معرفة الإمام ج٦

49
  • الميقات، و دخول مكّة، و البقاء بالإحرام في مكّة لعدّة ساعات حتّى تتمّ العمرة ليس عملًا عسيراً إلى حدّ ما.

  • إلّا أنّ الحجّ عمل عسير جدّاً، لأنّ من يحرم للحجّ، ليس له أن يحلّ من إحرامه إلّا أن ينحر في منى يوم عيد الأضحى، و يحلق، و يطوف. و هذا يتطلّب وقتاً، و استمراراً في الإحرام مدّة مديدة. إذ كما نعلم أنّ من نوى الحجّ، فله أن يحرم من الميقات في الأوّل من شوّال و هو عيد الفطر، و يأتي مكّة؛ و بعد دخوله مكّة و طوافه، و صلاته، و سعيه، فليس له أن يحلق و يقصر، بل يبقى في لباس الإحرام. مبتعداً عن النساء، و عن كلّ مُحَرَّم. و يصبر على هذه الحالة حتّى تمضي عرفة و المشعر، و يحلّ يوم الأضحى؛ و له عند ذلك أن يحلّ من إحرامه، و يتمّ حلّه بالطواف في مكّة و لعلّه يبقى محرماً سبعين يوماً. و هذا عمل عسير جدّاً لا سيّما لمن كان مسافراً و في أجواء مكّة الحارّة، و هي حارّة في أغلب الأوقات.

  • إنّه تكليف شاقّ في الدين الإسلاميّ المقدّس الذي لم تشيّد الأعمال و التكاليف فيه على أساس صعب و عسير. و من جهة اخرى فإنّ البقاء في الإحرام سبعين يوماً عمل شاق و محرج و لا سيّما بالنسبة إلى الشباب الذين تتّقد عندهم الغريزة الجنسيّة في الجوّ الحارّ، فيشعرون بالحاجة إلى المواقعة، و لعلّهم لا يطيقون ذلك فينفد صبرهم. و لعلّ الذين ذهبوا إلى الحجّ مع زوجاتهم، و كانوا محرمين اضطرّوا إلى المواقعة، فيبطل حجّهم و تجب عليهم الكفّارة. و ربّما كانوا وحدهم فالتجأوا إلى الزنا لا سمح الله، و عندئذٍ ينقلب هذا العمل الروحيّ و هذه الفريضة التي تمتّع الروح و تفيض بالنور إلى عمل شيطانيّ، إذ يبتلي الإنسان بإبليس الظلمة الشهوانيّة، ممّا يدعو إلى الكآبة و البؤس و الظلمة.

  • و لعلّ هناك أسباباً خفيّة علينا، لا نعلمها، الله و رسوله أعلم بها، ‌

معرفة الإمام ج٦

50
  • دعت إلى تكليف رسول الله أن يُدخل الحجّ في العمرة لغير أهل الحرم و القرى القريبة من مكّة، و يجعلها عملًا واحداً، إذ إنّ الذين يحرمون من الميقات في حجّهم الواجب لا يحرمون بنيّة الحجّ بل بنيّة العمرة، و يلبّون. ثمّ يأتون مكّة، و يؤدّون عمرتهم التي لا تستغرق بضع ساعات. و يبقون بدون إحرام حتّى اليوم الثامن من ذي الحجّة، و هو يوم التحرّك إلى منى و عرفاتُ. و في هذه الحالة يحرمون من مكّة بقصد الحجّ و يلبّون، و يذهبون إلى عرفات، و المشعر، و منى، و يؤدّون مناسكهم، و حينئذ يعتمرون و يحجّون في آن واحد. و في الوقت نفسه فإنّ زمان الإحرام، الذي يسبّب حرجاً، لا يستغرق كثيراً. ذلك لأنّ العمرة هي السير من الميقات إلى مكّة، و لا تستدعي إلّا وقتاً قليلًا. أمّا الحجّ فهو من اليوم التاسع إلى اليوم الثاني عشر الذي تنتهي فيه المناسك. و ليس هذا وقتاً طويلًا، و يقال له: حجّ التمتّع؛ لأنّ الحاجّ يستطيع بعد الفراغ من عمرته وحل إحرامه أن يلامس النساء و يفعل سائر محرّمات إلى أن يحين وقت الحجّ‌. على عكس الحجّ الذي يحرم فيه من الميقات و تؤدّي فيه فريضة الحجّ فقط. و يقال لهذا الحجّ: حَجّ الإفراد إذا لم يكن فيه هدي؛ و حَجّ القِرَان إذا كان مع الحاجّ هدي للنحر. أمّا العمرة التي تؤدّي وحدها، و لا يعقبها حجّ، فهي عُمْرة مُفرَدَةَ.

  • لقد تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في ذلك السفر قاصداً الحجّ، و تحرّك المؤمنون و المؤمنات معه قاصدين الحجّ. و كُتب إلى الأمصار و الولايات بعزم رسول الله على الحجّ. و قد كَتب صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى أمير المؤمنين عليه السلام و كان قد بعثه بمهمّةٍ إلى اليمن، يخبره بعزمه على الحجّ، و ليس هناك حديث عن العمرة، و لم يخطر ذلك 

معرفة الإمام ج٦

51
  • ببال أحد. فالكلّ تقاطروا على مكّة قاصدين الحجّ و ملبّين.۱

  • و لكن كما رأينا فإنّ رسول الله أمر كلّ من جاء بالهدي أن يبقى بنيّة الحجّ، و يلبّي. و كان ذلك في «سَرِف» على بعد ستّة أميال عن مكّة، و أمّا الذي لم يأت بهدي فإنّه يلبّي بقصد العُمْرَة بدل الحجّ.

  • تكليف عمل التمتّع في الحجّ 

  • و بقي صلّى الله عليه و آله و سلّم بقصد الحجّ، لأنّه جاء بهدي معه. و لبّى بتلك النيّة، حتّى إذا بلغ مكّة، قطع التلبية، لأنّه جاء إلى داخل البيت، و بلغ مقصوده. و قد أحيا السعى بين الصفا و المروة بعد أن استنكف المسلمون عنه، أحياه بطوافه و أدائه صلاة الطواف، و قد سعى بنفسه، و كان يأمر بالسعي كثيراً.٢ و الآن قد فرغ من سعيه، و وقف على جبل الْمَرْوَة، و قال: أيها الناس، نزل على الساعة جبرئيل،٣ و هو يأمر كلّ من ليس معه‌

    1. جاء في «فروعِ الكافي» ج ٤، ص ٢٤۸ و ٢٤٩ عن الحَلَبيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام: "وَ أحْرَمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِالْحَجِّ لَا يَنْوُونَ عُمْرَةً وَ لَا يَدْرُونَ مَا الْمُتْعَةُ" (الحديث)
    2. جاء في «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٥ عن «صحيح مسلم»: أنّ سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما}. هو أنّ المهاجرين في الجاهليّة كانوا يهلّون بصنمين على شطّ البحر يقال لهما: أساف و نائلة. ثمّ يجيئون فيطوفون بين الصفا و المروة، ثمّ يحلقون. فلمّا جاءهم الإسلام كرهوا أن يطّوّفوا بين الصفا و المروة، يرون أنّ ذلك من أمر الجاهليّة. فأنزل الله تعالى هذه الآية. و قيل إنّ سبب نزولها أنّ الأنصار كانوا في الجاهليّة يهلّون لمناة، و كان من أحرم بمناة لا يطّوّف بين الصفا و المروة، و أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه‌[ و آله‌] و سلّم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} (الآية).
    3. جاء في «علل الشرائع» طبعة المكتبة الحيدريّة، النجف، ص ٤۱٤ ضمن رواية فضيل بن عيّاض عن الإمام الصادق عليه السلام ... فلمّا طاف‌‌ [رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌] بالبيت و بالصفا و المروة، أمره جبرئيل عليه السلام أن يجعلها عمرة إلّا من كان معه هدي، فهو محبوس على هديه لا يحلّ لقوله عزّ و جلّ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. فجمعت له العمرة و الحجّ و كان خرج على خروج العرب الاول لأنّ العرب كانت لا تعرف إلّا الحجّ و هو في ذلك ينتظر امر الله تعالى و هو يقول عليه السلام: "الناس على أمر جاهليّتهم إلّا ما غيّره الإسلام". و كانوا‌ [أي العرب في الجاهليّة] لا يرون العمرة في أشهر الحجّ، فشقّ على أصحابه حين قال: «اجعلوها عمرة» لأنّهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحجّ ... قلت: أ فيعتدّ بشي‌ء من أمر الجاهليّة؟! فقال: إنّ أهل الجاهليّة ضيّعوا كلّ شي‌ء من دين إبراهيم عليه السلام إلّا الختان و التزويج و الحجّ، فإنّهم تمسّكوا بها و لم يضيّعوها.

معرفة الإمام ج٦

52
  • هدي أن يحلّ من إحرامه. يقصد الذين لم يسمعوا كلامه في سرف من الذين لم يكن معهم هدي، فلهم أن يحرموا للعمرة و يلبّوا بنيّتها. و يجعلوا أعمالهم من طواف وسعي و غيرهما من أعمال العمرة، و يقصّروا، ثمّ يحلّوا. أمّا الذين كان معهم هدي، فعليهم أن يبقوا محرمين حتّى ينحروا هديهم في محلّه، و هو منى.۱

  • و جاء في «السيرة الحلبيّة»: قال السُّهَيليّ: و لم يكن ساق الهدي معه من أصحابه إلّا طلحة بن عبد الله، و كذا [أمير المؤمنين‌] عليّ [بن أبي طالب عليه السلام‌] جاء من اليمن و قد ساق الهدي معه.٢

  • و قال صلّى الله عليه و آله و سلّم، للذى لم يحمل الهدي معه، و أتم أعمال العمرة، بالإحلال بعد الحلق و التقصير، لأنّه أتي بعمل العمرة، فحلّ له كلّ ما حرم على المحرم من وطء النساء و الطيب و المخيط، و أن يبقي كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجّة، فيهلّ، أي: يحرم بالحجّ.

  • اعتراض بعض الصحابة على حجّ التمتّع‌

  • و اعترض بعض الصحابة قائلين: نَنْطَلِقُ إلَى مِنَى وَ ذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ؟ 

    1. انظر: «حبيب السير» مطبعة الحيدري، طهران، ج ۱، ص ٤۰٩؛ و «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة، ج ٢، حجّة الوداع؛ و تفسير «الدرّ المنثور» طبعة بيروت، دار المعرفة، ج ۱، ص ٢۱٦.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٥؛ و «سنن البيهقيّ»، طبعة حيدرآباد الدكن، ج ٥، ص ٩٥، و اللفظ للأوّل.

معرفة الإمام ج٦

53
  • و في لفظ: وَ فَرجُهُ يَقْطُرُ مَنيَّاً؟ أي: قَدْ جَامَعَ النِّسَاءَ.۱

  • و عن عائشة، قالت: دخل على رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و هو غضبان. فقلت: من أغضبك يا رسول الله؟! أدخله الله النار!

  • فَقَالَ: "أو ما شعائرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون"‌.٢

  • و يروي أنه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم بلغه تلك المقالة، قام خطيباً فَحَمِدَ اللهَ تَعَالى، فَقَالَ: "أمَّا بَعْدُ؛ فَتَعْلَمُونَ أيُّهَا النَّاسُ؟! لأنَا وَ اللهِ أعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَ أنْقَاكُمْ لَهُ؛ وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ هَدْيَاً وَ لَا حَلَلْتُ".٣

  • وَ في رِوَايَةٍ قَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَ قَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟

  • فَقَالَ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ [آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: "اقْبَلُوا مَا أمَرْتُكُمْ بِهِ، وَ اجْعَلُوا إهْلَالَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً، فَلَو لَا أني سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الذي أمَرْتُكُمْ 

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٦؛ و «الطبقات» لابن سعد، طبعة دار صادر، بيروت ج ٢، ص ۱۸۷ و ۱۸۸؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ٩٥.
    2. المصدر السابق
    3. «الوفاء بأحوال المصطفى» ج ۱، ص ٢۱۰؛ و جاء في كتاب «حياة محمّد» طبعة مطبعة مصر، سنة ۱٣٥٤ هـ، تأليف محمّد حسنين هيكل، ص ٤٦۰ و ٤٦۱: ثمّ نادى محمّد في الناس أن لا يبق على إحرامه من لا هدي معه ينحره. و تردّد بعضهم فغضب النبيّ لهذا التردّد أشدّ الغضب و قال: ما آمركم به فافعلوه! و دخل قُبَّته مغضباً فسألته عائشة: من أغضبك؟ فقال: و ما لي لا أغضب و أنا آمر أمراً فلا يتّبع! و دخل أحد أصحابه و ما يزال غضبان، فقال: من أغضبك يا رسول الله، أدخله الله النار! فكان جواب الرسول: أو ما شعرت أنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم فيه يتردّدون؟ و لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي معي حتّى أشتريه؛ ثمّ احلّ كما حلّوا؛ كذلك روى مسلم. فلمّا بلغ المسلمين غضب رسول الله حلّ الالوف من الناس إحرامهم على أسفٍ منهم.

معرفة الإمام ج٦

54
  • بِهِ. فَفَعَلُوا وَ أهَلُّوا، فَفُسِخَ الْحَجُّ إلَى الْعُمْرَةِ".۱

  • وَ سأله سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنُ جُعْشُمِ الْكِنَانِيّ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ!

  • مَتَّعْتَنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أمْ لِلأبَدِ؟!٢

  • فَشَبَّكَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ أصَابِعَهُ، فَقَالَ: "بَلْ لِلأبَدِ الأبَدِ دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ هَكَذَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. و في رواية: فَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ وَاحِدَةً في اخْرَى وَ قَالَ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ هَكَذَا- مَرَّتَيْنِ- بَلْ لأبَدِ الأبَدِ".٣

  • و جاء في «إعلام الورى»: قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ، وَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ نَخْرُجَنَّ إلَى مِنَى وَ رُؤوسُنَا تَقْطُرُ مِنَ النِّسَاءِ؟! فَقَالَ: "إنَّكَ لَنْ تُؤمِنَ بِهَا حتّى تَمُوتَ".٤

  • و جاء في «الإرشاد» للشيخ المفيد: ثمّ أمر مناديه أن ينادي: من لم يسق منكم هدياً فليحلّ و ليجعلها عمرة، و من ساق منكم هدياً فليقم على إحرامه، فأطاع في ذلك بعض الناس و خالف بعض، و جرت خطوب بينهم فيه؛ و قال منهم قائلون:

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٦؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦٦؛ و اللفظ للأوّل.
    2. نفس المصدر السابق، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۸۸؛ و «علل الشرائع» ص ٤۱٤. و جاء في هذا الكتاب أنّ سراقة قال: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنَا دِينَنَا فَكَأنا خُلِقْنَا الْيَوْمَ ... إلي آخره؛ و «الكافي» المطبعة الحيدريّة، الفروع، ج ٤، ص ٢٤٩؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ٩٥.
    3. «المصدر السابق، و «الوفاء بأحوال المصطفي» ج ۱، ص ٢۱۰.
    4. «إعلام الوري» مطبعة الحيدري، طهران، ص ۱٣۸؛ و «علل الشرائع» طبعة النجف المطبعة الحيدريّة، ص ٤۱٣؛ و «الكافي» مطبعة الحيدري، طهران، الفروع، ج ٤، ص ٢٤٩، و كذلك ص ٢٤٦.

معرفة الإمام ج٦

55
  • رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أشْعَثُ أغْبَرُ نَلْبَسُ الثِّيَابَ وَ نَقْرُبُ النِّسَاءَ وَ نُدَهِّنُ؟ و قال بعضهم أ مَا تَسْتَحْيُونَ؟ تَخْرُجُونَ وَ رُؤوسُكُمْ تَقْطُرُ مِنَ الْغُسْلِ وَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ على إحْرَامِهِ؟!

  • فَأنْكَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ على مَنْ خَالَفَ في ذَلِكَ؛ وَ قَالَ: "لَوْ لا أني سُقْتُ الْهَدْيَ لأحْلَلْتُ وَ جَعَلْتُهَا عُمْرَةً، فَمَنْ لَمْ يَسُقْ هَدْيَاً فَلْيُحِلَّ". فَرَجَعَ قَوْمٌ وَ أقَامَ آخَرُونَ على الخِلافِ؛ وَ كَانَ فِيمَنْ أقَامَ على الخِلافِ لِلنَبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ. فَاسْتَدْعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ قَالَ لَهُ: "مَا لي أرَاكَ يَا عُمَرُ مُحْرِماً؟ أ سُقْتَ هَدْيَاً؟!" قَالَ: لَمْ أسُقْ‌.

  • قَالَ: "فَلِمَ لَا تُحِلُّ وَ قَدْ أمَرْتُ مَنْ لَمْ يَسُقْ بِالإحْلَالِ؟!"

  • فَقَالَ: وَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ! لَا أحْلَلْتُ وَ أنْتُ مُحْرِمٌ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "إنَّكَ لَمْ تُؤْمِنْ بِهَا حتّى تَمُوتَ". فَلِذَلِكَ أقَامَ على إنْكَارِ مُتْعَةِ الحَجِّ حتّى رَقَا المِنبَرَ في إمَارَتِهِ فَنَهى عَنْهَا نَهْيَاً مُجَدَّداً وَ تَوَعَّدَ عَلَيْهَا بِالعِقَابِ.۱

    1. «الإرشاد» للشيخ المفيد، الطبعة الحجريّة، ص ٩٤ و ٩٥؛ «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٦٦٤، طبعة كمباني، عن «علل الشرائع» و «تفسير الإمام» و «الإرشاد».

معرفة الإمام ج٦

56
  •  

معرفة الإمام ج٦

57
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ التَّاسِعُ وَ السَّبْعُونَ إلى الدَّرْسُ الثَّانِي وَ الثَّمَانينَ حِجَّةُ الوَداع وَ دَعْم رَسُول اللهِ لِوَلايَةِ أَمِير المُؤمِنينَ‌

  •  

  •  

معرفة الإمام ج٦

58
  •  

معرفة الإمام ج٦

59
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم‌

  • و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين‌

  • و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين‌

  • و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم‌

  •  

  •  

  • قال الله الحكيم في كتابه الكريم:

  • {فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‌}.۱

  • تنصّ هذه الآية الكريمة على أنّ الذين لم يكونوا حاضري المسجد الحرام- ما عدا أهل مكّة و القرى و الضواحي القريبة منها- عليهم أن يحجّوا حجّ التمتّع، ثمّ ينحروا ما استيسر من الهدي، من الإبل و البقر و الضأن في مِني. و أمّا من كانوا قريبين من المسجد الحرام، فعليهم أن يحجّوا حجّ الإفراد، و حجّ القِران من غير تمتّع.

  • و قد علمنا فيما مضى أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم- عملًا بحكم الله، و نتيجة لنزول جبرئيل بهذه الآية المباركة- أعلن في منزل «سَرِف» أوّلًا، و بعد سعيه على «المروة» ثانياً، أنّ على من جاء معه إلى 

    1. النصف الثاني من الآية ۱٩٦، من سورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

60
  • الحجّ‌ سواء كانوا من أهل المدينة أو من غيرها، أن يغيّروا نيّتهم من الإحرام بالحجّ إلى الإحرام بالعُمرة، و يحلّوا بعد التقصير، و يتمتّعوا حتّى حلول يوم التروية و هو يوم الإحرام بالحجّ. و التحرّك نحو المشاعر: عَرَفات، و المشعر، و مِني. و لا تشمل هذه التعاليم من ساقوا الهدي معهم.

  • و على النبيّ نفسه و من ساق معه هدياً من أصحابه أن يظلّوا محرمين للحجّ إلى أن ينحروا هديهم في مني. و قد أدّى الإعلان عن هذا الحكم الإلهيّ إلى اعتراض البعض ممّن خالفوا هذا الحكم بصراحة، إذ كانوا راغبين في البقاء محرمين حتّى وقت الذهاب إلى عَرفات و المَشعر.

  • ينقل ابن كثير حديثين عن البخاريّ و مسلم، عن جابر أنّ بعض الصحابة كانوا يقولون: لِمَ نحلّ، و لم يبق على الحجّ إلّا أيّام عدّة؟

  • قال ابن كثير: قال البخاريّ: حدّثنا أبو النعمان، حدّثنا حَمَّاد بن زيد، عن عبد الملك بن جريح، عن عطاء، عن جابر، و عن طاووس، عن ابن عبّاس، قالا: قَدِمَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ وَ أصْحَابُهُ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ يُهِلُّونَ بِالحَجِّ لَا يَخْلُطُهُ شَي‌ءٌ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً، وَ أنْ نُحِلَّ إلَى نِسَائِنَا، فَفَشَتْ تِلْكَ المَقَالَةُ ...۱ إلى آخر هذا الحديث و ما تضمّنه من مخالفة الصحابة.

  • و قال: قالَ مُسْلِم: حدّثنا قُتيْبة، حدّثنا الليث- هو ابن سعد- عن أبي الزبير، عن جابر ... إلى أن بلغ قوله: وَ أمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ أنْ يُحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيّ؛ قَالَ: فَقُلْنَا: حَلَّ مَإذَا؟! قَالَ: "الْحَلُّ كُلُّهُ.

    1. «البداية و النهاية» طبعة مصر الاولي، سنه ۱٣٥۱ هـ، مطبعة السعادة، ج ٥، ص ۱٦٦.

معرفة الإمام ج٦

61
  • فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَ تَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ وَ لَبِسْنَا ثِيَاباً وَ لَيْسَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أرْبَعَ لَيَالٍ".۱

  • فهذان الحديثان ينصّان على أنّ رسول الله دخل مكّة في اليوم الرابع، و لمّا كان يوم عرفة في الخميس، فإنّ يوم دخوله كان في يوم الأحد. و هذا يتضارب مع ما نقلناه عن «الغدير»، عن «الإمتاع» للمقريزيّ إذ جاء فيه أنّ دخوله كان في يوم الثلاثاء.

  • حكم التمتّع في الحجّ مستمَدٌّ من تعاليم السماء.

  • إن مخالفة بعض الصحابة، الذين أرادوا البقاء في إحرامهم و نسكهم و عبادتهم شعث الشعور مغبرّين كرسول الله، أزعجت النبيّ و أغضبته كثيراً حتّى بان الغضب على وجهه. إذ لم يتوقّع صلّى الله عليه و آله و سلّم من ذوي السابقة في الصحبة أن يخالفوه، و لا سيّما في أمر عباديّ بعد ثلاث و عشرين سنة من العناء و المشقّة، و التشريد و المكابدة، و تجرّع الغصص و المرارات و المصائب؛ و هل العبادة أمر شخصيّ اجتهاديّ حتّى يحلو للإنسان أن يزيد فيه أو ينقص منه كما يهوي، أو يبدّل شاكلته كما يشتهي؟ إنّ تشريع العبادة يجانب الصواب، و لا يحمد ما لم يكن متّصلًا بالمبدأ الأعلى؛ لا سيّما إذا كان اجتهاداً في مقابل القرآن، و النصّ النبويّ الصريح الذي تجسّد في خطبتيه اللتين تكفّلتا بتبيان الموضوع، و تصريحه عليه و على آله الصلاة و السلام أنّه لم يستبدل العمرة بالإحرام للهدي، و إلّا لأحلّ من إحرامه مماشاة لهم، و نظراً لأفضليّة المتعة.

  • و تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، بعد سعيه، و نزل‌

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦٦. و جاء في «الطبقات الكبرى» لابن سعد، طبعة دار صادر، بيروت، سنة ۱٣۷٦ هـ، ج ٢، ص ۱۷٥ قوله: فلبست القمص و سطعت المجامر و نكحت النساء.

معرفة الإمام ج٦

62
  • «الأبْطَح» و هي أرض رمليّة في شرق مكّة، و لم ينزل في منازل مكّة. و كانت إقامته في «الأبطح» قبل أن يتحرّك إلى عرفات، بقيّة يوم الأحد، و الاثنين، و الثلاثاء، و الأربعاء.

  • حتّى أنّه صلّى صلاة الصبح مع أصحابه في «الأبطح» يوم الخميس الثامن من ذي الحجّة و هو يوم التَّرْوِيَة؛ و لم ينزل في مكّة طيلة تلك الأيّام قطّ، و لم يرجع من مكانه إلى بيت الله.۱

  • و ذكرنا في الدرس السادس و السبعين إلى الدرس الثامن و السبعين من دروس هذا الكتاب أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان غير موجود في المدينة عند ما قصد رسول الله حجّ بيت الله الحرام، و ذلك أنّه كان مبعوثاً من قبل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لدعوة أهل اليمن إلى الإسلام، و عزل خالد بن الوليد، و أخذ خمس الغنائم التي كانت بيد خالد، و كذلك الغنائم و الأخماس الاخرى. و كان قد اشخص إلى هناك على رأس جيش يضمّ ثلاثمائة من المسلمين. و بعد أداء مهمّته في اليمن تلقّي كتاباً من رسول الله يخبره فيه بعزمه على الحجّ،٢ و يطلب منه التوجّه إلى مكّة لأداء

    1. روى في «عيون أخبار الرضا» طبعة انتشارات جهان، ج ٢، ص ۸٤ الحديث ٢٤ بسنده عن الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قال: "إنَّ عَليّاً عليه السلام لم يبت بمكّة بعد إذ هاجر منها حتّى قبضه الله عزّ و جلّ إليه. قال: قلت له: و لم ذاك؟ قال: كان يكره أن يبيت بأرض قد هاجر منها". (و في نسخة: قد هاجر منها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم). و كان يصلّى العصر، و يخرج منها و يبيت بغيرها. و ذكر هذه الرواية في «علل الشرائع» ص ٤٥٢ إلّا أنه أتى بلفظ قد هاجر منها رسول الله. و جاء في «تاريخ اليعقوبيّ» ج ٢، ص ۱۱٢، طبعة بيروت سنة ۱٣۷٩ هـ‌ [فرغ رسول الله من حجّه‌] و لم ينزل مكّة. و قيل له في ذلك: لو نزلت يا رسول الله بعض منازلك! فقال: ما كنت لأنزل بلداً اخرجت منه.
    2. جاء في «الإرشاد» للشيخ المفيد، ص ٩٣،‌ [أنّ رسول الله قال لأمير المؤمنين‌: "بِمَ أهْلَلْتَ يَا علِيّ؟! فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إنَّكَ لَمْ تَكْتُبْ لي إهلَالك وَ لَا عَرّفْتَنيه فَعَقْدتُ نِيَّتِي بِنيَّتِكَ فَقُلْتُ: اللهُمَّ إهْلَالًا كَإهْلَالِ نَبِيِّكَ"، و من هذا يستنتج أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كتب إلى أمير المؤمنين رسالة إلّا أنه لم يذكر فيها كيفية الإهلال.

معرفة الإمام ج٦

63
  • فريضة الحجّ.

  • فتحرّك أمير المؤمنين عليه السلام بنحو مكّة مع جيشه و من التحق به من أهل اليمن، و كان معه خمس الغنائم الخاصّ برسول الله؛ إلّا أنّه أحرم قبل الجيش بقليل، و عجّل في قدومه إلى مكّة فرأى فيها السيّدة المخدّرة الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين عليها السلام عقيلته و كريمة الرسول العظيم، فوجد فاطمة ممّن أحلّ و لبست ثياباً صبيغاً و اكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا. فتشرّف بالمثول عند رسول الله، و ذكر له إحلال الزهراء و طيبها و كحلها، فقال له: كما أخبرتك فاطمة.۱

  • ثمّ بيّن له قصّة نزول الوحي، و تبديل حكم الحجّ من حجّ الإفراد إلى العمرة و حجّ التمتّع لمن ليس معه هدي. و سأله قائلًا: بِمَ أهْلَلْتَ يا عليّ؟ قال: بما أهلّ به النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.٢

  • فقال رسول الله: فَهل معك من هدي؟! قال: لا.

    1. «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، سنة ۱٣۸٣ هـ، ج ٤، ص ۱۰٢۱؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩۷؛ و «البداية و النهاية» طبعة مصر، سنة ۱٣٥۱ هـ، ج ٥، ص ۱٦۷؛ و «تاريخ الطبريّ» طبعة دار المعارف، ج ٣، ص ۱٤۸ و ۱٤٩؛ و «الوفاء بأحوال المصطفي» مطبعة الكيلاني، مصر، ج ٢، ص ٢۱۰؛ و «حبيب السير» ج ۱، ص ٤۱۰؛ و «روضة الصفا» الطبعة الحجريّة، ج ٢، حجّة الوداع؛ و «الكافي»، الفروع، ج ٤، ص ٢٤٩.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩۷؛ و «الطبقات الكبرى» ج ٢ ص ۱۸۸؛ و «الكامل في التاريخ» ج ٢، ص ٣۰٢؛ و «مروج الذهب» طبعة دار الأندلس، ج ٢، ص ٢٩۰؛ و اللفظ للسيرة الحلبيّة.

معرفة الإمام ج٦

64
  • مشاركة أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الحجّ و الهدي‌

  • فأشركه رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم في هديه، و ثبت على إحرامه مع رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم حتّى فرغا من الحجّ، و نحر رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم الهدي عنهما.۱

  • و ينبغي أن يعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يسق معه هَدْياً، و لكنّه أحرم- بنيّته- كإحرام رسول الله، و لذلك كان شريكه في الحجّ و الهدي.

  • و أمّا ما ذكرته بعض السير و التواريخ أنّ أمير المؤمنين أتى بالإبل من اليمن، فإنّ هذه الإبل لرسول الله و ليست لأمير المؤمنين، إذ كانت خمس النبيّ من الغنائم. و لذلك قال في «البداية و النهاية»: كان جماعة الهدي الذي جاء به على من اليمن، و الذي أتى به رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم من المدينة، و اشتراه في الطريق مائة من الإبل.٢

  • فالمائة من الإبل كانت لرسول الله كما جاء في كثير من الروايات التي تنصّ على أنّ مع رسول الله مائة من الإبل. و أصبح أمير المؤمنين شريكاً لرسول الله في هذه الإبل. و هذه منقبة عظيمة جدّاً. و درجة رفيعة لا تسامي إذ يشارك الإمام رسول الله في حجّه و هديه.

  • و من هنا يمكن أن نفهم عدم وجود اختلاف بين الروايات التي تنصّ على أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم ساق مائة من الهدي،٣ و الروايات‌

    1. «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢۱؛ و «تاريخ الطبريّ» طبعة دار المعارف ج ٣، ص ۱٤٩، و اللفظ للأوّل.
    2. «البداية و النهاية» الطبعة ج ٥، ص ۱٦۷ و ۱٦۸؛ و «الوفاء بأحوال المصطفي» ج ٢، ص ٢۱۱؛ و اللفظ للأوّل.
    3. «الكافي» الفروع، الطبعة الحيدريّة، ج ٤، ص ٢٤۸؛ و «البداية و النهاية» الطبعة الاولي، مطبعة السعادة بمصر. ج ٤، ص ۱۸۸؛ و «السيرة الحلبيّة» طبعة محمّد على صبيح سنة ۱٣٥٣ هـ؛ ج ٣، ص ٣۰٣.

معرفة الإمام ج٦

65
  • التي تنصّ على أنّه ساق ثلاثاً و ستّين بدنة، و أمير المؤمنين سبعاً و ثلاثين بدنة،۱ أو أنّه ساق أربعاً و ستّين، و أمير المؤمنين ستّاً و ثلاثين،٢ أو أنّه ساق ستّاً و ستّين، و أمير المؤمنين أربعاً و ثلاثين.٣ فالمجموع الكلّيّ مائة في كلّ الأحوال، و قد نُحرت كلّها بمني. فما جاء به أمير المؤمنين من الهدي كان لرسول الله، و لذلك فالمائة من الهدي كانت كلّها لرسول الله. و العجيب هو اتّفاق الهدي الذي أتي به رسول الله مع الهدي الذي أتى به أمير المؤمنين، و مجموعه مائة بدنة. يقول ابن الجوزيّ: قال رسول الله لعليّ: "فَإنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلَا تُحِلَّ. وَ كَانَ الذي قَدِمَ بِهِ عَلِيّ مِنَ الْيَمَنِ وَ الذي أتَى بِهِ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ مِائَةً".

  • و نحر رسول الله [بيده المباركة] نيّفاً و ستّين منها. ثمّ أعطى عليّاً نيّفاً و ثلاثين.٤ و فهم البعض من هذا النحر أنّ الهدي كان لأمير المؤمنين. و هذا فهم غير صحيح، لأنّ النحر أعمّ من الملكيّة، مضافاً إلى ذلك، لو كان الهدي لأمير المؤمنين عليه السلام، فما معنى المشاركة في الهدي و الحجّ؟

    1. «علل الشرائع» ص ٤۱٣؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩۷؛ و «الكافي» الفروع، ج ٤، ص ٢٤٩.
    2. «الكافي» الفروع، ج ٤، ص ٢٤۷.
    3. «الإرشاد» الطبعة الحجريّة ص ٩٣؛ و «الكافي» الفروع، ج ٤، ص ٢٤۷؛ و «بحار الأنوار» طبعة الكمباني، ج ٦، ص ٦٦٣؛ نقلًا عن «علل الشرائع» و «تفسير الإمام»، و «الإرشاد»
    4. «إعلام الوري بأعلام الهدي» طبعة مطبعة الحيدري- طهران. ص ۱٣۸؛ و «الكافي» الفروع، ج ٤، ص ٢٥۰؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۸۸؛ و «تاريخ اليعقوبيّ» طبعة دار صادر، بيروت، ج ٢، ص ۱۰٩؛ و «الوفاء بأحوال المصطفي» طبعة مصر، مطبعة الكيلانيّ، ج ۱، ص ٢۱٤.

معرفة الإمام ج٦

66
  • لقد ساق أمير المؤمنين عليه السلام الهَدْيَ معه و حجّه حجّ القِران، إذ ليس له حقّ النحر، و ليس له أن يحلّ حتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، كسائر من ساقوا معهم هدياً.

  • و الشي‌ء اللطيف هنا هو أنّ أمير المؤمنين شريك رسول الله في حجّه و هديه، لأنّه أحرم كإحرام رسول الله و قال: "اللهُمَّ إنّي اهِلُّ بِمَا أهَلَّ بِهِ نَبِيُّكَ وَ عَبْدُكَ وَ رَسُولُكَ مُحَمَّدٌ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ".۱

  • فأمير المؤمنين عليه السلام بقي على إحرامه و شارك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حجّه مع أنّه لم يسق معه هدياً. و لعلّ في هذه المشاركة استجابة لدعاء رسول الله بحقّ سيّد عالم الولاية: "وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي".٢ كدعاء موسى عليه السلام بحقّ أخيه هارون عليه السلام، إذ قال: "وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي".

  • و من لوازم و ضروريات الإشراك في الأمر هو المشاركة في الحجّ و الهدي و ميزاتهما المعنويّة.

  • عدم مشاركة أبو موسى الاشعري رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الهدي‌

  • و كان من جملة من لم يسق الهدي أبو موسى الأشعريّ، فإنّه لمّا قدم من اليمن قال له: بِمَ أهْلَلْتَ؟ قال: "أهْلَلْتُ كَإهْلَالِ النَّبِيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم!" قال له: هل معك من هديٍ؟ قال: قلت: لا. فأمرني فطفت‌

    1. «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢۱؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٦؛ و «إعلام الورى» ص ۱٣۸؛ و «حبيب السير» ج ٤، ص ٤۱۰؛ و «روضة الصفا» ج ٢، حجة الوداع. و اللفظ للأوّلين.
    2. جاء في «تذكرة الخواصّ» الطبعة الحجريّة، القطع الرحليّ، لسبط ابن الجوزيّ، ص ۱٤، عن أحمد بن حنبل في «الفضائل» بسنده عن أسماء بنت عميس، تقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه‌‌ [و آله‌] و سلّم يقول: "اللهُمَّ إنِّي أقُولُ كَما قَالَ أخي موسى: وَ اجْعَلْ لي وَزِيراً مِنْ أهْلِي عَلِيَّاً أشدُدْ بِه أزْري، وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي كَي نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً."

معرفة الإمام ج٦

67
  • بالبيت و الصفا و المروة ... و أحلّلت، أي بعد الحلق و التقصير.۱ فَلِمَ لَمْ يشركه رسول الله في حجّه و هديه؟ و أمره بالإحلال؟

  • إنّها ميزة و فضيلة اختصّ بها ليث الإيمان و محور الولاية و الإيقان، أعني: عليّ بن أبي طالب، وَ أنَّي لَهُمْ ذَلِكَ؟

  • لقد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السلام: الحقّ بجيشك، و ائت بهم معك! لنجتمع كلّنا في مكّة إن شاء الله.

  • فودّع أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله، و عاد إلى جيشه، فالتقاه قرب مكّة، فرأى أفراده قد كسوا الحلل اليمانيّة التي كانت معهم، و هي من حقّ رسول الله في الخمس و الصدقات، فعزّ عليه ما رأى من التصرّف ببيت المال و حقوق المسلمين؛ و انتقد هذا العمل و قال لمن استخلفه عليهم: ما الذي حملك على أن تقسّم هذه الحلل بين جنودك قبل أن نأتي بها إلى رسول الله، و هي حقّ الله و رسوله و المسلمين، و لم آمرك بهذا؟!

  • فقال: طلبوا منّي ذلك، و رغبوا أن يتزيّنوا بارتدائها، و يُحرموا بها، ثمّ يرجعوها لي.

  • فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بنزع الحلل و إرجاعها في مكانها. فلمّا جاءوا إلى مكّة، و قد اضطغنت‌٢ قلوبهم على أمير المؤمنين، شكوه إلى رسول الله.٣

  • كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حول صلابة أمير المؤمنين عليه السلام في الدين‌

  • فَأمَرَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مُنَادِيَاً فَنَادَى في النَّاسِ: "ارْفَعُوا ألْسِنَتَكُمْ عَنْ عَلِيّ بْنِ أبِي طالِبٍ فَإنَّهُ خَشِنٌ في ذَاتِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ 

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٥، ص ٢٩۷؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦۸.
    2. انطوت على الأحقاد.
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۰٦، ٢۰۸، ٢۰٩؛ و «تاريخ الطبريّ» ج ٣، ص ۱٤٩.

معرفة الإمام ج٦

68
  • غَيْرُ مُدَاهِنٍ في دِينِهِ. فَكَفَّ الْقَوْمُ عَنْ ذِكْرِهِ وَ عَلِمُوا مَكَانَهُ من النَّبِيّ‌

  • صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ سَخَطَهُ على مَنْ رَامَ الغُمْيَزَةَ فِيهِ".۱

  • و ذكر أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسيّ هذه الرواية باللفظ نفسه، و قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: "ارْفَعُوا ألْسِنَتَكُمْ مِنْ شِكَايَةِ عَلِيّ فَإنَّهُ خَشِنٌ في ذَاتِ اللهِ".٢

  • و ذكر ابن هشام قائلًا: فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ فِينَا خَطِيباً؛ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "أيُّهَا النَّاسُ! لَا تَشْكُوا عَلِيَّاً، فَوَ اللهِ إنَّهُ لأخْشَنُ في ذَات اللهِ- أوْ في سَبِيلِ اللهِ- مِنْ أنْ يُشْكَى".٣

  • و نقل ابن الأثير هذه العبارة نفسها قائلًا: "فَوَ اللهِ إنَّهُ لأخْشَنُ في ذَاتِ اللهِ- أو في سَبِيلِ اللهِ"!٤

  • و نقل الطبريّ عن أبي سعيد [الخدريّ‌] قال: شَكَى النَّاسُ عَلِيّ بنَ‌ أبِي طَالِبٍ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ فِينَا خَطِيباً، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يَا أيُّهَا النَّاسُ! لَا تَشْكُوا عَلِيَّاً، فَوَ اللهِ إنَّهُ لأخْشَى في ذَاتِ اللهِ- أوْ في سَبِيلِ اللهُ [مِنْ أنْ يُشْكَى‌]".٥

    1. «الإرشاد» للشيخ المفيد، الطبعة الحجريّة، ص ٩٤.
    2. «إعلام الوري» ص ۱٣۸.
    3. «سيرة ابن هشام» طبعة مصر، مطبعة المدنيّ سنه ۱٣۸٣ هـ، ج ٤، ص ۱۰٢٢؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٩.
    4. «الكامل في التاريخ» ج ٢، ص ٣۰۱؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٩؛ و نقل في «ينابيع المودّة» طبعة إسلامبول سنة ۱٣۰۱ هـ، ص ٢۱٦ هذه العبارة بتخريج أحمد بن حنبل، و قال: و عن كعب بن عُجْرة مرفوعاً: "إنَّ عَلِيّاً مَخْشُونٌ في ذَاتِ اللهِ تَعالَى". أخرجه أبو عمر، ثمّ قال: (شرح لأخشن: أي: اشتدّت خشونته).
    5. «تاريخ الطبريّ» ج ٣، ص ۱٤٩، عن طبعة دار المعارف بمصر و «مجمع الزوائد» طبعة بيروت، دار الكتاب. الطبعة الثانية، سنة ۱٩٦۷ م، ج ٩، ص ۱٢٩.

معرفة الإمام ج٦

69
  • و روى الحافظ أبو نُعَيم الإصفهانيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال:

  • شكي الناس عليّاً، فقام رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم خطيباً فقال:

  • "يَا أيُّهَا النَّاسُ! لَا تَشْكُوا عَلِيَّاً! فَوَ اللهِ إنَّهُ لُاخَيْشِنُ في ذاتِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَ"‌.۱

  • و روى أيضاً بإسناده عن إسحاق بن كعب بن عُجْرة، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم. "لَا تَسُبُّوا عَلِيَّاً فإنّه مَمْسُوسٌ في ذَاتِ اللهِ تعالى".٢

  • و يقول أبو الفتوح الرازيّ: لمّا صالح رسول الله نصارى نجران على ألفي حلّة من حُلَل الأواقي، و أشخص عليّاً إلى اليمن ليأتي بها إليه، هبط عليه جبرئيل و أمره بالحجّ. و عند ما خرج من المدينة، كتب إلى أمير المؤمنين يخبره بعزمه على الحجّ، و يطلب منه أن يعود إلى مكّة إذا فرغ من مهمّته ليلتقيه هناك. و لمّا قرأ أمير المؤمنين عليه السلام كتاب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم عزم على الرحيل، و أخذ معه الحلل، فجاء إلى مكّة مع أربع و أربعين بدنة، و تعجّل في المثول عند رسول الله قبل أن تصل القافلة إلى مكّة. ثمّ عاد ليأتي بالقافلة فرآهم قد لبسوا الحلل، فأمرهم أن يخلعوها و يعيدوها إلى أعدالهم و جوالقهم. و لمّا شقّ عليهم ذلك، عابوه و شكوه إلى رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: قد أصاب عليّ. و لمّا لم يكفّوا عن النيل منه، رقى صلّى الله عليه و آله و سلّم المنبر و خطب قائلًا:

    1. «حلية الأولياء» طبعة مصر، سنة ۱٣٥۱ هـ، الطعبة الاولي. ج ۱، ص ٦۸. و نقل شاه وليّ الله الدهلويّ الحديث الأوّل في «إزالة الخفاء» ج ٢، ص ٢٦٥، عن الحاكم. و نقله الهيتميّ أيضاً في «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ۱٣۰؛ و «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢٢.
    2. نفس المصادر السابقة.

معرفة الإمام ج٦

70
  • "ارْفَعُوا ألْسِنَتَكُمْ عنْ عَلِيّ فإنّه خَشِنٌ في ذَاتِ اللهِ غَيْرُ مُدَاهِنٍ في‌ دِينِهِ‌".۱

  • الشكوى ضدّ على حول إبل الصدقة

  • و ذكر البيهقيّ- على ما نقل منه ابن كثير- شكوى الناس من عليّ بنمط آخر. فقد نقل بسنده عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمّته زينب- بنت كعب بن عجرة- عن أبي سعيد الخدريّ، أنّه قال: بعث رسولُ الله عليّ بن أبي طالب إلى اليمن. قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه. فلمّا أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها و نريح إبلنا، و كنّا قد رأينا في إبلنا خللًا. فأبى علينا و قال: إنّما لكم فيها سهم كما للمسلمين. قال: فلمّا فرغ عليّ و انطفق من اليمن راجعاً، أمّر علينا إنساناً و أسرع هو و أدرك الحجّ. فلمّا قضى حجّته، قال له النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: ارجع إلى أصحابك حتّى تقدم عليهم.

  • قال أبو سعيد: و قد كنّا سألنا الذي استخلفه ما كان عليّ منعنا إيّاه، ففعل. فلمّا عرف في إبل الصدقة أنّها قد ركبت، و رأي أثر الركب، قدّم الذي أمّره و لامه. فقلتُ: أما إنّ للّه عَلَيّ لئن قدمت المدينة لأذكرنّ لرسول الله و لأخبرنّه ما لقينا من الغلظة و التضييق.

  • قال: فلمّا قدمنا المدينة، غدوت إلى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] اريد أن أفعل ما كنت حلفت عليه، فلقيتُ أبا بكر خارجاً من عند رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، فلمّا رآني وقف معي و رحّب بي و ساءلني و ساءلته، و قال: متى قدمتَ؟

  • فقلتُ: قدمت البارحة! فرجع معي إلى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فدخل، و قال: هذا سَعْدُ بْنُ مَالِك بْنُ الشَّهِيدِ؛ فقال: إئذن له. 

    1. «تفسير أبي الفتوح» طبعة مظفّري، ج ٢، ص ۱٩۰ و ۱٩۱.(بالفارسيّة).

معرفة الإمام ج٦

71
  • فدخلتُ فحيّيت رسول الله و حيّاني و أقبل عَلَيّ و سألني عن نفسي و أهلي‌ و أحفي المسألة. فقلتُ: يا رسول الله! ما لقينا من عَلِيّ من الغلظة و سوء الصحبة و التضييق؟!

  • فاتأد رسول الله و جعلت أنا اعدّد ما لقينا منه حتّى إذا كنت في وسط كلامي، ضرب رسول الله على فخذي، و كنت منه قريباً، و قال: "يَا سَعْدَ بْنَ مَالِك بْن الشَّهِيدِ! مه بعض قولك لأخيك عَلِيّ! فَوَ اللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أنَّهُ أخْشَنَ في سَبِيلِ اللهِ"‌!

  • قال: فقلت في نفسي: ثكلتك امُّك سَعْدَ بْنَ مَالِكِ! ألا أراني كنت فيما يكره منذ اليوم، و لا أدري لا جرم و الله لا أذكره بسوء أبداً سرّاً و علانية.۱

  • كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حول صلابة أمير المؤمنين عليه السلام في الدين‌

  • و نقل ابن عساكر هذه القصّة في «تاريخ دمشق» الجزء الأوّل من ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ص ٣۸۷ و ٣۸۸ تحت الحديث المرقّم ٤٩٣، و ذكر هذا الحديث بعينه نقلًا عن أبي سعيد الخدريّ (سعد بن مالك) و قال في آخر كلامه: قال رسول الله‌: "يَا سَعْدَ بْنَ مَالِكِ بْن الشَّهِيدِ! مَهْ بَعْضَ قَوْلِكَ لأخِيكَ عَلِيّ، فَوَ اللهِ إنَّهُ أخْشَنُ في سَبِيلِ اللهِ!"

  • و نقل الدهلويّ هذا الحديث في كتاب «إزالة الخفاء» بالتعبير الآتي: أخْرَجَ أبُو عَمْرو، عَنْ إسحاقَ بنِ كَعبِ بنِ عُجْرَةَ، عَنْ أبيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [و آله‌] وَ سَلَّمَ: "عَلِيّ مَخْشُوشٌ في ذَاتِ اللهِ".٢

  • و بعد أن نقل ابن كثير هذه القضيّة عن البيهقيّ، و ذكر تقسيم الحلل اليمانيّة عند غياب أمير المؤمنين، قال: «هذا السياق أقرب من سياق 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۰٥؛ الطبعة الاولي، مطبعة السعادة.
    2. «إزالة الخفاء» ج ٢، ص ٢٦٥؛ طبعة باكستان سنة ۱٣٩٦ هـ.

معرفة الإمام ج٦

72
  • البيهقيّ، و ذلك أنّ عليّاً سبقهم لأجل الحجّ، و ساق معه هدياً، و أهلّ بإهلال‌ النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، فأمره أن يمكث مُحْرِماً»۱

  • و لكن ينبغي العلم أنّ ما ذكرناه من مجي‌ء أمير المؤمنين عليه السلام إلى مكّة و رؤيته الزهراء عليها السلام بلباس صبيغ، و عطر، و كحل، و ذهابه إلى رسول الله سائلًا عن ذلك، كلّ اولئك يدلّ على أنّ أوّل لقاء بين رسول الله و أمير المؤمنين بعد سفرة اليمن كان في مكّة. و هذا يغاير ما ذكره الحافظ أبو القاسم الطبرانيّ من حديث عِكْرَمة عن ابن عبّاس بقوله: إنَّ عَلِيَّاً تَلَقَّي النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [و آله‌] وَ سَلَّمَ إلَى الْجُحْفَة.٢ و كذلك ما ذكره الشيخ المفيد في «الإرشاد»، قائلًا: فلمّا قارب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى مكّة من طريق المدينة، قاربها أمير المؤمنين عليه السلام من طريق اليمن، و تقدّم الجيش للقاء النبيّ، فلمّا رآه قال له: «أقم على إحرامك و عُدْ إلَى جَيْشِكَ فَعَجِّلْ بِهِمْ حتّى نَجْتَمِعَ بِمَكَّةَ إن شَاءَ اللهُ».٣

  • إنّ عليّ بن أبي طالب رجل الحقّ و العدالة؛ لذلك لم يرق له أن تهدر حقوق الآخرين و لو قيد انملة؛ و أمّا الناس فهم غافلون عن هذه الالتفاتات الدقيقة و المركّزة، إذ لا يرون التلاعب ببيت المال، و التصرّف بالحلل و الإبل انتهاكاً، و يحسبون التزيّن محموداً حتّى لو كان على حساب حقّ الله و حقوق الضعفاء، و يرون عكس ذلك مذموماً.

  • و أمّا عليّ، فليس من شيمته التنازل عن العدالة المحضة، و مداهنة جيشه في التصرّف بالأموال، لأنّ في هذا النهج ظلماً تسري عدواه تدريجيّاً 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۰٦.
    2. «البداية و النهاية» الطبعة الاولى بمصر، سنة ۱٣٥۱ هـ، مطبعة السعادة، ج ٥، ص ۱٦۸.
    3. «الإرشاد» للشيخ المفيد، الطبعة الحجريّة، ص ٩٣ و ٩٤.

معرفة الإمام ج٦

73
  • فتتّسع دائرته و يسفر عن ظلم أكبر كظلم الخلفاء الآخرين.

  • و لو تقصّينا في الأمر مليّاً فسنجد أنّ شكوى الناس من أمير المؤمنين عليه السلام نابعة من قصورهم الحضاريّ و جدبهم الفكريّ. و دأب الناس على الامتعاض من كلّ ما لا يتماشى مع أذواقهم الشخصيّة حتّى لو ارتكز على الواقع و انسجم مع الحقيقة. و ما وافق طباعهم و استجاب لمشتهياتهم النفسانيّة و لذّاتهم المادّيّة فإنّهم يرونه حسناً حتّى لو ارتكز على البطلان و الإثم و منطق القوّة، و عارض الحقّ و الحقيقة.

  • كلام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لبريدة حول على عليه السلام‌

  • و من الشكاوى التي أقاموها ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام شكوى بُرَيْدَة بن حُصيْب الأسْلَمِيّ التي جاء بها من اليمن بتحريض من خالد بن الوليد.

  • و ما جاء فيها أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنفذ أمير المؤمنين عليه السلام إلى بني زُبَيْدَة و أمّره على المهاجرين، و ذلك بسبب ارتداد عَمْرو بنِ مَعْدِي كَرَب‌۱ و غارته على قوم بني الحارِثِ بنِ كَعْب، و فراره إلى اليمن. و أرسل خالد بن الوليد في طائفة من العرب، و أمره أن يقصد قوم الجُعْفِيّ، فإذا التقيا فأمير الناس عَلِيّ بنُ أبي طالب.

  • و لمّا ساروا بعض المنازل، افترق قوم الجعفيّ، الذين قصدهم خالد، فرقتين؛ فرقة ذهبت إلى اليمن، و فرقة التحقت ببني زُبَيْد. و عند ما عرف 

    1. كان سبب ارتداد عمرو بن مَعْدي كرب هو أنه: نظر إلى أبي عثعث الخثعميّ فأخذ برقبته و أدناه إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال: أعدني على هذا الفاجر الذي قتل والدي. فقال: «أهْدَرَ الإسلَامُ مَا كَانَ في الجَاهِلِيَّةِ».‌ [و كان أبو عثعث قد أسلم، لذلك لا يجوز الاقتصاص منه بسبب دم معدي كرب الذي سفكه في الجاهليّة] فانصرف عمرو مرتدّاً.(«إعلام الورى» ص ۱٣٤؛ و «حبيب السير» ج ۱، ص ٤۰٣؛ و «روضة الصفا» ج ٢، في ذكر توجّه أمير المؤمنين عليّ إلى اليمن).

معرفة الإمام ج٦

74
  • أمير المؤمنين عليه السلام هذا الأمر، أشخص رسولًا إلى خالد، و أمره أن‌ يتوقّف عن المسير حيثما كان حتّى يلحق به، فلم يلتفت خالد، و مضى في طريقه. فأرسل أمير المؤمنين عليه السلام خالد بن سعيد بن العاص نائبه على الجيش إلى خالد بن الوليد و أمره أن يعجّل حتّى يدركه، فيحول بينه و بين المسير؛ و مضى خالد بن سعيد و أنجز مهمّته و أوقف خالداً مع جيشه؛ و لمّا وصل أمير المؤمنين عليه السلام أغلظ في كلامه مع خالد بن الوليد بسبب مخالفته.

  • وصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى بني زُبَيد، و استعدّ عمرو بن معدي كرب للحرب، ثمّ انهزم و أسلم ثانية. و كانت نساء تلك القبيلة و زوجته قد اسرن. ثمّ اطلقن بإسلامه؛ و كلّف الإمام خالد بن سعيد لأخذ الزكاة و جمع الغنائم.

  • قسّم أمير المؤمنين عليه السلام الغنائم خمسة أقسام، ثمّ أقرع ليفصل سهم الله و يوزّع الباقي. فكان أوّل سهم وقعت عليه القرعة هو سهم الله. و فيه جارية جميله اصطفاها أمير المؤمنين عليه السلام لنفسه. و شوهدت آثار الغسل على رأسه و وجهه. فلم يطق خالد بن الوليد ذلك، و كتب إلى رسول الله كتاباً فصّل فيه ما شاهده من منغّصات في سفره من أمير المؤمنين، و أرسله مع بُرَيْدَة بن حُصَيْب الأسْلَمِيّ ليقرأه على رسول الله و يؤيّد ما فيه و يشهد عليه.

  • فذهب بُريدة إلى المدينة، و تشرّف بحضوره عند الرسول الأكرم، و طفق يعدّ ما شاهده من أعمال عليّ بن أبي طالب كاصطفاء الجارية من سهم الخمس و غير ذلك.

  • و قرأ عليه كتاب خالد مؤيّداً ما فيه، و قال: إن رخّصت يا رسول الله للناس مثل هذا، ذهب فيئهم.

معرفة الإمام ج٦

75
  • فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: "يَا بُرَيْدَةُ! أحْدَثْتَ نِفَاقاً! إنَّ عَلِيّ بنَ أبي طَالِبٍ‌ يَحِلُّ لَهُ مِنَ الفَي‌ء. مَا يَحِلُّ لي؛ إنَّ علِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ خَيْرُ النَّاسِ لَكَ وَ لِقَومِكَ! وَ خَيْرُ مَنْ اخْلِفُ بَعْدِي لِكَافَّةِ امَّتِي ...! يَا بُرَيْدَةُ! إحْذَرْ أنْ تُبْغِضَ عَلِيَّاً فَيُبْغِضُكَ اللهُ!"

  • قَالَ بُرَيْدَةُ: فَتَمنَّيْتُ أنَّ الأرْضَ أنْشَقَّتْ لي فَسُخْتُ فِيهَا، وَ قُلْتُ: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ سَخَطِ اللهِ وَ سَخَطِ رَسُولِهِ، يَا رَسُولَ اللهِ! اسْتَغْفِرْ لي فَلَنْ ابْغِضَ عَلِيَّاً أبَدَاً، وَ لَا أقُولَ فِيهِ إلَّا خَيْراً. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ النَّبِيّ. قَالَ بُرَيْدَةُ: فَصَارَ عَلِيّ أحَبَّ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ رَسُولِهِ إلَيّ.۱

  • الشكوى المرفوعة إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام‌

  • و قد نقل كبار المؤرّخين و المحدّثين و كتّاب السير هذه القصّة بألفاظ مختلفة. و ذكرها ابن سعد في طبقاته.٢ و نقل ابن كثير أنّ رسول الله قال لبريدة: يا بُرَيدة! أ تبغضُ عليّاً؟! فقلت: نعم! فقال: لا تبغضه! فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك.

  • و ذكر في رواية اخرى أنّ: في السبي وصيفة من أفضل السبي. قال فخمّس [عليّ الغنائم‌] و قسّم فخرج و رأسه يقطر. فقلنا: يا أبا الحسن! ما هذا؟

  • فقال: أ لم تروا إلى الوصيفة التي كانت في السبي فإنّي قسّمت و خمّست فصارت في الخمس، ثمّ صارت في أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، ثمّ صارت في آل عليّ، و وقعت بها.

    1. «إعلام الوري» الطبعة الحيدريّة، ص ۱٣٤ و ۱٣٥؛ و «حبيب السير» الطبعة الحيدريّة، ج ۱، ص ٤۰٤؛ و «روضة الصفا» ج ٢، ضمن ذكر توجّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إلي اليمن.
    2. «الطبقات الكبرى» طبعة دار صادر، بيروت، ج ٢، ص ۱۷۰؛ و «السيرة الحلبيّة» طبعة محمّد على صبيح بمصر، ج ٣، ص ٢٣٢ و ٢٣٣.

معرفة الإمام ج٦

76
  • قال: فكتب الرجل [خالد بن الوليد] إلى نبيّ الله صلّى الله عليه‌ [و آله‌] و سلّم، فقلت: ابعثني فبعثني مصدّقاً فجعلت أقرأ الكتاب و أقول: صَدَقَ.

  • فأمسك رسول الله يدي و الكتاب، فقال: أتبغض عليّاً؟! قال: قلتُ: نعم! قال: فلا تبغضه، و إن كنت تحبّه فازدد له حبّاً. فوالذي نفس محمّد بيده، لنصيبُ آل عليّ في الخمس أفضل من وصيفة.۱

  • قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم أحبّ إليّ من عليّ.٢

  • غضب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على الشاكي ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام‌

  • و ذكر الشيخ المفيد هذه القصّة في «الإرشاد» و أضاف قائلًا: فسار بُرَيدة حتّى انتهى إلى باب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فلقيه عمر بن الخطّاب، فسأله عن حال غزوتهم، و عن الذي أقدمه؟! فأخبره: أنّه إنّما جاء ليوقع في عليّ عليه السلام و ذكر له اصطفاءه الجارية من الخمس لنفسه.

  • فقال له عمر: امْضِ لِمَا جِئتَ لَهُ فَإنَّهُ سَيَغضِبُ لابْنَتِهِ مِمَّا صَنَعَ عَلِيّ!

  • فدخل بريدة على النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و معه كتاب من خالد بما أرسل به بريدة، فجعل يقرأ و وجه رسول الله صلّى الله عليه و آله يتغيّر، فقال بريدة: يا رسول الله! أنّك إن رخّصت للناس في مثل هذا ذهبت فيئهم! فقال له النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: ويحك يا بريدة! أحدثت نفاقاً؟! إنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام يحلّ له من الفي‌ء، ما 

    1. الوصيفة هي الفتاة الشابّة.
    2. «البداية و النهاية» ج ٥ ص ۱۰٤.

معرفة الإمام ج٦

77
  • يحلّ لي؛ إنّ على بن أبي طالب خير الناس لك و لقومك و خير من اخلّف‌ بعدي لكافّة امّتي ...۱

  • و يقول الشيخ الطوسيّ في «الأمالى» بعد نقله المفصّل لهذه الواقعة: قال بُرَيدة: دخلت على رسول الله صلّى الله عليه و آله [و سلّم‌] و أخذ الكتاب فأمسكه بشماله. و كان كما قال الله عزّ و جلّ لا يكتب و لا يقرأ. و كنت رجلًا إذا تكلّمت طأطأت رأسي حتّى أفرغ من حاجتي، فطأطأتُ و تكلّمت فوقعت في عليّ حتّى فرغت، ثمّ رفعت رأسي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد غضب غضباً شديداً لم أره غضب مثله قطّ إلّا يوم قُرَيْظَةَ وَ النَّضِيرِ.

  • فَنَظَرَ إلَيّ، فَقَالَ: "يَا بُرَيْدَةَ! إنَّ عَلِيَّاً وَلِيُّكُمْ بَعْدِي! فَأحِبَّ عَلِيَّاً فَإنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُؤْمَرُ!"

  • قال: [بريدة] فقمت و ما أحد من الناس أحبّ إليّ منه.

  • و قال عبد الله بن عطاء [و هو الذي روى ذلك‌]: حدّثت بذلك أبا حَرْثِ بن سُوَيد بن غَفَلَةَ، فقال: كتمك عبد الله بن بريدة بعض الحديث إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله قال له: "أ نَافَقْتَ بَعْدِي يَا بُرَيْدَةُ".٢

  • روايات ابن عساكر عن بُريدة حول أمير المؤمنين عليه السلام‌

  • و نقل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام خمسة و عشرين حديثاً برواية بُرَيْدَةَ الأسلميّ و غيره، و هي تحت عنوان: طرق حديث الولاية ... و تبدأ الأحاديث من رقم ٤٥۸ إلى رقم ٤۸٢.

  • نقل في الحديث الأوّل المرقّم ٤٥۸ بسنده عن سعيد بن جبير، عن 

    1. «الإرشاد» للمفيد، الطبعة الحجريّة. ص ۸٥ إلي ۸۷.
    2. «الأمالي» للطوسيّ، الطبعة الحجريّة، ج ۱، ص ۱٥۷.

معرفة الإمام ج٦

78
  • ابن عباس، عن بُريدة قال غزوت مع عليّ إلى اليمن فرأيت منه حفوة فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فذكرت عليّاً فتنقّصته‌ فَرَأيْتُ‌ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ يَتَغَيَّرُ: فَقَالَ: "يَا بُرَيْدَةُ! أ لَسْتُ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ؟! فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ".۱

  • و نقل في الحديث الثاني المرقّم (٤٥٩) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن بريدة، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: "عَلِيّ مَوْلَى مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ".٢

  • و نقل في الحديث الثالث المرقّم (٤٦۰) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن بريدة، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ".٣

  • و الحديث الرابع المرقّم (٤٦۱) يحمل نفس المضمون بسند آخر.٤

  • و نقل في الحديث الخامس المرقّم (٤٦٢) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن بُرَيدة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ".٥

  • و نقل في الحديث السادس المرقّم (٤٦٣) بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، عن بُرَيدة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] 

    1. الجزء الأوّل من كتاب ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من «تاريخ دمشق» ص ٣٦٥ و ٣٦٦.
    2. «تاريخ دمشق» ص ٣٦٦.
    3. «تاريخ دمشق» ص ٣٦٦.
    4. «نفس المصدر السابق».
    5. المصدر السابق: ٣٦٦ و ٣٦۷.

معرفة الإمام ج٦

79
  • و سلّم: "مَنْ كُنْتُ وَلِيُّهُ فَعَلِيّ وَلِيُّهُ‌".۱

  • و جاء في الحديث المرقّم (٤٦٤) بسند آخر عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قال: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ"‌.٢

  • و جاء في الحديث المرقّم (٤٦٥) بسنده عن عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: "عَلِيّ بنُ أبِي طَالِبٍ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ وَ هُوَ وَليُّكُمْ بَعْدِي"‌.٣

  • و ذكر في الحديث (٤٦٦) بسنده عن الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قصّة حرب خالد بن الوليد و أمير المؤمنين عليه السلام و ظهور المسلمين، و اصطفاء أمير المؤمنين جارية من الفي‌ء. قال:

  • فكتب معي خالد يقع في عليّ و أمرني أن أنال منه.

  • قال: فلمّا أتيت رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم رأيت الكراهة في وجهه، فقلت: هذا مكان العائذ بك يا رسول الله، بعثتني مع رجل [خالد] و أمرتني بطاعته، فبلّغتُ ما أرسلني [به‌].

  • "قَالَ: يَا بُرَيْدَةُ! لَا تَقَعْ في عَلِيّ، عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ، وَ هُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي".٤

  • و ذكر ابن عساكر نصّ ما نقلناه في الحديث السابق، و ذلك في الحديث المرقّم (٤٦۷) بسنده عن الأجلح، عن عبد الله بن بُرَيدة، (عن 

    1. «تاريخ دمشق»، ص ٣٦۷ و ٣٦۸.
    2. الجزء الأوّل من كتاب ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من «تاريخ دمشق» ص ٣٦۸.
    3. المصدر السابق: ص ٣٦۸ و ٣٦٩.
    4. «تاريخ دمشق»، ص ٣٦٩؛ و الهيتميّ في «مجمع الزوائد» طبعة دار الكتاب، بيروت، سنة ۱٩٦۷ م، ج ٩، ص ۱٢۷.

معرفة الإمام ج٦

80
  • أبيه) برواة آخرين.۱

  • و نقل المضمون نفسه بسند آخر في الحديث المرقّم (٤٦۸) أيضاً.٢

  • و ذكر في الحديث المرقّم (٤٦٩) بسنده عن عبد الله بن عطاء، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بعد نقل مقدّمات القضيّة، أنّ بريدة قال:

  • و كنت من أشدّ الناس بغضاً لعليّ، و قد علم ذلك خالد بن الوليد.

  • فأتى رجل خالداً فأخبره أنّه أخذ جارية من الخمس. فقال: ما هذا؟ ثمّ جاء [رجل‌] آخر، ثمّ أتى آخر، ثمّ تتابعت الأخبار على ذلك، فدعاني خالد، فقال: يا بُرَيدة! قد عرفتَ الذي صنع، فانطلق بكتابي هذا إلى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و أخبره. فكتب إليه فانطلقت بكتابه حتّى دخلت على رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، فأخذ الكتاب فأمسكه بشماله. و كان كما قال الله عزّ و جلّ لا يكتب و لا يقرأ. و كنت رجلًا إذا تكلّمتُ طأطأت رأسي حتّى أفرغ من حاجتي.

  • فطأطأت رأسي فتكلّمت، فوقعت في عليّ حتّى فرغت. ثمّ رفعت رأسي فرأيت رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قد غضب غضباً لم أره غضب مثله قطّ إلّا يوم [بَني‌] قُرْيَظَةَ وَ النَّضير، فنظر إليّ، فَقالَ: "يَا بُرَيْدَةُ! إنَّ عَلِيَّاً وَلِيُّكُمْ بَعْدي، فَأحِبَّ عَلِيَّا فإنّه يَفْعَلُ مَا يُؤْمَرُ".٣ قال [بُريدة]: فقمت و ما أحدٌ من الناس أحبُّ إليّ منه.

  • و قال عبد الله بن عطاء: حدّثت بذلك أبا حرب ابن سُوَيد بن غَفَلَة

    1. «تاريخ دمشق»، ص ٣۷۰.
    2. المصدر السابق:٣۷۰، و ٣۷۱.
    3. «تاريخ دمشق» ص ٣۷۱. و ذكر الهيتميّ في «مجمع الزوائد» طبعة دار الكتاب العربيّ، بيروت، ج ٩، ص ۱٢۸ و ۱٢٩؛ و كذلك ذكره الشيخ الطوسيّ في «الأمالي».

معرفة الإمام ج٦

81
  • ، فقال: كتمك عبد الله بن بُرَيْدَةَ بعض الحديث، [و هو] أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قال له‌: أ نَافَقْتَ بَعْدِي يَا بُرَيْدَةُ؟!۱

  • و ذكر في الأحاديث المرقّمة (٤۷۰) و (٤۷۱) و (٤۷٣) و (٤۷٤) و (٤۷٥) و (٤۷٦) و (٤۷۷) أنّ بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيّ وَلِيُّهُ‌".٢

  • و ذكر في الحديث المرقّم (٤۷٢) أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَإنَّ عَلِيَّاً وَلِيُّهُ".٣

  • و نقل في الحديث (٤۷۸) عن بُرَيدةَ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: "مَنْ كُنتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ (وَلِيُّهُ- خ)".٤

  • و ذكر في الحديث (٤۷٩) أنّ رسول الله قال لبُرَيْدَة:

  • أتبغض عليّاً؟ قال: قلتُ: نعم. قال: فلا تبغضه! و قال «روح بن مرّة» و هو من رواة هذه الرواية فأحبّه، فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك.

  • و ذكر في الحديث (٤۸۰) المضمون نفسه بسند آخر. و نقل ذلك في الحديث (٤۸۱) بسنده عن عمرو بن عطيَّة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه- بُرَيدة- إلى أن قال بُرَيدة:

  • أتيت رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم و هو يغسل رأسه، فنلت من عليّ عنده [قال:] و [كنّا] إذا قعدنا عند رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، لم نرفع أبصارنا إليه. فقال رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم: "مه يا بريدة بعض قولك!" قال بريدة: فرفعت بصري إلى رسول الله صلّى الله 

    1. حسينى طهرانى، سيد محمد حسين، معرفة الإمام، ۱۸جلد، دار المحجة البيضاءبيروتلبنان، چاپ: ۱، ۱٤۱٦ ه.ق.
    2. «تاريخ دمشق» ص ٣۷٢ إلي ٣۷٥.
    3. نفس المصدر: ٣۷٣.
    4. نفس المصدر: ٣۷٥.

معرفة الإمام ج٦

82
  • عليه [و آله‌] و سلّم فإذا وجهه يتغيّر! فلمّا رأيت ذلك قلتُ: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِ اللهِ وَ غَضَبِ رَسُولِهِ! قَالَ بُرَيْدَةُ: وَ اللهِ لَا ابْغِضُهُ أبَدَاً بَعْدَ الذي رَأيْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ.۱

  • و ذكر في الحديث (٤۸٢) أنّ رسول الله قال: "فَلَا تُبْغِضْهُ وَ إنْ كُنْتَ تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبَّاً، فَوَ الذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَنَصِيبُ آلِ عَلِيّ في الْخُمْسِ أفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ".

  • قَالَ: فَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ أحَبَّ إلَيّ مِنْ عَلِيّ.٢

  • غضب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على جماعة انتقصت علياً عليه السلام‌

  • و نقل الحافظ أبو بكر الهيتميّ هذا الحديث عن بُرَيدة، إلى أن قال: قال بريدة:

  • فقدمتُ المدينة و دخلت المسجد، و رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم في منزله، و ناس من أصحابه على بابه، فقالوا: ما الخبر يا بُرَيْدة؟!

  • فقلت: خيراً، فتح الله على المسلمين.

  • فقالوا: ما أقدمك؟

  • قلت: جارية أخذها عليّ من الخمس فجئت لُاخبر النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.

  • فقالوا: فأخبر النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فإنّه يسقط من عين النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم، و رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم يسمع الكلام، فخرج مغضباً، فقال:

  • "مَا بَالُ أقْوَامٍ يَتَنَقَّصُونَ عَلِيَّاً؟! مَنْ تَنَقَّصَ عَلِيَّاً فَقَدْ تَنَقَّصَنِي؛ وَ مَنْ 

    1. «تاريخ دمشق» ص ٣۷٦ و ٣۷۷.
    2. «المصدر السابق» ٣۷۷ و ٣۷۸؛ و الهيتميّ في «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ۱٢۷.

معرفة الإمام ج٦

83
  • فَارَقَ عَلِيَّاً فَقَدْ فَارَقَنِي؛ إنَّ عَلِيَّاً مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ؛ خُلِقَ مِنْ طِينَتِي وَ خُلِقْتُ مِنْ طِينَةِ إبْرَاهِيمَ؛ وَ أنَا أفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ؛ {ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ‌ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‌}.

  • يَا بُرَيْدَةُ! أ مَا عَلِمْتَ أنَّ لِعَلِيّ أكْثَرَ مِنَ الْجَارِيَةِ التي أخَذَ؛ وَ إنَّهُ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي؟!"

  • فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! بِالصُّحْبَةِ إلَّا بَسَطْتَ يَدَكَ فَبَايَعْتَنِي على الإسْلَامِ جَدِيداً! قَالَ: "فَمَا فَارَقْتُهُ حتّى بَايَعْتُهُ على الإسْلَامِ". رواه الطبرانيّ في «الأوسط».۱

  • و لا بدّ من العلم بأنّ بعض كتب التأريخ‌٢ و الحديث تفيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أرسل أمير المؤمنين عليه السلام مرّتين إلى اليمن أميراً على السريَّة.

  • الاولى: لملاحقة عمرو بنِ مَعْدِي‌كَرَبْ و إسلام نَجْرَان. و فيها أشخص خالد بن الوليد إلى بني جُعْفِيّ، و أمر أن يكون عليّ بن أبي طالب أميراً على السريّتين إذا اجتمعا. و في تلك السريَّة أناب أمير المؤمنين عليه السلام خالد بن سعيد بن العاص أميراً عليها. و أناب خالد بن الوليد أبا موسى الأشعريّ أميراً على سريّته. و في هذه السفرة خالف خالد بن الوليد و عوتب على ذلك. و فيها أيضاً كتب إلى رسول الله كتاباً و أرسله مع بُرَيْدَةِ بنِ الحُصَيْبِ الأسْلَمِيّ يشكو فيه أمير المؤمنين عليه السلام إلى 

    1. «مجمع الزوائد و منبع الفوائد» طبعة دار الكتاب العربيّ، بيروت، ج ٩، ص ۱٢۸.
    2. «الطبقات» لابن سعد، دار بيروت، سنة ۱٤۰٥ هـ، ج ٢، ص ۱٦٩. و ذكر ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» طبعة بيروت، دار صادر، سنة ۱٣۸٥ هـ، ص ٣۰۰ و ٣۰۱، أنه أرسل أمير المؤمنين عليه السلام إلي اليمن مرّة لدعوة أهلها إلي الإسلام، و مرّة لجمع الصدقات و الجزية.

معرفة الإمام ج٦

84
  • رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و دخل بريدة المدينة و بلّغ ما ارسل به و غضب عليه رسول الله و أمره باتّباع عليّ، في وقت كانت سريّتا على‌ و خالد مشغولتين في مهمّتيهما.

  • أمّا الثانية: فكانت بعد بقاء خالد بن الوليد ستّة أشهر في اليمن و إخفاقه في دعوة أهلها إلى الإسلام. فأوفد رسول الله عليّاً إلى اليمن، و أمره بعزل خالد، و كلّ مَن رغب مِن سريّة خالد، فإنّه يلتحق بسريّة أمير المؤمنين عليه السلام. و في هذه السريّة فوّض أمير المؤمنين عليه السلام إلى بُرَيْدَة بن حُصَيب المحافظة على الغنائم. و بعد فراغه من مهمّته رجع مع جنده إلى مكّة، و قد انفصل عن السريّة و التحق برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم للحجّ. و في غيابه هذا قسّم نائبه على السريّة الحلل اليمانيّة على الجند. و عند ما قفل أمير المؤمنين راجعاً من مكّة، و شاهد جنده على تلك الحال، أمر بخلع الحلل التي هي من الصدقات، و إرجاعها إلى أعدالها، و المجي‌ء بها إلى رسول الله، ممّا أدّى إلى امتعاض الجند و انزعاجهم، حتّى إذا دخلوا مكّة بدءوا بالانتقاص من أمير المؤمنين و النيل منه. فأعلن رسول الله للناس أنّ عليّاً ليس من أهل المداهنة و المجاملة في سبيل الله، و أنّه لا يخاف فيه لومة لائم، و أنّه ذائب و فان في ذات الله.

  • من الطبيعيّ أنّ هذه المهمّة التي ذهب بها أمير المؤمنين عليه السلام إلى اليمن، و إرسال السريَّتين وقعت في السنة العاشرة من الهجرة؛ و عاد أمير المؤمنين من مكّة إلى المدينة بصحبة رسول الله. و في الجُحفة عند غدير خُمّ، ألقى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خطبته الغرّاء حول ولاية الإمام الإلهيّة الكلّيّة و المطلقة.

معرفة الإمام ج٦

85
  • و نقل أبو بكر الهيتَميّ عن عمرو بن شاس الأسْلَميّ و هو من أصحاب الحديبيّة، قال: خرجت مع عليّ عليه السلام، إلى اليمن فجفاني في سفري ذلك حتّى وجدتُ في نفسي عليه. فلمّا قدمت المدينة أظهرت‌ شكايته في المسجد حتّى سمع بذلك رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.

  • فدخلتُ المسجد ذات غدوة، و رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم جالس في ناس من أصحابه: فلمّا رآني، حدّد إليّ النظر، حتّى إذا جلست قال: "يَا عَمْرُو! وَ اللهِ لَقَدْ آذَيْتَنِي!" قُلْتُ: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ إذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ:" بَلَى مَنْ آذَى عَلِيَّاً فَقَدْ إذَانِى!"۱

  • و روى الهَيْتَميّ أيضاً عن أبي رافع، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم عليّاً أميراً على اليمن، و خرج معه رجل من أسْلَم يقال له: عمرو بن شاس. فرجع و هو يذمّ عليّاً و يشكوه. فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، فَقَالَ: "اخْسَأ يَا عَمْرُو! هَلْ رَأيْتَ مِنْ عَلِيّ جَوْرَاً في حُكْمِهِ أوْ أثَرَةً في قَسْمِه؟!" قَالَ: اللهُمَّ: لَا!

  • فقال النبيّ: فعلامَ تقول الذي بلغني؟

  • قال: لم يكن باختياري، و قلته عن غير قصد.

  • قال: فغضب رسول الله حتّى عُرف ذلك في وجهه، ثمّ قال: "مَنْ أبْغَضَهُ فَقَدْ أبْغَضَنِي؛ وَ مَنْ أبْغَضَنِي فَقَدْ أبْغَضَ اللهَ! وَ مَنْ أحَبَّهُ فَقَدْ أحَبَّنِي وَ مَنْ أحَبَّنِي فَقَدْ أحَبَّ اللهَ تعالى".٢

  • أجل، فلنعد إلى أصل البحث الذي استعرضناه عن حجّ التمتّع و أنّ 

    1. «مجمع الزوائد» للهَيْتَيمِيّ، ج ٩، ص ۱٢٩، و قال: رواه أحمد بن حنبل، و الطبرانيّ باختصار، و البزّار أخصر منه؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۰٤ و ۱۰٥، و «تذكرة الخواصّ» الطبعة الحجريّة، ص ٢٦.
    2. «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ۱٢٩، و قال: رواه البزّار.

معرفة الإمام ج٦

86
  • حجّ التمتّع واجب على من كان هو و أهله بعيدين عن المسجد الحرام، و هذه الفريضة واجبة إلى يوم القيامة، و تركها معصية و موبقة كبيرة. و قد حذّر القرآن من ذلك و أوعد التاركين لها بالعقاب الشديد.

  • الحجّ سنّة من شريعة ابراهيم عليه السلام. و على الرغم من أنّ تعاليمه و أحكامه الإلهيّة قد ضعفت بعده بين عرب الحجاز، و ضاع أكثرها، إلّا أنّ الحجّ ظلّ قائماً، مع تغييرات طرأت على أصله بكرور الأيّام.

  • الفرق بين حجّ التمتّع و حجّ الإفراد و القران‌

  • و كان الحجّ يقام في فترة معيّنة، و كان الحجّاج يُحْرِمُونَ من مكان خاصّ يدعي الميقات. و يتوجّهون إلى مكّة و أطرافها لأداء المناسك؛ فإن ساقوا معهم الهدي و نحروه في مِنى، كان حجّهم حجّ قِران، و أمّا إن لم يسوقوا معهم الهدي، فيكون حجّهم حجّ إفراد. و أمّا حجّ التمتّع فلم يعهده المسلمون و لم يألفوه من قبل. فهو ممّا جاء به الإسلام، إذ نزل جبرئيل بوحي من الباري تعالى ليبيّن حدوده و مواصفاته. و هو ممّا نطق به القرآن. و لذلك أدّى إلى استغراب كثير من المسلمين و دهشتهم إذ تساءلوا قائلين: كيف يمكن التمتّع أيّام الحجّ؟

  • و من الطبيعيّ أنّ هذا الاستغراب ناتج عن ما ألفته نفوسهم من حجّ القِران و حجّ الإفراد، إذ يحرم الحاجّ من الميقات و يأتي مكّة، فيبقى على الإحرام و اجتناب مخيط الثياب، و عدم استعمال العطر، و عدم التمتّع بالنساء و محرّمات الإحرام الاخري. حتّى يذهب إلى عرفات و المَشْعر في مني، و يؤدّي المناسك.

  • بَيدَ أنّ المسألة تختلف تماماً في حجّ التمتّع، إذ يدخل الحاجّ مكّة، و يؤدّي العمرة، ثمّ يُحِلّ؛ أي: يخرج من لباس الإحرام، و يستعمل العطر، و يتمتّع بالنساء، و يمارس محرّمات الإحرام الاخرى، إلى أن يحين وقت 

معرفة الإمام ج٦

87
  • الحجّ، فينوي لأداء الفريضة، و يحرم لها و يلبّي، و يعود إلى الإحرام مرّة ثانية و يمتنع عن اللذّات و المشتهيات المحظورة على المحرم.

  • و أمّا في حجّ القِران و الإفراد فإنّ المحرم يبقى أشعث الشعر، مغبرّ الجسم طيلة فترة الإحرام، و لكنّه يحلّ في حجّ التمتّع. و يستمتع بجميع التمتّعات مدّة في مكّة و هو في حالة اعتياديّة؛ ثمّ يحرم مرّة اخرى. و لهذا فإنّ العرب الذين دأبوا على السنن السابقة ظنّوا أنّ التمتّع بين الإحرامين صدعاً في الحجّ، و كأنّهم خالوه نقصاً و خللًا في أركانه. و توهّموا هذا التمتّع مغايراً لحقيقة الحجّ، و ذلك على أساس ما عرفوه عن الحجّ أيّام الجاهليّة، و لهذا أعلنوا عن اعتراضهم.

  • و نحن نعلم أنّ هذا الاعتراض ليس في موضعه، لأنّ تشريع العبادات و كيفيّة المناسك، و إقحام الظروف، أو تحديد الحواجز و العقبات، كلّ ذلك بِيَدِ الله الذي عيّنه للناس بواسطة الوحي و إنزال الكتاب، و إرسال النبيّ. و أساساً فإنّ الإنسان أيّاً كان، و مهما كان علمه و قدرته لا يستطيع أن يضع للناس أحكاماً ما لم يتّصل بعالم الغيب، و يتلقّ الأحكام الإلهيّة من المصادر العالية بقلبه و بلا شائبة و تدخّل نفسانيّ من لدنه، و لا سيّما إذا كانت تلك الأحكام مرتبطة بالعبادات و العلاقات القلبيّة للناس بربّ العالمين.

  • الأحكام بِيَدِ الله، و تُبيَّن للناس على لسان نبيّه؛ و نَسْخ الأحكام بِيَدِ الله أيضاً؛ لأنّ نسخ الحكم هو حكم جديد لا بدّ أن يضعه الله.

  • و حكم الإسلام يستهدي بسنّة إبراهيم الخليل حتّى حانت السنة التي كانت فيها حجّة الوداع، أعني بذلك أنّ الحجّ كان مقتصراً على حجّ القران و حجّ الإفراد، بَيدَ أنّ هذا الحكم في حجّة الوداع كان خاصّاً بمن كانوا قريبين من المسجد الحرام، و لهم حكم أهله، و يعتبرون مع قبائلهم في حكم حاضري المسجد الحرام. و يقصد منهم أهالى مكّة نفسها و الحرم 

معرفة الإمام ج٦

88
  • و القرى و القصبات القريبة حتّى ستّة عشر فرسخاً المعادلة لثمانية و أربعين ميلًا، فهؤلاء على ما كانوا عليه سابقاً. و أمّا البعيدون عن هذه المسافة، فقد تغيّر الحكم في الحجّ الواجب طبعاً، و تبدّل بحجّ التمتّع. و جاء جبرئيل‌

  • بالآية القرآنيّة الخاصّة به و رسول الله على المروة، فتلاها على الناس بعد السعي.

  • تفسير آية القرآن في الوجوب العيني لحجّ التمتّع‌

  • {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‌} إلى أن قال: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}‌. و في ضوء ذلك فإنّ قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌} يحدّد التكليف اللازم الذي يخصّ الناس البعيدين عن المسجد الحرام على نحو الوجوب. و هذا الحكم باق إلى يوم القيامة بإطلاق الآية، و بنصّ رسول الله الصريح عند ما شبك أصابعه في جواب سُراقة بن مالك و قال ما مضمونه إنّه حكم باق إلى يوم القيامة.

  • و السبب في ذلك: أنّ الشريعة الإسلاميّة السمحاء السهلة رفعت عن الحجّاج التكليف المتمثّل بشهرين أو أكثر من الإحرام الإلزاميّ. و هذا الحكم- طبعاً- ليس فيه حرج و مشقّة على أهالى مكّة و أطرافها، لأنّهم موجودون هناك؛ و لهم أن يحرموا و يحجّوا في الوقت القريب من أيّام الحجّ. بَيدَ أنّ الناس البعيدين عن المسجد الحرام، و القادمين إلى مكّة من بقاع الأرض المختلفة، و الذين يجب عليهم أن يحرموا من مواقيت معيّنة، و يتحمّلوا عناء السفر من الميقات إلى مكّة حتّى وقت الحجّ، كان يشقّ عليهم البقاء محرمين خلال تلك الفترة الطويلة. فرفعت هذه المشقّة في الحجّ الواجب بشكل إلزاميّ.

  • و صار بإمكان اولئكم الاستراحة في الوسط العائليّ خلال الفترة الكائنة بين العمرة و الحجّ، و صار لهم التمتّع باللذائذ التي أحلّها الله لهم. 

معرفة الإمام ج٦

89
  • و الشي‌ء اللطيف في قوله تعالى: {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌}. هو أنّ المسافر يحتاج إلى السكينة و الهدوء و الأهل. و من كان معه أهله فإنّه يتمتّع بنعمة الحضور كحاضري المسجد الحرام. و من لم يكن‌ أهله حاضري المسجد، و هو بحاجة إلى السكينة و الهدوء، فإنّ السماح له بالتمتّع بما يحرم عليه هو بمنزلة حضور الأهل و وجود السكينة و الهدوء في مقابل ذلك. و التمتّع بالنساء و الجواري بديل عن حضور الأهل و العائلة.

  • و لمّا كانت أرضيّة الاعتراض على هذا التشريع السماويّ موجودة بين الناس من قبل، لذلك أمر الله بالتقوى في تتمّة الآية مؤكّداً على ذلك، و تَرك المخالفين في دهشة و خوف من العذاب الشديد. قال جلّ من قائل: {وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ‌}.

  • و استهداءً بالسنّة النبويّة الشريفة يتّفق الجميع دون أدنى شكّ على حجّ التمتّع للبعيدين عن المسجد الحرام، و ذلك في حجّة الوداع إذ أحلّ جميع الناس من إحرامهم بأمر رسول الله، و تمتّعوا، ثمّ أحرموا ثانية للحجّ. و كذلك يتّفقون على بقاء هذا الحكم في عصر أبي بكر، و مدّة من حكومة عمر.

  • و لا خلاف بين الشيعة و السنّة في هذه المسألة، إلّا أنّ الشيعة تقول إنّ الحكم باق إلى يوم القيامة كما شرّعه الله و رسوله؛ و أمّا العامّة فتقول إنّه نسخ في عصر عمر، و إنّ عمر رفع ذلك. و سنّته واجبة التطبيق كسنّة رسول الله.

  • هذا هو أصل الموضوع الذي يستفاد من المناقشات القائمة بين الطرفين و ردودهما و مؤاخذاتهما. و لسنا بحاجة إلى نقل الروايات المتواترة عن الشيعة و أئمّتهم في هذا المجال، لأنّه لا تبقى شبهة قائمة بعد تصريح القرآن و إعلان الرسول المتكرّر في مكّة حتّى نأتي بروايات عن طريق الشيعة تدعم ذلك.

معرفة الإمام ج٦

90
  • إلّا أنّنا ننقل هنا نصوص بعض الروايات المعتبرة عن كتب العامّة. و ذلك بغية إرشاد و توجيه إخواننا من العامّة، و استهدافاً للمحافظة على الرفقة و الاخوّة في البحث عن طريق الجدل. يتلو ذلك بحث و جيز بدور حول هذا الموضوع، آملين أن يكون ذلك مفيداً لهم جميعاً، بشرط تحرّرهم من الروح العدائيّة، و مواكبتهم لنا خطوة خطوة مستضيئين بأصل الحقيقة و حاملين لنظرة الأصالة.

  • {إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى‌ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ}.۱

  • روايات العامّة حول التمتّع في الحجّ‌

  • فقد جاء في «الدرّ المنثور» قوله‌: أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ البَيْهَقِيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الحَاجِّ؛ فَقَالَ: أهَلَّ المُهَاجِرُونَ وَ الأنصَارُ وَ أزْوَاجُ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [و آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ في حِجَّةِ الوَدَاعِ وَ أهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: "اجْعَلُوا إهْلَالَكُمْ بِالحَجِّ عُمْرَةً إلَّا مَنْ قَلَّدَ الْهَدْي. فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ وَ أتَيْنَا النِّسَاءَ وَ لَبِسْنَا الثِّيَابَ.

  • وَ قَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإنَّهُ لَا يُحِلُّ حتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. ثُمَّ أمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أنْ نُهِلَّ بِالحَجِّ؛ فَإذَا فَرَغْنَا مِنَ المَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ، وَ قَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَ عَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللهُ: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ‌} إلَى أمْصَارِكُمْ، وَ الشَّاةُ تُجْزِئُ، فَجَمَعُوا نُسْكَيْنِ في عَامٍ بَيْنَ الحَجِّ وَ العُمْرَةِ، فَإنَّ اللهَ أنْزَلَهُ في كِتَابِهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَ أبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرِ أهْلِ مَكَّةَ.

  • قَالَ اللهُ تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}‌.

  • وَ أشْهُرُ الحَجِّ التي ذَكَرَ اللهُ: شَوَّالٌ وَ ذُو القَعْدَةِ وَ ذُو الحِجَّةِ؛ فَمَنْ 

    1. الآية ٣۷، من السورة ٥۰: ق.

معرفة الإمام ج٦

91
  • تَمَتَّعَ في هَذِهِ الأشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أوْ صَوْمٌ. وَ الرَّفَثُ: الجِمَاعُ، وَ الفُسُوقُ: المَعَاصِي، وَ الجِدَالُ: المِراءُ".۱

  • و ذكر في تفسير «الدرّ المنثور» أيضاً: أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ عَنِ ابنِ عُمَرَ، قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، في حِجَّةِ الوَدَاعِ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ، وَ أهْدَي فَسَاقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وَ بَدَأ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، فَأهَلَّ بِالعُمْرَةِ، ثُمَّ أهَلَّ بِالحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سلَّمَ بِالعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ؛ فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أهْدَى، فَسَاقَ الهَدْيَ، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ.

  • فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ مَكَّةَ، قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أهْدَى فَإنَّهُ لَا يُحِلُّ لِشَي‌ءٍ حُرِّمَ مِنْهُ حتّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَ مَنْ لَمْ يَكُنْ أهْدَى فَلْيَطُفْ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ وَ لْيُقَصِّرْ وَ لْيَحلِّلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالحَجِّ، فَمَن لَمْ يَجِدْ هَدْيَاً فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ".٢

  • لا يخلو هذا الحديث من اضطراب و تشويش عند ملاحظة صدره الذي يدلّ على أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أدّى حجّ التمتّع، و لكن عند ما نلاحظ ذيله، الذي ينصّ على أنّ الذين لم يسوقوا معهم الهدي يجب أن يحُلّوا ثمّ يُلبّوا للحجّ، فإنّه صريح في استبدال التمتّع بحجّ الإفراد.

  • و جاء في «الدرّ المنثور» أيضاً: أخْرَجَ الحَاكِمُ وَ صَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ: قَالَ: كَثُرَتِ القَالَةُ مِنَ النَّاسِ، فَخَرَجْنَا حُجَّاجاً حتّى إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ أنْ نُحِلَّ إلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ أمَرَنَا بِالإحلَالِ.

    1. «تفسير الدرُّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٥.
    2. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦.

معرفة الإمام ج٦

92
  • قُلْنَا: أ يَرُوحُ أحَدُنَا إلَى عَرَفَةَ وَ فَرْجُهُ يَقْطُرُ مَنِيَّاً؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ فَقَامَ خَطِيبَاً فَقَالَ: "أ بِاللهِ تُعَلِّمُونِي أيُّهَا النَّاسُ؟! فَأنَا وَ اللهِ أعْلَمُكُمْ بِاللهِ وَ أتْقَاكُمْ لَهُ. وَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي‌ مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ هَدْيَاً وَ لَحَلَلْتُ كَمَا أحَلُّوا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ إلَى أهْلِهِ؛ وَ مَنْ وَجَدَ هَدْيَاً فَلْيَنحَرْ. فَكُنَّا نَنْحَرُ الجَزُورَ عَنْ سَبْعَةٍ".

  • قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّ رَسُولُ اللهَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ قَسَّمَ يَومَئِذٍ في أصحَابِهِ غَنَماً؛ فَأصَابَ سَعْدَ بْنَ أبِي وَقّاصٍ تَيْسٌ؛ فَذَبَحَهُ عَنْ نَفْسهِ.۱

  • و جاء في «الدرّ المنثور» أيضاً: أخْرَجَ ابنُ أبي شَيْبَةَ وَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: نَزَلَتْ آيَةُ المُتعَةِ في كِتَابِ اللهِ؛ وَ فَعَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ ثُمَّ لَمْ تَنْزِلْ آيَةٌ تَنْسَخُ آيَةَ مُتْعَةِ الحَجِّ؛ وَ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا حتّى مَاتَ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأيِهِ مَا شَاءَ.٢

  • قال الاستاذ الأكرم العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في ذيل هذا الحديث بعد نقله لتلك الأحاديث في «تفسير الميزان»: و قد رُوِيَت الرواية بألفاظ اخرى قريبة المعنى ممّا نقله في «الدرّ المنثور».

  • و في «صحيح مسلم» و «مسند أحمد» و «سنن النسائيّ» عن مطرف، قال: بعث إليّ عِمران بن حصين في مرضه الذي توفّى فيه، فقال: إنّي كنت محدّثك بأحاديث لعلّ الله أن ينفعك بها بعدي، فإن عشتُ، فاكتُم عَلَيّ! 

  • نبيّ الله، قال رجل فيها

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱۷؛ و ذكر ابن سعد في طبقاته مثل هذا الحديث عن جابر، ج ٢، ص ۱۸۷.
    2. تفسير «المصدر السابق» ص ٢۱٦.

معرفة الإمام ج٦

93
  • و إن مُتُّ، فحدّث بها عنّي! إنّي قد سُلِّمَ عَلَيّ.

  • و اعلم أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم قد جمع بين حجّ و عمرة، ثمّ لم ينزل فيها كتاب الله و لم ينه عنه برأيه ما شاء.۱

  • و في «صحيح الترمذيّ» أيضاً و «زاد المعاد» لابن القيّم: سُئِلَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ، قَالَ: هي حَلَالٌ. فَقَالَ السَّائِلُ: إنَّ أبَاكَ قَدْ نَهَى عَنْهَا!

  • فَقَالَ: أ رَأيْتَ أنْ كَانَ أبي نَهَى وَ صَنَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ؛ أ أمْرُ أبِي مُتَّبَع أمْ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلْ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ.

  • فَقَالَ: لَقَدْ صَنَعَها رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ.٢

  • و في «صحيح الترمذيّ» و «سنن النسائيّ» و «سنن البيهقيّ» و «موطَّأ مالك» و كتاب «الامّ» للشافعيّ، عن محمّد بن عبد الله أنّه سمع سعد بن أبي وقَّاص، و الضحّاك بن قيس عام حجّ معاوية بن أبي سفيان، و هما يذكران التمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فقال الضحّاك: لا يصنع ذلك إلّا من جهل أمر الله.

  • فقال سعد: بئسما قلت يا بن أخي!

  • قال الضحّاك: فإنّ عمر بن الخطّاب نهى عن ذلك.

  • قال سعد: قد صنعها رسول الله و صنعناها معه.٣

  • [قال:] و في «الدرّ المنثور»: أخرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ وَ النسَائِيّ عَنْ 

    1. «تفسير الميزان» طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران، سنة ۱٣٩٣، ج ٢، ص ۸٩.
    2. «نفس المصدر السابق» 
    3. «نفس المصدر السابق» 

معرفة الإمام ج٦

94
  • أبي موسى، قَالَ: قَدِمْتُ على رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ وَ هُوَ بِالبَطْحَاءِ، فَقَالَ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ:

  • أ هَلَلْتَ؟ قُلْتُ: أهْلَلْتُ بِإهْلَالِ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ.

  • قَالَ: هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْي؟! قُلْتُ: لَا. قَالَ: "طُفْ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ ثُمَّ حِلّ". فَطُفْتُ بِالبَيْتِ وَ بِالصَّفَا وَ المَرْوَةِ، ثُمَّ أتَيْتُ امْرَأةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي رَأسِي وَ غَسَلَتْ رَأسِي، فَكُنْتُ افْتِي النَّاسَ في إمَارَةِ أبِي بَكْرٍ وَ إمَارَةِ عُمَرَ، فإنّي لَقَائِمٌ بِالمَوسِمِ إذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أحْدَثَ أمِيرُ المؤمِنِينَ في شَأنِ النُّسْكِ؟

  • فَقُلْتُ: يَا أيُّهَا النَّاسُ! مَنْ كُنَّا أفْتَيْنَاهُ بِشَي‌ءٍ فَلْيَتَّئِدَّ! فَهَذَا أميرُ المُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ؛ فبِهِ فَائتَمُّوا!

  • فَلَمَّا قَدِمَ، قُلْتُ يا أميرَ المُؤْمِنِينَ! مَا هَذَا الذي أحْدَثْتَ في شَأنِ النُّسُكِ؟! قَالَ: "أنْ نَأخُذْ بِكِتَابِ اللهِ، فَإنَّ اللهَ قَالَ: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ‌}، وَ أنْ نَأخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ، لَمْ يُحِلَّ حتّى نَحَرَ الهَدْيَ".۱

  • و النتيجة الحاصلة في هذا الموضوع و ما يستفاد من هذه الروايات و الروايات المماثلة التي سيأتي بعضها، و ما يفيده النصّ القرآنيّ الصريح هو وجوب التمتّع في الحجّ الواجب لمن كانوا بعيدين عن المسجد الحرام، إذ يحرمون في البداية بإحرام العمرة، ثمّ يحلّون في مكّة بعد الطواف و السعي و التقصير؛ و بعد ذلك يحرمون من مكّة للحجّ و يتمّون حجّهم. فيؤدّون عمرة و حجّة تامّتين بنيّتين و إحرامين مستقلّين و ذلك في سفرة واحدة إلى بيت الله الحرام أيّام الحجّ. و دخلت العمرة في الحجّ حتّى كأنّ 

    1. «تفسير الميزان» ج ٢، ص ٩۰؛ و تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦.

معرفة الإمام ج٦

95
  • إحلالًا و تمتّعاً قد تحقّقاً أثناء فريضة الحجّ، و لذلك أطلقوا على هذا الحجّ: حجّ التمتّع.

  • و قد ألغى عمر هذا الحكم أيّام حكومته، و أمر بترك العمرة في أشهر الحجّ، و الإحرام للحجّ من الميقات فقط بلا تمتّع، و الإحرام من الميقات، و أداء العمرة مستقلّة في الشهور الاخرى من السنة. فينحصر الحجّ في حجّ الإفراد، و حجّ القِران. و في هذه الحالة يعود الحجّ إلى كيفيّته السابقة التي كانت سائدة بين العرب في العصر الجاهليّ بقيّة من سنّة إبراهيم عليه السلام. و بصورة عامّة، فإنّ حجّ التمتّع، و نسخ الحجّ السابق بالنسبة إلى الأشخاص البعيدين، و التعليمات النبويّة الجديدة في حجّة الوداع، و نزول جبرئيل على المروة، و إنزال قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌}، و خطب النبيّ المتكرّرة في مكّة، و اعتراضه الشديد على من خالف تعاليمه في هذا المجال، كلّ ذلك قد ضاع سدىً.

  • و لا بدّ لنا هنا أن نخوض في هذا البحث لنرى منطلق هذا العمل، و أدلّة الذين لا يتمتّعون أثناء الحجّ تأسّياً بسنّة عمر فقط؟

  • ردّ المخالفين في الاستدلال بالآية: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ‌}

  • الإشكالات التي أثارها عمر على حجّ التمتّع‌

  • فقد استدلّوا على مدّعاهم من وجهات متعدّدة:

  • الوجهة الاولى: الآية الكريمة: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ‌}.۱ زاعمين أنّ الحجّ كلّه يتمثّل بالإحرام من الميقات. و أنّ الذين يحرمون من الميقات و بعد ذلك يعتمرون، و يحلّون في مكّة، ثمّ يحرمون للحجّ من مكّة؛ فإنّ هناك في حجّهم نقصاً و خللًا، لأنّ العمرة و الحجّ في هذه الحالة قد تداخلا، و الإحلال بينهما في حكم الإحلال بين الحجّ، و هو ما يستلزم نقصان الحجّ.

  • و الجواب على هذا الادّعاء واضح، لأنّ إتمام العمرة و الحجّ أداؤهما

    1. صدر الآية ۱٩٦، من السورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

96
  • بجميع الشروط و الأجزاء، و الاجتناب عن موانعهما؛ و من يحرم من الميقات بقصد العمرة، و يطوف، و يصلّي، و يسعى، و يقصّر في مكّة، فإنّه يؤدّي عمرة تامّة؛ و من يحرم من مكّة، و يتوجّه إلى عرفات و المشعر بقصد الحجّ، و يؤدّي مناسك منى و البيت الحرام، فإنّه يؤدّي حجّة تامّة بجميع أجزائها و شروطها متجنّباً موانعها.

  • و علمنا أنّ تحديد الشروط و الأجزاء و الموانع في كلّ من العمرة و الحجّ يعود إلى الشارع المقدّس. و لمّا قرّر لنا أن نحرم من الميقات بقصد الحجّ في حجّ القران و حجّ الإفراد، و أن نحرم من مكّة في حجّ التمتّع، فإنّ تمام ذلك و كماله أداؤه وفقاً لهذا النهج و هذا الشكل؛ و خلاف ذلك يستلزم النقصان و عدم الإتمام؛ و النتيجة الحاصلة هنا هو أن نأخذ هيكل الحجّ و كيفيّته و أجزاءه و شروطه من الشارع؛ و هذا هو التمام، و غيره هو النقصان.

  • و ليس لأحد أن يضيف من عنده جزءاً أو شرطاً؛ أو يرفعهما، و من ثمّ يحدّد التمام و النقصان تبعاً لما يرتئيه؛ و على هذا فإنّ قوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ‌} لا يعنى أكثر من إتمام الحجّ و العمرة للّه. و أمّا تمامه بعدم الإحلال بين العمرة و الحجّ، و البقاء في الإحرام حتّى الذهاب إلى عرفات، فلا يمكن استنتاجه من الآية مهما كانت القرائن. و نذكر الآية كلّها فيما يلي بغية الوقوف على توضيح أكثر لهذه الحقيقة، ثمّ نأتي بالدليل على أنّ قوله {وَ أتِمُّوا} لا يعضد مدّعاهم و لا يدلّ عليه بل يدلّ على نقيضه.

  • {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ 

معرفة الإمام ج٦

97
  • حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}‌.۱

  • فقد جاء في صدر هذه الآية أن نتمّ الحجّ و العمرة للّه!

  • و تماميّة كلّ شي‌ء بشي‌ء إذا ألحقناه بأجزائه الاخرى فأنّه يتحقّق، و تترتّب عليه آثاره المطلوبة، فالإتمام هو عبارة عن إلحاق جزء من الأجزاء بعد البدء بشي‌ء تُقْتَطَف آثاره المطلوبة بواسطة إلحاق ذلك الجزء.

  • و كمال شي‌ء عبارة عن حالة أو وصف أو أمر إذا وجده ذلك الشي‌ء، فإنّ الآثار المطلوبة منه تُجنى بعد تماميّته. و تلك الآثار لا تجنى بغير الكمال.

  • و على سبيل المثال، فإنّ انضمام بعض أجزاء الإنسان إلى البعض الآخر يمثّل تماميّته، و لكنّ العالميّة و الشجاعة تمثّلان كماله. فضمّ بعض أجزاء المولّد الكهربائيّ، أو آلة الطباعة إلى بعضها الآخر بغية توليد الكهرباء أو الطبع، و التخلّص من النقصان، يمثّل تماميّة ذلك. و لكنّ ترتّب الأثر المطلوب على ذلك، من توليد كهرباء و طبع بعد فرض التماميّة يمثّل كماله.

  • فقوله: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَ‌} أي: أدّوا جميع الأجزاء المشروطة في الحجّ! و لا تقصّروا في جزء منها! و الشاهد على ذلك ما جاء بعده مباشرة: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‌}. فإذا تعذّر عليكم إتمامه بسبب مرض أو منع عدوّ، فعليكم إرسال الهدي! و إذا ما نحر في محلّه، فأحلّوا من إحرامكم!

  • و من المعلوم أنّ الحصر و الإحصار يقتضي النقصان و عدم التماميّة في أجزاء الحجّ؛ فالآية تفيدنا- إذاً- أن نتمّ الحجّ على أيّ حال كان، و مهما كان نوعه: قراناً أو إفراداً أو تمتّعاً، و أن نتفادى نقصانه بترك جزء أو شرط 

    1. الآية ۱٩٦، من السورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

98
  • من شروطه.

  • و في هذه الآية نفسها يأمر الله تعالى بحجّ التمتّع، فيقول: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ، فما استيسر من الهدي، أي: ينحرون في منى، و تماميّة حجّهم بالهدي و الأضحية. و حجّ التمتّع هذا واجب على من كان أهله غير حاضري المسجد الحرام. فصدر الآية {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ}‌ يأمر بإتمام الحجّ، مهما كان نوعه. و ذيلها يقسّم الحجّ إلى قسمين: حجّ التمتّع لمن لم يكونوا حاضري المسجد الحرام؛ و حجّ غير التمتّع لحاضري المسجد الحرام. و يستفاد وجوب التمتّع من هذه الآية المباركة من قوله: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌} لا من قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ‌}، لأنّ قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ}‌ ينبئ عن قسمين، و قوله: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ}‌ يوجب نوعاً واحداً و هو التمتّع للبعيدين؛ و هذا المعنى في غاية الوضوح.

  • و بعد أن عرفنا أنّ كيفيّة الحجّ و أجزاءه و شروطه، و أيّ عبادة اخرى غيره ينبغي أن تحدّد من قبل الشارع المقدّس. و أنّ رسول الله أكّد من على المروة و في خطبته بمكّة المكرّمة على كيفيّة الحجّ لمن لم يحضروا المسجد الحرام إلى يوم القيامة و ذلك بعد نزول جبرئيل بهذه الآية: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌}، فإتمام الحجّ للبعيدين عن المسجد الحرام يتحقّق على نحو التمتّع، لا على نحو الإفراد و القِران. و في ضوء ذلك فإنّ قوله: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَ‌} يدعونا إلى إتمام الحجّ حسب التعاليم القرآنيّة و النبويّة إذ هو للبعيدين على نحو التمتّع، و لا يجزي عدم التمتّع منهم.

  • و أمّا دلالة الآية: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَ‌} على وجوب الفاصلة بين العمرة و الحجّ، و إثبات إتمام الحجّ بالإحرام من الميقات في ضوء الآية الكريمة: فَدُونَ إثْبَاتِهِ خَرْطُ الْقَتَادِ، كما نصّ على ذلك الاستاذ الأكرم العلّامة 

معرفة الإمام ج٦

99
  • الطباطبائيّ رضوان الله عليه.۱

  • و يستبين جيّداً ممّا تقدّم أنّ استدلال عمر بقوله تعالى: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ‌} على عدم جواز التمتّع كما مرّ بنا في الرواية المأثورة عن أبي موسى الأشعريّ آنفاً، غير صحيح، كما أنّ استدلاله بهذه الآية في رواية اخرى غير صحيح أيضاً.

  • و هذه الرواية هي الواردة في تفسير «الدرّ المنثور» فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبِي نَضْرَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأمُرُ بِالْمُتْعَةِ، وَ كَانَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنْهَا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِجَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ؛ فَقَالَ: على يَدِي دَارَ الحَدِيثُ؛ تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ؛ فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ، قَالَ: "إنَّ اللهَ كَانَ يُحِلُّ لِرَسُولِ اللهِ مَا شَاءَ مِمَّا شَاءَ، وَ إنَّ القُرآنَ قَدْ نَزَلَ مَنَازِلَهُ؛ فَأتِمُّوا الحَجَّ وَ العُمْرَةَ كَمَا أمَرَكُمُ اللهُ وَ افْصِلُوا حَجَّكُم مِنْ عُمْرَتِكُمْ فَإنَّهُ أتَمُّ لِحَجِّكُمْ وَ أتَمُّ لِعُمْرَتِكُمْ".٢

  • جواب القائلين بعدم جواز التمتّع في الحجّ‌

  • فجواب عمر بيّن من هذا الكلام، لأنّ حجّ التمتّع- في ضوء القرآن الكريم- لم يختصّ برسول الله؛ و بناءً على خطبة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فإنّ الحجّ و العمرة قد تداخلا كتشابك الأصابع إلى يوم القيامة؛ و يتّفق العلماء جميعاً من الفريقين على أنّ شأن النزول ليس مخصِّصاً؛ أي: أنّ نزول آية في موضوع ما لا يحصر الحكم في ذلك الموضوع؛ و لذلك فإنّ قوله: أنّ القرآن نزل منازله، و قوله: فأتمّوا الحجّ و افصلوا الحجّ من العمرة هما من أغرب الغرائب؛ و يمثّلان استنتاجاً فكريّاً في مقابل النصّ. و من هنا يستفاد أنّ:

    1. «تفسير الميزان» ج ٢، ص ٩٢.
    2. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩۰.

معرفة الإمام ج٦

100
  • الوجهة الثانية من دليل المخالفين، و هي أنّ عدم التمتّع يؤدّي إلى إتمام الحجّ و التأسّي بالسنّة النبويّة؛ لأنّ النبيّ لم ينحر هديه، و لم يُحِلّ، و لم يتمتّع إلى أن فعل ذلك في منى على أساس خطبة عمر الواردة في حديث أبي موسى الأشعريّ إذ قَالَ: إن نَأخُذْ بِكِتَابِ اللهِ فَإنَّ اللهَ قَالَ: {وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ وَ إن نَأخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ لَمْ يُحِلَّ حتّى نَحَرَ الْهَدْيَ؛۱ ذلك لأنّ اتّباع السنّة النبويّة صحيح عند عدم تصريح النبيّ بخلافه، كالصوم المستحب، و قيام الليل للعبادة؛ و أمّا عند تصريحه بالخلاف كعدم جواز الزواج بأكثر من أربع نساء زواجاً دائميّاً فلا ريب أنّ اتّباعه يعتبر مخالفة لأمره و سنّته.

  • و قد صرّح في حجّة الوداع أنّ عدم إحلاله هو بسبب سوق الهدي، و إلّا لأحلّ كغيره من المسلمين؛ و في هذه الحالة فإنّ البقاء في الإحرام حتّى منى بالنسبة إلى الأشخاص الذين ليس معهم هدي هو خلاف السنّة، لا اتّباع للسنّة. و لمّا كان حكم التمتّع وارداً إلى يوم القيامة، فإنّ أداء حجّ القِران و الإفراد بالنسبة إلى البعيدين عن المسجد الحرام هو مخالف للسنّة في الحجّ الواجب.

  • و العجيب هو الزعم باتّباع السنّة، و قد قال رسول الله في خطبته بمكّة معترضاً على هذا الزعم الباطل: "أ بِاللهِ تُعَلِّمُونِي أيُّهَا النَّاسُ؟!"

  • و الإحرام للحجّ لا يتحقّق بمجرّد عدم حلق الرأس إلى أن يبلغ الهدي محلّه بمنى؛ و الآية تدلّ على أنّ سائق الهدي الذي ينبغي أن لا يحلق رأسه، إذا لم يكن من حاضري المسجد الحرام، فإنّ حجّه سيكون حجّ التمتّع- لا محالة-. و حاصل الكلام أنّ رسول الله لم يحجّ حجّ التمتّع؛ إلّا 

    1. «الميزان»، ج ٢، ص ٩۰.

معرفة الإمام ج٦

101
  • أنّه أمر أصحابه و مرافقيه و امّته جميعاً بالتمتّع إلى يوم القيامة، فكيف يمكننا أن لا نعتبر هذا العمل من السنّة النبويّة؟ و هل يمكن أن نعتبر أمراً يخصّ رسول الله، و هو يأمر امّته بغيره، من السنّة النبويّة، فيؤمر به الناس؟! حَاشَا وَ كَلَّا.

  • حجّ التمتّع لا يختصّ بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • و من هنا يمكننا أيضاً أن نفهم بأنّ ما قالوه حول اختصاص الصحابة بحجّ التمتّع واهٍ لا أساس له. جاء في «الدرّ المنثور» قوله: أخْرَجَ ابنُ أبي شَيبَةَ وَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي ذَرٍّ، قَالَ: كَانَتِ المُتْعَةُ في الحَجِّ لأصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ خَاصَّةً.۱

  • و جاء فيه أيضاً: أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أبي ذَرٍّ قَالَ: لَا تَصْلَحُ المُتَعَتَانِ إلّا لَنَا خَاصَّةً- يعني مُتْعَةَ النِّساءِ وَ مُتْعَةَ الحَجِّ-.٢

  • و وردت في الجزء الأوّل، ص ٢۱٦ منه أيضاً رواية نصّها: أخْرَجَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُتْعَةِ في الحَجِّ، فَقَالَ: كَانَتْ لَنَا، لَيْسَتْ لَكُمْ.

  • و مضمون هاتين الروايتين يخالف كتاب الله القائل: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌}، لأنّ إطلاق هذه الآية و عدم تقييدها بوقت خاصّ؛ أو بأشخاص معيّنين يخالف متن الروايتين. و لمّا كانت الروايتان مخالفتين لكتاب الله فهما مطروحتان. و كذلك هما مخالفتان لكلام رسول الله لأنّه شَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ و قال: دخلت العمرة في الحجّ هكذا [كأصابعه المتشابكة] إلى يوم القيامة. مضافاً إلى ذلك، أنّه يستنتج من إنكار بعض الصحابة، كعمر، و عثمان، و ابن الزبير، و أبي موسى الأشعريّ، و معاوية، (و أبي بكر في بعض الروايات) و تركهم حجّ 

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩۱.
    2. «نفس المصدر السابق».

معرفة الإمام ج٦

102
  • التمتّع أنّها ليست خاصّة بالصحابة.

  • يقول ابن كثير الدمشقيّ في «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦٦: و أمّا الإمام أحمد [بن حنبل‌] فردّ ذلك. و قال: قد رواه أحد عشر صحابيّاً، فأين تقع هذه الرواية من ذلك؟ ... و أفتى ابن عبّاس بوجوب الفسخ [التمتّع‌] على كلّ من لم يسق الهدي.

  • و في «السيرة الحلبيّة» بعد ذكر كلام النبيّ حول تغيير الحجّ إلى حجّ التمتّع و سؤال سراقة بن مالك، و خطبة النبيّ بعد سماعه كلام المخالفين، يعترف قائلًا: إنّ هؤلاء جميعهم يصرّحون أنّ المراد من التمتّع هو الإحلال بين العمرة و الحجّ، و هو باق إلى يوم القيامة. لكنّه يقول بعد ذلك:

  • أجاب عنه أئمّتنا بأنّ ذلك، أي فسخ الحجّ إلى العمرة، كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهليّة من تحريم العمرة في أشهر الحجّ، و يقولون: إنّه من أفجر الفجور. و بهذا قال أبو حنيفة، و مالك، و إمامنا الشافعيّ و جماهير العلماء من السلف و الخلف ... و خالف الإمام أحمد [بن حنبل‌] و طائفة من أهل الظاهر، فقالوا: بل هذا ليس خاصّاً بالصحابة في تلك السنة، أي: بل باق لكلّ أحد إلى يوم القيامة. فيجوز لكلّ من أحرم بالحجّ و ليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة و يتحلّل بأعمالها.۱

  • الثالثة: من حيث إنّ التمتّع لا يلائم وضع الحجّاج. فهيئة الشخص المحرم بإحرام الحجّ هي هيئة مسافر إلى الله، يتكبّد عناء السفر، و يشتري مشقّة الطريق، أشعث أغبر، لم يغتسل و لم يتعطّر، و قد حرّم على نفسه 

    1. «السيرة الحلبيّة» طبعة مصر مكتبة محمّد على صبيح، سنه ۱٣٥٣ هـ، ج ٣، ص ٢٩۸.

معرفة الإمام ج٦

103
  • إتيان النساء و الجواري و غير ذلك من اللذائذ المادّيّة. و لو قدّر أن يحلّ الحاجّ من إحرامه في مكّة، و يمشط شعره، و يتعطّر، و يأتي النساء و الجواري، و يرتدي صبيغ الثياب و مخيطها، و يصبح كما لو كان في مدينته و بين أهله؛ فلا يبقى للحجّ أيّ احترام، و يضمر بهاؤه و جلاله و عظمته.

  • و في «مسند» أحمد عن أبي موسى [الأشعريّ‌]: إنَّ عُمَرَ قَالَ: هي سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ- يَعْنِي المُتْعَةَ- وَ لَكِنِّي أخْشَى أنْ يُعْرِسُوا بِهِنَّ تَحْتَ الأرَاكِ ثُمَّ يَروحُوا بِهِنَّ حُجَّاجاً.۱

  • و في «جَمْع الجَوامِع» للسيوطيّ عن سعيد بن المُسَيِّب: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ نَهَى عَنِ المُتْعَةِ في أشْهُرِ الحَجِّ وَ قَالَ: فَعَلْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ وَ أنَا أنْهَى عَنْهَا؛ وَ ذَلِكَ أنَّ أحَدَكُمْ يَأتِي مِنْ افُقٍ مِنَ الآفَاقِ شَعِثاً نَصِيباً مُعْتَمِراً في أشْهُرِ الحَجِّ؛ وَ إنَّمَا شَعَثُهُ وَ نَصَبُهُ وَ تَلْبِيَتُهُ في عُمْرَتِهِ، ثُمَّ يَقْدِمُ فَيَطُوفُ بِالبَيْتِ وَ يُحِلُّ وَ يَلْبَسُ وَ يَتَطَيَّبُ وَ يَقَعُ على أهْلِهِ أنْ كَانُوا مَعَهُ حتّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أهَلَّ بِالحَجِّ وَ خَرَجَ إلى مِنَى يُلْبِّي بِحجَّةٍ لَا شَعَثَ فِيهَا وَ لَا نَصَبَ وَ لَا تَلْبِيَةَ إلَّا يَوْماً؛ وَ الحَجُّ أفْضَلُ مِنَ العُمْرَةِ؛ لَوْ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ هَذَا لَعَانَقُوهُنَّ تَحْتَ الأرَاكِ، مَعَ أنَّ أهْلَ البَيْتِ لَيْسَ لَهُمْ ضَرْعٌ وَ لَا زَرْعٌ وَ إنَّمَا رَبِيعُهُمْ فِيمَنْ يَطْرَأ عَلَيْهِمْ.٢

  • و جاء في بعض الروايات أيضاً أنّ عمر قال: قد علمت أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم فَعَلَه و أصحابُهُ، و لكنّي كرهت أن يعرسوا بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم.٣ و٤

    1. تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩۰، عن «مسند أحمد».
    2. «نفس المصدر السابق» 
    3. «المصدر السابق» ج ٢، ص ٩٣.
    4. يقول في كتاب «شيعه و اسلام» (الشيعة و الإسلام) للسبط، ج ٢، هامش ص ۱٩: نقل أبو الفداء في «التاريخ» ج ٢، ص ٣٩، أنّ المأمون العبّاسيّ نسب جملة «متعتان كانتا محلّلتين». كما نسبها له الجاحظ في «البيان و التبيين» ج ٢، ص ٢٣.

معرفة الإمام ج٦

104
  • نهى عمر عن التمتّع في الحجّ، اجتهاد مقابل النصّ‌

  • و الجواب هو: أنّ الدليل من هذه الوجهه جليّ أيضاً، لأنّه اجتهاد في مقابل النصّ. فالله و رسوله نصّا على جواز التمتّع و لا إشكال في النصّ على حجّ التمتّع. فكيف يسوغ لنا حينئذٍ أن نقدّم رأينا الخاصّ و اجتهادنا الفكريّ؟ و الله و رسوله أعلم أنّ الذي يخافه عمر و هو منه في قلق، سيفعله و مع ذلك أمر صلّى الله عليه و آله و سلّم بالتمتّع، بل أمر الناس أن يتمتّعوا و يؤدّوا حجّهم على هذا النحو. و هذا من الفيوضات الناتجة عن رحمة الله الواسعة، إذ رفع الله عن امّته ما عانته الامم السابقة من المشاقّ، و استجاب دعاءه: {رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ}‌.۱

  • و عند ما يجيز الله و رسوله شيئاً بصراحة، فهل هناك من يجرأ على المخالفة؟ مضافاً إلى ذلك، فإنّ الله و رسوله أعلم بمصالح الأحكام، و ملاك القوانين، و الحئول دون المفاسد؛ و كما نوّهنا، لعلّ طول البقاء في الإحرام يؤدّي بكثير من الحجّاج إلى ارتكاب المعصية و العمل اللامشروع بسبب عدم تحمّلهم. و قد رفع الله هذا التكليف الشاقّ و رجّح اليُسر على العُسر رَحْمَةً لِلُامَّةِ المَرْحُومَةِ.

  • و من عجائب الأمر أنّ الآية التي تشرّع حكم التمتّع يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر عمر أنّه يخشاه. أ لم يقل تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ}‌؟ و هل التمتّع إلّا استيفاء الحظّ من المتاع و الالتذاذ 

    1. الآية ٢۸٦، من السورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

105
  • بطيّبات النكاح و اللباس و غيرهما؟ و الشاهد على ما نقول رواية جاءت في تفسير «الدرّ المنثور»، قال: أخرج ابن أبي شيبة، و ابن المنذر عن عطاء قال: إنَّما سُمّيت المتعة لأنّهم كانوا يتمتّعون من النساء و الثياب. و في‌ لفظ: يتمتّع بأهله و ثيابه. فمعنى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ‌} هو: وَ مَنْ يُعْرِسْ بِزَوْجَتِهِ وَ أمَتِهِ تَحْتَ الأرَاكِ بَعْدَ العُمْرَةِ إلى زَمَانِ الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.۱

  • و أعجب منه أنّ جمعاً من الصحابة قد اعترضوا على رسول الله، و استقبحوا التمتّع بالنساء في الحجّ- ننطلق إلى منى و ذَكَرُ أحدنا يقطر- و في لفظ آخر و فرجه يقطُرُ مَنِيّاً؟-٢ فبلغ ذلك النبيّ، فقام خطيباً و أمرهم بما استقبحوه و خافوه من قبل. و أمرهم بالتمتّع كما فرضه عليهم أوّلًا، يعني أنّه أمرهم ثانياً بالتمتّع بالنساء و بارتداء الثياب الفاخرة، و استعمال العطر. و هل أنّ عدم استساغة هذا الأمر يمكن أن يكون شيئاً آخر غير التحجّر الفكريّ و وصمة من آداب الجاهليّة و تقاليدها؟

  • الرابعة: من حيث تعطيل أسواق مكّة، كما في رواية السيوطيّ التي نقلناها عن «جمع الجوامع» عن سعيد بن المسيّب، إذ يقول فيها عمر: إنّ أهل البيت (بيت الله) ليس لهم ضرع و لا زرع، و إنّما ربيعهم فيمن يطرء عليهم. لذلك لو كان حجّ و عمرة في مرحلتين فذلك أنفع لهم.

  • و الجواب: هذا تحمّس للّه، و الله لا يحتاج إلى متحمّس. و هو اجتهاد في مقابل النصّ. و الله تعالى يرزق عباده بأحسن ما يكون و من حيث 

    1. تفسير «الدّر المنثور» ج ۱، ص ٢۱٤.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩٦؛ و «الطبقات» لابن سعد ج ٢، ص ۱۷۸ و ۱۸۸؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ٩٥، و اللفظ ل- «السيرة الحلبيّة».

معرفة الإمام ج٦

106
  • لا نحتسب، و هو بالغ أمره كما قال جلّ من قائل: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ‌}.۱

  • و ما علينا إلّا أن نكون عباداً مطيعين له؛ و لا خِيَرة لنا من أمرنا فنناقش ما يقضيه لنا؛ و نتجاوز حدّنا مفرّطين في توجّهنا من مرحلة العبوديّة، و مسار المأموريّة إلى مرحلة الآمريّة و الربوبيّة، و نتعجّل في الأمر و نتبارى في تقديم ما نريد على كلام الله و رسوله و أمرهما. و قد علّمنا الله أن لا نفعل ذلك فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ‌}.٢

  • و قد مرّ المؤمنون في صدر الإسلام بمثل هذا الخوف و القلق من العسر في المعيشة. بحيث إنّهم خالوا أنّ عدم تردّد المشركين على مكّة و المسجد الحرام سيوقعهم في العُسر و الضيق. فأنزل الله هذه الآية: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‌}.٣

  • الخامسة: من حيث إنّ تشريع التمتّع لمكان الخوف، فلا تمتّع في غير حال الخوف. جاء في «الدرّ المنثور» قوله: أخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابنِ شَقِيقٍ؛ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ؛ وَ كَانَ عَلِيّ يَأمُرُ بِهَا؛ فَقَالَ عُثْمَانُ لَعَلِيّ كَلِمَةً؛ فَقَالَ عَلِيّ [عَلَيهِ السَّلَامُ‌]: "لَقَدْ عَلِمْتَ أنَّا تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ؛ قَالَ: وَ لكِنَّا كُنَّا خَائِفِينَ.٤

    1. الآية ٣، من السورة ٦٥: الطلاق.
    2. الآية ۱، من السورة ٤٩: الحجرات.
    3. الآية ٢٩، من السورة ٩: التوبة.
    4. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩۱.

معرفة الإمام ج٦

107
  • و جاء في «الدرّ المنثور» أيضاً: أخْرَجَ ابْنُ أبي شَيْبَةَ وَ ابْنُ جُرَيْرٍ وَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: "يا أيُّهَا النَّاسُ! وَ اللهِ مَا التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ كَمَا تَصْنَعُونَ، إنَّمَا التَّمَتُّعُ أنْ يُهِلَّ الرَّجُلُ بِالحَجِّ فَيحْضُرُهُ‌ عَدُوٌّ أوْ مَرَضٌ أوْ كَسْرٌ، أوْ يَحْبِسُهُ أمْرٌ حتّى يَذْهَبَ أيَّامُ الحَجِّ فَيَقْدِمُ فَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً فَيَتَمَتَّعُ تَحِلَّةً إلى العَامِ المُقْبِلِ ثُمَّ يَحِجُّ وَ يَهْدِي هَدْيَاً، فَهَذَا التَّمَتُّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ".۱

  • الجواب: حكم الآية القرآنيّة و كلام رسول الله مطلق يشمل الخائف و غيره. و قوله: {فَإِذا أَمِنْتُمْ‌} ينصّ على أنّ حكم التمتّع في حالة الأمن و عدم الخوف. لذلك فإنّ حصر الآية في حالة الخوف يفتقر إلى الدليل، مضافاً إلى ذلك، فإنّ التفسير الذي أتى به عبد الله بن الزبير ليس أكثر من معنى خياليّ ناتج عن مخترعاته، و لا شاهد عليه من الكتاب و السنّة؛ بل إنّ إطلاق الآية و كلام النبيّ يناقضه. ناهيك عن أنّنا لا نثبت وجوب التمتّع بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ}‌، حتّى يقولوا أنّه وحده يفيد لزوم الهدي في حالة فرض التمتّع، بل أنّ استدلالنا بذيل الآية، أعني قوله: {ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ‌}. و هذا الذيل يفيد وجوب التمتّع للبعيدين عن المسجد الحرام بنحو مطلق و بدون أيّ تقييد بالخوف من عدوّ و مرض و كسر و غيرها من هذه الأشياء.

  • السادسة: من حيث الولاية، أي: أنّ عمر نهى عنها بحقّ ولايته الأمر، و قد فرض الله طاعة اولي الأمر إذ قال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‌}.٢

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٤؛ و تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩٤.
    2. الآية ٥٩، من السورة ٤: النساء.

معرفة الإمام ج٦

108
  • و على هذا المنوال روايات ذكروها عن نهى عمر الصريح عن حجّ التمتّع أيّام حكومته، منها: في «سنن النسائيّ» عن ابن عبّاس قال: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: وَ اللهِ إنّي لأنهَاكُمْ عَنِ المُتْعَةِ وَ إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللهِ، وَ لَقَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ- يَعْنِي العُمْرَةَ في الحَجِّ.۱

  • و في «سنن البيهقيّ» عن مسلم، عن أبي نَضْرَة، عن جابر قال: إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَنْهَى عَنِ المُتْعَةِ وَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَأمُرُ بِهِ. قَالَ: على يَدي جَرَى الحَدِيثُ، تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ وَ مَعَ أبِي بَكْرٍ فَلَمَّا وَلِىَ عُمَرُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ هَذَا الرَّسُولُ؛ وَ القُرآنَ هَذَا القُرآنُ؛ وَ أنَّهُمَا كَانَتَا مُتْعَتَيْنِ على عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ وَ أنَا أنْهَى عَنْهُمَا وَ اعَاقِبُ عَلَيْهِمَا، إحْدَيْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ؛ وَ لَا أقْدِرُ على رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً إلى أجَلٍ إلّا غَيَّبْتُهُ بِالحِجَارَةِ، وَ الاخْرَى مُتْعَةُ الحَجِّ.٢

  • من الخطأ التمسّك بآية أُولي الامر في هذه المسألة

  • الجواب: ليس لعمر مثل هذه الولاية من الله حتّى يتسنّى له أن يغيّر حكماً و يحلّل حراماً أو يحرّم حلالًا. و الآية الكريمة {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}‌ لا تشمل وجوب الإطاعة في مثل هذا المعنى.

  • لأنّنا أوّلًا ذكرنا في الجزء الثاني من كتابنا هذا «معرفة الإمام» ضمن دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة أنّ اولي الأمر هم المعصومون لا غير. و قد اعترف بذلك الفخر الرازيّ على تعصّبه و تشدّده في مذهبه. و قد تحدّثنا عن هذا الموضوع بالتفصيل في الجزء المذكور و ناقشناه من جميع أبعاده و جوانبه، و أجبنا بحول الله و قوّته على شبهات المدافعين عنه، 

    1. تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩۱، عن «سنن النسائيّ».
    2. «نفس المصدر السابق» 

معرفة الإمام ج٦

109
  • و أثبتنا استلزام التناقض في متن الآية على فرض شمولها غير المعصومين، (آية اولي الأمر). و لم نعثر لحد الآن على كلام لأحد يقول بعصمة عمر و أمثاله من‌ الخلفاء؛ بل إنّ جميع علماء العامّة يدأبون ما استطاعوا لتبرير أخطائه، و يبذلون قصارى جهودهم لتلمّس مخرج يساعدهم على حمل اموره و أوامره و نواهيه محملًا صحيحاً. و مع تصرّم أربعة عشر قرناً و جهود كلّ هؤلاء العلماء، و تأليف الكتب و الموسوعات إلّا أنّهم لم يستطيعوا أن يرفعوا خطأه، و يجعلوا كلامه مقروناً بالحقيقة و الصواب، و يظهروه على أنّة معصوم.

  • و ثانياً: أنّ الولاية التي جعلها القرآن الكريم لأهلها لا تشمل عموماً مثل هذه الحالات. و توضيح هذا المعنى يحتاج إلى مقدّمة مقتضبة، هي:

  • تدلّ الآيات القرآنيّة بما لا يحصى عدداً على لزوم اتّباع ما أنزله الله على رسوله، مثل الآية الكريمة: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}‌.۱

  • و تدلّ أيضاً على لزوم اتّباع ما شرّعه النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بإذن الله، نحو الآية: {وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ}‌.٢

  • و الآية: {وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.٣

  • لأنّ الإيتاء هو الأمر بقرينة مقابلته بالنهي. فيجب إطاعة الله و رسوله بامتثال الأوامر و انتهاء النواهي. و كذلك الحكم و القضاء، إذ ينبغي العمل وفقاً لحكم و قضاء الله و رسوله. و جاء في سورة المائدة قوله تعالى مكرّراً 

    1. الآية ٣، من السورة ۷: الأعراف.
    2. الآية ٢٩، من السورة ٩: التوبة.
    3. الآية ۷، من السورة ٥٩: الحشر.

معرفة الإمام ج٦

110
  • في الآيات ٤٤، و ٤٥، و ٤۷، و هي: {وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ‌ ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‌ ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ‌}.

  • و مثل الآية: {وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً}.۱

  • و مثل الآية: {وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}.٢

  • و المراد من الاختيار في هذه الآيات هو القضاء أو التشريع أو ما يعمّ ذلك. و قد نصّ القرآن على أنّه كتاب غير منسوخ، و أنّ الأحكام باقية على ما هي عليه إلى يوم القيامة. {وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.٣

  • و الضمير في‌ {أَنَّهُ} يرجع إلى الذِّكر و هو القرآن‌ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ}‌ (صدر الآية ٤۱). و العزيز بمعنى المحكم و المنيع الذي لا يؤثّر فيه بمعنى شي‌ء، و هو حافظ لنفسه دوماً و أبداً.

  • و المراد من إيتان الباطل، دخول الباطل فيه بحيث يشوّه صورته كلّها أو بعض أجزائها، سواء المعارف الحقّة، أو الأحكام و الشرائع، أو الأخلاقيّات، أو قصص الماضين و أخبارهم، أو أخبار الذين سيأتون في المستقبل، أو الأمثال و الحكايات، و يجعلها كلّها غير مستساغة و غير مقبولة، أو يصوّرها على أنّها عسيرة التطبيق.

    1. الآية ٣٦، من السورة ٣٣: الأحزاب.
    2. الآية ٦۸، من السورة ٢۸: القصص.
    3. الآيتين ٤۱ و ٤٢، من السورة ٤۱: فصّلت.

معرفة الإمام ج٦

111
  • و المقصود من الأمام و الخلف في الآية: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ}‌. أمّا وفقاً للزمان، أي: أنّ الباطل لا يأتيه سواء في الأعصار القادمة أو المنصرمة، فيكون المعنى: أنّ كلّ حكم يقع في المستقبل، لا يمكن أن يقدح في القرآن؛ و أيّ حكم تحقّق في الماضي لم يقدح فيه أيضاً؛ و لم يورد فيه خللًا يضعفه و يصيّره واهياً. و أمّا وفقاً للأخبار التي تترجم تلك الوقائع. و في هذه الحالة يكون المعنى بالعكس؛ أي: أنّ كلّ شي‌ء من الأشياء و القوانين و العلوم المعاصرة التي تحكي ما كان في القرون السابقة، و هي موجودة فعلًا، لا تستطيع أن تسرّب الوهن في القرآن، و كذلك الأحكام و القوانين و العلوم التي ستظهر في المستقبل، فإنّها لا تستطيع أن تضفى صبغة الفتور و الضعف على القرآن.

  • و على كِلَا التقديرين، فإنّ مفاد الآية واحد. و هو أنّه لا تعارض في بيان القرآن أبداً؛ و لا كذب في أخباره، و لا سبيل للباطل إلى معارفه و أحكامه و شرائعه؛ و ليس فيه نسخ أو تحريف أو تغيير؛ و لا يتعارض معه شي‌ء سواء من الحوادث الواقعة من الآن إلى يوم القيامة، أو الحوادث التي وقعت في الماضي حتّى بدء الخليقة.

  • ليس لُاولي الامر الحقّ في تشريع الاحكام الكلّيّة

  • و بالجملة تدلّ الآية على عدم إمكان النسخ في أحكامه بنحو الإطلاق و العموم. و لذلك فإنّ كلّ ما شرّعه الله و رسوله، و حكما به، على الامّة جمعاء واجب اتّباعه، يتساوي بذلك أدناها مع اولي أمرها. فهذه مقدّمة للمقصود جرى بيانها بهذا الاسلوب.

  • و يستنتج ممّا تقدّم أنّ قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‌} يثبت لُاولي الأمر حقّ الإتّباع في غير الأحكام. و أمّا في الأحكام الإلهيّة الكلّيّة فإنّ اولي الأمر و رعيّتهم يتساوون في حفظ الأحكام الإلهيّة و النبويّة، و في وجوب اتّباعها.

معرفة الإمام ج٦

112
  • و في ضوء ذلك، فإنّ وجوب إطاعة اولي الأمر ينحصر في أوامرهم و نواهيهم بالنسبة إلى الحالات التي يرون فيها صلاح الامّة الإسلاميّة؛ و لكنّ حكم الله على أيّ حال ينبغي أن يكون محفوظاً في القضيّةو الموضوع.

  • و تشخيص اولي الأمر ما فيه صلاح الامّة الإسلاميّة كتشخيص الإنسان ما فيه صلاحه بالنسبة إلى شئونه الخاصّة، و ما يفعله، أو يتركه. فاختياره في كلّ الأحوال ثابت لا يتغيّر. و على سبيل المثال، فإنّ كلّ واحد منّا حرّ في أكل الرمّان يوم الجمعة، و في عدم أكله؛ فنحن نختار الأكل أو عدم الأكل، و لكنّ جواز أكل الرمّان يوم الجمعة باقٍ على حاله في كِلَا الحالين. و نحن نستطيع أن نشتري السلعة الفلانيّة يوم الخميس أو لا نشتريها. فجواز البيع و الشراء من مال حلال قائم في كِلَا الحالين. و نحن نستطيع أن نتقاضى إلى الحاكم الشرعي في المنازعة الفلانيّة و نأخذ حقّنا، و نستطيع أن لا نتقاضى إليه، و نتنازل عن حقّنا. فحكم الجواز بالرجوع إليه ثابت في الحالتين معاً.

  • بَيدَ أنّا لا نستطيع أن نغيّر حكماً؛ كما لو أردنا أن نشرب خمراً أو نتعامل بالربا، أو نغصب مال الآخرين و نبطل حكم تملّكهم له، حتّى لو رأينا في ذلك مصلحة لنا. ذلك لأنّ ممارساتنا هذه ستتعارض مع حكم الله، و حكم الله ثابت لا يتغيّر. فهذا مثال في الممارسات الشخصيّة.

  • و موضوع وليّ الأمر يجري على نفس النسق. غاية الأمر أنّه يجري بالنسبة إلى الامور العامّة وفقاً للمصالح الكلّيّة مع رعاية حفظ الأحكام الإلهيّة الكلّيّة استهداءً بالنهج الذي رسمه القرآن المجيد، و بيّنه النبيّ الكريم.

  • و يجب على اولي الأمر أن يحرسوا الثغور الإسلاميّة حسب المصالح 

معرفة الإمام ج٦

113
  • النوعيّة و يحدّدوا مهمّة الحرب و السلم. و يرشدوا الناس في الامور العباديّة و التجاريّة و الزراعيّة إلى طريق مستقيم قريب بغية فلاحهم و نجاحهم؛ إلّا أنّه لا يحقّ لهم التحريم العامّ و تغيير الحكم الإلهيّ.

  • حكم عمر المخالف لحكم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم غير مقبول‌

  • و النتيجة الحاصلة إنّ وليّ الأمر هو بمنزلة شخص واحد، غاية الأمر أنّه يتولَّى الشؤون النوعيّة التي هي للعامّة. فكلّ صلاحيّة و اختيار لشخص من الأشخاص في شئونه الشخصيّة و العائليّة، بالنسبة لولي الأمر تعتبر من صلاحياته في الشؤون العامّة و الاجتماعيّة.

  • و لوليّ الأمر حقّ التصرّف في الشؤون الإجتماعيّة وفقاً لما يراه صالحاً بالنسبة إلى المصالح العامّة مع رعاية حكم الله في كلّ واقعة و حادثة.

  • و لو قدّر أن يسمح لوليّ الأمر التصرّف في الأحكام التشريعيّة، و التكليفيّة أو الوضعيّة مراعاة للظروف الزمنيّة، فسوف لن يبقى أيّ حكم و أيّ شريعة أبداً. لأنّ كلّ واحد من اولي الأمر إذا رفع حكماً أو وضعه، فإنّ الشريعة سوف تتغيّر، و أساسها سوف ينقلب بعد تعاقب عدد من اولي الأمر، و بالتالى لا يمكننا أن نتصوّر معنى و مفهوماً لاستمرار الشريعة حتّى يوم القيامة.

  • و ما الفرق بين أن يقال: إنّ حكم التمتّع بالنساء نكاحاً مؤقّتاً، و حكم التمتّع بالنساء في الحجّ و غيره لا ينسجمان مع مناسك الحجّ و طقوسه العباديّة و وضع الحاجّ؛ و ينبغي رفعهما؛ و بين أن يقال: إنّ استرقاق العبيد لا ينسجم مع واقعنا المعاصر هذا اليوم، و ينبغي إلغاؤه؛ و بين أن يقال: إنّ المدنيّة المعاصرة لا تستسيغ و لا تستوعب تطبيق الحدود الإلهيّة كقطع يد السارق، و رجم الزاني و جلده، و القصاص من الشخص القاتل. و إنّ القوانين السائدة في عالم اليوم لا تقرّ ذلك و لا تقبله؛ فينبغي رفع ذلك

معرفة الإمام ج٦

114
  • و مثال ما ذكرنا كثير.

  • و يستفاد هذا المعنى من بعض الروايات المأثورة في هذا الباب: إذ جاء في بعضها أنّ ابَيّ بن كَعْب قام بوجه عمر و قال له: ليس لك أن تغيّر حكم القرآن و حكم رسول الله! و لم يجبه عمر.

  • جاء في «الدرّ المنثور»: أخْرَجَ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْه في مُسْنَدِهِ وَ أحْمَدُ عَنِ الحَسَنِ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ هَمَّ أنْ يَنْهَى عَنْ مُتْعَةِ الحَجِّ فَقَامَ إلَيهِ ابَيّ بْنُ كَعْبٍ؛ فَقَالَ: لَيسَ ذَلِكَ لَكَ! قَدْ نَزَلَ بِهَا كِتَابُ اللهِ وَ اعْتَمَرْنَاهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ فَنَزَلَ عُمَرُ.۱

  • و جاء فيه أيضاً: أخْرَجَ البُخَارِيّ وَ مُسْلِمٌ وَ النَّسَائِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيّبِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَلِيّ وَ عُثْمَانُ وَ هُمَا بِعُسْفَانَ في المُتْعَةِ؛ فَقَالَ عَلِيّ: "مَا تُرِيدُ إلَّا أنْ تَنْهَى عَنْ أمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ"؛ قَالَ: فَلَمَّا رَأى ذَلِكَ عَلِيّ أهَلَّ بِهِمَا جَمِيعاً.٢

  • في لزوم أخذ السنّة و ترك البدعة

  • استبان لنا ممّا تقدّم أنّ هذه التغييرات و التحريفات التي قام بها عُمَر في الشريعة المحمّديّة كانت غير صحيحة. و على فرض اختياره للخلافة و حكومته الشعبيّة كما يظنّ العامّة، فإنّ تلك الممارسات لا تقبل منه.

  • و لم ينه عمر عن متعة الحجّ فحسب، بل و نهى عن متعة النساء و قال: من تزوّج امرأةً إلى أجل، أجريت عليه الحدّ.٣ أي: أنّه يجري حدّ الزنا على من يتمتّع بالنساء تمتّعاً شرعيّاً. و له في كثير من الامور الاخرى ممارسات مناهضة للشريعة، و هي مدوّنة في الكتب المفصّلة للشيعة 

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٢، ص ٩٦.
    2. «نفس المصدر السابق» 
    3. «الميزان» ج ٢، ص ٩۱، نقلًا عن «سنن البيهقيّ».

معرفة الإمام ج٦

115
  • و العامّة.

  • و تسلّم عثمان مقاليد الامور تأسّياً بسنّة أبي بكر و عمر. فعند ما لم تثمر المناقشات و المباحثات التي دارت في الشورى المرشّحة من قِبَل‌ عمر بعد مضى ثلاثة أيّام، عرض عبد الرحمن بن عوف على أمير المؤمنين عليه السلام أن يبايعه على أن يعمل بكتاب الله و سنّة رسوله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر [فأبي الإمام‌] فقال: بل على العمل بكتاب الله و سنّة رسول الله و اجتهاد رأيي.

  • فعدل عنه إلى عثمان و عرض عليه ذلك فقال: نعم! فبايعه ابن عوف، و اختاره للخلافة وفقاً لهذا الأصل.۱

  • و لهذا نرى عثمان في أيّام حكومته قد احترم ما أحدثه أبو بكر و عمر في الشريعة من مخالفات، و أيّد أحكامهما المختلقة. و كذلك كانت سجيّة معاوية بن أبي سفيان و باقي خلفاء بني اميّة فإنّهم كانوا يحترمون سيرة الشيخين؛ بينما لا نجد محملًا صحيحاً لذلك من منظار البحث العقليّ و النقليّ.

  • إنّنا نعمل بكتاب الله و سنّة نبيّه لأنّنا نعتبرهما معصومين من الخطأ و الانتهاك، و إلّا فما هو الدليل القاطع الذي يلزمنا أن نبنى كسبنا و علمنا و عبادتنا و نكاحنا و جهادنا و امورنا الإجتماعيّة إلى يوم القيامة و بدون حجّة قاطعة على مبدأ ليس له ركيزة قويّة راسخة؟

  • ما هو المبرّر لممارسات عمر، و هو لم يكن معصوماً، و لم يرد في كتاب الله و سنّة رسوله صلّى الله عليه و آله ما يجيز عمله! إذن بأي حق 

    1. «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، طبعة مصر، دار إحياء الكتب العربيّة، سنة ۱٣۸٥ هـ، ج ۱، ص ۱۸۸ و ۱٩٤.

معرفة الإمام ج٦

116
  • تصرف هكذا؟ و إذا كان تصرّفه معتمداً على دليل هو يعرفه! لكن بالنسبة لنا ما هو دليلنا العقلي و الشرعي الذي يجيز لنا اتباعه إلى يوم القيامة؟ و احترام أمره و نهيه و إعطاء تشريعة قيمة و اعتباراً مقابل كتاب الله و تشريع‌ رسول الله صلّى الله عليه و آله و نعتبر ذلك قاعدة من قواعد الدين؟!.

  • و حتّى لو كانت لعمر حكومة شرعيّة، و كان وليّ الأمر على أساس الواقع و الحقيقة، فإنّ ذلك يرتبط بعصره، و ينبغي أن تطبّق أوامره و نواهيه في زمانه، لا أن تبقى نسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ وَ جيلا بَعْدَ جِيلٍ إلى الأبَدِ.

  • هذه طامّة كبرى قد ابتلى بها إخواننا العامّة. وليت شعري ما هو الدافع لهم على أن يثقلوا كواهلهم بهذه الأعباء و الأوزار و المتاعب؟ و لم يقوموا بالتلبية و الحجّ؟ إن كان ذلك من أجل اتّباع الحقّ و الحقيقة، و أمر الله و كتابه و سنّة رسوله، فقد علمنا أنّة ليس كذلك.

  • و إن كان تطييباً لخواطر عمر و غيره من الحكّام، فعلينا أن نعلم أنّه خطأ لا يغتفر، و سيشملهم قوله تعالى: {وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‌}.۱

  • إن كتاب الله و سنّة رسوله أصلان من اصول العمل بالدين؛ و إقحام سيرة الشيخين و سنّة عمر يمثّل نسخاً للقرآن و الشريعة المحمّديّة، و إدخالًا للباطل و تضعيفاً للكتاب. و خلافنا نحن الشيعة مع إخواننا العامّة هَدَاهُمُ اللهُ إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ وَ النَّهْجِ القَوِيمِ هو أنّنا نجعل كتاب الله و سنّة رسوله و المعصومين محوراً و أساساً للدين و الاستنباط، بَيدَ أنّهم يلحقون بهما سيرة الشيخين؛ و بالتالى فإنّ مبادئهم المستنبطة مستمدّة من أفكار الشيخين و آرائهما.

  • و من الضروريّ هنا أن نذكر نكتة تتمثّل في أنّ العامّة يعتبرون 

    1. الآية ۱٤، من السورة ٣٥: فاطر.

معرفة الإمام ج٦

117
  • أمير المؤمنين عليه السلام خليفة رابعاً بدون أيّ إشكال. و يطلقون على الخلفاء الأربعة: الخلفاء الراشدين. و يحقّ لنا أن نقول هنا متسائلين: ما هو الدليل الذي يلزمكم بالعمل بسيرة الشيخين و لا يلزمكم بالعمل بسيرة أمير المؤمنين عليه السلام؟ أ لم يكن خليفتكم المنتخب بالحقّ؟ لما ذا تعرضون عن سنّته و لا تعملون بها؟ و قد جاء في كتبكم المعتبرة كلّها أنّه كان يجيز المتعة، و قد أفتى بإباحة الزواج المؤقّت علناً، و كان يأمر بحجّ التمتّع جهاراً، فَلِمَ لا تقدّمون سنّته و سيرته على سنّة الآخرين و سيرتهم؟ و على فرض تعارضها مع سيرة عمر و أبي بكر و تساقط السيرتين من الحجّيّة، بَيدَ أنّ الأصل هو الرجوع إلى الكتاب و السنّة، و هو ما يمثّل- بالتالى- فقه أهل البيت عليهم السلام. و قد آن الأوان لإخواننا العامّة أن يرجعوا إلى تأريخهم و يسبروا زواياه و حناياه بالفكر و التأمّل، و الدراية و التدبّر. و يفرزوا بالجرح و التعديل ما اضيف إلى الدين و وضع فيه، و يعملوا وفقاً لما يتطلبّه الواقع و متن الحقّ.

  • و من المناسب هنا أن نذكر حكايتين: الاولى: جاء في «الدرّ المنثور»: أخرج البخاريّ، و مسلم عن أبي حمزة قال: سألت ابن عبّاس عن المتعة، فأمرني بها. و سألته عن الهَدْي، فقال: فيها جزور، أو بقرة، أو شاة، أو شرك في دم! قال: و كان ناس كرهوها، فنِمت، فرأيت في المنام كأنّ إنساناً ينادي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَ مُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فأتيت ابن عبّاس، فحدّثتُهُ، فقال: اللهُ أكْبَرُ، سُنَّةُ أبي القاسِمِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ.۱

  • الثانية: نقل عن الراغب الإصفهانيّ في كتابه: «المحاضرات» و هو من الكتب المفيدة، أنّه قال: سأل يحيي بن أكثم شيخاً من أهل البصرة 

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ۱، ص ٢۱٦ و ٢۱۷.

معرفة الإمام ج٦

118
  • فقال له: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ فقال الشيخ: بعمر بن الخطّاب. فقال له: كيف و عمر كان من أشدّ الناس فيها؟

  • قال [الشيخ‌]: نَعَمْ، صَحَّ الحَديثُ عَنهُ أنَّهُ صَعَدَ المِنْبَرَ فَقَالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ! مُتْعَتانِ أحَلَّهُمَا اللهُ وَ رَسُولُهُ لَكُمْ؛ وَ أنَا احَرِّمُهُمَا عَلَيْكُمْ وَ اعَاقِبُ عَلَيْهِمَا. فَقَبِلْنَا شَهَادَتَهُ؛ وَ لَمْ نَقْبَلْ تَحْرِيمَهُ.۱

    1. «أصل الشيعة و اصولها» الطبعة العاشرة، ص ۱۷۸.

معرفة الإمام ج٦

119
  •  

معرفة الإمام ج٦

120
  •  

  •  

  • الدَّرْسُ الثالِثُ وَ الثَّمانُونَ إلى الدَّرْسِ التِّسْعِينَ حجُّ رَسُولِ اللهِ وَ خُطَبُهُ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ وَ آلِه‌

  •  

  •  

معرفة الإمام ج٦

121
  •  

  •  

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‌

  • و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين‌

  • و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين‌

  • و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم‌

  •  

  •  

  • ثم ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم و ليطوفوا بالبيت العتيق (حج ٩٢) {وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ، وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَ عَلى‌ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ،‌ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى‌ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ،‌ ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى‌ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.۱

  • مسير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من مكّة إلى عرفات‌

  • بعد الطواف و السعي و بيان حكم التمتّع لمن لم يكن معهم هَدْي توقّف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الأبطح شرقيّ مكّة أيّاماً قبل حلول الحجّ مع جميع من يخصّه من أهل بيته و لا سيّما بضعته الكريمة فاطمة الزهراء عليها السلام سيّدة نساء العالمين و أولادها الصغار الذين‌

    1. الآيات ٢٦ إلي ٣۰، من السورة ٢٢: الحجّ.

معرفة الإمام ج٦

122
  • رافقوها في تلك السفرة: الإمام الحسن، و الإمام الحسين، و زينب، و امّ كلثوم عليهم السلام و كانت أعمارهم تتراوح بين و الثامنة و الرابعة، أو أقل. و كانت حاملًا بالمحسن عليه السلام كما تفيد القرائن.

  • و في ضوء ما قيل أنّه دخل مكّه في يوم الأحد الرابع من ذي الحجّة، فإنّه توقّف أربع ليال اخرى في مكّة؛۱ و خطب في اليوم السابع الذي يسمّونه: يَوْم الزِّينَةِ، لأنّه يزيّن فيه البدن بالجلال،٢ و خطب في اليوم الثامن و هو يوم التَّرْويَة و أخبرهم بمناسكهم.٣ و توجّه إلى منى يوم الخميس، و هو يوم التروية، قبل الزوال و قيل بعده، و أمر المتمتّعين في ذلك اليوم أن يحرموا من مكّة و يلبّوا [متّجهين إلى منى‌].٤

  • و في ضوء ذلك، فإنّ جميع المتمتّعين الذين أحلّوا من إحرامهم بأمره منذ اليوم الرابع، بقوا محلّين حتّى اليوم الثامن (التروية) ما عدا الرسول الأعظم و أمير المؤمنين عليهما السلام و من ساق معه الهَدْي. ثمّ أحرموا في ذلك اليوم و توجّهوا إلى منى:

  • جاء رسول الله إلى منى، و صلّى الظهر، و العصر، و المغرب، و العشاء فيها، ثمّ مكث حتّى الصباح؛ فصلّى الفجر فيها أيضاً و ذلك يوم التاسع، و هو يوم عرفة. ثمّ توجّه إلى عرفات. و لا خلاف في أنّ رسول الله صلّى هذه الصلوات الخمس في منى. و حتّى الذين قالوا إنّه تحرّك يوم التروية بعد زوال الشمس، صرّحوا بأنّه صلّى الظهر بمنى.٥

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦٦، الطبعة الاولي، سنة ۱٣٥۱ هـ، مطبعة السعادة- مصر.
    2. «نفس المصدر السابق» و «الطبقات» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۷٣.
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٦٩.
    4. «نفس المصدر السابق» 
    5. «« المصدر السابق» ج ٥، ص ۱۷۰.

معرفة الإمام ج٦

123
  • و على هذا الأساس، و بناءً على أصل الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام فإنّ من المستحبّ المؤكّد هو أنّ على الحجّاج أن لا يذهبوا من مكّة إلى عرفات مباشرة، بل عليهم أن يبيتوا ليلة عرفة بمنى، و يتوجّهوا إلى عرفات صبيحة يوم عرفة.

  • و قد تحرّك صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى عَرَفَات صبيحة يوم عرفة بعد طلوع الشمس، و أمر أن يضربوا قبابهم بنَمِرَة.۱

  • و لأنّ قريش كانوا يرون أنّهم أهل الحرم، لذا فقد كانوا لا يخرجون من المشعر الحرام الذي هو داخل الحرم أثناء الحجّ، و يجعلون وقوفهم عند المشعر. و كانوا يقولون: إنّ الوقوف في عرفات، و هي خارج الحرم لغير قريش. و من هذا المنطلق فإنّ رسول الله لمّا تحرّك من منى، لم تشكّ قريش- و هو منها- أنّه سيقف في المشعر؛ إلّا أنّ ظنّها لم يصدق، إذ إنّه توجّه من منى إلى عرفات و نزل قبّة قد ضربت له بنَمِرَة.٢ و وفقاً لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‌}.٣ فإنّه جعل الوقوف في عرفات. و تحرّك من هناك إلى المشعر

    1. نَمِرَة- بفتح النون و كسر الميم- ناحية بعرفة نزل بها النبيّ صلّى الله عليه و آله. و قيل: الحرم من طريق الطائف على طرف عرفة من نمرة على أحد عشر ميلًا.( «معجم البلدان» ج ۸، باب النون و الميم).
    2. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۷۰؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢۸٩؛ و «الوفاء بأحوال المصطفى» ج ۱، ص ٢۱۱.
    3. نقل في «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢۸٩، عن ابن الجوزيّ قوله: حجّ‌‌ [رسول الله‌] صلّى الله عليه‌‌ [و آله‌] و سلّم قبل النبوّة و بعدها حججاً لا يُعلم عددها. أي: و كان قبل النبوّة يقف بعرفات و يفيض منها إلى مزدلفة مخالفاً لقريش توفيقاً له من الله، فإنّهم كانوا لا يخرجون من الحرم. فإنّهم قالوا: نحن بنو إبراهيم عليه الصلاة و السلام و أهل الحرم و ولاة البيت و عاكفو مكّة. فليس لأحد من العرب منزلتنا، فلا تعظّموا شيئاً من الحلّ. أي: كما تعظّمون الحرم، فإنّكم إن فعلتم ذلك استخفّت العرب بحرمكم، و قالوا: قد عظّموا من الحلّ مثل ما عظّموا من الحرم. فليس لنا أن نخرج من الحرم. نحن الحمس. فتركوا الوقوف بعرفة و الإفاضة منه إلى المزدلفة، و يرون ذلك لسائر العرب. و الآية المذكورة هي الآية ۱٩٩، من السورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

124
  • الحرام، ثمّ إلى منى لأداء مناسك منى.

  • أجل، كان رسول الله في قبّته بعرفات حتّى إذا زالت الشمس أمر بناقته‌ القَصْواءِ،۱ فرحلت، ثمّ أتى بطن الوادي، فخطب الناس قائلًا:

  • "إن دِمَاءَكُمْ وَ أمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا؛ في شَهْرِكُمْ هَذَا؛ في بَلَدِكُمْ هَذَا؛ ألَا كُلُّ شَيْ‌ءٍ مِنْ أمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي؛ وَ دِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ؛ وَ إنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ- وَ كَانَ مُسْتَرْضِعاً في «بَنِي سَعْدٍ» فَقَتَلَهُ «هُذَيْلٌ» .

  • وَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ؛ وَ أوَّلُ رِباً أضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَإنَّهُ مُوْضُوعٌ كُلُّهُ".٢

  • وَ اتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذتُموهُنَّ بِأمَانَةِ اللهِ وَ اسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ؛ وَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحَداً تَكْرَهُونَهُ؛ فَإن فَعلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ!٣ وَ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ.

  • وَ قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ!٤

    1. القَصواء، بفتح القاف و المدّ. و قيل: بضمّ القاف و القصر: قُصْوى و هو خطأ. و هذه الناقة غير العَضْباء و الجَدْعاء. و ما قيل إنّها أسماء لناقة واحدة فهو خطأ أيضاً.( «السيرة الحلبيّة» ٢٩۸: ٣).
    2. نقل ابن الأثير أكثر فقرات هذه الخطبة في «الكامل» ج ٢، ص ٣۰٢.
    3. ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحِ: بَرَّحَ بِهِ الأمْرُ: أتعبه و جهده و آذاه أذى شديداً.
    4. جاء في «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢٣: كتاب الله و سنّة نبيّه. و جاء في «تاريخ اليعقوبيّ» طبعة بيروت ۱٣۷٩ هـ، ج ٢، ص ۱۱۱: كتاب الله و عترتي أهل بيتي. و في ضوء ذلك، فإنّ الظنّ يغلب على أنّ الروايات كلّها ذكرت قوله: و عترتي أهل بيتي. غاية الأمر أنّ هذه العبارة قد حذفت في الكتب المذكورة. و حرّفت في «سيرة ابن هشام» إذ استبدلت بها عبارة: و سنّة نبيّه.

معرفة الإمام ج٦

125
  • وَ أنْتُمْ تُسْألُونَ عَنِّي فَمَا أنْتُمْ قَائِلُونَ؟! قَالُوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَ أدَّيْتَ وَ نَصَحْتَ! فَقَالَ بِإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَ يَنْكُتُهَا على النَّاسِ: اللَهُمَّ اشْهَد! اللَهُمَّ اشْهَدْ! اللَهُمَّ اشْهَدْ! ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".۱

  • يقول عمرو بن خارِجة: بعثني عَتّاب بن اسَيْد إلى رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم في حاجة، و رسول الله واقف بعرفة، فبلغته ثمّ وقفت تحت ناقته و أنّ لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول:

  • "أيُّهَا النَّاسُ: إنَّ اللهَ أدَّى إلى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ؛ وَ أنَّهُ لَا يَجُوزُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ‌؛٢ وَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ؛ وَ لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ؛ وَ مَنِ ادَّعَى إلى غَيْرِ أبِيهِ، أوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ لَهُ صَرْفاً وَ لَا عَدْلًا".٣

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۷۰؛ و «سيرة ابن هشام» ج ٤، ص ۱۰٢٢ و ۱۰٢٣؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢٩۸ و ٢٩٩؛ و «بحار الأنوار» طبعة كمباني ج ٦، ص ٦٦۸ عن كتاب «المنتقى»؛ و «روضة الصفا» ج ٢، حجّة الوداع؛ و «تاريخ الطبريّ» ج ٣، ص ۱٥۰ و ۱٥۱ من الطبعة الثانية لدار المعارف؛ و «الوفاء في أحوال المصطفى» ج ۱، ص ٢۱٢؛ و «الكامل في التاريخ» ج ٢، ص ٣۰٢؛ و محمّد حسنين هيكل في كتاب «حياة محمّد» ص ٤٦۱ إلى ٤٦٣.
    2. الشاهد على ذلك ما جاء في «الطبقات» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۸٣ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال في هذه الخطبة: "إنَّ اللهَ قَسَّمَ لِكُلِّ إنسانٍ نَصِيبَهُ مِنَ المِيرَاثِ، فَلَا يَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ. و أمَّا الوَصِيَّةُ التي لَا تضيّع حَقَّهم كَمَا في الوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ المُجَازِ فِيهِ، فَلَا إشْكَالٌ فِيهَا".
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۷۱، رواه‌‌ [عن محمّد بن إسحاق‌] الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰۰؛ و «الطبقات الكبرى» لابن سعد، ج ٢، ص ۱۸٣.

معرفة الإمام ج٦

126
  • كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ينشئ هذه الخطبة و ربيعة بن امَيَّة بن خَلَف، و هو جَهْوَرِيّ الصوت، يُنادي بها في الناس، و رسول الله يقول له: قل: أيّها الناس! أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم يقول: ...۱

  • و بعد خطبة رسول الله، أذّن بِلَال، ثمّ أقام، فصلّى الظهر، ثمّ أقام [بلال‌]، فصلّى العصر.

  • تحقيق حول صلاة الظهر التي أُقيمت في عرفات‌

  • و ما يفيده هذا الكلام هو أنّ رسول الله خطب بعد حلول وقت الظهر، ثمّ جمع بين الظهر و العصر؛ و هل كانت صلاة الظهر هذه هي صلاة الجمعة إذ صلّى ركعتين و خطب قبلهما؛ أو كانت صلاة الظهر دون كيفيّة صلاة الجمعة، كلّ ما في الأمر أنّ خطبة قد القيت قبلها؟ و لمّا كان ذلك اليوم هو يوم الجمعة، و كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قد جمع بين الظهر و العصر، و خطب قبل الصلاة، فيمكن أن نقول: إنّ الصلاة كانت صلاة الجمعة. لا سيّما و أنّ الرواية المأثورة عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه، عن جابر في حِجَّة الوَداع تعضد ذلك.

  • قال جابر: «راح النبيّ إلى الموقف بعرفة، فخطب الناس الخطبة الاولى، ثمّ أذّن بلال؛ ثمّ أخذ النبيّ في الخطبة الثانية، ففرغ من الخطبة و بلال من الأذان؛ ثمّ أقام بلال، فصلّى الظهر؛ ثمّ أقام، فصلّى العصر»؛٢ و بنوا على صلاة الجمعة من الخطبتين اللتين كانتا بعد زوال الشمس، و من‌

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۷۱؛ «السيرة الحلبيّة» ج ٢، ص ٢٩٩.
    2. «المصدر السابق» ص ۱۷٢.

معرفة الإمام ج٦

127
  • الجمع بين صلاتي الظهر و العصر.

  • و لمّا كان رسول الله مسافراً، و صلاة الجمعة لا تجب على المسافر، و كانت الخطبة بعد الزوال لتهيئة المسلمين للعبادة، كما أنّ الجمع بين الظهر و العصر كان لهذا الغرض، و لم تثبت الخطبتان عن النبيّ، خصوصاً و قد صلّى الظهر إخفاتا لا جهراً كما يفيده بحث مالك مع أبي يوسف بحضور هارون الرشيد، فيمكننا أن نستنتج من ذلك كلّه أنّه لم يصلّ الظهر على صورة الجمعة.۱

  • و بعد الصلاة ركب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم راحلته، إلى أن أتى الموقف؛ فاستقبل القبلة، و لم يزل واقفاً للدعاء من الزوال إلى الغروب. و في الحديث: "أفضل الدعاء يوم عرفة، و أفضل ما قلت أنا و النبيّون من قبلي، أي في يوم عرفة: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ، وَ هُوَ على كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ".

  • و استمرّ يدعو حتّى غربت الشمس. و جاءه جماعة من نجد، فسألوه عن صورة الحجّ، فأمر منادياً ينادي‌ "الْحَجُّ عَرَفَةٌ؛ مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ- أي: الْمُزْدَلِفَةَ- قَبْلَ طُلُوعٍ الْفَجْرِ، فَقَدْ أدْرَكَ الْحَجَّ".٢

  • و كان رسول الله راكباً على ناقته العَضْبَاء؛ و لمّا غربت الشمس، أردف اسامة بن زيد خلفه، و توجّه إلى المُزْدَلَفَة، و هو يأمر الناس بالسكينة في السير. و لمّا كان في الطريق عند الشِّعْب الأبْتَر، نزل فيه فبال و توضّأ وضوءاً خفيفاً.٣

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰۰؛ «و البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۷٣ إلي ۱۷٥.
    2. «نفس المصدر السابق» 
    3. «المصدر السابق» ص ٣۰۱. و كان هذا التبوّل بسبب نحت الأصنام في الجاهليّة من ذلك الجبل.

معرفة الإمام ج٦

128
  • و جاء بلا تأخير، حتّى وصل المُزْدَلَفَة، فصلّى المغرب و العشاء جامعاً بينهما بأذان واحد و إقامتين؛۱ و اضطجع بعد ذلك. و أذن للنساء و الضعفة من الصبيان أن يذهبوا إلى‌ مِنَى‌ بعد منتصف الليل. و يقول ابن عبّاس: أرسلني رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مع ضعفة أهله لآتى بهم إلى مِنى بعد نصف الليل. و أوصى أن لا يرموا جَمْرَة العقبة حتّى تطلع الشمس.

  • فلمّا كان وقت الفجر، قام صلّى الله عليه و آله و سلّم و صلّى بالناس الصبح بمزدلفة مغلساً. ثمّ أتى المَشْعَرَ الْحَرَام فوقف به، و هو راكب ناقته، و استقبل القبلة، و دعا الله، و كبّر، و هلّل، و وحّد، حتّى أسفر الصبح.٢

  • و توجّه إلى مِنى راكباً، و أردف خلفه الفَضْل بن العَبَّاس. فلمّا وصل وادي مُحَسَّر، حرّك ناقته قليلًا، و سلك الطريق التي تسلك على جَمْرَة العَقَبَة، فرمى بها من أسفلها سبع حصيّات التقطها له عبد الله بن عبّاس. و صار يكبّر عند رمي كلّ حصاة.

  • خطبة النبي الاكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في منى‌

  • و جاء في «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۸۷ عن مسلم، عن يحيى بن الحصين، عن جدّته امّ الحصين، و كذلك بسند آخر عن جابر بن عبد الله، قال: رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ على رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَ يَقُولُ: "لِتَأخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ فإنّي لَا أدْرِي لَعَلّي لَا أحُجُّ بَعْدَ حِجَّتِي هَذِهِ".

  • و خطب صلّى الله عليه و آله و سلّم فيما بين رمي الجمرات، و هو راكب ناقة أو بغلة شهباء.٣ و الناس بين قائم و قاعد يستمعون إليه.٤ و كان‌

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۸۰.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰۱، طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣ هـ.
    3. البغلة الشهباء و هي التي فيها بياض يتخلّله سواد.
    4. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٢.

معرفة الإمام ج٦

129
  • أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام يصيح بها في الناس بصوت عال.۱

  • و ننقل فيما يلي هذه الخطبة عن «تاريخ اليعقوبيّ»:

  • "نَضَّرَ اللهُ وَجْهَ عَبْدٍ سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَ حَفِظَهَا ثُمَّ بَلَّغَها مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ.

  • ثَلَاثٌ لَا يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلّهِ؛ وَ النَّصِيحَةُ لأئِمَّةِ الْحَقِّ؛ وَ اللُّزُومُ لِجَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَإنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ‌".٢

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩٩. و كذلك في حديث آخر جاء في ص ۱٩۸.
    2. جاءت هذه الخطبة في «المجالس» للشيخ المفيد، طبعة النجف ص ۱۰۰ و ۱۰۱. و ذكر فيها قوله: نصر الله بدلًا عن نَضَّر الله. و ذكر فيها أيضاً قوله: و النَّصيحة لأئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَ اللُّزُوم لجماعتهم. و نقل في آخرها: "الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ، تَتَكافَا دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ يَدٌ وَاحِدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ، يسعى بِذِمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ". و جاء هذا التعبير في «روضة البحار» طبعة كمباني ج ۱۷، ص ٣٩ نقلًا عن «المجالس» للمفيد. إلّا أنّ ما جاء في الطبعة الحديثة منه ج ۷۷، ص ۱٣۰ هو قوله: نَضَّرَ الله. و نسب في «تحف العقول» ص ٤٢ هذه الخطبة إلى رسول الله في مسجد الخيف. و جاءت بهذا المضمون في «المجالس» للمفيد. و في طبعة كمباني ل- «بحار الأنوار» ج ۱۷، ص ٤٢. جاءت كلمة نَضَرَ بسبب النقل عن كتاب «تحف العقول». و ذكر في الطبعة الحديثة ل- «تحف العقول» ج ۷۷، ص ۱٤٦ نَضَّرَ بالضاد المعجمة. و جاء في «بحارالأنوار» طبعة كمباني ج ۱٥، الجزء الثاني ص ۸٥: نَضَّرَ نقلًا عن «إكمال الدين» للصدوق، فمضمونها مع ما ذكره المفيد واحد إلّا في بعض الألفاظ. و نقل ذلك أيضاً المحدّث القمّيّ في «تتمّة المنتهى» ص ۱٥٣ عن رسول الله في مسجد الخيف، كما جاء مثله في «إكمال الدين» أيضاً. و ذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن» في ص ۱٢٥ من الجزء الأوّل عن الإمام أحمد بن حنبل، عن رسول الله صلّى الله عليه و آله سلّم أنه قال: "الْمُسْلِمُونَ تَتَكافَا دِمَاؤُهُمْ، وَ هُمْ يَدٌ على مَنْ سِوَاهُمْ يسعى بِذِمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ". و ذكر في «مجمع البحرين» عند كلامه عن الحديث التالي: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يسعى بِذِمَّتِهِمْ أدْنَاهُمْ سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن معناه، فقال: «لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجل منهم، فقال: أعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم و اناظره، فأعطاهم أدناهم الأمان، وجب على أفضلهم الوفاء به- انتهى. و على هذا الأساس آمنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم زوجها أبا العاص الذي كان قد قدم المدينة و هو مشرك.(يرجع إلى كتاب «زينب بطلة كربلا» تأليف الدكتورة بنت الشاطئ).

معرفة الإمام ج٦

130
  • و بعد ذلك قال: "يا ربيعة (ربيعة بن امَيَّة بن خلف) قل: أيّها الناس! يقول رسول الله: لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَونَنِي على مِثْلِ حَالِي هَذِهِ وَ عَلَيْكُمْ هَذَا! هَلْ تَدْرُونَ أيّ بَلَدٍ هَذَا؟ وَ هَلْ تَدْرُونَ أيّ شَهْرٍ هَذَا؟! وَ هَلْ تَدْرُونَ أيّ يَوْمٍ هَذَا؟!

  • فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ! هَذَا الْبَلَدُ الْحَرَامُ وَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ وَ الْيَوْمُ الْحَرَامُ!

  • قَالَ: فَإنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَ أمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا؛ وَ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا؛ وَ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَد!

  • ثُمَّ قَالَ: وَ اتَّقُوا اللهَ وَ لَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أشْيَاءَهُمْ وَ لَا تَعْثَوا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا!

  • ثُمَّ قَالَ: النَّاسُ في الإسلَامِ سَوَاءٌ؛ النَّاسُ طَفُّ الصَّاعِ لآدَمَ وَ حَوَّاءَ؛ لَا فُضِّلَ عَرَبِيّ على عَجَمَيّ؛ وَ لَا عَجَمِيّ على عَرَبِيّ إلَّا بِتَقْوَى اللهِ! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: كُلُّ دَمٍ في الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي؛ وَ أوَّلُ دَمٍ أضَعُهُ دَمُ آدَمَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- وَ كَانَ آدَمُ بْنُ رَبِيعَةَ

معرفة الإمام ج٦

131
  • مُسْتَرْضِعاً في هُذَيلٍ فَقَتَلَهُ بَنُو سَعْدٍ بْنِ بَكْرٍ؛ وَ قِيلَ في بَني لَيْثٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ- ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: وَ كُلُّ رِباً كَانَ في الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي؛ وَ أوَّلُ رِباً أضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا النَّسِي‌ءُ۱ زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ. ألَا وَ إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَةِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ، وَ إنَّ عِدَة الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ اللهِ مِنْهَا أرْبعة حُرُمٌ: رَجَبُ الذي بَيْنَ جُمَادي وَ شَعْبَانَ، يَدْعُونَهُ مُضَرَ؛ وَ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ: ذو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: اوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْراً؛ فَإنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ؛ لَا يَمْلِكْنَ لأنْفُسِهِنَّ شَيئاً؛ وَ إنَّمَا أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ اللهِ؛ وَ اسْتَحْلَلْتُمْ فُروجَهُنَّ بِكِتَابِ اللهِ؛ وَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقُّ؛ وَ لَهُنَّ عَلَيْكُم حَقُّ كِسْوَتِهِنَّ وَ رِزْقِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فِراشَكُمْ أحَداً؛ وَ لَا يَأذَنَّ في بُيُوتِكُمْ إلَّا بِعِلْمِكُمْ وَ إذْنِكُمْ؛ فَإن فَعَلْنَ شَيئاً مِنْ ذَلِكَ فَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ!

    1. النسي‌ء هو تأخير العمل بالأحكام و التكاليف المقرّرة في شهر معيّن إلي شهر آخر و وقت آخر.

معرفة الإمام ج٦

132
  • ثُمَّ قَالَ: فَاوصِيكُمْ بِمَنْ مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ فَأطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأكُلُونَ وَ ألْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَ أنْ أذْنَبُوا فَكِلُوا عُقُوبَاتِهِمْ إلَى شِرَارِكُمْ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: إنَّ الْمُسْلِمَ أخُو الْمُسْلِمِ لَا يَغُشُّهُ وَ لَا يَخُونُهُ وَ لَا يَغْتَابُهُ، وَ لَا يَحِلُّ لَهُ دَمُهُ وَ لَا شَي‌ءٌ مِنْ مَالِهِ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ بَعْدَ الْيَومِ، وَ لَكِنْ يُطَاعُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أعْمَالِكُمُ التي تَحْتَقِرُونَ؛ فَقَدْ رَضِىَ بِهِ. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: أعْدَى الأعْدَاءِ على اللهِ قَاتِلُ غَيْرِ قَاتِلِهِ، وَ ضَارِبُ غَيْرِ ضَارِبِهِ؛ وَ مَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ مَوَالِيِهِ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أنْزَلَ اللهُ على مُحَمَّدٍ؛ وَ مَن أنْتَمَى إلَى غَيْرِ أبيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ الْمَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ. ألَا هل بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: ألَا إنّي إنَّمَا امِرتُ أنْ اقَاتِلَ النَّاسَ حتّى يَقُولُوا: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ إنّي رَسُولُ اللهِ؛ وَ إذَا قَالُوا، عَصَموا مِنِّي دِماءَهُمْ وَ أمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقٍّ وَ حِسَابُهُم على اللهِ، ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ!

  • ثُمَّ قَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً مُضِلِّينَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. إنّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا أنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

  • قَالُوا: نَعَمْ! قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ!

معرفة الإمام ج٦

133
  • ثُمَّ قَالَ: إنَّكُمْ مَسْؤُولُونَ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ".۱

  • نقلنا هذا الخطبة الشريفة التي خطبها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مِنى من «تاريخ اليعقوبيّ» لأنّها جاءت فيه تامّة. و ذكرت في غيره من الكتب متفرّقة و مجزَّأة. و كلّ جزء و مقطع منها نقله بعض الرواة؛ كما أشرنا إلى عدد من الكتب التي ذكرت فقراتها بنحو تجزيئيّ، و ذلك في الهامش المتقدّم.

  • و هذه الخطبة في غاية البلاغة و البيان. و تضمّ مواضيع هامّة، و قوانين سياسيّة و اجتماعيّة عظيمة، و تعاليم أخلاقيّة و فقهيّة. و يمكن التعويل عليها حقّاً من حيث الرصانة و المتانة و القوّة كالآيات القرآنيّة. و ما كان أروع لو كتب لها شرح مفصّل؛ و طبّقت مواضيعها و فقراتها على الآيات القرآنيّة

    1. «تاريخ اليعقوبيّ» طبعة بيروت ۱٣۷٩ ‌ هـ، ج ٢، ص ٢۰٩ إلى ٢۱٢. و روى السيوطيّ هذه الخطبة باختلاف يسير في عباراتها في تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣٤ و ٢٣٥ بتخريج أحمد بن حنبل، و الباورديّ، و ابن مردويه، عن أبى حمزة الرقاشيّ، عن عمّه الذي كان من الصحابة، و كان زمام ناقة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بيده. و جاء أصل هذه الرواية في «مسند أحمد بن حنبل» ج ٥، ص ۷٢ و ۷٣. و رواها المجلسيّ في «بحار الأنوار» طبعة كمباني ج ٦، ص ٦٦٢ و ٦٦٣ عن «الكافي». و ذكرها ابن هشام في سيرته، ج ٤، ص ۱۰٢٢ إلى ۱۰٢٤، إلّا أنّ تحريفاً قد حصل في قوله: كتاب الله و عترة نبيّه، فتغيّر إلى عبارة: كتاب الله و سنّة نبيّه. و ذكرها ابن كثير في «البداية و النهاية» ج ٥ بأسناد متعدّدة، من ص ۱٩٤ إلى ٢۰۱. و نقلها البيهقيّ أيضاً في «السنن» ج ٥، ص ۱٤۰ كتاب الحجّ. و ذكرها كذلك ابن الجوزيّ في كتاب «الوفاء بأحوال المصطفى» ج ۱، ص ٢۰۷ و ٢۰۸. و ذكرها أيضاً ابن سعد في طبقاته، ج ٢، ص ۱۸٣ إلى ۱۸۷. و ذكرها صاحب «روضة الصفا» ج ٢، باب حجّة الوداع. و كذلك ذكرها عليّ بن إبراهيم في تفسيره، في ذيل الآية: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، ص ۱٥٩ إلى ۱٦۱. و ذكرها الطبريّ أيضاً في «تاريخ الامم و الملوك» ج ٣، ص ۱٥۰ إلى ۱٥٢. و أوردها الجاحظ في «البيان و التبيين» طبعة القاهرة، سنة ۱٣٦۷ هـ، ج ٢، من ص ٣۱ إلى ص ٣٣.

معرفة الإمام ج٦

134
  • و سائر الأحاديث و الاصول المسلّمة للسنّة النبويّة، و منهاج الآل الطاهرين من سلالته صلّى الله عليه و آله و سلّم. و كشف عمّا تضمّه من معارف. و لكن سنتحدّث هنا بشكل موسّع عن فقرة من فقراتها و ذلك بغية إيضاحها فلعلّها تحتاج إلى شرح و توضيح أكثر، و نرجو الله المنّان أن يمنّ علينا بالتوفيق، وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إلَيْهِ انِيبُ.

  • و تتمثّل هذه الفقرة في قوله: {إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، إلى آخر ما قاله في هذا المجال. و كلامه هنا شرح و توضيح لموضوع جاء في آيتين من القرآن الكريم هما:

  • {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‌ ، إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ‌}.۱

  • و في ضوء هاتين الآيتين الشريفتين حرّم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التأخير و النسي‌ء في الشهور و أكّد موضّحاً أنّ أعمال كلّ شهر خاصّة بالشهر نفسه، فينبغي أن تقام فيه لا في غيره.

  • تفسير الآية التي تبيّن حرمة النسي‌ء

  • النسي‌ء٢ مصدر كالنذير و النكير من نَسَأ الشَيْ‌ءَ يَنْسَؤُهُ نَسْأ وَ مَنْسَأةَ

    1. الآيتان ٣٦ و ٣۷، من السورة ٩: التوبة.
    2. جاء في «النهاية» لابن الأثير، ج ٢، ص ۱٣٩، في مادّة دَوَرَ، و في الحديث "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ، يقال: دَارَ يَدُوُر وَ اسْتَدَارَ يَسْتَدِيرُ" بمعنى إذا طاف حول الشي‌ء، و إذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. و معنى الحديث: أنّ العرب كانوا يؤخّرون المحرّم إلى صفر، و هو النسي‌ء ليقاتلوا فيه، و يفعلون ذلك سنة بعد سنة. فينتقل المحرّم من شهر إلى شهر حتّى يجعلوه في جميع شهور السنة. فلمّا كانت تلك السنة، كان قد عاد إلى زمنه المخصوص به قبل النقل، و دارت السنة كهيئتها الاولى. و لذلك قال رسول الله هكذا.

معرفة الإمام ج٦

135
  • وَ نَسيئاً: إذا أخَّرَهُ تَأخِيراً.

  • كلام و تفسير «مجمع البيان» و «أبي السعود» في آية النسي‌ء

  • يقول الشيخ الطبرسيّ: و كانت العرب تحرم الشهور الأربعة [رجب، وذي القعدة، و ذي الحجّة، و محرّم‌] و ذلك ممّا تمسّكت به من ملّة إبراهيم و إسماعيل [عليهما السلام‌] و هم كانوا أصحاب غارات و حروب، فربّما كان يشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه، و يستحلّون المحرّم فيمكثون بذلك زماناً، ثمّ يُؤوَّل التحريم إلى المحرّم، و لا يفعلون ذلك إلّا في ذي الحجّة.

  • قال الفرّاء: و الذي كان (يقوم به) رجل من كَنَانَة يُقال له: نُعَيْم بن ثَعْلَبَة. و كان رئيس الموسم [في الحجّ‌] فيقول: أنا الذي لا اعاب و لا اخاب و لا يردّ لي قضاء!

  • فيقولون: نعم صدقت! أنسئنا شهراً! أو أخّر عنّا حرمة المحرّم! و اجعلها في صفر! و أحلّ المحرّم! فيفعل ذلك.

  • و الذي كان ينسأها حين جاء الإسلام: جُنَادَة بن عَوْف بن امَيَّة الكَنَانِيّ، قال ابن عبّاس: و أوّل من سنّ النسي‌ء: عَمْرُو بْنُ لَحَى بن قُمَعَة بن خِنْدِف. و قال أبو مسلم بن أسلم: بل رجل من بني كنانة، يقال له: القَلَمَّس، كان يقول: إنّي قد نسأت المحرّم العام، و هما العام صَفَران. فإذا كان العام القابل قضينا فجعلناهما محرّمين. قال شاعرهم:

  • وَ مِنّا نَاسِيُ الشَّهْرِ الْقَلَمَّس

  • و قال الكُمَيْت:

معرفة الإمام ج٦

136
  • وَ نَحْنُ النَّاسِئُونَ على مُعَدٍّ***شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَاماً
  • و قال مُجَاهِد: كان المشركين يحجّون في كلّ شهر عامين. فحجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين. و كذلك في الشهور حتّى وافقت الحجّة التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة. ثمّ حجّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في العام القابل حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجّة، فذلك حين قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و ذكر في خطبته: "ألَا وَ إنَّ الزَّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً مِنْها أرْبعة حُرُمٌ، ثَلَاثةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَ ذو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ وَ رَجَبُ مُضَرُّ الذي بَيْنَ جُمَادي وَ شَعْبَانَ."

  • أراد [صلّى الله عليه و آله و سلّم‌] الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة، و بطل النسي‌ء.۱

  • و قال صاحب «تفسير أبي السُّعُود» بعد ذكره الأشهر الحرم، و خطبة رسول الله في حجّة الوداع، و قوله: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ. وَ إنَّ الشُّهُورَ اثْنَا عَشَرَ شهراً" و المعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه من الحلّ و الحرمة. و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة بعد ما كانوا أزالوه عن محلّه بالنسي‌ء الذي أحدثوه في الجاهليّة. و قد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة. و كانت حجّة أبي بكر قبلها في ذي القعدة.٢

  • و مثل هذا التفسير المذكور في «مجمع البيان» و تفسير «أبي السُّعود» يلاحظ في أغلب التفاسير؛ و خلاصة ما نستنتجه هو أنّ تغييرين كانا يحصلان عند عرب الجاهليّة: الأوّل: تغيير الأشهر الحرم بتحويلها من‌

    1. «مجمع البيان» طبعة صيدا، ج ٣، ص ٢٩.
    2. «تفسير أبي السعود» ج ٢، ص ٥٤۸.

معرفة الإمام ج٦

137
  • وقت لآخر، كما في تحويل المحرّم إلى شهر صفر؛ و الثاني: تغيير في الحجّ، يرفع الحجّ به من ذي الحجّة فيقع في شهور اخر، يدور فيها، حتّى يعود ثانية إلى محلّه الأصليّ. و يطلق على هذين التأخيرين: النَّسِي‌ء.

  • الروايات الواردة في تفسير النسي‌ء بتأخير الاشهر الحرم‌

  • و الشاهد على التغيير الأوّل، أي تغيير حرمة الأشهر الحرم إلى شهور اخرى أحاديث و روايات متنوّعة:

  • فقد جاء في تفسير «الدرّ المنثور» قوله: أخرج ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ عن ابن عمر، قال: وَقَفَ رَسُولُ اللهَ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ بِالْعَقَبَةِ، فَقَالَ: "إنَّ النَّسي‌ءَ مِنَ الشَّيْطَانِ زِيَادَةٌ في الْكُفْرِ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَ يُحَرِّمُونَهَ عَامًا؛ وَ يُحَرِّمُونَ صَفَرَ عَامًا وَ يَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ وَ هُوَ النَّسِي‌ءُ".۱

  • و ذكر أيضاً في «الدرّ المنثور» أنّ ابن جرير، و ابن منذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه أخرجوا عن ابن عبّاس أنّه قال: كَانَ جَنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ الْكِنَانِيّ يُوفِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ، وَ كَانَ يُكَنَّى أبَا ثُمَادَةً، فَيُنَادِي: ألَا إنَّ أبَا ثُمَادَةَ لَا يَخَافُ وَ لَا يُعَابُ؛ ألَا إن صَفَرَ الأوّلَ حَلَالٌ.٢

  • وَ كَانَ طَوائِفُ مِنَ الْعَرَبِ إذَا أرَادُوا أنْ يُغيرُوا على بَعْضِ عَدُوِّهِمْ أتَوْهُ فَقَالُوا أحِلَّ لَنَا هَذَا الشَّهْرَ- يَعْنُونَ: صَفَرَ- وَ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تُقَاتِلُ فِي‌

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٩، ص ٢۸٦.
    2. نقل العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في ج ٩، ص ٢۸۷ من «الميزان» عن السيوطيّ في كتاب «المزهر»: أنّ العرب قبل الإسلام كانت تسمّي المحرّم: صفر الأوّل، و صفر: صفر الثاني. و هما صفران كالربيعين و الجماديين. و النسي‌ء إنّما ينال صفر الأوّل و لا يتعدّى صفر الثاني. فلمّا أقَرّ الإسلام الحرمة لصفر الأوّل، عبّروا عنه بشهر الله المحرّم، ثمّ لمّا كثر الاستعمال، خفّف، و قيل: المحرّم. و اختصّ اسم صفر بصفر الثاني. فالمحرّم من الألفاظ الإسلاميّة.

معرفة الإمام ج٦

138
  • الأشْهُرِ الْحُرُمِ، فَيُحِلّهُ لَهُمْ عَامًا وَ يُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ في الْعَامِ الآخَرِ. وَ يُحَرِّمُ الْمُحَرَّمَ في قَابِلٍ لِيُواطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ، يَقُولُ: لِيَجْعَلُوا الْحُرُمَ أرْبَعَةً غَيْرَ أنَّهُمْ جَعَلُوا صَفَرَ عَاماً حَلَالًا وَ عاماً حَرَاماً.۱

  • و فيه أيضاً: أخرج ابن منذر عن قتادة في الآية: {إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ} قال: عَمَدَ انَاسٌ مِنْ أهْلِ الضَّلَالَةِ فَزَادُوا صَفَرَ في الأشْهُرِ الْحُرُمِ. وَ كَانَ يَقُومُ قَائِمُهُمْ في الْمَوْسِمِ، فَيَقُولُ: إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ حَرَّمَتْ صَفَرَ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ، وَ كَانَ يُقَالُ لَهُمَا: الصَّفَرَانِ.

  • وَ كَانَ أوَّلَ مَنْ نَسَأ «النَّسِي‌ءَ» بَنُو مَالِكٍ مِنْ كِنَانَةَ، وَ كَانُوا ثَلَاثَةً: أبُو ثُمَامَةَ صَفْوَانُ بْنُ امَيَّةَ، أحَدُ بَني فَقِيمِ بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ أحَدُ بَنِي كِنَانَةَ.٢

  • و فيه أيضاً: أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ في الآية الشريفة، قال: كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ: جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ يُكَنَّي أبَا امَامَةَ يُنْسِئُ الشُّهُورَ؛ وَ كَانَتِ الْعَرَبُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ أنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَةَ أشْهُرٍ لَا يُغِيرُ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ، فَإذَا أرَادُوا أنْ يُغَيِّرَ على أحَدِهِمْ قَامَ يَوماً بِمِنَى فَخَطَبَ فَقَالَ: إنّي قَدْ أحْلَلْتُ الْمُحَرَّمَ وَ حَرَّمْتُ صَفَرَ مَكَانَهُ. فَيُقَاتِلُ النَّاسُ في الْمُحَرَّمِ، فَإذَا كَانَ صَفَرُ عَمَدُوا وَ وَضَعُوا الأسِنَّةَ ثُمَّ يَقُومُ في قَابِلٍ فَيَقُولُ: إنّي قَدْ أحْلَلْتُ صَفَرَ وَ حَرَّمْتُ الْمُحَرَّمَ فَيُواطِئُوا أرْبعة أشْهُرٍ فَيُحِلُّوا الْمُحَرَّمَ.٣

  • و جاءت فيه روايتان اخريان بتخريج ابن مردويه، عن ابن عبّاس، و هما تفسّران الآية الشريفة على نفس النسق.٤

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣٦ و ٢٣۷؛ و تفسير «الميزان» ج ٩، ص ٢۸٦ و ٢۸۷.
    2. «نفس المصدر السابق».
    3. «نفس المصدر السابق».
    4. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣۷.

معرفة الإمام ج٦

139
  • الروايات الواردة في تفسير آية النسي‌ء بدوران الشهور

  • و الشاهد على التغيير الثاني، أي: تغيير وقت الحجّ من موعده المحدّد إلى موعد آخر، و دورانه في جميع شهور السنة، ليرجع مرّة اخرى إلى ذي الحجّة، فيتمّ بذلك دورته، روايات و أحاديث مأثورة:

  • فقد جاء في «الدرّ المنثور»: أخرج الطبرانيّ، و أبو الشيخ، و ابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال:

  • كَانَتِ الْعَرَبُ يُحِلُّونَ عَاماً شَهْراً، وَ عَاماً شَهْرَيْنِ، وَ لا يُصيبُونَ الْحَجَّ إلَّا في كُلِّ سِتَّةٍ وَ عِشْرِينَ سَنَةً مَرَّةً، وَ هُوَ النَّسِي‌ءُ الذي ذَكَرَ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ.

  • فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْحَجِّ الأكْبَرِ ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الأهِلَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ: "إنَّ الزَّمَانَ قَدر اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ".۱

  • و جاء فيه أيضاً: أخرج أحمد بن حنبل، و البخاريّ، و مُسْلم، و أبو داود، و ابن منذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ، و ابن مردويه، و البيهقيّ في كتاب «شعب الإيمان» عن أبي بكرة قال:

  • خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ في الحَجِّ، فَقَالَ: "ألَا إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَار كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ، وَ رَجَبُ مُضَرُ الذي بَيْنَ جُمَادي وَ شَعْبَانَ".٢

  • و ورد فيه أيضاً: أخرج البزّاز، و ابن جرير، و ابن مردويه عن أبي‌

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣٦؛ و تفسير «الميزان» ج ٩، ص ٢۸٩.
    2. «المصدر السابق» ص ٢٣٤؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج ٥، ص ٣۷.

معرفة الإمام ج٦

140
  • هريرة بهذا المضمون.۱ و أخرج ابن جرير، و ابن منذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، عن ابن عمر.٢ و أخرج ابن منذر، و أبو الشيخ، و ابن مردويه عن ابن عبّاس.٣

  • و جاء فيه أيضاً: أخرج عبد الرزّاق، و ابن منذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ، عن مُجَاهِد أنّه قال في تفسير الآية: {إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ}: فَرَضَ اللهُ الْحَجَّ في ذِي الْحِجَّةِ وَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُسَمُّونَ الأشْهُرَ: ذُو الْحِجَّةِ وَ الْمُحَرَّمُ وَ صَفَرُ وَ رَبِيعٌ وَ رَبِيعٌ وَ جُمَادي وَ جُمَادي وَ رَجَبُ وَ شَعْبَانُ وَ رَمَضَانُ وَ شَوَّالُ وَ ذُو الْقَعْدَةِ وَ ذُو الْحِجَّةِ ثُمَّ يَحُجُّونَ فِيهِ.

  • ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَذْكُرُونَهُ، ثُمَّ يَعُودُونَ فَيُسَمُّونَ صَفَرَ صَفَرَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ رَجَبَ جُمَادي الآخِرَةَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ شَعْبَانَ رَمَضَانَ، وَ رَمَضَانَ شَوَّالَ، وَ يُسَمُّونَ ذَا الْقَعْدَةِ شَوَّالَ، ثُمَّ يُسَمُّونَ ذَا الْحِجَّةِ ذَا الْقَعْدِةِ، ثُمَّ يُسَمُّونَ الْمُحَرَّمَ ذَا الْحِجَّةِ، ثُمَّ يَحُجُّونَ فِيهِ وَ اسْمُهُ عِنْدَهُمْ ذُو الْحِجَّةِ.

  • ثُمَّ عَادُوا إلى مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَكَانُوا يَحُجُّونَ في كُلِّ شَهْرٍ عَاماً حتّى وَافَقَ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ الآخِرَةُ مِنَ الْعَامِ في ذِي القَعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيّ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ حِجَّتَهُ التي حَجَّ فِيهَا فَوَافَقَ ذُو الْحِجَّةِ، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ صلّى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وَ سَلَّمَ في خُطْبَتِهِ: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ"‌.٤

  • و محصّل هذه الرواية على ما فيها من التشويش و الاضطراب أنّ‌

    1. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣٤؛ و «مسند أحمد بن حنبل» ج ٥، ص ٣۷.
    2. «نفس المصدر السابق».
    3. «نفس المصدر السابق».
    4. تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٣۷؛ و تفسير «الميزان» ج ٩، ص ٢۸۸.

معرفة الإمام ج٦

141
  • العرب كانت قبل الإسلام تحجّ البيت في ذي الحجّة، غير أنّهم أرادوا أن يحجّوا كلّ عام في شهر، فكانوا يدورون بالحجّ الشهور شهراً بعد شهر، و كلّ شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سمّوه «ذا الحجّة»، و سكتوا عن اسمه الأصليّ.

  • و لازم ذلك: أن تتألّف كلّ سنة فيها حجّة من ثلاثة عشر شهراً و أن يتكرّر اسم بعض الشهور مرّتين أو أزيد كما تشعر به الرواية. و لذا ذكر الطبريّ أنّ العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهراً، و في رواية: اثنى عشر شهراً و خمسة و عشرين يوماً.

  • و لازم ذلك أيضاً: أن تتغيّر أسماء الشهور كلّها، و أن لا يواطئ اسم الشهر نفس الشهر إلّا في كلّ اثنتي عشرة سنة مرّة، إن كان التأخير على نظام محفوظ، و ذلك على نحو الدوران.۱

  • كلام الفخر الرازي في تفسير آية النسي‌ء

  • و تحدّث الفخر الرازيّ في تفسيره عن النسي‌ء مفصّلًا، و قال في ذيل الآية: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ}‌: اعلم أنّ هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود و النصاري و المشركين، و هو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله. و ذلك لأنّه تعالى لمّا حكم في كلّ وقت بحكم خاصّ فإذا غيّروا تلك الأحكام بسبب النسي‌ء فحينئذٍ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم و آرائهم، فكان ذلك زيادة في كفرهم و حسرتهم.

  • ثمّ قال في بيان المسألة الاولى من المسائل التي طرحها: اعلم أنّ السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهراً من الشهور القمريّة و الدليل عليه هذه الآية، و أيضاً قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ

    1. «الميزان» ج ٩، ص ٢۸۸.

معرفة الإمام ج٦

142
  • نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ}‌.۱

  • فجعل تقدير القمر بالمنازل علّة للسنين و الحساب، و ذلك إنّما يصحّ إذا كانت السنة معلّقة بسير القمر، و أيضاً قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِ‌}.٢

  • و عند سائر الطوائف [غير العرب‌] عبارة عن المدّة التي تدور الشمس فيها دورة تامّة، و السنة القمريّة أقلّ من السنة الشمسيّة بمقدار معلوم. و بسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمريّة من فصل إلى فصل، فيكون الحجّ واقعاً في الشتاء مرّة، و في الصيف اخرى و كان يشقّ الأمر عليهم بهذا السبب. و أيضاً إذا حضروا الحجّ حضروا للتجارة، فربّما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف، و كان يخلّ أسباب تجاراتهم بهذا السبب.

  • فلهذا السبب، أقدموا على عمل الكَبِيسَة٣ على ما هو معلوم في علم الزيجات، و اعتبروا السنة الشمسيّة، و عند ذلك بقى زمان الحجّ مختصّاً بوقت واحد معيّن موافق لمصلحتهم، و انتفعوا بتجاراتهم و مصالحهم.

  • فهذا النسي‌ء، و إن كان سبباً لحصول المصالح الدنيويّة، إلّا أنّه لزم منه تغيّر حكم الله تعالى. لأنّه تعالى لمّا خصّ الحجّ بأشهر معلومة على التعيين، و كان بسبب ذلك النسي‌ء، يقع في سائر الشهور تغيّر حكم الله و تكليفه. فلهذا المعنى، استوجبوا الذمّ العظيم في هذه الآية.

  • و لمّا كانت السنة الشمسيّة زائدة على السنة القمريّة، جمعوا تلك‌

    1. الآية ٥، من السورة ۱۰: يونس.
    2. الآية ۱۸٩، من السورة ٢: البقرة.
    3. الكبيسة هنا هي عبارة عن حساب الاختلاف في مقدار السنة القمريّة، مع مقدار السنة الشمسيّة، و إضافة ذلك الاختلاف إلي السنة القمريّة في آخرها.

معرفة الإمام ج٦

143
  • الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر، جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً. فأنكر الله تعالى ذلك عليهم، و قال: إنّ حكم الله أن تكون السنة اثنى عشر شهراً لا أقل و لا أزيد. و تحكّمهم على بعض السنين أنّه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى و يوجب تغيير تكاليف الله تعالى. و كلّ ذلك على خلاف الدين.

  • و مذهب العرب من الزمان الأوّل أن تكون السنة قمريّة لا شمسيّة. و هذا حكم توارثوه، عن إبراهيم و إسماعيل عليهما الصلاة و السلام. فأمّا عند اليهود و النصارى، فليس كذلك. ثمّ إنّ بعض العرب تعلّم صفة الكبيسة من اليهود و النصارى، فأظهر ذلك في بلاد العرب.۱

  • و قال الفخر الرازيّ أيضاً بعد حديثه عن مواضيع مفصّلة: النسي‌ء هو التأخير، و قال أبو زيد: نَسَأتُ الإبِلَ عَنِ الْحَوْضِ أنْسَؤُهَا نَسْأ إذَا أخَّرْتَهَا، وَ أنْسَأتُهُ إنسَاءً إذَا أخَّرْتَهُ عَنْهُ و الاسْمُ النَّسِيئَةُ وَ النَّس‌ءُ.

  • و قال قطرب:

  • النَّسِي‌ءُ أصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ يُقَالُ: نَسَأ في الأجَلِ وَ أنْسَأ، إذَا زَادَ فِيهِ.

  • و قال الواحديّ في جوابه: الصحيح القول الأوّل، و هو أنّ أصل النسي‌ء التأخير. و المراد هنا التأخير، لا الزيادة.٢

  • كلام الفخر الرازي في إقدام العرب على عمل الكبس‌

  • ثمّ قال الفخر الرازيّ: لو رتّب العرب [في الجاهليّة] حسابهم على السنة القمريّة، فإنّه يقع حجّهم تارة في الصيف، و تارة في الشتاء، و كان يشقّ عليهم الأسفار و لم ينتفعوا بها في المرابحات و التجارات، لأنّ سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلّا في الأوقات اللّائقة الموافقة.

    1. تفسير «مفاتيح الغيب» طبعة دار الطباعة العامرة، ج ٤، ص ٦٣٣.
    2. تفسير «مفاتيح الغيب» ج ٤، ص ٦٣۷ و ٦٣۸.

معرفة الإمام ج٦

144
  • فعلموا أنّ بناء الأمر على رعاية السنة القمريّة يخلّ بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك و اعتبروا السنة الشمسيّة. و لمّا كانت السنة الشمسيّة زائدة على السنة القمريّة بمقدار معيّن احتاجوا إلى الكبيسة، و حصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران:

  • أحدهما: أنّهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات.

  • و الثاني: أنّه كان ينتقل الحجّ من بعض الشهور القمريّة إلى غيره، فكان الحجّ يقع في بعض السنين في ذي الحجّة، و بعده في المحرّم، و بعده في صفر، و هكذا في الدور حتّى ينتهي بعد مدّة مخصوصة مرّة اخرى إلى ذي الحجّة.

  • فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران: أحدهما: الزيادة في عدّة الشهور. و الثاني: تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر. و قد بيّنا أنّ لفظ النسي‌ء يفيد التأخير عند الأكثرين، و يفيد الزيادة عند الباقين. و على التقديرين، فإنّه منطبق على هذين الأمرين.

  • و الحاصل من هذا الكلام: أنّ بناء العبادات على السنة القمريّة يخلّ مصالح الدنيا. و بناؤها على السنة الشمسيّة يفيد رعاية مصالح الدنيا، و الله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمريّة. فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمريّة، و اعتبروا السنة الشمسيّة رعاية لمصالح الدنيا و أوقعوا الحجّ في شهر آخر سوى الأشهر الحرم. فلهذا السبب عاب الله عليهم و جعله سبباً لزيادة كفرهم.

  • و إنّما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر، لأنّ الله تعالى أمرهم بإيقاع الحجّ في الأشهر الحرم، ثمّ إنّهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر و ذكروا لأتباعهم أنّ هذا الذي عملناه هو الواجب و أنّ إيقاعه في الشهور

معرفة الإمام ج٦

145
  • القمريّة غير واجب. فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به و تمرّداً على طاعته، و ذلك يجب الكفر بإجماع المسلمين.

  • و أمّا الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادات الحاصلة بسبب تلك الكبائس، فمذكور في الزيجات.

  • قال الواحديّ: و أكثر العلماء على أنّ هذا التأخير ما كان يختصّ بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلًا في كلّ الشهور. و هذا القول عندنا هو الصحيح على ما قرّرناه و اتّفقوا أنّه صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم لمّا أراد أن يحجّ في سنة حجّة الوداع، عاد الحجّ إلى شهر ذي الحجّة في نفس الأمر، فقال:

  • "ألَا إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً". و أراد أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها.۱

  • كلام البيروني حول نسي‌ء السنة القمريّة بالشمسيّة

  • و قد سبق أبوريحان البيرونيّ‌٢ الفخر الرازيّ فتحدّث في مواضع من كتابه المشهور «الآثَارُ البَاقِيَةُ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ» عن كيفيّة النسي‌ء في الشهور بين العرب، و أصل تأسيس التأريخ الإسلاميّ و أسماء الشهور. و قال في موضع من ذلك الكتاب بعد ذكره الشهور العربيّة الاثنى عشر التالية: الْمُحَرَّمُ، صَفَرُ، رَبِيعٌ الأوَّلُ، رَبِيعٌ الآخِرُ، جُمَادي الأولَى جُمَادي الآخِرَةُ، رَجَبُ، شَعْبَانُ، رَمَضَانُ، شَوَّالُ، ذُو الْقَعْدَةِ، ذُو الْحَجَّةِ:٣

    1. تفسير «مفاتيح الغيب» ج ٤، ص ٦٣۸ و ٦٣٩.
    2. أبو ريحان محمّد بن أحمد البيرونيّ الخوارزميّ من كبار علماء الإسلام. عاش في القرن الرابع و الخامس، ولد بخوارزم. سنة ٣٦۰ هـ، و توفّى بغزنة، سنة ٤٤۰ هـ.
    3. و ذكر في ذلك الكتاب أسماء اخرى للشهور العربيّة قبل الإسلام و وجه تسميتها بتلك الأسماء، و ذلك ص ٦۰ إلى ٦٢. ثمّ قال: هذه الأسماء تعود إلى عصر قديم ثمّ بدّلت الأسماء الحاضرة بها في العصر الجاهليّ. و هذه الأسماء هي: المُؤْتَمِر- خَوَّانٌ- حُنْتَمٌ- نَاجِرٌ- صُوانٌ- زَبَّاءُ- الأصَمُّ- نَافِقٌ- هُوَاعٌ- عَادِلٌ- وَاغِل- بُرَكٌ. و هناك اختلاف فيالتواريخ حول بعض هذه الأسماء و ترتيبها. و أحسن نظم في هذا المجال هو ما قاله الصاحب إسماعيل بن عبّاد:
      أردْتُ شُهُورَ الْعُرْبِ في الجَاهِلِيَّةِ***فَخُذْهَا على سَرْدِ الْمُحَرَّمِ تَشْتَرِكْ‌
      فَمُؤتَمِرٌ يَأتِي وَ مِنْ بَعْدُ ناجِرٌ***وَ خُوّانُ مَعْ صُوَانَ يُجْمَعُ في شَرَكْ‌
      حَنِينٌ وَ زَبَّا وَ الأصَمُّ وَ عَادِلٌ***وَ نَافِقُ مَعْ وَغْلٍ وَ رَنَّةُ مَعْ بُرَكْ‌

معرفة الإمام ج٦

146
  • و كان العرب في الجاهليّة يستعملونها على نحو ما يستعمله أهل الإسلام. و كان يدور حجّهم في الأزمنة الأربعة، ثمّ أرادوا أن يحجّوا في وقت إدراك سلعهم من الادْم و الجلود و الثمار و غير ذلك، و أن يثبت ذلك على حالة واحدة و في أطيب الأزمنة و أخصبها.

  • فتعلّموا الكبسَ من اليهود المجاورين لهم و ذلك قبل الهجرة بقريب من مائتي سنة فأخذوا يعملون بها ما يشاكل فعل اليهود من إلحاق فضل ما بين سنتهم و سنة الشمس شهراً بشهورها إذا تمّ. و يتولّى‌ القَلَامِسُ۱ بعد ذلك أن يقوموا بعد انقضاء الحجّ، و يخطبون في الموسم، و ينسئوا الشهر، و يسمّون التالى له باسمه.

  • فيتّفق العرب على ذلك و يقبلون قوله و يسمّون هذا من فعلهم: النسي‌ء، لأنّهم كانوا ينسأون أوّل السنة في كلّ سنتين أو ثلاث شهراً على حسب ما يستحقّه التقدّم. قال قائلهم:

    1. القَلَامِس جمع القَلَمَّس، و هو البحر الزاخر. و القلمّس لقب لأحد نَسَأة الشهور على العرب في الجاهليّة، و هو من بني كنانة. و أوّل النَّسَأة هو حذيفة بن عبد فقيم الكنانيّ. و كانوا يتوارثون منصبه واحداً بعد الآخر. و آخرهم، و هو سابعهم: أبو ثمامة جُنادة بن عوف (أبو ثمامة جنادة بن عوف بن اميّة بن قَلَع بن عبّاد بن قَلَع بن حذيفة) و لو اعتبرنا متوسّط السنّ لكلّ جيل ثلاثين سنة، فالمجموع هو مائتان و عشر سنوات. و لو أنقصنا من هذه المدّة سنوات الهجرة العشر، فإنّ أوّلهم كان يعيش قبل الهجرة بمائتي عام. و قد نصّ المقريزيّ على هذا الزمان في خططه، ج ٢، ص ٥٤.

معرفة الإمام ج٦

147
  • لَنَا نَاسِئٌ تَمْشُونَ تَحْتَ لِوائِهِ‌***يُحِلُّ إذَا شَاءَ الشُّهُورَ وَ يُحَرِّمُ‌
  • و كان النسي‌ء الأوّل للمحرّم، فسمّي صفر به و شهر ربيع الأوّل باسم صفر، ثمّ والوا بين أسماء الشهور. و كان النسي‌ء الثاني لصفر فسمّي الشهر الذي كان يتلوه و هو ربيع الأوّل بصفر أيضاً. و كذلك حتّى دار النسي‌ء في الشهور الاثني عشر، و عاد إلى المحرّم، فأعادوا بها فعلهم الأوّل.

  • و كانوا يعدّون أدوار النسي‌ء و يحدّون بها الأزمنة فيقولون قد دارت السنون من زمان كذا إلى زمان كذا دورة. فإن ظهر لهم مع ذلك تقدّم شهر عن فصل من الفصول الأربعة لما يجتمع من كسور سنة الشمس و بقيّة فصل ما بينها و بين سنة القمر الذي ألحقوه بها كبسوها كبساً ثانياً.۱ و كان يبيّن لهم ذلك بطلوع منازل القمر و سقوطها حتّى هاجر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و كانت نوبة النسي‌ء كما ذكرت بلغت شعبان، فسمّى محرّماً، و شهر رمضان صفر.

  • فانتظر النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم حينئذٍ حجّة الوداع و خطب للناس و قال فيها: "ألَا و إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ".

  • عنى بذلك أنّ الشهور [القمريّة] قد عادت إلى مواضعها، و زال عنها فعل العرب بها. و لذلك سمّيت حجّة الوداع، الحجّ الأقْوَم ثمّ حرّم ذلك، و أهمل أصلًا.٢

    1. أي: كانوا يصحّحون المقدار المهمل من جمع الفروق الذي يحصل من الكبس مع مقدار السنة الشمسيّة أثناء السنة القمريّة المحسوبة، و ذلك مع كبيسة اخرى ذات حساب أدقّ. و ذكر المقريزيّ المتوفّى سنة ۸٤٥ هـ هذه الطريقة من الكبس عند العرب في الجاهليّة، و ذلك في كتاب «المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار» ج ٢، ص ٥٦، طبعة مصر.
    2. «الآثار الباقية» ص ٦٢ و ٦٣.

معرفة الإمام ج٦

148
  • و يقول في موضع آخر: و في التاسع عشر [من شهر رمضان‌] فتح مكّة. و لم يقم رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم الحجّ، لأنّ شهور العرب كانت زائلة بسبب النسي‌ء. و تربّص حتّى عادت إلى مكانها، ثمّ حجّ حجّة الوداع، و حرّم النسي‌ء.۱ قال «نلِّينو» في كتاب «علم الفلك»: أمّا هذا الظنّ أنّ النسي‌ء نوع من الكبس لتحصيل المعادلة بين السنة المشتملة على شهور قمريّة و السنة الشمسيّة، فليس من أبكار أفكار فخر الدين الرازيّ، لأنّ جملة من أصحاب علم الهيئة قد سبقوه إلى ذلك الظنّ. و أقدمهم على ما نعرفه هو أبو مَعْشَر البَلْخِيّ‌٢ المتوفّى سنة ٢۷٢ هـ.

  • كلام أبي معشر البلخي حول النسي‌ء و الكبس عند العرب‌

  • قال أبو معشر في كتاب «الالوف»:٣ و أمّا العرب في الجاهليّة فكانوا يستعملون سنيّ القمريّة برؤية الأهلّة كما يفعله أهل الإسلام. و كانوا يحجّون في العاشر من ذي الحجّة. و كان لا يقع هذا الوقت في فصل واحد من فصول السنة، بل يختلف فمرّة يقع في زمان الصيف و مرّة في زمان الشتاء، و مرّة في الفصلين الباقيين لما يقع بين سنيّ الشمس و القمر من التفاصيل.

    1. «الآثار الباقية» ص ٣٣٢.
    2. أبو معشر الفلكيّ هذا من أصحاب علم النجوم و الهيئة. و هو غير أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السنديّ، من المحدّثين المشهورين صاحب كتاب «المغازي» المتوفّى سنة ۱۷۰ هـ.
    3. فقد هذا الكتاب و لكنّ كلامه هذا في النسي‌ء نقله عبد الجبّار بن عبد الجبّار بن محمّد الخرقيّ المتوفّى سنة ٥٥٣ هـ بمدينة مَرْو في كتابه الموسوم ب- «منتهى الإدراك في تقاسيم الأفلاك». و استخرج هذا النصّ من مخطوطة في باريس: محمود أفندي الملقّب فيما بعد محمود باشا الفلكيّ في مجلّة (جورنال اسياتيك).

معرفة الإمام ج٦

149
  • فأرادوا أن يكون وقت حجّهم موافقاً لأوقات تجاراتهم، و أن يكون الهواء معتدلًا في الحرّ و البرد و مع توريق الأشجار و نبات الكلأ لتسهل عليهم المسافرة إلى مكّة و يتّجروا بها مع قضاء مناسكهم. فتعلّموا عمل الكبيسة من اليهود و سمّوه النسي‌ء، أي: التأخير إلّا أنّهم خالفوا اليهود في بعض أعمالهم، لأنّ اليهود كانوا يكبسون تسع عشرة سنة قمريّة بسبعة أشهر قمريّة حتّى تصير تسع عشرة شمسيّة. و العرب تكبس أربعاً و عشرين سنة قمريّة باثنى عشر شهراً قمريّة.

  • و اختاروا لهذا الأمر رجلًا من بني كنانة، و كان يدعى: القَلَمَّس. و أولاده القائمون بهذا الشأن تدعى: القلامسة، و يسمّون أيضاً: النَّسَأة. و القَلَمَّس هو البحر الغزير. و آخر من تولّى ذلك من أولاده: أبو ثُمامة، جُنادة بن عَوْف بن امَيَّةَ بن قَلَع بن عَبَّاد بن قَلَع بن حُذَيْفَةَ.

  • و كان القَلَمَّس يقوم خطيباً في الموسم عند انقضاء الحجّ بعرفات. و يبتدي عند وقوع الحجّ في ذي الحجّة فينسئ المحرّم، و لا يعدّه في الشهور الاثنى عشر، و يجعل أوّل شهور السنة صفر فيصير المحرّم آخر شهر و يقوم مقام ذي الحجّة و يحجّ فيه الناس فيكون الحجّ في المحرّم مرّتين. ثمّ يقوم خطيباً في الموسم في السنة الثالثة عند انقضاء الحجّ و ينسئ صفر الذي جعله أوّل الشهور للسنتين الاوليين، و يجعل شهر ربيع الأوّل أوّل شهور السنة الثالثة و الرابعة حتّى يقع الحجّ فيهما، في صفر الذي هو آخر شهور هاتين السنتين، ثمّ لا يزال هذا دأبه في كلّ سنتين حتّى يعود الدور إلى الحال الاولى. و كانوا يعدّون كلّ سنتين خمسة و عشرين شهراً.

  • و قال أبو معشر أيضاً في كتابه عن بعض الرواة: إنّ العرب كانوا يكبسون أربعة و عشرين سنة قمريّة بتسعة أشهر قمريّة. فكانوا ينظرون‌

معرفة الإمام ج٦

150
  • إلى فضل ما بين سنة الشمس و هو عشرة أيّام و إحدى و عشرون ساعة و خُمس ساعة بالتقريب.۱ و يلحقون بها شهراً تامّاً كلّما تمّ منها ما يستوفى أيّام شهر، و لكنّهم كانوا يعملون على أنّه عشرة أيّام و عشرون ساعة فكانت شهورهم ثابتة مع الأزمنة جارية على سنن واحد لا تتأخّر عن أوقاتهم و لا تتقدّم إلى أن حجّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم.٢

  • و قد خصّ «نلِّينو» الدرس الثاني عشر، و الثالث عشر، و الرابع عشر من هذا الكتاب للحديث عن معارف عرب الجاهليّة بالسماء و النجوم، و مسألة النسي‌ء المذكور في القرآن الكريم، و جاء بعدد من الآيات القرآنيّة و أقوال المفسّرين.٣

  • و حصيلة ما جاء في بحثنا هذا عن تفسير النسي‌ء في الآية الشريفة، مع روايات كثيرة وردت في هذا المقام، و كلام للمؤرّخين من علماء الهيئة و النجوم أمثال أبي ريحان البيرونيّ، و أبي معشر البلخيّ، و كذلك كلام الرحّالة الكبير و المؤرّخ الجليل عليّ بن الحسين المسعوديّ المتوفّى سنة

    1. هذا المقدار مسلّم به عند أصحاب علم الهيئة. و ينبغي أن نعلم أنّ كلّ شهر قمريّ نجوميّ يمثّل فترة مقارنتين متواليتين للشمس و القمر، و هو عبارة عن تسعة و عشرين يوماً و اثنتى عشرة ساعة و أربع و أربعين دقيقة (٢٩ يوم ۱٢ ساعة ٤٤ دقيقه) و إذا ضربنا هذا المقدار في العدد ۱٢ فالناتج هو ثلاثمائة و أربعة و خمسون يوماً و ثماني ساعات و ثماني و أربعين دقيقة، فالسنة القمريّة عبارة عن (٣٥٤ يوم ۸ ساعة ٤۸ دقيقة) و لمّا كانت كلّ سنة شمسيّة عبارة عن ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوماً و ستّ ساعات تقريباً (٣٦٥ يوم ٦ ساعة)، فلهذا يكون تفاضل السنة الشمسيّة من القمريّة عشرة أيّام و إحدى و عشرين ساعة و اثنتى عشرة دقيقة (۱۰ أيّام ٢۱ ساعة ۱٢ دقيقة) تقريباً، و هو المقدار الذي ذكره أبو معشر.
    2. «علم الفلك»، تاريخه عند العرب في القرون الوسطى» تأليف الفلكيّ الإيطاليّ «السينور كرلو نلّينو»، الطبعة الثانية ۱٩۱۱ م، ص ۸۷ إلى ۸٩.
    3. «علم الفلك» المحاضرة الثانية عشرة إلى المحاضرة الرابعة عشرة، ص ۸٣ إلى ٩٩.

معرفة الإمام ج٦

151
  • ٣٤٦ هـ في كتابه «مروج الذهب»۱ و كتابه النفيس: «التنبيه و الإشراف» هو أنّ اصول الشهور القمريّة قد تغيّرت بين عرب الجاهليّة لسببين:

    1. جاء في «مروج الذهب» ج ٢، ص ۱۸۸ و ۱۸٩، طبعة دار الأندلس: أسماء الشهور: شهور الأهلّة: أوّلها المحرّم، و أيّامها ثلاثمائة و أربعة و خمسون يوماً تنقص عن السريانيّ أحد عشر يوماً و ربع يوم. فتفرق في كلّ ثلاث و ثلاثين سنة، فتنسلخ تلك السنة العربيّة، و لا يكون فيها نيروز. و قد كانت العرب في الجاهليّة تكبس في كلّ ثلاث سنين شهراً و تسمّية النسي‌ء، و هو التأخير. و قد ذمّ الله تبارك و تعالى فعلهم بقوله: إِنَّمَا النَّسِي‌ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ. و رسمت العرب الشهور فبدأت بالمحرّم، لأنّه أوّل السنة. و إنّما سمّته المحرّم لتحريمها الحرب، و الغارات فيه. و صفر بالأسواق التي كانت باليمن تسمّى الصفريّة، و كانوا يمتارون منها. و من تخلّف عنها، هلك جوعاً.
      و قيل: إنّما سمّى الصفر، لأنّ المدن كانت تخلو فيه من أهلها بخروجهم إلى الحرب. و هو مأخوذ من قولهم: صَفِرَتِ الدَّارُ مِنْهُمْ، إذا خلت. و ربيع، و ربيع لارتباع الناس و الدوابّ فيهما. فان قيل: قد توجد الدوابّ ترتبع في غير هذا الوقت، قيل: قد يمكن أن يكون هذا الاسم لزمهما في ذلك الوقت، فاستمرّ تعريفهما بذلك مع انتقال الزمان و اختلافه. و جُمادي و جُمادي، لجمود الماء فيهما في الزمان الذي سمّيت به هذه الشهور، لأنّهم لم يعلموا أنّ الحرّ و البرد يدوران فتنتقل أوقات ذلك. و رجب، لخوفهم إيّاه. يقال: رَجبْتُ الشي‌ء، إذا خفته. و شعبان، لتشعّبهم إلى مياههم و طلب الغارات. و رمضان، لشدّة حرّ الرمضاء فيه ذلك الوقت. و الوجه الآخر أنه اسم من أسماء الله تعالى ذكره. و لا يجوز أن يقال: رمضان، و إنّما يقال: شهر رمضان. و شوّال، لأنّ الإبل كانت تشول في ذلك الوقت بأذنابها من شهوة الضراب، تشاءمت به العرب، و لذلك كرهَت التزويج فيه. و ذو القعدة، لقعودهم فيه عن الحرب و الغارات. و ذوالحجّة، لأنّ الحجّ فيه- انتهى.
      يتّضح لنا ممّا تقدّم و ممّا قاله أبوريحان البيرونيّ في «الآثار الباقية» حول سبب تسمية الأشهر القمريّة أنهم كانوا يضعون هذه الأسماء للفصول الشمسيّة وفقاً للشهور الشمسيّة مدّة من حياتهم. ثمّ عادوا من الشهور الشمسيّة إلى الشهور القمريّة التي لا تنطبق على الفصول ثانية بسبب قانون الإسلام. و هذا هو النسي‌ء الذي اعتبره الله زيادة في الكفر بسبب تأخير الأحكام و الواجبات عن وقتها إلى وقت آخر يليها رعاية للمصالح الدنيويّة.

معرفة الإمام ج٦

152
  • للنسي‌ء معنى عامّ و يشمل كلا النوعين‌

  • الأوّل: تأخير الأشهر الحرم من وقتها كما في شهر محرّم الذي كانوا يؤخّرونه و ينسئون حرمته، و يسمّونه صفراً، و لم يبالوا بالحرب و القتال و النهب و الغارة فيه. و كانوا يكفّون عن القتال خلال أربعة أشهر في السنة من حيث الكميّة لا من حيث النوعيّة حفظاً لحرمة الأشهر الأربعة المحترمة (ذي القعدة، و ذي الحجّة، و محرّم، و رجب) {لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ}‌.

  • الثاني: تأخير أيّام الحجّ أو أيّام الصوم و بعض العبادات و المناسك إلى وقت آخر، لملاءمة المناخ، و من أجل بيع البضائع التجاريّة، و جذب القبائل لأداء الحجّ. و لذلك كان الحجّ يقام في فصل خاصّ من حيث اعتدال الجوّ، و يدور في الشهور القمريّة، حتّى يعود إلى زمنه الأصليّ كلّ ثلاث و ثلاثين سنة حسب السنة الكبيسة الدقيقة، و كلّ ستّ و عشرين سنة حسب الكبيسة التقريبيّة، كما مرّ بنا في رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، و قد رجع إلى وقته الأصليّ في حجّة الوداع التي حجّها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و لذلك قال رسول الله في خطبته‌: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ‌". و نحن لا نصرّ على أن ننظر إلى الآية القرآنيّة في عدّة الشهور و النسي‌ء متعلّقة بتأخير الأشهر الحرم، أو تأخير الحجّ عن وقته المعيّن، بل إنّ الآية المباركة- عامّة و مطلقة- تشمل كلا النوعين من النسي‌ء، و نقل الروايات المشهورة بل المستفيضة يعضد هذا المعنى أيضاً.

  • و في ضوء ذلك، فإنّ تأخير حرمة الأشهر الحرم عن وقتها حرام في الشريعة الإسلاميّة النيّرة، و كذلك تأخير الآداب و الأحكام و التعاليم المقرّرة في أوقات معيّنة كالصوم في شهر رمضان، و الحجّ في شهر ذي الحجّة. لذلك فإنّ استبدال الشهور الشمسيّة بالشهور القمريّة، و استبدال السنين الشمسيّة بالسنين القمريّة لا يجوز بأيّ وجه من الوجوه.

معرفة الإمام ج٦

153
  • عدم شرعيّة استبدال الشهور الشمسيّة بالقمريّة

  • و ليس للمسلم أن يصوم في شوّال أو في غيره من الشهور المعتدلة. أو يصوم في فصل الشتاء لملائمة الجوّ و قصر النهار. أي: ليس له أن يجعل صومه وفقاً لحساب السنين و الشهور الشمسيّة.

  • و ليس له أن يحجّ في المحرّم أو في غيره من الشهور المعتدلة بسبب ملائمة الجوّ و تبعاً لبيع البضائع و الامور الإعتباريّة و المصالح المادّيّة و الدنيويّة. فيجعل حجّه في فصل الربيع أو الخريف. أي: لا يحقّ له أن يحجّ طبقاً لحساب السنين و الشهور الشمسيّة.

  • و كذلك الأمر بالنسبة إلى التكاليف الاخرى من واجبات و مستحبّات و محرّمات و مكروهات. و كذلك بالنسبة إلى الأحكام الإجتماعيّة و السنن الإعتباريّة و الآداب و التقاليد و العادات التي يواجهها في المجتمع.

  • و ليس للمسلم أن يجعل السنة الشمسيّة ملاكاً و ميزاناً لأعماله و تأريخه، ذلك لأنّ القرآن المجيد جعل السنة القمريّة سنة المسلم بكلّ صراحة، فقال: عزّ من قائل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ‌}.۱

  • تصرّح هذه الآية بأنّ السنين و الشهور الإسلاميّة الرسميّة هي السنون و الشهور القمريّة من جهات متعدّدة:

  • الاولى: قوله: مِنْهَا أرْبعة حُرُمٌ. لأنّ من الضروريّات أنّ الإسلام لم يجعل شهراً ما من الأشهر الحرم، إلّا هذه الأشهر الأربعة من الشهور القمريّة، و هي ذوالقعدة، و ذوالحجّة، و محرّم، و رجب. و هذه الأشهر هي من الشهور القمريّة، لا الشمسيّة. و جاء في روايات عديدة، و في خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّ ثلاثة منها متوالية و واحداً فرد:

    1. الآية ٣٦، من السورة ٩: التوبة.

معرفة الإمام ج٦

154
  • ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَرْدٌ.۱ و المتوالية هي: ذوالقعدة، و ذوالحجّة و محرّم، و الفرد هو شهر رجب.

  • الثانية: قوله: عِندَ اللهِ.

  • و الثالثة: قوله: في‌ {كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ‌}. فهذان القيدان يدلّان على أنّ الشهور غير قابلة للتغيير و الاختلاف أبداً. و لا تأثّر بالوَضْع و الجعل و غيرهما من الامور الوضعيّة لأنّها عند الله الذي لا يتغيّر علمه و إحاطته، و في كتابه يوم خلق السماوات و الأرض.

  • فقد كانت هكذا في الحكم المكتوب في كتاب التكوين، و في القانون المدوّن في لوح الخلق، وَ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ تعالى. و معلوم أنّ الشهور الشمسيّة مهما كان وضعها و عنوانها و تأريخها شهور عرفيّة وضعيّة تبلورت على أساس حساب المنجّم و الزيادة و القلّة الاعتباريّة و الوضعيّة.

  • أمّا الشهور القمريّة فإنّها كانت كما هي عليه الآن منذ خلق الله السماوات و الأرض. تبدأ برؤية الهلال عند خروجه من المحاق و من تحت الشعاع، و تنتهي بالمحاق و الدخول تحت الشعاع. {وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‌}.٢

    1. جاء في تفسير الإمام الفخر الرازيّ، ج ٤، ص ٦٣٤، من الطبعة ذات الأجزاء الثمانية قوله: قد أجمعوا على أنّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، و هي: ذو القعدة، و ذو الحجّة و المحرّم، و واحد فرد، و هو رجب. و قال في ص ٦٣٥: قوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} إشارة إلي الشهور الاثني عشر، لأنّ الكفّار كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهراً.
    2. الآيات ٣۸ إلي ٤۰، من السورة ٣٦: يس.

معرفة الإمام ج٦

155
  • تأريخ الإسلام تأريخ قمري‌

  • و الشهور القمريّة حسيّة و وجدانيّة و لها بداية و نهاية معيّنتان في عالم‌ التكوين. فهي على عكس الشهور الشمسيّة التي تمثّل شهوراً عرفيّة و اصطلاحيّة. و على الرغم من أنّ الفصول الأربعة و السنين الشمسيّة حسيّة تقريباً، إلّا أنّ الشهور الاثنى عشر التي لها أصل ثابت هي الشهور القمريّة. و في ضوء هذا المعنى، فإنّ معنى الآية سيكون على النحو التالى:

  • أنّ الشهور الإثنا عشر التي تتألّف منها السنة هي الشهور الثابتة في علم الله سبحانه و تعالى. و هي الشهور التي عيّنها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات و الأرض. و قرّر الحركات العامّة لعالم الخلق، و منها حركات الشمس و القمر. و أصبحت تلك الحركة الحقيقيّة و الثابتة أساساً و أصلًا لتعيين مقدار هذه الشهور الإثنى عشر.

  • و من الآيات التي تنصّ على لزوم التأريخ القمريّ هي الآية الخامسة من سورة يونس التي مرّ ذكرها: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ}‌.

  • و من الواضح أنّ الناس في أيّ بقعة كانوا من البرّ و البحر و الجبال و الصحاري يستطيعون أن يضبطوا حسابهم على امتداد الشهر القمريّ دون الحاجة إلى المنجّمين و أهل الحساب، و ذلك من خلال رؤية الأشكال المختلفة للقمر في السماء كالهلال، و التربيع و التثليث، و التسديس حتّى الليلة الرابعة عشرة حيث يظهر فيها بدراً. و هي ممّا يختصّ بها الشهر القمريّ لا الشمسيّ. و على الرغم من ذكر الشمس في الآية السابقة، إلّا أنّها جعلت منازل القمر سبباً للحساب و التقويم.

  • و من هذه الآيات‌: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ 

معرفة الإمام ج٦

156
  • وَ الْحَجِ‌}.۱

  • إن استبدال الشهور القمريّة بالشمسيّة هو النسي‌ء الذي يعني تأخير الأعمال عن موعدها المقرّر. و هذا هو الذي اعتبره القرآن الكريم زيادة في الكفر. و هو ما جاء في الكلمات البيّنة الرائعة التي وردت في خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التي ألقاها بمنى و أعاد فيها الشهور القمريّة إلى وضعها الطبيعيّ بعد أن استبدلت الشهور الشمسيّة بها في العصر الجاهليّ، و كانت قد جعلت على أساس سنّة إبراهيم الخليل و إسماعيل الذبيح عليهما السلام. و أعلن على رؤوس الأشهاد أنّ هذا الحجّ هو الحجّ الصحيح الذي وقع في وقته، و حان أوانه إثر استدارة الزمان. و يطلق على هذا الحجّ: حِجَّة الإسلَام لأنّه استقرّ في موضعه وفقاً للقانون الإسلاميّ، و وقع في شهر ذي الحجّة، و هو شهر الحجّ الحقيقيّ.

  • و جاء في «السيرة الحلبيّة»: يُقَالُ لَهَا: حِجَّةُ الإسْلَام، قِيلَ لإخْرَاجِ الكُفَّارِ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِهِ لأنَّ أهلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الْحَجَّ في كُلِّ عَامٍ أحَدَ عَشَرَ يَوْماً حتّى يَدُورَ الزَّمَانُ إلَى ثَلَاثٍ وَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَيَعُودُ إلَى وَقْتِهِ. و لِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ في هَذِهِ الْحِجَّةِ: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ"، فَإنَّ هَذِهِ الْحَجَّةَ كَانَتْ في السَّنَةِ التي عَادَ فِيهَا الْحَجُّ إلَى وَقْتِهِ، وَ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرَ.٢

  • و نصّ على ذلك كلّ من اليعقوبيّ، و المسعوديّ، و ابن الأثير٣ بل إنّ 

    1. الآية ۱۸٩ من السورة ٢: البقرة.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٢۸٩.
    3. «تاريخ اليعقوبيّ» ج ٢، ص ۱۱۰، طبعة بيروت؛ و «مروج الذهب» ج ٢، ص ٣۰٢، طبعة بيروت.

معرفة الإمام ج٦

157
  • المسعوديّ عند ما ذكر حوادث السنة العاشرة للهجرة، نقل كلام النبيّ: "إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ"، مكتفياً به دون التعرّض إلى ما حصل في حجّة الوداع‌ من امور.

  • و هذه المعاني كلّها صورة معبّرة ناطقة و شاهد صدق على إنّ استبدال السنين الشمسيّة بالقمريّة لا يجوز. و على المسلم أن يولي غاية اهتمامه لحفظ الأوقات على أساس التأريخ الذي قرّره رسول الله مرتكزاً على سنّة إبراهيم الخليل، و جعله القرآن الكريم حتماً و لازماً.

  • لقد منّ الله عزّ و جلّ عَلَيّ بتوفيقه و عنايته فأعددت رسالة حول لزوم التعويل على بداية الشهور القمريّة برؤية الهلال في الخارج. و هذه الرسالة موسوعة علميّة و فقهيّة في لزوم اشتراك الآفاق في رؤية الهلال لدخول الشهور القمريّة. و قد اشتملت على بحوث فنيّة ذات اسلوب رسائليّ تتكفّل بعلاج كلّ إشكال، و قطع دابر كلّ خلاف.

  • تفيد هذه الرسالة، بالبرهان العلميّ و الدليل الشرعيّ، أنّ الشهور القمريّة يجب أن تبدأ برؤية الهلال في الليلة الاولى. و أنّ قول المنجّمين على أساس الحساب و الرَّصَد ليس له حجّة شرعيّة. و بناءً على ضرورة الآيات القرآنيّة، و إجماع أهل الإسلام، و سنّة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إذ قال: صُومُوا لِرؤيَتِهِ، وَ افْطَرُوا لِرُؤْيَتِهِ! فإنّ الشهور القمريّة جميعها ينبغي أن تتحقّق بمشاهدة الهلال فوق الافق. و أينما رُئي الهلال، بدأ الشهر. و في الأماكن التي يتعذّر فيها رؤية الهلال في تلك الليلة، و يُرى في الليلة التي تليها، فإنّ بداية الشهر تكون من هذه الليلة. لذلك صحّت الفتوى المشهورة القائلة بأنّ دخول الشهر القمريّ تابع للرؤية، و إنّ كلّ نقطة في العالم تابعة لُافقها. و قول بعض العلماء و الأساطين الذين يعتبرون خروج الهلال من تحت الشعاع كاف لجميع العالم أو لنصف الكرة 

معرفة الإمام ج٦

158
  • الأرضيّة، و يحكمون بدخول الشهر في أرجاء العالم خلال ليلة واحدة، ليس له اعتبار، بل أنّ الأدلّة المتقنة تقضي بخلافه، و البراهين المنتهية بضرورة ردّه و دحضه قائمة.

  • هذه الرسالة العلميّة و الفقهيّة باللغة العربيّة، و عنوانها: رِسَالَةٌ حَوْلَ مَسْألَةِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ. و قد صدرت في سياق الكتب المطبوعة تحت الرقم (٦) من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة.

  • فإن قال شخص:

  • ما ضرّ لو أنّ المسلمين قاموا بأعمالهم و تكاليفهم العباديّة، من صوم و حجّ وفقاً للشهور القمريّة، و مارسوا آدابهم و شئونهم الاجتماعيّة و السياسيّة الاخرى وفقاً للشهور الشمسيّة، و حينئذٍ لا يلزم النسي‌ء الذي يمثّل زيادة في الكفر، إذ إنّهم يقومون بأعمالهم التي لا علاقة لها بالشرع على أساس تأريخ آخر كالتأريخ الروميّ أو الروسيّ أو الفرنسيّ أو الفارسيّ القديم من حيث تعداد أيّام الشهور، حسب عقود اعتباريّة يضعونها. و على فرض إنّهم يجعلون هجرة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بداية للتأريخ في هذه التواريخ المذكورة، فإنّ تأريخهم الرسميّ فقط هو التأريخ الشمسيّ تبعاً للمصالح الدنيويّة.

  • فإنّنا نقول في إجابته:

  • إن جميع الإشكالات تنبع من هذا الاسلوب في التفكير، و ذلك:

  • أوّلًا: أنّ جعل التأريخ الشمسيّ تاريخاً رسميّاً خلاف لنصّ القرآن و السنّة النبويّة و سيرة الأئمّة الطاهرين و علماء الإسلام، بل خلاف لمنهج المسلمين جميعهم.

  • ثانياً: هذا العمل يؤدّي إلى فصل الدين عن السياسة، إذ إنّ القيام بالأعمال العباديّة وفقاً للتأريخ القمريّ، و ممارسة الأحكام الإجتماعيّة و الشئون السياسيّة طبقاً للتأريخ الشمسيّ من المصاديق الواضحة لفصل 

معرفة الإمام ج٦

159
  • الدين عن السياسة. و ينتهي بعزل الدين عن شئون الحياة المهمّة و حصره‌ في الشؤون الشخصيّة و الفرديّة.

  • ثالثا: و يؤدّي إلى تعطيل الكتب و التواريخ المدوّنة، و قطع الصلة بين الخَلَف و السلف الصالح، لأنّنا نرى- منذ عصر صدر الإسلام حتّى الآن- أنّ جميع كتب التفسير، و الحديث، و التأريخ و التراجم، و حتّى الكتب العلميّة كالنجوم، و الرياضيّات، و الهيئة و الفقه، و غيرها قد دوّنت على أساس السنين القمريّة و الشهور القمريّة. و نجد أنّ آلاف بل ملايين الكتب المؤلّفة في النطاق الذي كان يحكمه المسلمون سواء باللغة العربيّة، أو الفارسيّة، أو التركيّة أو الهنديّة، أو الإفريقيّة، أو الاوروبيّة الشرقيّة، كلّها تستند إلى التأريخ الهجريّ و السنوات و الشهور القمريّة. فلو جعلنا التأريخ الشمسيّ هو الأساس في التأريخ، أ فلا يعني هذا إقصاء تلك الكتب عنّا، و قطع الصلة بين هذا الجيل، و بين الثقافة الإسلاميّة الأصيلة في القرون و الأعصار الماضية؟

  • إن استبدال التأريخ الشمسيّ بالتأريخ القمريّ يماثل استبدال الخطّ الإسلاميّ بالخطوط الأجنبيّة، بل هو من متفرّعات ذلك الأصل و من الفروع الناميّة لذلك الجذر.

  • رابعاً: و يحول هذا العمل دون اتّحاد المسلمين في العالم، ذلك لأنّ تأريخ المسلمين جميعهم هو التأريخ القمريّ، فإذا استعملنا التأريخ الشمسيّ، فإنّنا سنختلف معهم في التأريخ. و كذلك إذا أختار المسلمون أيضاً لأنفسهم تاريخاً آخر كالتأريخ الميلاديّ أو الزردشتيّ أو الكورشيّ أو غيرها من التواريخ. فإنّهم بهذه الطريقة- و يا للأسف- سيسيرون في اتّجاه معاكس لاتّجاه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم ممّا يؤدّي إلى تفرّق كلمتهم و تشر ذمهم و شقّ عصاهم و انفصام عقدهم.

معرفة الإمام ج٦

160
  • يجب أن يكون تأريخ جميع المسلمين في العالم هجري قمري‌

  • إنّ التأريخ من الامور الاصوليّة للأحكام الإسلاميّة. و اتّحاد المسلمين‌ في التأريخ يفضي إلى اتّحادهم في الثقافة النبويّة و اختلافهم فيه يؤدّي إلى تفرّقهم و تشتّتهم.

  • و الإسلام الذي جمع الناس كلّهم من عرب، و عجم، و أتراك و أكراد، و هنود، و شرقيّين و غربيّين، و سود و بيض، و صفر و حمر تحت راية واحدة هي راية التوحيد، على الرغم من اختلاف آدابهم و عاداتهم القوميّة حريّ بالتعظيم. و ما أسوأ ما نفعل إذا تركنا المسلمين و شأنهم في التأريخ الذي يعتبر من أهمّ البواعث على الإتّحاد و الوفاق، و أهمّ الدعائم لتوطيد علاقاتهم و تعزيزها! و ليس من الإنصاف أن نجعل كلّ جماعة منهم تسير في الإتّجاه الذي اختارته لنفسها!

  • و توحيد التأريخ كتوحيد اللغة الملحوظ في العبادات و المناسك، كالقرآن، و الصلاة، و الدعاء، و الذكر، يجعل المسلمين صفّاً واحداً. و الاختلاف في التأريخ كالإختلاف في اللغة يشتّتهم و يفرّق كلمتهم.

  • و بينما نرى المسلمين في العالم يحتاجون إلى الإتّحاد و الوفاق أكثر من أيّ شي‌ء آخر، و أنّ نبيّهم أمرهم بالإتّحاد، و أنّ كتابهم ناداهم بقوله‌: {وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا}، و أنّ القرآن و النبيّ أعلنا أنّ التأريخ هو القمريّ، فلما ذا نمزّق رسالة سعادتنا بأيدينا، و نسير في الإتّجاه المعاكس؟

  • اليد الاجنبيّة في تغيير التأريخ الإسلامي‌

  • و قد تنبّه أعداء الإسلام في القرون الأخيرة جيّداً إلى أنّ السبيل الوحيد للسيطرة على المسلمين، و القضاء على كيانهم العقيديّ و الثقافيّ هو إيجاد التفرقة بينهم في الآداب و التقاليد و تقسيم أقطارهم، و تدمير الأركان التي تقوم عليها وحدتهم، و ذلك تحقيقاً لمصالحهم المادّيّة، و إمعاناً في استغلالهم. لذلك استخدموا كلّ قواهم من أجل تقويض كيان المسلمين،

معرفة الإمام ج٦

161
  • و عملوا كلّ ما في وسعهم لتمزيق أوصالهم على امتداد السنين الخالية.

  • و أفلحوا في ذلك من خلال خطط مزوّرة فجعلوهم طرائق قدداً، و زعزعوا دعائم حضارتهم و آدابهم و أخلاقهم و علومهم واحدة تلو الاخرى.

  • و كان المرحوم والدي آية الله السيّد محمّد صادق الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه يقول: عند ما سيطر الإسكندر على الشرق و فتح الأقطار كلّها، و سار حتّى الهند، كتب إلى استاذه أرسطو يخبره أنّه استولى على أقطار الشرق جميعها. و طلب منه أن يرشده ما ذا يفعل لكي تبقى تلك الأقطار تحت سيطرته.

  • فأجابه أرسطو أن يقسّم تلك الأقطار المفتوحة إلى أقطار صغيرة، و يجعل على كلّ قطر حاكماً، و يعلن نفسه حاكماً على الجميع! و حينئذٍ تنقاد الشعوب كلّها إلى طاعته و العمل بأوامره، و لا يتمرّد حاكم منهم و لا يرفع لواء المعارضة خوفاً على عرشه. و عندئذٍ تعمر تلك الأقطار و يجدّ حكّامها لحفظ مصالحه. و لو قدّر لأحد أن يقوم ضدّه، فإنّه يبادر إلى قمعه و إخماد نار فتنته بما اوتي من قدرة كبيرة!

  • بَيدَ أنّه إذا حكم تلك الأقطار وحده، أو فوّض امورها إلى شخص واحد غيره. فإنّه يخشى من أن يستفحل أمرها شيئاً فشيئاً و تتوحد فيما بينها و تتمرّد ضدّه. و ذلك الشخص حتّى لو كان من أخصّ الخواصّ، فإنّه يتمرّد و يطغى أيضاً، وى طالب بالحكومة و السلطنة، و حينَئذٍ يندحر و يأفل نجمه، و تفلت تلك الأقطار كلّها من قبضته!

  • و قد انتهج الإنجليز نفس الخطّة في تعاملهم مع المسلمين. و ساروا عليها بعد اندحار الإمبراطوريّة العثمانيّة المترامية الأطراف التي حكمت قسماً عظيماً من آسيا، و اوروبا، و إفريقيا تحت عنوان الخلافة الإسلاميّة أكثر من ستّة قرون (من سنة ۱٢٩٩ إلى سنة ۱٩٢٣ م). تعاقب على 

معرفة الإمام ج٦

162
  • حكومتها ثمانية و ثلاثون سلطاناً على التوالي أوّلهم السلطان عثمان خان‌ الغازي الذي تسلّم زمام الامور سنة ٦٩٩ هـ و آخرهم السلطان عبد العزيز الثاني الذي حكم حتّى سنة ۱٣٤٢ هـ و قد قسّم الإنجليز الدولة العثمانيّة عدّة أقسام، جعلوا على كلّ قسم عميلًا من عملائهم.

  • فالقسم الاوروبي الشامل لأقطار شبه جزيرة البلقان و هنغاريا و قسم من رومانيا الذي يضمّ بوخارست، قسّموه إلى دول: يوغسلافيا (صربيا)، و ألبانيا، و اليونان، و بلغاريا، و قسم من تركيا الاوروبيّة، و هنغاريا (المجر)، و رومانيا الشاملة لبوخارست.

  • و القسم الآسيويّ قسّموه إلى تركيا، و سورية، و لبنان و الأردن و فلسطين، و الحجاز، و عدن، و اليمن، و العراق، و الكويت.

  • و القسم الإفريقيّ قسّموه إلى مصر، و طرابلس التي تمثّل القطر الليبيّ، و كما يلاحظ، فإنّهم جزّءوا الدولة العثمانيّة إلى تسعة عشر جزءاً.

  • لقد بذل الكفّار قصارى جهودهم بعد تقسيم هذه الأقطار و قبله أيضاً من أجل القضاء على وحدة المسلمين الذين يحملون القرآن المجيد رمزاً لها، و ذلك بعد تغلغلهم في الأقطار الإسلاميّة الاخرى قدراً ما و سيطرتهم عليها تحقيقاً لأهدافهم المشئومة. و عملوا كلّ ما في وسعهم لزرع الأفكار القوميّة و تعاهدها بالرعاية، و جعل كلّ شعب متمسّكاً بقوميّته و آدابه و تقاليده، و محبّاً لوطنه الذي يمثّل الحدود المعيّنة التي وضعوها في اجتماعاتهم. و شغلوا الناس بالصحف، و الإذاعات، و السينمات، و هيمنوا على معارفهم و ثقافتهم بواسطة المدارس و الجامعات، و تأسيس الجامعات المستقلّة بذريعة الحفاظ على قوميّتهم و آدابهم التي لا تمثّل إلّا ألفاظاً جوفاء، و هراء لا طائل تحته. و ليس فيها إلّا الفخر بالعظام البالية النخرة لأسلافهم، و التهافت على مقدار من الكؤوس و الكيزان المحطّمة بوصفها 

معرفة الإمام ج٦

163
  • آثاراً قوميّة، و جمعها في متاحف فخمة.

  • فحرّضوا الفرس على التمسّك بالآداب و التقاليد الزرادشتيّة و إحياء الزَّند [كتاب زرادشت‌] و الأوِسْتا [كتابه المقدّس أيضاً] و المدح المفرط بملحمة الشاهنامه التي نظهما الفردوسيّ، و عرض الأساطير الخاصّة بكورش، و داريوش، و سيروس، و رستم، و زال [والد رستم‌].

  • و قد رأينا بأعيننا كيف كانوا يقفزون من فوق النار في آخر أربعاء من السنة الشمسيّة، و كيف يحترمون النوروز و المهرجان [و هو عيد قديم للفرس، يعتبر أكبر عيد بعد عيد النوروز] و يخرجون من البيوت في اليوم الثالث عشر من فروردين [يصادف الثاني من نيسان‌]، و آلاف الحكايات و الأساطير المخدّرة التي كانت تمثّل التعاليم السياسيّة للطبقة الحاكمة المتسلّطة على رقاب الناس و ينبغي أن تطبّق في هذا البلد مع ما تتطلبّه من تكاليف باهظة.

  • و اعتبروا لغة القرآن لغة أجنبيّة، و هي اللغة الاولى لكلّ مسلم و لم يعد لتدريسها في المدارس قيمة تذكر، إذ امتهنوها امتهاناً حتّى كادت أن تعدم. و كانوا يستبدلون المفردات العربيّة العذبة بالمفردات الأجنبيّة و الغربيّة التي يأخذونها من كتاب «أوسْتا» متذرّعين بذرائع واهيّة، و أنشأوا مجمعاً لغويّاً لوزارة التربية و التعليم لا يشمّ منه إلّا توجّه محموم يقضي بمحو الإسلام، و الاهتمام بالتغريب.

  • و قد طبّق المستعمرون أعداء الإسلام هذا المنهج في البلدان الإسلاميّة الاخرى من خلال الاهتمام بالجذور التأريخيّة لكلّ بلد قبل الإسلام. ففي إيران ركّزوا على النعرة الفارسيّة، و في الأقطار العربيّة على نعرة العروبة، و في تركيا على النعرة التركيّة، و في شبه القارّة الهنديّة، على النعرة الهندوسيّة، و هكذا في بقيّة الأقطار حتّى لو كانت صغيرة، كما في 

معرفة الإمام ج٦

164
  • الإمارات الواقعة على سواحل الخليج الفارسيّ نحو قَطَر، و القطيف، و أبوظبي، و غيرها، إذ منحوا تلك الأقطار استقلالًا ظاهريّاً، و ضربوا على وتر النعرة القوميّة.

  • فهذه الأقطار التي قسّموها و منحوها الاستقلال، لم تستقلّ بحقيقة الاستقلال، بل ظلّت تعيش في بقعتها الهزيلة شبه ميّتة، تحت وصاية المستعمرين وانتدابهم.

  • و من أهمّ الأشياء التي أفلحوا في طمس معالمها هو التأريخ الإسلاميّ القمريّ الذي أبطلوا مفعوله في كافّة الأقطار الإسلاميّة إلّا في المملكة العربيّة السعوديّة كما يبدو. و نسخوا ذلك التأريخ، و استبدلوا التأريخ الشمسيّ به، و ذلك بحجّة أنّه نداء للإتّحاد العالميّ، و ضرورة للإرتباط بتأريخ الأقطار الصناعيّة و التجاريّة، و أنّه لا بدّ منه في العلاقات السياسيّة على الصعيد العالميّ. و أصبح التأريخ القمريّ الإسلاميّ منسوخاً بالتأريخ الشمسيّ متّخذين ميلاد السيّد المسيح بداية له. فأضحى التأريخ الميلاديّ هو التأريخ الرسميّ للبلدان الإسلاميّة، و بذلك لا يعرف الناس شيئاً عن الهجرة النبويّة، و لا عن محرّم و صفر.

  • و جعلوا بداية السنة في العراق و بين النهرين: كانون الثاني و الشهور شهوراً روميّة، و هكذا بدءوا بالتقويم وفقاً للشهور الميلاديّة التي تبدأ بكانون الثاني، و يقع الشتاء في الشهر الأوّل و الثاني منها. و هذه الشهور هي: كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان، أيار، حزيران، تمّوز، آب، أيلول، تشرين الأوّل، تشرين الثاني كانون الأوّل،۱ و هو الشهر الأوّل 

  • في‌ الشتاء، و جعلوا ميلاد السيّد المسيح بداية للتقويم، و أطلقوا على السنين: اسم السنين المسيحيّة أو الميلاديّة.

  • و فعلوا مثل ذلك في أقطار بلاد الشام (سوريا- لبنان- فلسطين) و مصر و غيرها مستعملين تأريخ الإفرنج نفسه و بأسماء إفرنجيّة أجنبيّة مثل: نوفمبر، و ديسمبر و أمثالهما. و جعلوا تقويمهم ميلاديّاً أيضاً. و هكذا فعلوا في شبه القارّة الهنديّة (الهند، و الباكستان).

  • و قد وجدوا أنّ من غير الصالح أن يجعلوا التأريخ ميلاديّاً في إيران 

    1. جاء في «النصاب»:
      دو تشرين دو كانون و پس آنكه‌***شباط و آذر و نيسان أيّار است‌
      حزيران و تموز آب و أيلول‌***نگهدارش كه از من يادگار است‌
      و تعريبها:تشرينان و كانون يتلوهما *** شباط، و آذار، و نيسان، و أيّارحزيران، و تمّوز، و آب، و أيلول‌ *** فاحفظها فهي منّي لك تذكارو أمّا أيّام هذه الشهور فهي: تشرين الأوّل ٣۱ يوماً، تشرين الثاني ٣۰ يوماً كانون الأوّل ٣۱ يوماً، كانون الثاني ٣۱ يوماً، شباط ٢۸ يوماً و في الكبيسة ٢٩ يوماً، آذار ٣۱ يوماً، نيسان ٣۰ يوماً، أيّار ٣۱، حزيزان ٣۰ يوماً، تموز ٣۱ يوماً، آب ٣۱ يوماً، أيلول ٣۰ يوماً ( «التنبيه و الإشراف» للمسعودي ص ۱۸٣).و أمّا شعر «نصاب» المعروف فهو قوله:
      لَا وَ لَا لَبْ لَا وَ لَا شش مه است‌***لَلْ كطْ وَ كطُ لَلْ شهور كوته است‌
      لا و لا لب لا و لا لا فهذه ستّة أشهر***لل كط و كط لل فهذة ستّة قصيرة
      فإنّه يعود إلى الشهور الروميّة على الحمل و الثور و الجوزاء باللغة العربيّة. أي: أنّ عدد أيّام الشهور الروميّة من الحمل هي بالترتيب: ٣۱، ٣۱، ٣٢، ٣۱، ٣۱ ٣۱، الشهور الستّة الأولى حتّى آخر السنبلة، و ٣۰، ٣۰، ٢٩، ٢٩، ٣۰، ٣۰، الشهور الستّة الأخيرة حتّى آخر الحوت، و مجموعها: ٣٦٥ يوماً.من الطبيعيّ، لمّا كانت السنة الشمسيّة ٣٦٥ يوماً و ٥ ساعات و ٤۸ دقيقة و ٤٥ ثانية، و أرادوا أن لا تتأخّر السنة، لذلك عليهم أنّ يجمعوا هذه الكسور في كلّ أربع سنوات مرّة واحدة، فتكون يوماً واحداً، يضيفونه إلى تلك السنة. و يطلق على هذه السنة: الكبيسة.

معرفة الإمام ج٦

165
  • دفعة واحدة لأنّ شعبها يتشرّف بتشيّعة و اتّباعه العلماء الأبرار و لعدم استسلامه و خضوعه لحكّام الجور، على عكس الشعوب الاخرى التي‌ تعتنق المذهب السنّيّ فإنّها تنظر إلى الحكّام على أنّهم أولو الأمر و أنّ طاعتهم واجبة مهما كانوا. فإذا حكموا بتبنّى التأريخ الميلاديّ، فالجميع سامعون طائعون.

  • و كان استبدال التأريخ الميلاديّ الشمسيّ بالهجريّ القمريّ عسيراً جدّاً، بل ممتنعاً، و ذلك بسبب وجود العلماء المتنفّذين في هذا البلد الشيعيّ.

  • لذلك نرى أنّ المستعمرين قاموا بتحقيق أهدافهم في هذا المجال مرحليّاً، لكي يعتاد الناس على المراحل السابقة و يألفوها شيئاً فشيئاً، حتّى لا يجدوا مانعاً من تنفيذ المراحل اللاحقة.

  • استبدال السنين الشمسيّة بالقمريّة في الدورة الثانية لمجلس النوّاب‌

  • فطبّقوا مرحلة واحدة من تلك المراحل قبل ثمانين سنة، و ذلك في الدورة الثانية لمجلس النوّاب، و هذه المرحلة هي استبدال الشهور الشمسيّة بالشهور القمريّة، و في الدوائر الحكوميّة فقط دون حدوث تغيير في رأس السنين الشمسيّة، أو في أسماء الشهور الشمسيّة، فرأس السنين هو هجرة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه و آله و سلّم من مكّة إلى المدينة المنوّرة.۱ 

    1. لمّا كانت بعثة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في ٢۷ رجب، و أنه مكث في مكّة ۱٣ سنة، ثمّ هاجر منها في ۱٢ ربيع الأوّل؛ فإنّ لبثه في مكّة على نحو التحقيق ۱٢ سنة و ۷ شهور و نصف الشهر. و أنّ مدّة مكوثه في المدينة ۱۰ سنين إلّا أربعة عشر يوماً، أي: من ۱٢ ربيع الأوّل، السنة الاولى للهجرة حتّى الثامن و العشرين من صفر سنة ۱۱ هـ. و كانت هجرته سنة ٦٢٢ م. و صادف الأوّل من المحرّم في تلك السنة، و هو بداية السنة عند المسلمين، السادس عشر من تمّوز سنة ٦٢٢ حسب التعديل في تقويم جولين، و التاسع عشر منه حسب التعديل في التقويم الغريغوريّ الميلاديّ الحالي.

معرفة الإمام ج٦

166
  • و أسماء الشهور هي الأسماء العربيّة المتداولة، وفقاً لحركة الشمس في البروج الأثني عشر، أي: من أوّل الربيع بالترتيب، و هذه البروج هي:

  • الحَمَل، و الثَّوْر، و الجَوْزاء، و السَّرَطان، و الأسد، و السُّنْبُلَة، و الميزان، و العَقْرَب، و القَوْس، و الجَدْي، و الدَّلْو، و الحوت.

  • و قد طرحوا المسوّغ لهذا التغيير في المجلس، و هو تنظيم الشؤون المالية، و ذكروا أنّ السنة الشمسيّة من مصلحة الحكومة، ذلك لأنّ السنة الشمسيّة تزيد على السنة القمريّة أحد عشر يوماً و حينئذٍ تصبّ ميزانيّة الحكومة و دفع رواتب الموظفين وفقاً لهذه الشهور في مصلحة الحكومة و نفعها.

  • و على سبيل المثال، لو كانت نفقات الحكومة حسب السنين الشمسيّة أربعة و عشرين مليوناً سنويّاً، فإذا أرادت أن تنفق ذلك المبلغ حسب الشهور القمريّة فإنّ عليها أن تزيد النفقات مليونين في كلّ ثلاث سنوات، و ذلك لزيادة شهر في كلّ ثلاث سنوات، فتتضرّر الحكومة مليونين.۱

    1. و تنبّه العثمانيّون إلى هذا الموضوع أيضاً قبل سبعين سنة، فغيّروا التأريخ الرسميّ إلى تأريخ شمسيّ. أي: بدّلوا تأريخهم في سنة ۱٢٥٦ هـ، إلّا أنّ السهو الذي ارتكبوه آنذاك هو جعلهم التأريخ شمسيّاً منذ ذلك الحين فما تلاه، و بقاؤهم على التأريخ القمريّ في المدّة التي سبقت ذلك الحين، فتأريخهم منذ اليوم الأوّل للهجرة لا يدلّ على القمريّ، و لا على الشمسيّ. إذ إنّ سبعين سنة منه شمسيّة بأسماء روميّة كشباط و تشرين و غيرهما، و ما سبق ظلّ قمريّاً و شهوره محرّم و صفر و غيرهما من الشهور.
      لذلك نرى حتّى هذا التأريخ الذي نؤلّف فيه كتابنا هذا، و هو ربيع الأوّل سنة ۱٤۰٥ هـ، أنه مضى على ذلك التأريخ ۱٥۰ سنة، و أنّ النقص في هذا المقدار أربع سنوات و نصف، فيجب أن يكون تأريخ السنوات العثمانيّة ۱٤۰۰ سنة. غير أنّ مصطفى كمال باشا عند ما تسلّم مقاليد الامور لم يغّير التأريخ الهجريّ، و يجعله ميلاديّاً فحسب، بل جهد على جعل جميع الآداب و التقاليد و النهج أجنبيّة، و عطّل المساجد، و استبدل الجمعة بالأحد كعطلة رسميّة.

معرفة الإمام ج٦

167
  • و كذلك عند ما بدأت دائرة الجمارك أعمالها في إيران، تصوّروا أنّ التأريخ الشمسيّ ضروريّ في الشؤون الحكوميّة. فسألوا الناس: أيّ سنة شمسيّة هذه؟ فلم يحصلوا على شي‌ء. قالوا: ثمّة حَمَل و ثور في سنين المنجّمين، و هم يعلمون ذلك، و هو ما أخذه البلجيك و طبّقوه.

  • و كلّما فكّرتُ في هذه الأدلّة لأعرف كيف تكون كافية لاستبدال الشهور و السنين القمريّة الإسلاميّة بالشهور و السنين الشمسيّة، فلم أهتدِ إلى شي‌ء. و هل يكون الدليل على هذه الدرجة من الضعف، إذ يغيّرون السنة المتداولة في بلد ما إلى سنة شمسيّة بسبب حاجة التعرفة الجمركيّة إلى ذلك، و يبدّلون جميع الآداب و التقاليد و العطل و الإجراءات الإداريّة و المراسيم في كافّة الداوئر كدائرة العدل، و التربية و التعليم و غيرهما، و حتّى وزارة المالية و يتلاعبون بشؤون البلد كلّها من خلال هذه الممارسات؟ فأيّ حساب هذا؟! و أيّ كتاب هو؟!

  • و أمّا الميزانيّة و نفقات الحكومة التي تتضرّر حسب الشهور القمريّة، فإنّ دليلها باهت واهٍ إلى درجة أنّ الإنسان يندهش من عقول الذين اقترحوا تغيير التأريخ و درايتهم.

  • فمن قال بأنَّ تجعل الحكومة ميزانيّتها من الضرائب التي تجمعها من الشعب حسب الشهر و السنة القمريّة، ثمّ تصرفها حسب الشهر و السنة الشمسيّة، و تدفعها لموظّفيها؟ فلو جمعتها الحكومة حسب التأريخ الشمسيّ، فإنّها تدفعها وفقاً لذلك التأريخ. و لو جمعتها حسب التأريخ القمريّ، فإنّها تدفعها وفقاً له أيضاً. و هكذا تبقى النسبة متعادلة و محفوظة 

معرفة الإمام ج٦

168
  • في كلا الحالين، و لا يمكن أن يُتَصَوَّر ربح و خسارة أبداً.

  • فلو كانت ميزانيّة البلاد أربعة و عشرين مليوناً في السنة الشمسيّة، و أراد ذوو الأمر صرفها حسب السنة القمريّة، فلن تبقى على المبلغ نفسه، بل تقلّ طبعاً، و ما يضرّ دفع المقدار الأقلّ حسب شهور و سنين أقصر؟

  • إن تعيين الميزانيّة و عائدات الحكومة و مصاريفها، و كذلك إنفاقها و جمعها، كلّ ذلك سواء كان حسب السنين الشمسيّة أو القمريّة، فإنّه يعود إلى الحكومة، و هي صاحبة التصرّف، و التناسب محفوظ على أيّ حال، لا ينقص أو يزيد ريالًا واحداً.

  • لو دعوتم عشرة ضيوف إلى بيتكم مثلًا، فإنّكم تضعون أمام كلّ واحد إناءً أو صحناً لطعامه! و لو دعوتم عشرين ضيفاً! فعليكم أن تهيّئوا عشرين إناءً! و الضيوف في كلا الحالين يأكلون من أوانيهم المعدّة لهم و يشبعون! بَيدَ أنّكم لو دعوتم عشرين ضيفاً، و وضعتم أمامهم طعاماً يكفي لعشرة ضيوف فقط! فإنّ الجميع يبقون جياعاً!

  • و لا ضرورة تلزمكم أن تدعوا عشرين ضيفاً، و تقدّموا لهم طعاماً يكفي لعشرة! فإمّا أن تدعوا عشرين، تقدّموا لهم طعاماً لعشرين، أو تدعوا عشرة، و تقدّموا طعاماً لعشرة. و في كلتا الحالتين يشبع ضيوفكم جميعهم، و لا تخجلون بسبب قلّة الطعام، و تؤدّون ما عليكم!

  • إن كلّ ما أتى به اولئك الأشخاص تبريرات و ذرائع واهية. فهم يريدون إلغاء محرّم، و صفر، و رمضان، و ذي الحجّة و طمس معالمها. ليخطوا خطوتهم الاولى، و يطووا مرحلة من المراحل ليمهّدوا الطريق لخطوات قادمة و مراحل لم تطو بعد.

  • قام المجلس الثاني بإلغاء السنين و الشهور القمريّة من التقويم الرسميّ. و استبدل الحَمَل و الثَّوْر و الجوزاء بمحرّم و صفر. و عند ما 

معرفة الإمام ج٦

169
  • اعترضت عليهم الفئة المؤمنة الواعية الملتزمة بأنّ هذه الخطوة تعني إلغاء الشعائر الإسلاميّة! و تغيير محرّم و صفر! أجابوا:

  • لا دخل لنا بمحرّمكم و صفركم! أقيموا مجالس العزاء في هذين‌

  • الشهرين! و صوموا في شهر رمضان! و أدّوا مناسك الحجّ في ذي الحجّة!

  • لا يعنينا أبداً ممارسة أعمالكم العباديّة في أوقاتها المقرّرة في الشرع! إنّه شي‌ء يخصّكم! فنحن نجعل التأريخ الشمسيّ تاريخاً رسميّاً للبلاد بسبب الأعمال الحكوميّة، و العلاقات الدبلوماسيّة و تنظيم شئون الحكومة و تنسيقها، و الأنظمة الإداريّة و الوزارات! و ليس في هذا ضرر لأيّ شخص أو لأيّ مرفق حيويّ!

  • و متى طلبنا منكم أن تصوموا في الحَمَل! أو تحجّوا في السرطان! فالحقّ- حينئذٍ- معكم! و لكم أن تعترضوا علينا!

  • و لم يقل أحد لهؤلاء: إنّ الإسلام لا يفرّق بين الشؤون العباديّة و السياسيّة، و إنّ الأنظمة الإداريّة لا تنفصل عن الصلاة و الصوم، و إنّ عمل الوزارات يصبّ في خدمة الثقافة الإسلاميّة الأصيلة، و الحجّ و الزيارة، وصوم شهر رمضان، و إقامة العزاء على سيّد الشهداء عليه السلام. و ليس عندنا: نحن و أنتم! فالحكومة الإسلاميّة واحدة، و الامّة الإسلاميّة واحدة!

  • إنّ استبدال التأريخ القمريّ بالتأريخ الشمسيّ يؤدّي إلى فصل الشعب المسلم عن الحكومة، و يستلزم عزل الإسلام عن الحقل الاجتماعيّ و الرسميّ. و يؤول- في الحقيقة- إلى نسْخِ الإسلام و إقرار النظام الغربيّ و التغريب.

  • فهذه هي المرحلة الاولى من التغيير التي كانت جارية و سارية المفعول في البلاد على امتداد عشرين سنة، إلى أن حان الوقت لتنفيذ 

معرفة الإمام ج٦

170
  • المرحلة الثانية لهذه الخطّة، و كانت الأرضيّة ممهّدة من كلّ الجهات، و أعداء الإسلام يتربّصون و ينتهزون الفرصة لتنفيذ تلك المرحلة.

  • استبدال السنين الفارسيّة القديمة بالشمسيّة في الدورة الخامسة

  • فكانت الدورة الخامسة لمجلس النوّاب التي عقدت جلستها الثالثة و الأربعين بعد المائة يوم الثلاثاء ٢۷ حوت ۱٣۰٣ شمسيّ المصادف ٢۱ شعبان ۱٣٤٢ قمريّ، فنسخت التأريخ الشمسيّ الذي كان وفقاً للشهور العربيّة و بأسماء عربيّة، و أبدلته بالتأريخ الهجريّ الشمسيّ القديم.

  • و كلّ ما طرح في المجلس من كلمات و خطب للحؤول دون تحقيق هذا الأمر لم يؤت اكُله. و لا سيّما كلمة السيّد شريعتمدار الدامغانيّ الذي تحدّث بنحو استدلالىّ، فقال:

  • إن الشهور الشمسيّة المعيّنة وفقاً لحركة الشمس في البروج أفضل من الشهور التأريخيّة القديمة المزيّفة المختلفة التي لا تنسجم مع المبادئ العلميّة من قريب أو بعيد.

  • علماً أنّ أصل الاقتراح الذي طرح في المجلس جاء من قبل الاقطاعيّ كيخسرو شاهرخ‌۱ المجوسيّ المعادي للإسلام و أحد أعضاء المحفل الماسونيّ الإيرانيّ، و بتشجيع من قبل السيّد حسن تقي زاده‌٢ العميل الخاصّ للأجانب في إيران و من رؤساء المحفل الماسونيّ و المتمرّسين ذوي الخبرة الممتدّة ستّين سنة فيه.

  • و كان للسيّد محمّد تديّن‌٣ دور ملحوظ في هذا الموضوع كما يظهر 

    1. يرجع إلي كتاب «فراموشخانه و فراماسونرى در ايران» و تعني: «المحفل الماسونيّ و الماسونيّة في إيران» تأليف إسماعيل رائين، الطبعة الخامسة، ج ٢، ص ۱٤٢ إلي ص ۱٤۷. و كذلك الصفحات ٤٩ و ٥۰ و ٥٤ و ۷٥ و ٤٥۱.
    2. «فراموشخانه و فراماسونرى در إيران» ج ٣، ص ٥٣۱ إلي ٥٣٤.
    3. كان لهذا الشخص دور يؤبه له في مؤازرة البهلويّ‌‌ [رضا خان‌] و تمكينه من التسلّط على الناس. و كان عضواً في مجلس الشوري لعدّة سنين، ثمّ رئيساً للوزراء في عهده ثمّ في زمن ابنه‌‌ [محمّد رضا].

معرفة الإمام ج٦

171
  • من كلامه في ذلك المجلس.

  • و هذا الاقتراح يقضي بإجراء تغييرين في التأريخ الشمسيّ الرسميّ للبلاد: الأوّل: استبدال الشهور العربيّة كالحمل و الثور و الجوزاء و غيرها. الشهور الفارسيّة القديمة و هي: فروردين ارديبهشت، خُرداد، تير، امرداد، شهريور، مهر، آبان، آذر، دى، بهمن، إسفند.۱

  • الثاني: يكون عدد أيّام الشهور الستّة الاولى: ٣۱ يوماً و الشهور الخمسة التي تليها: ٣۰ يوماً، و الشهر الأخير: ٢٩ يوماً فيصبح المجموع: ٣٦٥ يوماً. و يحسب الشهر الأخير (إسفند): ٣۰ يوماً في كلّ أربع سنوات، و ذلك للكسر الموجود فتحسب تلك السنة: ٣٦٦ يوماً.

  • و كانوا يقولون:

  • إن هذا التقويم مأخوذ من تقويم السلطان ملك شاه السلجوقيّ. حيث إنّ هذا الملك لمّا رأى أنّ السنين الشمسيّة تسير إلى الوراء بسبب عدم محاسبة التعديلات، و عدم محاسبة السنين الكبيسة بدقّة، لذلك جعل السنين الشمسيّة بهذا الشكل مستهدياً بتنظيم و تنسيق الحكيم عمر الخيّام و بعض المنجّمين الآخرين؛ إذ تكون الشهور جميعها ثلاثين يوماً في كلّ شهر، و يصبح المجموع ثلاثمائة و ستّين يوماً، و عندها كانوا يضيفون خمسة أيّام لآخر شهر آبان أو إسفند، لكي لا يحصل نقص في السنين، و يسمّون تلك الأيّام الخمسة: الخَمْسَة المُسْتَرَقَّةَ. و يعود السبب في ذلك إلى أنّ المجوس قبل الإسلام كانوا لا يحسبون خمسة أيّام إضافية ضمن 

    1. ذكر المسعوديّ هذه الأسماء في كتاب «التنبيه و الإشراف» ص ۱۸٤.

معرفة الإمام ج٦

172
  • السنة، و كانوا يتطوّعون للقيام بالأعمال الخيريّة خلال تلك الأيّام.

  • و كانت السنة تتألّف من ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوماً بالأيّام الخمسة المضافة إليها. و كانوا يكبسون سنة في كلّ أربع سنوات، فيحسبونها ثلاثمائة و ستّة و ستّين يوماً. و للحصول على حساب أدق، كانوا يحسبون كبيسة ثانية، و يجعلون السنة الكبيسة سنة خامسة مرّة واحدة في كلّ ثلاث و ثلاثين سنة، أي: كان المفروض أن يحسبوا سنة ٣٢ كبيسة بعد سنين ٢٩، ٣۰، ٣۱. إلّا أنّهم أخّروها سنة و كبسوا سنة ٣٣.۱

  • و في ضوء هذا الحساب، تتأخّر السنون الشمسيّة يوماً واحداً فحسب إلى ستّة آلاف سنة.

  • و هكذا نظّم السلطان ملك شاه السلجوقيّ هذا التقويم، و جعل يوم جلوسه على العرش بداية للسنة معرضاً عن التأريخ الهجريّ و مهملًا إيّاه. و أراد أن يشيع هذا التقويم. إلّا أنّ الناس رفضوا ذلك بسبب تغيير بداية التأريخ من الهجرة إلى الجلوس على العرش، فلم يلق تقويمه ترحيباً من الناس، غير أنّه دقيق من حيث المحاسبة.

  • فإذا جعلنا أيّام الشهور الستّة الاولى من السنة: ٣۱ يوماً، و أيّام الشهور الستّة الاخرى: ٣۰ يوماً، و أيّام إسفند: ٢٩ يوماً، و نكبس كلّ أربع سنين مرّة واحدة، و كلّ ثلاث و ثلاثين سنة نكبس كبيسة ثانية، فلا يظهر أيّ تغيير في عدد أيّام السنة، و لا تتأخّر السنة أيضاً أي: أنّ هذا الحساب 

    1. في ضوء محاسبات الخيّام، ينبغي كبس ثماني سنين في كلّ ثلاث و ثلاثين سنة لكي لا يظهر اختلاف. لذلك بناءً على هذا الوضع، يكبسون سنة في كلّ أربع سنين. و في رأس السنة الأخيرة و هي السنة الثالثة و الثلاثون يجعلون الكبيسة في رأس السنة الخامسة و هي السنة الثالثة و الثلاثون. لذلك فالدورة الأخيرة للسنين الأربع البسيطة و السنة الخامسة ستكون كبيسة.

معرفة الإمام ج٦

173
  • ينسجم مع تقويم ملك شاه من حيث المحتوى و يغايره من حيث عدد أيّام كلّ شهر خاصّة. و هذا الأمر ليس ذا بال.

  • و خلاصة القول إنّ هذا الحساب ضروريّ في السنين الشمسيّة بمقدار أوّل السنة و آخرها، و لكن ليس هناك من فرق فيما إذا كانت أيّام الشهر الشمسيّ ثلاثون أو واحد و ثلاثون، أو قلّ عن ذلك أو زاد، فالأصل في الحساب هو مجموع أيّام السنة.

  • نحن نجعل اسم فروردين للشهر الأوّل من الربيع، طابق شهر الحَمَل أو لم يطابق.

  • هذا من حيث عدد أيّام الشهور، و أمّا من حيث تغيير الأسماء فقد قالوا:

  • لا يهمّنا، لأنّ التغيير هو تغيير الألفاظ، و لا يضرّ أحداً. إذ إنّه رفع للألفاظ العربيّة و استعاضة الألفاظ التراثيّة القديمة بها، و في ذلك إحياء للسنن القوميّة. و كلّ شعب ينبغي أن يحترم طقوسه و شعائره. و يزيدون على ذلك أنّهم يزعمون بأنّ الإسلام دعاهم إلى إحياء السنن القوميّة.

  • و لمّا قيل لهم: إنّكم تقصدون رفع محرّم و صفر و طمس معالمهما! قالوا:

  • لا، لا نقصد ذلك! فالامور الشرعيّة لها حرمتها و أنّما نريد رفع الألفاظ العربيّة و وضع ألفاظنا العريقة الجميلة العذبة موضعها! و لا ينبغي لنا أن نكون أشدّ تحمّساً على العروبة من العرب أنفسهم. فما يستعمل بين النهرين (العراق) و غيره هذا اليوم هو: تشرين، و كانون، و شباط، و لا نعرف دولة من الدول العربيّة قد استعملت الحَمَل، و الجوزاء، و السنبلة.

  • وهنا قال المرحوم المجاهد و العالم العظيم السيّد حسن المُدَرِّس:

  • إن الأقطار الإسلاميّة كلّها تستعمل مُحَرَّم، و صَفَر.

معرفة الإمام ج٦

174
  • فقالوا:

  • لا يعنينا محرّم، و صفر، فهما ممّا يعني الشعوب و يخصّها، إذ تقوم بشؤونها الشرعيّة حسب تلك الشهور، و أنّما يرجع كلامنا إلي التقويم‌ الحكوميّ الرسميّ، لا الشؤون الشرعيّة للناس. و ها نحن نريد أن نغيّر أسماء الشهور في هذا التقويم الرسميّ الشمسيّ نفسه الذي لا زلنا نعهده إلى اليوم. هو أمر لا ضرر فيه، و لا علاقة له بمحرّم و صفر، إذ لهما حرمتهما. و ما نريده هو استبدال الحَمَل و الجوزاء بارديبهشت و فروردين و ليس هذا إلّا إحياءً لتقاليدنا العريقة و تراثنا القديم.

  • فقال أحد النوّاب المعارضين:

  • إذا أردتم تغيير الألفاظ فغيّروها إلى الألفاظ التي اخترعها أحد المنجّمين المعاصرين لهذه الشهور، و هي تناسبها أكثر من غيرها. و هذا المنجّم هو السيّد جلال الدين الطهرانيّ، فقد وضع تقويماً، و جعل شهور السنة الشمسيّة كالآتي: چَمَنْ‌آرا، گُل‌آور، جان پرور، گرما خيز، آتش بيز، جهان‌بخش، دِژَم خوي، باران ريز، أندوهگين، سرماده، برف‌آور، مشگين‌فام.۱

  • فهذه الأسماء أجمل، و تناسب الشهور من حيث المعنى أكثر من الأسماء التي أعدّها الإقطاعيّ كيخسرو من الكتب القديمة.

  • «فچمن‌آرا» أكثر مناسبة من «فروردين» الذي ترجم إلى «هم مانندى روانان» و يعني: مساواة الأرواح. [چمن‌آرا في اللغة العربيّة يعني: مُزيّن المرج‌] و «گل‌آور» أفضل من «ارديبهشت» الذي ترجم إلى «النظم التامّ 

    1. ذكر السيّد جلال الدين الطهرانيّ هذه الأسماء في الصفحة ۷٩ من تقويمه المؤرّخ سنة ۱٣۰٩ شمسيّ.‌ [۱٩٣۰ م‌].

معرفة الإمام ج٦

175
  • و قدسيّة الأفضل».

  • و الخلاصة فقد أصرّوا على أن «فروردين» و «ارديبهشت» و غيرهما أفضل، و ذلك إحياءً للأعراف القديمة. و حتّى أنّهم قالوا بأن «مُرداد» ينبغي أن يكون أمرداد، و ذلك لمجيئة بالهمزة المفتوحة في اللغة القديمة.۱

    1. يقول دهخدا في معجمه‌‌ [معجم خاصّ باللغة الفارسيّة] في مادّة أمرداد: جاء في «الابستا»: أمُرْتات. و تات مقطع أخير في الكلمة، و ليس له استعمال مستقلّ. و يلاحظ هذا المقطع في خُرداد أيضاً.
      و أمّا المقطع الآخر في الكلمة فإنّه يتألّف من جزءين: الأوّل: «ا» و هو من أدوات النفي، يعني: لا. و يستعمل له بالفارسيّة كلمة «نا» أو «بي». الثاني: مِرْت أو مَرْت و يعني: الموت و الوفاة و الفناء و الهلاك. فيعني أمرداد- إذَنْ: عدم الموت و الفناء أو الخلود. و ينبغي أن يكون مُرداد بأداة النفي: «أَ» لا مجرّداً عنها، لأنّ المعنى يخالفه.
      و أمرداد في دين زرادشت: أمشاسْپَندي، و يمثّل عدم الفناء، و الخلود، أو مظهر الذات التي لا تزول: أهُور مزدا‌ [وجود غير مرئيّ و خالق الحياة و واحد لا شريك له و عظيم و عالم‌]. و قد فوّض إليه حراسة النباتات و الخضروات في عالم التراب (الأرض) (عن «معجم إيران القديمة» بقلم إبراهيم پور داود، ص ٥٩). و يُرجع إلي: «مزديستا»‌ [يطلق على دين زرادشت‌] و تأثيره في الأدب الفارسيّ، للدكتور معين. و كذلك يرجع إلى: «أمشاسْپَندان».
      و خلاصة ما نقلناه هنا عن «معجم دهخدا» جاء في تعليقة مادّة مرداد من هذا المعجم. و يقول أيضاً: أمرداد و هو الشهر الخامس في السنة، و قد وكّل إليه اليوم السابع من الشهر، من أمشاسْپَندان و مظهر أهور مَزدا في الخلود، و ثواب أعمال المحسنين في جنّات الله تعالى. و رعاية النباتات في العالم الأرضيّ تقع على أمرداد.
      و رأى المؤرّخ اليونانيّ إسترابون معبد أمرداد في آسيا الصغرى. و كان يقام حفل أمردادگان في يوم أمرداد من شهر أمرداد.
      و يسمّيه المجوس في إيران: أمرداد أيضاً (من حاشية الدكتور معين على «البرهان القاطع» ذيل مرداد). و جاء في هذه التعليقة أيضاً أنّ تات و هو المقطع الأخير في الكلمة يدّل على اسم مؤنّث مجرّد.
      و يقول في هذا المعجم أيضاً في مادّة أمشاسْپَند: هو المَلَك. و جاء في الابستا «أمِشَه وسِپَنته» مركّبة من جزءين: الأوّل «أمشه» و هو مركّب أيضاً من «ا» علامة النفي، و «مشه» من مادّة مَرْ بمعنى مُردن‌‌ [الموت‌]. الثاني «سپنته» يعني المقدّس. فيكون المعنى: «جاودان مقدّس»‌ [الخالد المقدّس‌].
      عدد «أمشاسپندان» أو «مهين فرشتگان» سبع، و قد اندرج ستّ منها في الشهور الاثنى عشر الحاليّة. هو من/ بَهْمَن، اشه وهيشته/ ارديبهشت، خشتره و ائيريه/ شهريور، سپنته أرمئيتي/ سپندارمذ، هئوروتات/ خرداد، أمرتات/ أمرداد، و وقع سپتامينيو (العقل المقدّس) على رأس هذه الستّ. بعد ذلك استبدلوا أهورا مزدا به، و قد ذكر اسم أمشاسْپندان مرّات عديدة في «گات» و هو أقدم قسم في الابستا.

معرفة الإمام ج٦

176
  • و كم دعا النوّاب المعارضون إلى:

  • التأمّل في هذه الامور، و إلى اهتمام المجلس بأعمال أهمّ منها، و مناقشة الموادّ المهمّة التي تستلزم الإهتمام، و عدم تضييع الوقت في تغيير الأسماء، إلّا أنّ دعوتهم لم تلق اذناً صاغية، إذ تمّ التصويت على ما أرادوا حالًا.

  • أسماء الشهور الفارسيّة القديمة موافقة لاسماء الملائكة في دين المجوس‌

  • و حقّاً لقد خدعوا النوّاب المعارضين في هذه الجلسة، و قالوا:

  • إنّها ألفاظ تراثيّة قديمة لأجل حفظ الروح القوميّة.

  • و لم يناقش أحد أنّ هذه الألفاظ اخذت من «الأبستا»، و أنّ أسماء ستّة من الملائكة الممثّلين لأهُورمزدا [وجود غير مرئيّ و خالق الروح و الحياة] الحي الدائم موجودة بين هذه الشهور، و هي: ارديبهشت، و خرداد و أمرداد، و شهريور، و بهمن، و إسفند.

  • و كثير من النوّاب المعارضين أصابهم الدوار فلم يعرفوا ما ذا يقولون. و كانوا يقولون:

  • نحن لا نعارض الآداب و التقاليد القوميّة.

معرفة الإمام ج٦

177
  • فلم يقل أحد: هذه الآداب القوميّة هي آداب زرادشت و المجوس و قد نسف الإسلام دين زرادشت و آدابه و شعائره، و شعّت شمسه المتألّقه فأذابت كلّ ما يدعو إلى ذكر «أهور مزدا» و ملائكته.

  • و ما ذا يعني أن نجعل التأريخ على أساس الأيّام و الشهور المجوسيّة في دولة إسلاميّة نظامها محمّديّ و توجّهاتها قرآنيّة؟ إنّه نسخ للإسلام، و ليس حديثاً عن ألفاظ جميلة حلوة. بل هو حديث عن غزو شيطانيّ غاشم لكيان الإسلام العظيم. إنّكم تضعون أسماء الشهور هذا اليوم بأسماء ملائكة الدين المجوسيّ! و تبقون الهجرة النبويّة بداية للتأريخ بسبب خوفكم و عدم مؤاتاة الظروف! و ستبدّلونه غداً! و تجعلون مكانه التأريخ الهخامنشيّ مع بداية جلوس سيروس، و هو أكبر ملك هخامنيّش على العرش، أو مع بداية سلطنة كورش أو داريوش! أو تجعلون بداية التأريخ اعتلاء البهلويّ على العرش، كما فعل السلطان السلجوقيّ، زاعمين أنّه المبدع للجديد، و الثائر ضدّ الرجعيّة و الأفكار البالية!

  • لقد دافع أحد النوّاب في تلك الجلسة نوعاً ما، و هو المرحوم شريعتمدار الدامغانيّ فقال مستدّلًا:

  • لا فائدة في تغيير أيّام الشهور و هو يمثّل خروجاً على الموازين العلميّة، و أسماء الحَمَل، و الثَّوْر و الجَوْزاء، أفضل من أسماء فروردين، و ارديبهشت، و غيرها التي لا تحمل معنى مناسباً.

  • قال ذلك إلّا أنّه لم يسبر أغوار الموضوع و لم يبرهن على أنّ الإقتراح المطروح حول تغيير التأريخ بوصفه إحياءً للسنن القوميّة، هو في الحقيقة إحياء لسنّة زرادشت و المجوس و إماتة للأحكام الشرعيّة و المحمّديّة الأساسيّة في بلد إسلاميّ، إذ- كما قلنا هنا، و كما ذكرنا ملائكة الدين الزرادشتيّ في التعليقة- لعلّه لم يعلم، و لم يطّلع على جذور هذا 

معرفة الإمام ج٦

178
  • التغيير. لأنّ المقترحين خبّأوا مقاصدهم، و خاضوا في الموضوع من منطلق استبدال الألفاظ العربيّة بالألفاظ القديمة فقط، و قالوا:

  • إن المسألة مسألة تغيير الألفاظ فحسب، و هي سهلة و يسيرة جدّاً.

  • و في السابع و العشرين من حوت ۱٣۰٣ الموافق للحادي و العشرين‌ من شعبان سنة ۱٣٤٢، و لثلاثة أيّام بقين للنوروز تمّ التصويت بأقصي سرعة و في جلسة واحدة۱ فبدّلوا التأريخ،٢ و بعد إجراء المراسيم المطلوبة، صادقوا على هذا الإقتراح في الحادي عشر من فروردين سنة ۱٣۰٤ شمسيّ [٣۱/ ٣/ ۱٩٢٥ م‌]. و كان مؤتمن الملك (حسين بيرنيا) رئيساً للمجلس يومئذٍ فأرسل ما صادق عليه المجلس إلى الحكومة بوصفه بلاغاً تعميميّاً تنفّذه الدوائر الحكوميّة. و جاءوا بالألفاظ الجميلة لُارديبهشت، و بهمن، و غيرها بوصفها هديّة العيد للشعب الإيرانيّ (عيد النوروز القوميّ). و سقوا الشعب المسكين هذا السمّ الزعاف الذي تعلوه طبقة من القوميّة المعسولة، إلى 

    1. بحيث إنّهم لم يعيّنوا تعديل هذا التأريخ و اكتفوا بجعل إسفند ثلاثين يوماً في السنين الكبيسة، إلّا أنّ السنة الكبيسة لم تعيّن. و لهذا السبب كاد الخطأ يقع في سنة ۱٣۰۸، لأنّه كان واضحاً كالمعتاد أنّ السنة الرابعة بعد السنوات الثلاث: ٣۰٥، ٣۰٦، ٣۰۷ يجب أن تحسب كبيسة، بينما الصحيح هو أنها يجب أن تكون بسيطة لأنّ سنة ۱٣۰٩ هي آخر سنة من دوران ٣٣ سنة، ممّا ينبغي أن تجعل كبيسة. و لهذا السبب أخطأ أحد التقاويم فيها، فاعتبر شهر إسفند من سنة ۱٣۰۸ ثلاثين يوماً. و هذا العمل يقتضي أن يكون اليوم الثاني من الحمل مطابقاً لليوم الأوّل من فروردين. و هذا الخطأ منبثق عن خلل قانوني غفل عنه المجلس ( «تقويم سنة ۱٣۰٩» للسيّد جلال الدين طهرانيّ، ص ۷۸).
    2. ما ذكرناه هنا عن مجلس النوّاب حول تغيير التأريخ، نقلناه عن الصحف الرسميّة الملكيّة‌ [التي كانت تصدر في العهد البهلويّ البائد] من ص ۱۰۱۰ إلى ۱۰۱٤ و من ص ۱۰٥٦ إلى ص ۱۰٦۰. فيما يتعلّق بالجلسة الثالثة و الأربعين بعد المائة المحضر المفصّل، صباح الثلاثاء ٢۷ حوت ۱٣۰٣ الموافق للحادي و العشرين من شعبان سنة ۱٣٤٢.

معرفة الإمام ج٦

179
  • درجة أنّ كثيراً من الناس لم يعوا حقيقة الأمر لحدّ الآن فهم ينطقون بالأسماء القديمة دون أن يعرفوا جذورها.

  • و في أعقاب اتّخاذ تلك الأسماء (فروردين، ارديبهشت و غيرهما) طابعاً رسميّاً في الدوائر الحكوميّة، و المدارس، و التقاويم و الإعلانات، نلاحظ أوّلًا: أنّ هذه الأسماء التي لم يعرفها إلى ذلك الزمن إلّا عدد يسير من الناس. قد اشتهرت و عرفت، و انتقلت من المدارس إلى البيوت، و من تقاويم إداريّة إلى تقاويم جداريّة و بيتيّة فحفظ الكبير و الصغير، و الرجل و المرأة آذر، و بهمن، و إسفند كما تحفظ سورة الإخلاص.

  • و ثانياً: أنّ أسماء: محرّم، و صفر، و ربيع الأوّل، و جمادي الآخرة، وذي القعدة و غيرها قد زالت تدريجيّاً. فلا أحد يعرف هذه الشهور، و لا يدري متى تبدأ و متى تنتهي، و لا يطبّق ممارساته اليوميّة و واجباته الإجتماعيّة و مراسيمه و دعواته و حفلاته و مآتمه على هذه الشهور.

  • و كان شهر محرّم، و شهر رمضان أشهر من غيرهما نسبيّاً بسبب إقامة العزاء، و الصوم. و جميع الناس الذين كانوا يصومون- إلّا الشيوخ الكبار منهم- يقولون: نصوم هذه السنة من ۱٥ بهمن إلى ۱٤ إسفند. مثلهم في ذلك مثل الشباب الذين يقيمون في الخارج فإنّهم يؤدّون عباداتهم حسب الشهور الميلاديّة مثل فبراير، و مارس، و أبريل، و مايو، و يونيو، و يوليو، و غيرها. و هذا التوجّه يتأسّي بالمنهج الذي رسمه الإستعمار الكافر لعزل النظام الإسلاميّ الرصين.

  • و من هنا نفهم جيّداً مبلغ ما حقّقه الكافر من نجاح في تحقيق هدفه، إذ وضع الأسماء الأجنبيّة و المجوسيّة بدل الأسماء الإسلاميّة و جعلها متداولة مستعملة من قبل الرجل و المرأة، و العالم و العامّيّ و الموظّف الحكوميّ 

معرفة الإمام ج٦

180
  • و التاجر، و العامل و الفلّاح،۱ حتّى لوحظ أنّ بعض العلماء يستعملون‌

    1. و أحدثوا مثل هذا التغيير في الساعات، و ذلك بناءً على دخول الشهور القمريّة التي تبدأ بخروج القمر من تحت الشعاع، و رؤيته بعد غروب الشمس، فإنّ أوّل كلّ شهر قمريّ يبدأ من أوّل ليلته، و ليلة كلّ يوم مقدّمة على اليوم نفسه. لذلك فإنّ الساعة ۱٢ هي أوّل الغروب و بداية دخول الليل، و كلّ ساعة تمرّ تعني أنّ ساعة واحدة من الليل قد مضت. و لهذا جاء في الشرع المقدّس ذكر الواجبات التي يقوم بها الإنسان في الساعة الاولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة التي مضت من الليل. و هذا يكون إذا ما جعلنا بداية حساب الساعة، و هو أوّل الليل، الساعة ۱٢، أي: أوّل الساعة، و حينئذٍ نرى أوّلًا: أنّه سيتّضح كم ساعة قد مضت من الليل، فالساعة السادسة تعني أنّ ستّ ساعات مضت من الليل. و ثانياً: أنّنا سنعلم عدد ساعات النهار من خلال بياض النهار، لأنّ الساعة ۱٢ تعني غروب الشمس و بداية الليل، فنعلم أنّ الساعة ٥ في النهار تعني أنّ عندنا سبع ساعات من النهار، و الساعة ٩ تعني أنّ عندنا ثلاث ساعات من النهار. و على هذا فساعة التوقيت المسائيّ لتحديد مقدار الليل، و مقدار النهار بسيطة و مفيدة جدّاً. و المسلم الذي يريد أن يستفيد من ليلة و يستمثر نهاره يعلم كم مضي من الليل، و كم بقي للنهار.
      و أمّا الساعات الزواليّة (التوقيت الظهريّ) فلا تدلّ على الليل و النهار. أنّها تدلّ على منتصف الليل و منتصف النهار فقط، بينما نرى أنّ عملنا يبدأ من أوّل الغروب، فما جدوي بداية منتصف الليل لنا؟ مضافاً إلى ذلك فأنّ الساعة الواحدة تعنى الواحدة صباحاً، بينما قد مضى على أوّل الليل ساعات أكثر، و الساعة الواحدة لا تعنى الساعة الواحدة حينئذٍ.
      و الصبح بالنسبة إلى الإنسان المسلم عبارة عن أوّل الفجر الصادق أو أوّل طلوع الشمس، و بعد ذلك يبدأ يومه، لا أنّ يومه يبدأ من منتصف الليل. فبداية منتصف الليل للأشخاص الذين لا يفرّقون بين الليل و النهار و بداية كلّ واحد منهما و نهايته. إذ إنّهم قسّموا الساعات الأربع و العشرين إلى قسمين كلّ منهما اثنتا عشرة ساعة، بداية منتصف النهار، و منتصف الليل، شأنهم بذلك كغير المسلمين. و في هذه الحالة فإنّ ما بعد الساعة ۱٢ ليلًا يعود إلى غد تلك الليلة، و منتصف الليل بعد ذلك اليوم إلى الساعة ۱٢ يعود إلى اليوم نفسه أيضاً. أي: أنّ كلّ يوم كامل يتألّف من منتصفي ليل مقدّم و مؤخّر. و لهذا يقولون: ليلة الثلاثاء، و مساء الثلاثاء، أي: ليلة سابقة و ليلة تالية.
      أمّا في ضوء الشهور القمريّة فإنّ لليوم ليلة كاملة حتماً، و تلك الليلة تسبق نهار ذلك اليوم، فلا يحدث خطأ في الحساب، فليلة الثلاثاء تعني الليلة التي تسبق يوم الثلاثاء، و الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان تعني الليلة التي تلى اليوم الثالث عشر منه، و هكذا؛ و جميع الأحكام و الواجبات المقرّرة لليالي، هي لليالي التي تسبق النهار، و تبدأ من أوّل الليل، أي: الساعة ۱٢، أوّل التوقيت المسائيّ.‌ [التوقيت يبدأ من الغروب‌] و لكن لمّا كانت ساعات التوقيت الظهريّ‌‌ [الظهر بداية التوقيت‌] متداولة في البلدان الغربيّة، فإنّ حكومات البلدان الإسلاميّة وقّتت ساعاتها تدريجيّاً على أساس ساعة غرينتش الزواليّة. و سارت الشعوب شيئاً فشيئاً على نهج حكوماتها. إذ وقّت الناس الساعات في بيوتهم حسب التوقيت الظهريّ، و ذلك من أجل الاستماع إلى المذياع و غيره حيث تستعمل الساعات الزواليّة، و من أجل إرسال أطفالهم إلى المدارس، و الذهاب إلى الدوائر. في حين أنهم يحصلون على فوائد أكثر إذا استعملوا التوقيت المسائيّ‌‌ [الغروب بداية التوقيت‌].
      و كانت ساعة التوقيت الظهريّ تسمّي الساعة الإفرنجيّة‌ [الأجنبيّة]، أو الإنجليزيّة، أمّا ساعة التوقيت المسائيّ فتسمّى: الساعة الشرعيّة.

معرفة الإمام ج٦

181
  • الشهور القديمة في بياناتهم أيضاً. و يستعملون التأريخ الشمسيّ و الأسماء المجوسيّة في تواقيعهم. و قد يلحقون التأريخ القمريّ بها أحياناً، فيستعملون ما يطابق السابع من المحرّم سنة ۱٣۸۷ هـ مثلًا. و قد يتركون ذلك التأريخ مكتفين بالتأريخ القديم وحده.

  • استبدال السنين الشاهنشاهيّة بالسنين الهجريّة

  • فهذه هي المرحلة الثانية من التغيير، و قد طوت خمسين سنة من عمرها. و كانوا يتحيّنون الفرص باستمرار لتنفيذ المرحلة الثالثة من المشروع، و الأهم من التغيير الحاصل في المرحلتين السابقتين و هو نسخ التأريخ الهجريّ و استبداله بالتأريخ الشاهنشاهيّ. أي: نسخ رسول الله نفسه، و سيطرة الطاغوت، و رسميّة حكّام الجور و تلاعبهم بمقدّرات الشعب و عقائده.

  • و على الرغم من أنّ الطاغوت كان يحكم قبضته على الشعب مدّة 

معرفة الإمام ج٦

182
  • طويلة، إلّا أنّه لم يعلن حتّى ذلك الحين عن نسخ حكومة رسول الله، و القرآن، و نسخ الشرف و الفضيلة و الوحي و النبوّة و الولاية، و نسخ الإيمان و العقيدة.

  • و إذا هم يعلنون- بهذا التغيير- على رؤوس الأشهاد عدم الحاجة إلى الدين، و النظام المحمّديّ، و قطع حلقة الوصل بين الظاهر و الباطن، و الخروج من كنف رسول الله المعنويّ الروحانيّ و الاستغناء عن الأحكام الإلهيّة.

  • و نعرض فيما يلي ما جاء في العدد ۱٤٩٥٩ من صحيفة «اطّلاعات» المؤرّخة في ٢٤ إسفند ۱٥ [۱٣٥٤/ ٣/ ۱٩۷٥ م‌] ثمّ نتطرّق إلى الحديث عنه بشكل مقتضب:

  • العنوان البارز في الصحيفة:

  • تمّت اليوم المصادقة على قرار تاريخيّ اتّخذه المجلسان في جلستهما المشتركة و يقضي بتغيير التقويم و بداية التأريخ في إيران. و سيكون عيد النوروز القادم في سنة ٢٥٣٥ الشاهنشاهيّة.

  • «هويدا»، رئيس الوزراء: التقويم الدينيّ سيبقى ساري المفعول كما في السابق.

  • القرار الصادر عن الجلسة المشتركة لمجلسي الشيوخ و النوّاب التي ترأسها جعفر شريف إمامي في قصر الأعيان.

  • حيّا رئيس الجلسة في البداية العائلة البهلويّة المالكة و قدّم شكره لها على ما قامت به من جهود مضنية لرفعة البلد و شموخه و رقيّة طيلة خمسين عاماً معرباً عن تقديره لذلك. و اعتبر ثورة الشاه و الشعب السبيل الوحيد لتحرّر الوطن و استقلاله.

معرفة الإمام ج٦

183
  • و فيما يلي نصّ القرار:

  • بإيمان قاطع بالنظام الشاهنشاهيّ [الملكيّ‌] الذي كان منذ أكثر من خمسة و عشرين قرناً ركناً ركيناً لدولتنا و حصناً حصيناً لقوميّتنا قرّر المجلسان اعتبار حكومة كورش الكبير مؤسّس النظام الشاهنشاهيّ في‌ إيران بداية للتقويم و استهلالًا لتأريخ إيران القوميّ.۱ و باعتقاد راسخ بمبادئ حزب رستاخيز [البعث‌] الإيرانيّ صادق المجلسان على هذا القرار و ذلك في جلستهما المؤرّخة في الرابع و العشرين من إسفند سنة ألف و ثلاثمائة و أربع و خمسين.

  • و قد استهلّ رئيس المجلس الكلام في هذه الجلسة، ثمّ تلاه السناتور الدكتور «عيسى صدّيق»، و تحدّث بعده كلّ من: «هلاكو رامبد» و السناتور «عماد تربتي»، و الدكتور «مصطفي ألموتي»، و السناتور «شوكت ملك جهانباني»، 

    1. ينبغي أن نعلم أنّ جميع المسلمين في العالم، منذ عصر صدر الإسلام و إلى الآن، جعلوا بداية تأريخهم هجرة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة. و هذا القرار الذي صادق عليه المجلسان يمثّل خروجاً من الصفّ الإسلاميّ و إعلان الإنفصال عن المسلمين بعدم الإهتمام بشأن رسول الله. و ذكر المسعوديّ في كتاب «التنبيه و الإشراف» ص ۱٩٥ إلى ٢٤۰: أنّ المسلمين بعد الهجرة كانوا يسمّون السنين بالحوادث المهمّة التي تقع فيها، و يصبح ذلك الإسم علماً لها، فأطلقوا على السنة الاولى: سنة الهجرة و الثانية: سنة الأمر، و الثالثة: سنة التمحيص، و الرابعة: سنة الترفيه، و الخامسة: سنة الأحزاب، و السادسة: سنة الإستئناس، و السابعة: سنة الإستغلاب، و الثامنة: سنة الفتح، و التاسعة: سنة ...، و العاشرة: سنة حجّة الوداع، و الحادية عشرة: سنة الوفاة؛ و يقول في ص ٢٥٢: و في السنة ۱۷ أو ۱۸ شاور عمر الصحابة حول التأريخ، فكثر منهم القول، فأشار عليه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أن يؤرّخ بهجرة النبيّ و تركه أرض الشرك. فجعلوا التأريخ من المحرّم، و ذلك قبل مقدم النبيّ صلّى الله عليه‌‌ [و آله‌] و سلّم إلى المدينة بشهرين و اثنى عشر يوماً، لأنّهم أحبّوا أن يبتدئوا بالتأريخ من أوّل السنة.

معرفة الإمام ج٦

184
  • و الدكتورة «مهين صنيع». و عندها تمّت المصادقة على القرار بالإجماع.

  • و قد أثنى شريف إمامي في كلمته الإفتتاحية على جهود الشاه و دعا إلى دمج المجلسين بسبب ضيق الوقت، ثمّ طلب أن يتكلّم ثلاثة أعضاء من كلّ مجلس (يوم ميلاد رضا شاه).

  • و تُلى القرار من قبل الدكتور جواد سعيد نائب رئيس المجلس النيابيّ، ثمّ تحدّث «هويدا».

  • و كان المتحدّث الأوّل هو الدكتور «صدّيق»، فأشاد بجهود «رضا شاه» و تحدّث عن الظروف التي كانت تمرّ بها إيران آنذاك و الفوضي التي كانت سائدة. و أحصى الإنجازات الهامّة التي حقّقها «رضا شاه» يومئذٍ، و منها:

  • إيفاد الطلبة الجامعيّين إلى الخارج، و تأسيس جامعة طهران في فروردين سنة ۱٩٣۱ [۱٣۱۰ م‌] و التعليم المجّانيّ في جميع أرجاء البلاد، و تشكيل النوادي، و إنشاء المسابح من قبل وليّ العهد، و إقامة الذكرى الألفيّة للفردوسيّ سنة ۱٣۱٣، و افتتاح مقبرته في طوس (و في تلك السنة أقامت الجامعات العالميّة المهمّة احتفالات لتكريم الفردوسيّ و خدماته للغة الفارسيّة، و القوميّة الفارسيّة، و تأريخ الفرس)، و إنجاز مهم جدّاً كان يبدو مستحيلًا، و هو إلغاء الحجاب في ۱۷ دي ۷ [۱٣۱٤/ ۱/ ۱٩٣٥ م‌]، و تجمّع العلماء من شتّى أنحاء العالم للتحقيق حول الفردوسيّ و المفاخر الفارسيّة. حيث أطال الشرح في هذا المجال، و تحدّث عن جهود «الشاه محمّد رضا» و خدماته. ثمّ تطرّق إلى ما يسمّي بالثورة البيضاء. و تحدّث بعده السناتور «عماد تربتي» فتطرّق إلى مواضيع شتّى كما فعل «صدّيق». و تلاه السناتور «شوكت ملك جهانباني»، فتحدّث عن جهود «رضا شاه» في إعلانه إلغاء الحجاب. و تحدّث بعده الدكتور «مصطفى ألموتي» فخاض في ما خاضوا فيه. أعقبه «هلاكو رامبد»، فالدكتورة «مهين صنيع» اللذين دار 

معرفة الإمام ج٦

185
  • حديثهما حول المواضيع المطروحة نفسها.

  • و بعد المصادقة على القرار، تحدّث السناتور «العلّامة وحيدي». و لمّا كان حديثه مشحوناً بالإفتراء و الكذب و المكر، و فيه ما فيه من التشويه و التدليس و التبديل المعنويّ، إذ أعلن عن دعمه لحكّام الجور بدهاء عجيب مع الدليل و البرهان، و أشاد بهم على لسان رسول الله مطبّقاً الروايات و الأخبار المأثورة حول الإمام العادل على السلاطين الجائرين و الحكّام الفاسقين الظالمين، لذلك ننقل حديثه هنا نصّاً ليطّلع القرّاء على كيده و تدليسه و تلبيسه. بدأ حديثه قائلًا:

  • اسمحوا لي أن أوافيكم بموجز عن عظمة كورش الكبير مؤسّس الشاهنشاهيّة الفارسيّة، و عن وجوب طاعة الملوك و الحكّام مستهدياً بمبادئ الدين الإسلاميّ المبين، و موازين الإستنباط و الاجتهاد.

  • لقد جاء في علم الاصول أنّ مصادر الاستنباط هي: الكتاب، و السنّة، و الإجماع، و العقل. فالكتاب هو القرآن المجيد، كتاب سماويّ و مرشد عالميّ نزل على الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم. و يلاحظ في هذا الكتاب الإلهيّ المقدّس آيات باهرة تتحدّث عن شخصيّة كورش الكبير و إنسانيّته و حبّه الخير للآخرين، و تسمّيه: ذُو الْقَرْنَيْنِ. قال تعالى: {وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً}، و تسمية كورش الكبير بذي القرنين من لطائف المعجزات في القرآن المبين، إذ ثبت بعد بحوث علميّة دقيقة أنّ طرفي قبّعة هذا الإمبراطور لهما نتوءان. و لذلك ذكر القرآن الكريم هذا الملك العظيم بذي القرنين.

  • ثمّ قال دفعاً للشبهة التي ترى أنّ المقصود بذي القرنين هنا هو الإسكندر:

  • كان الإسكندر ظالماً سفّاحاً، و القرآن الكريم لا يمدح الظالم السفّاح 

معرفة الإمام ج٦

186
  • أبداً.

  • و قال بعد ذلك:

  • و تعكس آيات اخرى أيضاً فكر هذا الإمبراطور العادل و سلوكه.

  • و أردف قائلًا:

  • و أنا أتحدّث عن عظمة هذا الملك و الاعتقاد بنظام الملكيّة و السلطنة، أنقل لكم ما جاء في الخبر أنّ الله الجليل خاطب نبيّه إبراهيم الخليل قائلًا: يا إبراهيم! أنت مظهر علمنا و المَلِك مظهر ملكنا. و يستنبط من هذا الخبر أنّ مقام الملكيّة و السلطنة الشامخ كان و لا يزال يستظلّ بعناية إلهيّة خاصّة.

  • و قال الشاعر جلال الدين مولويّ إشارة إلى مضمون هذا الخبر: «پادشاهان مظهر شاهي حقّ»۱

  • و تقرّر السنّة النبويّة هذا الخبر أيضاً. و جاء في المأثور و الخبر المشهور أنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يشير مراراً إلى عظمة الزمن الذي ولد فيه، فقد نقل عنه قوله في جمع من أصحابه: وُلِدْتُ في زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ. و نجد هنا أنّ النبيّ الأعظم يثني بكلّ صراحة على أنوشيروان إمبراطور فارس آنذاك.

  • أمّا الحديث الآخر الذي يوجب طاعة الملك بكلّ وضوح و أرى من الأفضل قبل ذكره أن انبِّه على مصدره، ثمّ أتطرّق إليه لئلّا يتبادر إلى الأذهان أنّ هذا الكلام غير مأثور، و لا يمكن التعويل عليه. فمصدره كتاب معتبر و عظيم لأحد علماء الإسلام، و هو الشيخ الصدوق. و الحديث مذكور في كتابه «الأمالى»، و جاء فيه: "لَا تُذِلُّوا رِقَابَكُمْ بِتَرْكِ طَاعَةِ السُّلْطَانِ! إلى أن يقول: وَ إنَّ صَلَاحَكُمْ في صَلَاحِ سُلْطَانِكُمْ وَ إنَّ السُّلْطَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ 

    1. معناه: الملوك مظهر لملك الحقّ.

معرفة الإمام ج٦

187
  • الرَّحِيمِ؛ فَأحِبُّوا لَهُ مَا تُحِبُّونَ لأنْفُسِكُمْ وَ اكْرَهُوا لَهُ مَا تَكْرَهُونَ لأنْفُسِكُمْ."

  • و ثمّة حديث آخر جاء في هذا الكتاب المعتبر و القيّم، و هو قوله: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: "طَاعَةُ السُّلْطَانِ وَاجِبَةٌ، وَ مَنْ تَرَكَ طَاعَةَ السُّلْطَانِ فَقَدْ تَرَكَ طَاعَةَ اللهِ، عَزَّ وَ جَلَّ وَ دَخَلَ في نَهْيِهِ".

  • و نرى هنا أنّ هذا الحديث يعتبر طاعة الملك كطاعة الله و لا غبار عليه.

  • و أمّا وجوب طاعة الملك بالإجماع، فأنّنا لمّا كنّا نعلم أنّ الإجماع هو الرأي الكاشف عن قول المعصوم، و أنّ سيّد المعصومين و إمامهم أوجب طاعة الملك بالنظر إلى وحدة الملاك فمن هذا المنطلق تصبح طاعة الملك واجبة.

  • و بخاصّة علينا نحن الإيرانيّون الذين لنا خصوصيّاتنا الإيمانيّة و الروحانيّة كما قال مولى المتّقين و أمير المؤمنين. و قد عُرفنا في التأريخ أنّنا نعتبر أوامر الشاه هي أوامر الله سواء كانت صادرة من الله أو من الشاه، و ذلك انطلاقاً من سنننا القوميّة.

  • و من الجدير ذكره أنّ طاعة الملك مسلّمة الصدور عن المعصوم حسب ما تفيده الأخبار العديدة، لذلك نعتبرها كالإجماع المصطلح بالنظر إلى وحدة الملاك.

  • و أمّا الدليل العقليّ الذي يدور حول لزوم طاعة الملك، فمن البديهيّ أنّ معصية الملك العادل و العالِم و المقتدر تؤدّي إلى تخلخل النظم، و تصدّع الامور السياسيّة و الاجتماعيّة و العلميّة و الاقتصاديّة و غيرها.

  • لَوْ لا السُّلْطَانُ لأكَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً.

  • أيّها النوّاب المحترمون! و لحسن الختام نذكر حديثاً مشهوراً نقله شيخ المحدّثين الحرّ العامليّ، و هو قوله‌: "السُّلْطَانُ ظِلُّ اللهِ في الأرْضِ، يَأوِي إلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ‌". و قد ترجمه الشاعر العزيز سعدي شعراً، و أضاف 

معرفة الإمام ج٦

188
  • إليه امتزاج الظلّ بصاحبه: 

  • پادشه سايه‌ء خدا باشد***سايه از ذات كى جدا باشد؟۱
  • و الآن حيث تمّ تشكيل هذه الجلسة الحماسيّة المشتركة لتكريم الذكرى الخمسين للحكومة الشاهنشاهيّة البهلويّة المباركة التي تتزامن مع الميلاد السعيد لعميد الاسرة الشاهنشاهيّة، يطيب لي أن أبعث السلام و التحيّة إلى الروح الطاهرة لهذا الشاهنشاه الكبير، و أسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بتوفيق الطاعة لجلالة الشاهنشاه آريامهر و خدمته أكثر فأكثر.

  • يحيا الشاهنشاه آريامهر، و الملكة الكريمة فرح، و وليّ العهد الميمون رضا.

  • تحيا إيران.

  • و يلاحظ من خلال التمعّن في هذا الكلام كم مسخ العلّامة الوحيديّ نفسه و كم شوّه الحقائق الواضحة.٢

    1. و تعريبه: السلطان ظلّ الله، و متى انفصل الظلّ عن الذات؟
    2. العلّامة الوحيديّ نجل الشيخ أبو القاسم رئيس العلماء الكرمانشاهيّ، و من أحفاد المرحوم آية الله الشيخ محمّد باقر الوحيد البهبهانيّ. و كان من الطلّاب الفضلاء في النجف الأشرف، و من تلاميذ أساتذة بارزين كالشيخ ضياء الدين العراقيّ. و قيل إنّه حصل على إجازات متعدّدة في الاجتهاد من مختلف العلماء. و في سنة ۱٣۱٤ شمسيّ (۱٩٣٥ م) حيث أمر رضا شاه بعقد مجالس الضيافة المختلطة، كان هذا الرجل و زوجته من المدعوّين في كرمانشاه. و كان المضيّف هو السيّد أصغرشاه. و بينما حضر مدير شرطة المدينة و كثير من المدعوّين مع زوجاتهم السافرات، دخل العلّامة الوحيديّ، و كان يعتبر أحد العلماء، دخل بزيّ علماء الدين مع زوجته و نظم قصيدة طويلة قرأها في ذمّ الحجاب مطلعها: «به شرع أحمد مرسل حجاب لازم نيست» يعني: «لا ضرورة للحجاب في شريعة أحمد المرسل». ثمّ تعرّض إلى مدح البهلويّ. و جاء بعدها إلى طهران و نزع العمامة و الجبّة و العباءة و لبس البنطلون و وضع رباط العنق، و حلق لحيته. و لم يألُ جهداً في مؤازرة الاسرة البهلويّة حتّى آخر عمره. و كان من وعّاظ السلاطين. و أحد أعضاء مجلس الشيوخ و النوّاب مدّة طويلة إلى أن نزلت على رأسه صاعقة و ذاق جزاء أعماله المشينة. {وَ لَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِن دَارِهِمْ حتّى يَأتِيَ وَعْدُ اللهِ إنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الآية ٣۱، من السورة ۱٣: الرعد). و عاش الوحيديّ حياة الترف طيلة الحكم البهلويّ الجائر الذي امتدّ لخمسين سنة. و باع دينه و شرفه لأجل دنياه. و أصبح في زمرة المستجدين و الوصوليّين النفعيّين المجتمعين على مائدة الظلمة الملطّخة بالدم إلى أن صار هدفاً لرصاصة الغيب الإلهيّ خائباً قد { خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}، و إذا به يهوي في جهنّم بغتة، فيُحشر مع مواليه؛ {الْمُنَافِقُونَ وَ الْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِن بَعْضٍ}. و هذا هو الجزاء الدنيويّ، فما ذا سيكون الجزاء الاخرويّ، وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا الْمَوْتُ لَكَفَى، كَيْفَ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ أعْظَمُ وَ أدهَى.

معرفة الإمام ج٦

189
  • و لا نناقش هنا ما قاله سائر المتحدّثين، و لا قضيّة رفع الحجاب و انتهاك عفّة النساء، أو تكريم الفردوسيّ صانع الأساطير الذي اعتبروه رمزاً للقوميّة، و رفعوه في مقابل الإسلام بذريعة مجابهة العرب و مواجهتهم و تجمّعوا حول تمثاله ليلطموا عليه الصدور، و أمثال هذه الخزعبلات، ذلك لأنّ هؤلاء المتحدّثين أشخاص معروفون لا يخفى أمرهم على أحد، إذ درسوا منذ طفولتهم في هذه المدارس الاستعماريّة، و تعلّموا على يد هؤلاء المعلّمين الذين يسيرون على منهج مرسوم لهم من الخارج لإضعاف الإسلام و التبجّح بالقوميّة الفارسيّة الزرادشتيّة المجوسيّة البالية. فلا نرتّب أثراً على سماع هذه الكلمات المكرورة التي يجترّونها.

  • و ذلك لأنّ اتّجاه هؤلاء و مبدأهم و منتهاهم و غايتهم و هدفهم ليس إلّا هذه الكلمات الجوفاء الفارغة التي لا تُغني و لا تُسمن. و لعلّهم درسوا في الخارج و سمعوا هذه الأباطيل من اولئك الأساتذة الأجانب الذين يتظاهرون برغبتهم في تقدّم البلدان الشرقيّة و رقيّها كأنّهم أعطف عليها من أهلها. و لنا أن نقول لهم: أ ظئر أعطف من امّ على ولدها! فقد سمعوا تلك الأباطيل 

معرفة الإمام ج٦

190
  • و تعلّموها و تعلّقت بها أرواحهم فأصبحوا أدوات طيّعة بِيَدِ الأجانب و الاستعمار الكافر. لذلك لا عجب أن يعتبروا الشاه البهلويّ الإمبراطور العادل الوحيد الذي يرعى شعبه، و هو الذي يشهد التأريخ على عمالته‌ للإستعمار، و قد تسلّط على رقاب الناس بالحديد و النار، و فُرض على الشعب المسلم طيلة خمسين سنة فأذاقه الأمرين إبعاداً و سجناً و تعذيباً و قتلًا و أسراً.

  • بل العجب من «الوحيديّ» و أمثاله، إذ كيف يبيعون شرفهم و كرامتهم و هم على ما هم عليه من الرصيد العلميّ تطييباً لقلب ملك جائر هم أعرف بظلمه منّا، و يلهجون باسمه في المجالس و المحافل الخاصّة من أجل حطام الدنيا الزائل. و يتملّقون تملّقاً تشمئزّ منه الطباع ليقتاتوا من فتات مائدته الوضيعة. و يضحّون بدينهم و كتابهم و نبيّهم و يبيعونها بثمن بخس من أجل منصب لا يبقى، و بغية التزوّد من الحطام الكاسد لُاولئك الزعانف التافهين.

  • فكلّ عاقل و عالم له أدنى إلمام بمادئ الاصول و الفقه في الإسلام يفهم من كلام هذا الرجل أنّه لم يأت بشي‌ء غير التزوير و الخداع و المكر و الزيغ، و لم يقدّم للناس إلّا تشويه الحقائق.

  • فالقرآن الذي نزل من الباري تعالى لتوطيد دعائم العدل و التوحيد، متى أوجب طاعة الحاكم؟ و النبيّ الذي عاني ما عاني من الهموم طيلة ثلاث و عشرين سنة لتثبيت أركان التوحيد و العدل و الكفاح ضدّ الشرك و الظلم. و طيلة مدّة هجرته لعشرة سنوات في المدينة كان في الصفّ الأوّل للمجاهدين و أقربهم إلى العدوّ، و كان يذهب في الغزوات التي كانت تقع في كلّ شهرين على النحو المتوسّط، كيف يأمر بإطاعة الملك، و يفرض اتّباعه بلا نقاش؟

معرفة الإمام ج٦

191
  • و هذه الروايات التي نقلها مع ما فيها من الضعف و الإرسال في سندها لا تدلّ على اتّباع الحاكم الجائر. فالمراد بالسلطان هو السلطان العادل، و الإمام بالحقّ أو الفقيه الجامع للشرائط المنصوب من قبل الإمام.

  • و حرمة اتّباع السلطان الجائر، و الاقتداء بالحاكم الفاسق العاصي وفقاً للحديث المتّفق عليه بين الفريقين القائل: لَا طَاعَة لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ لا تُبقى إطلاقاً أو عموماً لمطلقات وجوب طاعة السلطان على فرض صحّة سندها. و قد حصر القرآن الكريم وجوب الطاعة برسول الله، و اولى الأمر المراد بهم أئمّة الدين و خلفاء المرسلين بالحقّ، و أوجب القرآن طاعة الأنبياء العظام المبعوثين من ربّ العالمين لا غير، و أمر بلزوم اتّباعهم و اقتداء الناس بهم.

  • و القرآن الذي يعنّف حكّام الجور في العالم كفرعون، و النمرود، و هامان و من دار في فلكهم، و يأمر الامم باتّباع الأنبياء و يحثّها على التمرّد ضدّ اولئك الطغاة الذين وقفوا بوجه الأنبياء، كيف يوجب طاعة أمثالهم بلا قيد و لا شرط؟

  • إن خيانة الوحيديّ في نقل هذه الأخبار تتمثّل بـ: أوّلًا: في طرحه هذه الأخبار و كأنّها صحيحة السند و مشهورة و معروفة، و هي ليست كذلك طبعاً، و لم يذكرها أيّ كتاب من مجاميع الشيعة أو السنّة بسند صحيح. و ثانيا: في إطلاقه لها و تغاضيه عن ذكر القيد و المقيّد و الخاصّ، و المخصّص. و هذه خيانة عظمى.

  • و ثمّة مؤاخذة كبيرة على من قال بأنّ ذا القرنين المذكور في القرآن هو كورش الفارسيّ. و على فرض صحّة هذا المعنى، فإنّ القرآن أثنى على شمائل ذي القرنين و حسب، و لم يرد فيه ذكر يؤكّد على لزوم متابعته بوصفه ملكاً، فأين وجد ذلك؟ ليدلّنا و يرينا ما وجده.

معرفة الإمام ج٦

192
  • و العجيب أنّه يستدلّ على أنّ ذا القرنين لا يمكن أن يكون الإسكندر المعروف، لما قيل أنّه كان ظالماً و القرآن لا يمدح الظالم، فكيف يجوز له حينئذٍ أن يوظّف هذا الكلام من أجل لزوم اتّباع الشاه‌ و الشاهنشاه و الاسرة البهلويّة، و يزعم أنّ ذلك جاء في بيان القرآن و على لسان الأخبار؟ و كأنّ هؤلاء جميعهم معصومون و طاهرون و مطهّرون، أو كأنّهم ملائكة، أو هم الذين نزلت فيهم آية التطهير!

  • إن ما ينسب إلى رسول الله قوله: وُلِدْتُ في زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ حديث مزيّف و موضوع لم تذكره كتب الحديث الشيعيّة و السنيّة كلّها. فقد كان أنوشيروان رجلًا ظالماً و لم يمدحه رسول الله. و قوله: «كلام مأثور و خبر مشهور أنّ النبيّ الأكرم كان يشير مراراً إلى عظمة الزمن الذي ولد فيه، و هو في جمع من أصحابه» كذب محض.

  • من أين جاءت شهرة هذا الخبر؟ و في أيّ كتاب من كتب الحديث أو الفقه أو الرجال اشتهر؟ و نبيّنا لم ينطق بذلك في جمع من أصحابه قطّ، فضلًا عن أنّه قال ذلك مراراً.

  • و كلام الفردوسيّ: «چه فرمان يزدان چه فرمان شاه» أي: «سواء كانت أوامر الله أو أوامر الشاه» يتوكّأ على دين المجوس الذين يعتقدون أنّ الشاه ممثّل عن الله، فما علاقة ذلك بالإسلام؟ و الإسلام يرفض الإله الذي هو في مقابل الشيطان، و يعتبر الإعتقاد به شركاً و ثنويّة، فضلًا عن أنّه ظلّ الله و ممثّله.

  • إن الفردوسيّ مسؤول أمام الله و سيقف في ساحة العدل الإلهيّ في عرصات القيامة على ما ارتكبه من أخطاء، و ما فعله من خلط و خبط. و عليه أن يستعدّ للجواب. فشعره أبعد ما يكون عن الحقائق و قد فرض على الناس طاعة السلطان و الشاه و الحاكم مهما كانوا.

معرفة الإمام ج٦

193
  • ثمّ إنّ الوحيديّ قلب المعنى تماماً في كلام نقله، و هو قوله: وَ إنَّ صَلَاحَكُمْ في صَلَاحِ سُلْطَانِكُمْ‌. لأنّ معنى هذا الكلام هو «أنّكم ستكونون صالحين إذا كان سلطانكم صالحاً». أمّا الوحيديّ فإنّه قلب المعنى بقوله: «صلاحكم فيما يراه الملك صالحاً لكم». أي: ستكونون صالحين إذا طبّقتم ما يراه الملك صالحاً لكم! و هذه خيانة في الترجمة.

  • و ممّا يستشكل عليه (الوحيديّ) هو أنّه لمّا أراد الاستهداء بالإجماع كأحد الأدلّة الاصطلاحيّة الاصوليّة الأربعة التي أقامها، و لم يكن هناك إجماع قطّ، قال: لمّا كان قول المعصوم ملاكاً لحجيّة الإجماع، و قوله حجّة من حيث الكاشفيّة، و جاء ذكره في هذه المسألة، فملاك الإجماع قائم بناءً على وحدة ملاك الإجماع و الخبر الصادر عن المعصوم. في حين أنّ أهل العلم و التخصّص في علم الاصول يعلمون أنّ هذا ليس إجماعاً، فالإجماع في مقابل السنّة التي تمثّل الروايات الصادرة عن المعصوم، عبارة عن اتّفاق المسلمين جميعهم اتّفاقاً كاشفاً عن رأي المعصوم. أمّا هذا المُتَحَدِّث فإنّه زوّر معنى الإجماع ليزيد أدلّته، و بعبارة اخرى، أراد الخيانة أيضاً في مسألة اصوليّة، لتتمّ خدمته، و تظهر الأدلّة الأربعة جميعها قائمة و ثابتة.

  • و أمّا الدليل العقليّ، فإنّ العقل يحكم بخلاف ما قالوا، ويحكم بأنّ الإنسان لا ينبغي له أن يتّبع الباطل و الفساد، و لا يحقّ له أن يطيع السلطان الجائر و الحاكم الظالم، بل عليه أن يحرّر نفسه من ربقة حكومته التعسفيّة. يطيع السلطان العادل ذا الرؤية الواقعيّة، المنكر لذاته و المضحّي و المتحمّس من أجل الامّة، و المتحقّق بالحقيقة و واقع الأمر، ذا السريرة النقيّة من شوائب الرذائل الأخلاقيّة و حبّ الدنيا و نزوة حبّ الظهور و الصيت و السمعة، و النَّفَس الاستكباريّ و الغرور، و العجب، و التمحور.

  • أجل، فلقد فصّلنا الكلام هنا في تفسير ما قاله ليعلم الناس أنّ حكّام 

معرفة الإمام ج٦

194
  • الجور في كلّ زمان يحتضنون مثل هؤلاء في أجهزتهم الحكوميّة و يهتمّون بإعدادهم إعداداً خاصّاً و ذلك لخداع الناس و إضلالهم، و ليسود الصمت المطبق و الوجوم على الأجواء فلا ينبس أحد ببنت شفة.

  • و عندئذٍ لا يتعجّب أحد كيف أصبح أمثال أبي هُريرة، و أبي الدرداء، و كعب الأحبار، و سَمُرَة بن جُنْدُب و غيرهم من الذين كانوا في عداد الصحابة فترة من عمرهم، بطانة لمعاوية، و من الذين يسيل لعابهم على مائدته الملوّنة مقتاتين من فضلاتها. و عند ذاك يحلو لهم أن يختلقوا آلاف الأحاديث في فضيلة الشيخين، و بني اميّة، و عثمان، و معاوية. و لا يتورّعوا عن اختلاق الطعن و القدح في أمير المؤمنين عليه السلام و التحدّث إلى الناس من على المنبر نقلًا عن لسان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. فالتأريخ يعيد نفسه و لا يمثّل إلّا تكراراً للحوادث الواقعة. و لو أردنا أن نتمثّل بلاط معاوية، فلننظر إلى مجلسي الشيوخ و النوّاب و أعضائهما. فالصورة واحدة، و ما نراه اليوم مرآة تعكس ذلك الوضع تماماً.

  • و لقد أرسل معاوية إلى سَمُرَة بن جُنْدُب و وعده ببذل مائة ألف درهم له ليروي أنّ قوله تعالى: {وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ}.۱ نزل في ابن ملجم أشقى رجل في قبيلة مراد. و قوله تعالى: {وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‌ ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَ إِذا تَوَلَّى سَعى‌ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ ، وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ}.٢ نزل في 

    1. الآية ٢۰۷، من السورة ٢: البقرة.
    2. الآيات ٢۰٤ إلي ٢۰٦، من السورة ٢: البقرة.

معرفة الإمام ج٦

195
  • أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، فلم يقبل. فبذل له مائتي ألف درهم، فلم يقبل. فبذل له أربعمائة ألف درهم، فقبل.۱

  • فتغيير التأريخ يمثّل نهاية المرحلة الثالثة من المراحل التي تمّ تطبيقها من قبل الإستعمار دون أيّ اطّلاع قبليّ من الشعب، و بادروا إلى اتّخاذ هذه الخطوة بأسرع ما يكون إذ دمجوا المجلسين معاً خوفاً من اطّلاع الناس عليه، حيث من الطبيعيّ أن يكون في الفترة التي تتخلّل المجلسين، ممّا قد يؤدّي إلى قيام الشعب. فبادروا إلى ذلك لكي لا يعترض أحد و يطالب بحظر القرار.

  • و كان واضحاً في تلك الجلسة أنّ تغيير التأريخ يعني أنّ أمر الإسلام قد انتهى و أنّهم قد قضوا عليه. و من الوجهة السياسيّة قدّموا للشعب المحروم و المظلوم في إيران تعصّبهم القوميّ و الزرادشتيّة المجوسيّة.

  • و تحدّث هوشنك النهاونديّ رئيس الجامعة، فقال:

  • «إنّ تعيين بداية جديدة لتأريخنا يعتبر أهمّ خطوة لترسيخ القوميّة الفارسيّة العريقة، و إعطاءها الصفة الرسميّة.

  • و التقويم الجديد تقويم فارسيّ قوميّ كامل بكلّ معنى الكلمة. و يعبّر عن تطوّر أصيل في تأريخنا الحافل بالمفاخر و الأمجاد».

  • و قال فرهنك مِهر، رئيس جامعة بهلويّ في شيراز:

  • «وُلِدَتْ إيران وحدة مستقلّة، و ولد شعبها كتلة منظّمة مع كورش و السلسلة الهخامنشيّة».

  • و تحدّث أمير عبّاس هويدا، رئيس الوزراء، بعد المصادقة على 

    1. «الغدير» ج ٢، ص ۱۰۱، عن «تاريخ الطبريّ» ج ٥، ص ٢٢٩، و «الكامل» لابن الأثير، ج ٣، ص ۱۱۷؛ و «شرح ابن أبي الحديد» ج ٢، ص ٢٤.

معرفة الإمام ج٦

196
  • القرار فقال في بعض كلامه:

  • «نتحدّث في هذه اللحظات من القرن السادس و العشرين للتأريخ الشاهنشاهيّ. و من البديهيّ أنّ التقويم الهجريّ و هو تقويمنا الدينيّ سيبقى ساري المفعول و له حرمته الخاصّة ... إلّا أنّ قراركم هذا اليوم يمثّل هذه الحقيقة، و هي وجود إيران واحدة و نظام شاهنشاهيّ واحد على امتداد هذه‌ المدّة الطويلة و هما متلاصقان بحيث يمثّلان مفهوماً واحداً».

  • و في غد ذلك اليوم، أي: يوم الاثنين ٢٥ إسفند ۱٣٥٤ شمسيّ كتبت صحيفة «اطّلاعات» في مقالتها الافتتاحيّة قائلة:

  • «و نلاحظ الآن من خلال القرار المصادق عليه في الجلسة المشتركة للمجلسين أنّ هذا التقويم القوميّ السابق (المقصود هو فروردين، و ارديبهشت، و لكن على أساس تأريخ الهجرة النبويّة) قد أصبح ينطلق الآن من قاعدة أدق متمثّلة ببداية الإمبراطوريّة الفارسيّة، أي: جلوس كورش الكبير على عرش الحكم الفارسيّ. فتقويمنا القوميّ الذي يبدأ باليوم الأوّل من فروردين، و شهوره الاثنا عشر كلّها فارسيّة، و أسماؤها تراثيّة فارسيّة عريقة، كان يشكو من النقص كما يبدو إذ لم يشمل تأريخ فارسيّ قبل الإسلام ...»

  • إلى أن قالت الصحيفة:

  • «فهذا الوضع السائد ليس منطقيّاً لدولة لها تأريخها المدوّن و المنظّم، و قاعدتها الشاهنشاهيّة مستمرّة منذ جلوس كورش الكبير على العرش إلى يومنا هذا. و ذلك لأنّ الأحداث التأريخيّة كلّها، و منها هجوم العرب على بلاد فارس لم تخلخل استمرار التأريخ و الإمبراطوريّة الفارسيّة.

  • و في الوقت الذي قبلنا فيه الدين الإسلاميّ المقدّس، و نعتزّ بذلك. فقد كان و لا زال لنا تأريخنا و حضارتنا. و تقويمنا الدينيّ الذي يبدأ 

معرفة الإمام ج٦

197
  • بالمحرّم، و ينتهي بذي الحجّة، كما في البلدان الإسلاميّة جميعها، له منزلته الخاصّة به. و تقويمنا القوميّ الذي يبدأ بفروردين، و ينتهي بإسفند له منزلته أيضاً.

  • فذلك هو التقويم الهجريّ، و هذا هو التقويم الشاهنشاهيّ، أحدهما يمثّل ديننا، و الآخر يمثّل قوميّتنا».

  • يستبين جيّداً ممّا تقدّم أنّ القصد من تغيير التأريخ هو فصل الدين عن القوميّة، و فصله عن السياسة و الشئون الإجتماعيّة، و إضفاء الرسميّة على الشعائر القوميّة و الآداب و السنن الجاهليّة، و عزل الدين الحقّ و السنّة المحمّديّة عن الحياة، و مصادرة الأصالة و الشرف المودعين في فطرة الناس و اللذين يؤيّدهما الدين و يعزّزهما.

  • و قد أشرنا فيما سبق إلى أنّ هؤلاء يقولون: «لا شغل لنا بالتأريخ الهجريّ، فله موقعه و منزلته. إلّا أنّ التأريخ الرسميّ الحكوميّ ينبغي أن يكون شمسيّاً و فروردينيّاً و شاهنشاهيّاً».

  • أي: أنّ ما ينفع البلاد هو فروردين، و الاعتزاز بعرش كورش و الملوك الهخامنشيّين. و هذا هو الذي يفصل الناس عن الدين و يقطع علاقتهم بدينهم، و دفاعهم عن وطنهم و أعراضهم و أرواحهم و أموالهم ضدّ الأجانب. و هو ما يروق للإستعمار.

  • و أيّ ضرر يصيب الإستعمار و خططه المشئومة إن وضعت العجوز الفلانيّة التأريخ الهجريّ في طيّات مفاتيح الجنان، أو عيّن الشيخ الفلانيّ آداب ليلة الرَّغائب و أعمالها في ضوئه؟

  • يقولون:

  • «لو اتّخذنا الهجرة النبويّة بداية لتأريخنا، فإنّ هذا يؤدّي إلى النقص و الانكسار في تأريخنا، و لكن لو اتّخذنا جلوس كورش على العرش بداية 

معرفة الإمام ج٦

198
  • له، فإنّ هذا يبعث على رفعتنا و شموخنا».

  • {أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‌}.۱

  • فشعوب العالم بأسرها تفتخر و تتشرّف بانتمائها إلى أنبيائها. و النصارى في شتّى أرجاء العالم يتّخذون ميلاد السيّد المسيح عليه السلام تاريخاً لهم. و هؤلاء المجوس و اليهود جميعهم يجعلون تقويهم على هذا الأساس نفسه.

  • فهل صار محمّد المصطفى وصمة عار لكم حتّى تتأبوا من الإنتماء له؟!

  • أنتم مطيّة الإستعمار، تركتم البلدان الإستعماريّة جميعها وراءكم! فإنّها غيّرت تأريخها من الهجريّ إلى الميلاديّ. و السيّد المسيح نبيّ عظيم، و قد أعرضتم عنه أيضاً! بل و عن جميع الأنبياء إذ نبذتموهم وراء ظهوركم و أقبلتم على كورش و سيروس لائذين بهما من دون الأنبياء! افٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَسِيرُونَ على مَنْهَجِ الشَّيْطَانِ.

  • وهنا تثور غِيرة الله سبحانه تعالى، و يأبى مقام عزّته مثل هذه الإنتهاكات الصارخة. و بعد مراحل ثلاث: الاولى: استبدال الشمسيّ بالهجريّ، الثانية: استبدال القديم بالشمسيّ، الثالثة: استبدال الشاهنشاهيّ بالقديم. فلا بدّ أن يعمّهم البلاء و يذوقوا و بال أمرهم و يلاقوا جزاء ما كسبت أيديهم و ما سوّلت لهم أنفسهم. و تنهار قصورهم على رؤوسهم. و يستبدل الخبر بالأثر. {فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ}‌.٢

    1. الآية ٦۷، من السورة ٢۱: الأنبياء.
    2. الآية ٢٤، من السورة ۱۰: يونس.

معرفة الإمام ج٦

199
  • {فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ‌}.۱

  • و كان من المتوقّع ممّا نقلناه، و بعد انهيار قصر الظلم و الاستبداد، و التحرّك العارم للشعب المسلم الذي ارتضع أبناؤه لبن امّهات أرضعنهم باسم الحبيب المصطفى خلال ألف و أربعمائة سنة، و تفويض أمر الشعب‌ إلى الشعب نفسه في مجلس الخبراء، أن يكون التأريخ هجريّاً قمريّاً فقط، إلّا أنّهم لم يفعلوا ذلك. و تمّ تدوين المادّة السابعة عشرة من دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة على النحو التالى:

  • «بداية التأريخ الرسميّ للبلاد هجرة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و كلا التأريخين: الشمسيّ، و الهجريّ رسميّان معتبران. و تعتمد الدوائر الحكوميّة في أعمالها على التأريخ الشمسيّ. و العطلة الرسميّة الاسبوعيّة هي يوم الجمعة».

  • الجمع بين التأريخ القمري و التأريخ الشمسي غير صحيح‌

  • و نرى هنا أنّ الإصلاح الذي اجري في هذا المجال تناول المسألة الثالثة فقط، أي: الرجوع من التأريخ الشاهنشاهيّ إلى التأريخ الهجريّ الشمسيّ. و حيث السنون الشمسيّة لا زالت رسميّة سارية المفعول، و الشهور المجوسيّة القديمة كخرداد و بهمن لم تتغيّر أيضاً.

  • وهنا ثلاثة إشكالات:

  • الأوّل: ما هو معنى الجمع بين التأريخين و اعتبارهما رسميّين معاً؟ و نحن نعلم أنّ القرآن الكريم يركّز على الشهور القمريّة في التأريخ فقط. و كذلك السنّة النبويّة و منهج أئمّة الدين فإنّهما يقتصران على الشهور القمريّة لا غير إجماعاً و اتّفاقاً، فرسميّة الشهور و السنين الشمسيّة منضمّة إلى الشهور القمريّة أمر غير صحيح أبداً.

    1. الآية ۱۷، من السورة ٤۱: فصّلت.

معرفة الإمام ج٦

200
  • و الثاني: لما ذا تتبنّى الدوائر الحكوميّة التأريخ الشمسيّ في أعمالها، إذ يبقى الإشكال قائماً في كلا المرحلتين؟ و إذا كان الدين غير منفصل عن السياسة، فلا بدّ أن تتبنّى الدوائر الحكوميّة الشهور القمريّة فقط. فمن أين جاء هذا الانفصال؟

  • و الثالث: أنّ تبنّى التأريخ الشمسيّ من قِبَل الدوائر الحكوميّة عبارة اخرى لإضفاء الرسميّة على الشهور و السنين الشمسيّة، لأنّ الرسميّة لا معنى لها إلّا أن يطبّق التأريخ عمليّاً. و على هذا فالدوائر الحكوميّة تعترف بالتأريخ الشمسيّ لا القمريّ. و تتعامل فيما بينها به دون القمريّ. و هذا هو المحذور عينه و الحرج نفسه.

  • و ما الفرق بين هذا المشروع و ذلك المشروع الذي تمثّل بالتغيير الثالث المصادق عليه في المجلسين؟ فأصحاب ذلك المشروع كانوا يقولون:

  • «التأريخ الهجريّ له موقعه و حرمته، و يستعمل عند القيام بالامور الدينيّة. و التأريخ الشاهنشاهيّ القديم يستعمل في الشؤون الرسميّة للبلاد و دوائرها، و في الزيارات الحكوميّة الرسميّة، و الجلسات، و الندوات، و المؤتمرات و الاحتفالات، و المناسبات، و المعاهدات، و غير ذلك».

  • و هؤلاء اليوم لا يهتمّون بالتأريخ القمريّ في الشؤون الرسميّة، و يؤرّخون ذكرى الثورة، و استشهاد رجالها، و الاحتفالات و غيرها بالتأريخ الشمسيّ. فاستشهاد المرحوم الشيخ مرتضي مطهّري مثلًا كان في اليوم الخامس من جمادي الآخرة، بينما يؤرّخونه في اليوم الثاني عشر من ارديبهشت.۱ و هكذا دأبهم في المناسبات الاخرى، فيؤرّخون استشهاد 

    1. استشهد المرحوم المطهّري في الخامس من جمادي الآخرة سنة ۱٣٩٩ هـ الموافق ۱٢ ارديبهشت سنة ۱٣٥۸.

معرفة الإمام ج٦

201
  • المرحوم دستغيب، و المرحوم صدوقي، و المرحوم قاضي، و المرحوم أشرفي، و المرحوم مفتّح الذي جعلوا يوم استشهاده يوماً للفيضيّة (مدرسة دينيّة في قم) و الجامعة، و يوماً لتلاحم طلّاب العلوم الدينيّة مع طلّاب الجامعات، و غير ذلك من المناسبات بالتأريخ الشمسيّ الفارسيّ.

  • و يؤرّخون رحلة العلّامة آية الله الطباطبائيّ التي وقعت في الثامن‌ عشر من المحرّم،۱ في ٢٤ آبان، في حين أنّ روح ذلك المرحوم تستاء من إحياء المناسبات السنويّة بالتأريخ الشمسيّ. و هو متحقّق بالحقّ و حقّانيّة تطبيق الشهور و السنين القمريّة.

  • ناهيك عن أنّ هذه المناسبات، و الاحتفالات و الاستشهادات، و التأبينات لمّا كانت قد جرت على أساس النهضة الدينيّة الإسلاميّة، فمن الأنسب أن يحتفل بذكراها باعتماد الشهور القمريّة و ذلك لترسيخها و تخليدها في أذهان أبناء الجيل المعاصر و القادم، فاستشهاد العالم المظلوم الغريب المجاهد السيّد حسن المدرّس رضوان الله عليه بـ- «كاشْمَر» في السابع و العشرين من شهر رمضان، و هو صائم. و حيث كان قائماً بالصلاة عند غروب الشمس. فهل من الأفضل أن نحيي ذكراه في هذا التأريخ أو في العاشر من آذر؟٢ و استشهاد المرحوم الشيخ فضل الله النوريّ شهيد

    1. كانت وفاته في صباح يوم الأحد ۱۸ محرّم الحرام سنة ۱٤۰٢ هـ قبل الظهر بثلاث ساعات. و أرجئ تشييع جثمانه الطاهر إلي اليوم التالي ريثما يطّلع الأخيار و الأبرار في المدن الاخري.
    2. استشهد المرحوم المدرّس في السابع و العشرين من شهر رمضان سنة ۱٣٥٦، الموافق ۱۰ آذر ۱٣۱٦.

معرفة الإمام ج٦

202
  • طريق الحقّ و العدالة الذي شنقوه يوم الثالث عشر من رجب،۱ و هو يوم ميلاد أمير المؤمنين عليه السلام فأيّهما أفضل إحياء ذكراه في هذا التأريخ أو في الشهر الشمسيّ الفلانيّ؟

  • و عند ما ثار الشعب بعد العاشر من المحرّم، و أقام مجالس العزاء عشرة أيّام بتمامها، و أحيى ذكر سيّد الشهداء عليه السلام في المجالس‌ و المحافل من خلال الخطب و الكلمات و المحاضرات التي ختمت بالخطاب التأريخيّ الذي ألقاه قائد الثورة في المدرسة الفيضيّة عصر العاشر من المحرّم، ممّا أدّى إلى اعتقال كثير من العلماء و الفضلاء في طهران و المدن الاخرى، حيث نُقِلَ قائد الثورة إلى طهران لإعدامه، و وثبة الشعب المسلم في طهران و قم، فهل من الأفضل أن نحيي هذه الذكرى في اليوم الثاني عشر من المحرّم أو في الخامس عشر من خرداد؟

  • و لمّا نهض أهالى طهران في الليلة الاولى من المحرّم و اليوم الأوّل منه و كانوا قد لبسوا الأكفان و هم يردّدون شعار: الله أكبر، إحياءً لذكرى سيّد الشهداء عليه السلام و قام النظام البهلويّ السفّاح بقمع هذه الوثبة قمعاً دمويّاً، فهل من الأفضل أن نحيي هذه الذكرى في الأوّل من المحرّم، أو في الخامس من مِهر؟

  • إحياء المناسبات على أساس التأريخ القمري‌

  • أجل، فإنّ الشهور القمريّة هي ملاك التقويم للأمّة الإسلاميّة، لا غيرها، و ذلك وفقاً للأدلّة الشرعيّة و التجربة التأريخيّة.

  • و تعقد الندوات و الجلسات هذه الأيّام في أقطار العالم الإسلاميّ حسب التأريخ الميلاديّ، و الإيرانيّون يؤاخذون تلك الأقطار على استعمال 

    1. استشهد المرحوم الشيخ فضل الله النوريّ في ۱٣ رجب ۱٣٢۷ شنقاً في ميدان سبه‌‌ [ساحة الجيش‌] بطهران.

معرفة الإمام ج٦

203
  • التأريخ الميلاديّ. و لو تساءلت تلك الأقطار عن التأريخ الذي ينبغي أن تتبنّاه و تشترك فيه مع الأقطار الاخرى، فهل هناك تأريخ يوحّدها مع غيرها سوى التأريخ الهجريّ القمريّ؟ و تؤاخذنا تلك الأقطار أيضاً أنّ السنين الشمسيّة غير إسلاميّة، و أنّ فروردين و بهمن و غيرهما من الشهور الفارسيّة هي غير إسلاميّة أيضاً، إذَنْ ينبغي أن نتلاحم و نتكاتف لإصلاح شئوننا على أساس قاعدة قرآنيّة صحيحة، و ذلك لتتضافر جهودنا و نساهم جميعنا في أوّل شي‌ء يمثّل شرطاً لوحدة المسلمين.

  • و نقول مرّة اخرى أيضاً: كيف لا يصحّ أن نؤرّخ ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالتأريخ الشمسيّ، لأنّه سيقع في شوّال يوماً، و في ربيع الأوّل يوماً آخر؟ و كيف لا يصحّ أن نجعل عاشوراء بالتأريخ الشمسيّ، لأنّه سيقع في رجب مرّة، و في شوّال مرّة اخرى؟ و كيف لا يصحّ أن نجعل النصف من شعبان حيث ولادة الإمام صاحب الزمان عليه السلام بالتأريخ الشمسيّ، لأنّه سيقع في محرّم يوماً، و في صفر يوماً آخر؟ و بصورة عامّة تدور في السنة كلّها، و كذلك لا تصحّ في سائر المناسبات السنويّة.۱

    1. جاء في «فروع الكافي» طبعة مطبعة حيدري، ج ٤، ص ۱٤٩ حول عيد الغدير: أنّ محمّد بن يعقوب الكلينيّ روى عن سهل بن زياد، عن عبد الرحمن ابن سالم، عن أبيه، قال: سألت جعفر بن محمّد عليهما السلام: هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة و الأضحى و الفطر؟ قال: نعم، أعظمها حرمة! قلت: و أيّ عيد هو جعلت فداك؟ قال: "اليوم الذي نصب فيه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أميرَ المؤمنين عليه السلام و قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ!" قلتُ: و أيّ يوم هو؟! قال: و ما تصنع باليوم؟ إنَّ السّنَةَ تدور؛ و لكنّه يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة ... إلي آخر الرواية التي تحدّثت عن أعمال يوم العيد من ذكر الله، و الصوم، و العبادة، و ذكر محمّد و آل محمّد. و لمّا أراد السائل أن يعرف يوم الغدير حسب الفصول و الشهور الشمسيّة، منعه الإمام و قال: إنّ المدار في تعيين الأيّام و الأعياد و غيرهما هو الشهور القمريّة لا الشمسيّة. وعيد الغدير هو في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة. و هو غير معروف حسب الشهور الشمسيّة، لأنّ الأيّام تدور في السنّة، و كلّ يوم من الشهر القمريّ لا يوافق يوماً خاصّاً من الشهر الشمسيّ، بل هو يدور باستمرار. على سبيل المثال، يقع عيد الغدير في الربيع و برج الحمل مرّة، و في الصيف و برج السرطان مرّة اخرى، و في الخريف و برج القوس مرّة ثالثة، و هكذا. و لمّا كان المدار في الامور الشرعيّة و الحساب هو الشهور القمريّة، فلا جدوى من معرفة الشهور الشمسيّة و انطباق الامور و الحساب عليها. و لذلك قال للسائل: و ما تصنع باليوم؟! إنّ السَّنة تدور، و لكنّه يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة.

معرفة الإمام ج٦

204
  • و هذا هو النسي‌ء الذي نهانا عنه القرآن، و حذّرتنا منه السنّة النبويّة بشدّة من خلال خطبة حجّة الوداع. ذلك لأنّ السنين الشمسيّة تتأخّر عن السنين القمريّة. و لو قدّر أن نجعل التقويم على أساس التأريخ الشمسيّ، فقد أخّرنا أحد عشر يوماً كلّ سنة عن أوقات السنة السابقة؛ إذَنْ لا سبيل لنا إلّا تبنّى الشهور القمريّة، و ذلك لكي لا نبتلي بالنسي‌ء، و لنجعل كلّ فعل في موضعه و زمانه الخاصّ به.

  • و لمّا ورد ذكر النسي‌ء في خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بمنى، ممّا اضطرّنا إلى شرحه و تفسيره، جرّنا الحديث حول النسي‌ء إلى بحث كامل و شامل حول الشهور القمريّة و السنوات الشمسيّة.

  • فللّه الحمد و له المنّة على تقديم هذا البحث النزيه لمطالعته من قِبَل القرّاء المحترمين لهذه الرسالة.

  • نماذج من التواريخ الشمسيّة المختلفة

  • تَذييل: السنة الشمسيّة عبارة عن دوران الأرض حول الشمس. أي: من بداية وصول الأرض إلى أوّل برج الحمل، إلى وصولها ثانية في تلك النقطة، و هو عبارة عن ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوماً و خمس ساعات 

معرفة الإمام ج٦

205
  • و ثمانى و أربعين دقيقة و خمس و أربعين ثانية. و لمّا كان تقسيم هذا المقدار على اثني عشر شهراً غير محسوس، و يبقي كسراً، لذلك كما أنّ محاسبة المنجّم ضروريّة لأصل تعيين هذا المقدار، فهي من الامور الضروريّة و الحتميّة أيضاً لكيفيّة تقسيم هذا المقدار على الشهور الاثني عشر. و لمّا اختلف المنجّمون في كيفيّة التقسيم، لذلك تتباين الشهور 

  • الشمسيّة على أساس التواريخ المختلفة: الروميّ و الميلاديّ القيصريّ المعروف بتأريخ جولين، و الميلاديّ الغريغوريّ، و الهجريّ الشمسيّ، و الشمسيّ اليزدجرديّ، و الجلاليّ الملكشاهيّ، و الشمسيّ القديم۱. و يختلف عدد

    1. تتألّف السنون الروميّة من اثني عشر شهراً هي: تشرين الأوّل ٣۱ يوماً، تشرين الثاني ٣۰ يوماً، كانون الأوّل ٣۱ يوماً، كانون الثاني ٣۱ يوماً، شباط ٢۸ يوماً و في الكبيسة ٢٩ يوماً، آذار ٣۱ يوماً، نيسان ٣۰ يوماً، أيّار ٣۱ يوماً، حزيران ٣۰ يوماً، تمّوز ٣۱ يوماً، آب ٣۱ يوماً، أيلول ٣۰ يوماً.
      تعديل التأريخ الروميّ بتعديل تأريخ جولين، و كبيسته أيضاً مرّة واحدة في كلّ أربع سنين تضاف في آخر شباط. و لذلك فإنّ السنين الكبائس تتألّف من ٣٦٦ يوماً.
      و السنون الميلاديّة القيصريّة تشبه السنين الروميّة تماماً من حيث مقدار الشهور و الكبائس، إلّا أنّها تفترق عنها في أنّ بداية السنة فيها هي الأوّل من كانون الثاني سنة ۷٥٤ من بناء مدينة روما، و أنّ ولادة السيّد المسيح في الخامس و العشرين من كانون الأوّل.
      و تجري سنون هذا التأريخ كسنين التأريخ الروميّ، و يعرف هذا التأريخ بتأريخ جولين. و شهوره هي: يناير ٣۱ يوماً، فبراير ٢۸ يوماً و في الكبيسة ٢٩ يوماً، مارس ٣۱ يوماً، أبريل ٣۰ يوماً، مايو ٣۱ يوماً، يونيو ٣۰ يوماً، يوليو ٣۱ يوماً، آغسطس ٣۱ يوماً، سبتمبر ٣۰ يوماً، اكتوبر ٣۱ يوماً، نوفمبر ٣۰ يوماً، ديسمبر ٣۱ يوماً.
      و كما يلاحظ هنا فإنّ أسماء الشهور تختلف عن أسماء الشهور الروميّة فقط و أمّا مقدارها فهو متساو، لأنّ يناير الواقع بين الشهر الأوّل و الشهر الثاني من الشتاء، يطابق كانون الثاني. و فبراير هو شباط نفسه، و هكذا بقيّة الشهور. في هذا التأريخ المعروف بتأريخ 
      (تابع الهامش في الصفحة التالية ...)

معرفة الإمام ج٦

206
  • ...۱

    1. جولين تتألّف السنة- كما في التأريخ الروميّ، من ثلاثمائة و خمسة و ستّين يوماً و ستّ ساعات ٢٥/ ٣٦٥. فلهذا تكون السنة كبيسة مرّة واحدة في كلّ أربع سنوات.
      أمّا التأريخ الميلادي الغريغوريّ، فلمّا كانت السنة الحقيقيّة فيه شمسيّة فإنّه يفترق عن السنة الشمسيّة في تأريخ جولين. لذلك فإنّ التأريخ فيه يتأخّر يوماً واحداً في كلّ ۱٢۰ سنة. فلهذا صحّحه البابا غريغوريوس بمساعدة المنجّم الإيطاليّ ليليو، فمضافاً إلي أنّهم يجعلون السنة كبيسة مرّة واحدة في كلّ أربع سنوات، كانوا ينقصون ثلاثة أيّام في كلّ أربعمائة سنة. و ذلك على النحو التالي: يفترض أنّهم يجعلون السنة كبيسة في رأس كلّ مائة سنة، إلّا أنّهم لا يفعلون ذلك، و لا يكبسون ثلاث مرّات، أي: في رأس ثلاثمائة سنة، و يكبسون عادة في رأس القرن الرابع. و كان التأريخ قد تأخّر عشرة أيّام حتّى عصر غريغوريوس، فكان الناس يظنّون أنّ التأريخ هو (٥) اكتوبر فأمر أن يجعلوه (۱٥) اكتوبر، فاشتهر التأريخ الغريغوريّ منذ ذلك الحين، و نسخ تأريخ جولين. و يستعمل النصارى كلّهم هذا اليوم التأريخ الغريغوريّ و يتعاملون به.
      و أمّا التأريخ الهجريّ الشمسيّ الذي يبدأ بهجرة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و سنونه شمسيّة حقيقيّة، و شهوره المتمثّلة بالبروج الشمسيّة قد نظّمت مطابقة لحركة الأرض في البروج الاثني عشر بحيث لا تزيد على ٣٢ يوماً، و لا تنقص عن ٢٩ يوماً، فشهوره على النحو التالي:
      الحَمَل ٣۱ يوماً، الثَّوْر ٣۱ يوماً، الجَوزاء ٣٢ يوماً، السَّرَطان ٣۱ يوماً، الأسَد ٣۱ يوماً، السُّنْبلَة ٣۱ يوماً، الميزان ٣۰ يوماً، العَقْرَب ٣۰ يوماً، القَوْس ٢٩ يوماً، الجَدْي ٢٩ يوماً، الدَّلْو ٣۰ يوماً، الحوت ٣۰ يوماً. و أوّل السنة الهجريّة الشمسيّة هو أوّل الاعتدال الربيعيّ دائماً.
      و تعديل هذا التأريخ لضبط الكبائس هو تعديل التقويم الملكشاهيّ نفسه الذي سيأتي فيما بعد.
      و أمّا التأريخ الشمسيّ اليزدجرديّ فإنّه يبدأ بجلوس يزدجرد الثالث آخر الملوك الساسانيّين على العرش، و كان ذلك في سنة ۱۱ هـ. و سنون هذا التقويم تقريبيّة. لأنّ السنة حسبت (٣٦٥) يوماً، فلهذا يتأخّر التأريخ يوماً واحداً في كلّ أربع سنوات على النحو التالي:
      فروردين ٣۰ يوماً، ارديبهشت ٣۰ يوماً، خُرداد ٣۰ يوماً، تِير ٣۰ يوماً، مُرداد ٣۰
      (تابع الهامش في الصفحة التالية...)

معرفة الإمام ج٦

207
  • ...۱

  • أيّام الشهر في كلّ واحد من هذه التواريخ.

  • و أمّا السنون القمريّة فلمّا كانت اثني عشر شهراً قمريّاً، و الشهر القمريّ محسوس و مشهود، و هو عبارة عن الفترة بين مقابلتين متواليتين للشمس و القمر، و بدايته ينبغي أن تتحقّق برؤية الهلال، فلا حاجة إلى محاسبة المنجّم، و التعديلات، و ضبط الكبائس، و على الرغم من أنّ المنجّمين نظّموا لهم كبائس، إلّا أنّها تعود إلى الشهور القمريّة النجوميّة، لا إلى الشهور القمريّة الشرعيّة التي يجب أن تتمّ برؤية الهلال بعد خروجه من المحاق.

  • و لمّا كان الدين الإسلاميّ المقدّس هو دين الفطرة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ 

    1. (...تتمة الهامش من صفحة السابقة)
      يوماً، شهريور ٣۰يوماً، مهر ٣۰ يوماً، آبان ٣۰ يوماً، آذر ٣۰ يوماً، دي ٣۰ يوماً، بهمن ٣۰ يوماً، اسفنى ٣۰ يوماً.
      و كانوا يضيفون خمسة أيّام باسم(اندركاه) إلى آخر إسفند أو آبان، و هي الخمسة المسترقّة نفسها.
      و أمّا التأريخ الجلاليّ الملكشاهيّ فهو التقويم الذي تمّ تنظيمه بمساعدة الحكيم عمر الخيّام. و السبب في ذلك هو أنّ التأريخ الشمسيّ اليزدجرديّ كان متداولًا حتّى ذلك الحين و هو عصر حكومة ملكشاه. و لمّا كان التأريخ يتأخّر يوماً واحداً في كلّ أربع سنوات بواسطة النقص في الحساب، فلهذا جعلوا عدد الشهور مثل التأريخ اليزدجرديّ، و أضافوا خمسة أيّام في آخر إسفند. و قالوا بدور ٣٣ سنة لنقص الكبائس و ضبطها، إذ يكبسون ثمانى سنوات في كلّ ٣٣ سنة، أي، مرّة واحدة في رأس كلّ سنة رابعة، و أربع سنوات متوالية بسيطة، و يكبسون في رأس السنة الخامسة. و بهذا التقويم لا يرد نقص حتّى ستّة آلاف سنة. و أمّا التأريخ الشمسيّ القديم الذي أصبح رسميّاً في الدورة الخامسة لمجلس النوّاب، فشهوره الستّة الاولى التي تبدأ بشهر فروردين كلّ واحد منها ٣۱ يوماً، و الخمسة التي تليها ٣۰ يوماً، و الشهر الأخير، إسفند ٢٩ يوماً، و جعلوه في الكبيسة ٣۰ يوماً.

معرفة الإمام ج٦

208
  • الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}‌.۱ فلهذا ترتكز أحكامه و قوانينه كلّها على قاعدة الفطرة و الطبيعة و المشاهدة و الرؤية و أمثالها. يقول:

  • متى رأيت الهلال في افق السماء بعد المحاق فاجعله أوّل الشهر! و استمرّ بهذا الشهر حتّى الرؤية الاخرى!

  • هذا تعليم بسيط و يسير و عامّ و لا يقبل التغيير و التحريف و الزيادة و النقصان.

  • و هذه الكيفيّة من محاسبة الشهر، و رؤيته في أوّله، و مشاهدة سيره في السماء، لتعيين الوقت قضيّة عامّة يتساوى فيها العالم و الجاهل، و الرياضيّ و الامّيّ، و المنجّم و غير المنجّم، و الحضريّ و البدويّ، و الحاضر و المسافر، و لا يختلف فيها هؤلاء، و لا يُشْتَبَه بها في الحساب.

  • و لو بقي شخص على ظهر السفينة الراسيّة في الماء أعواماً كثيرة، مثلًا خمسين سنة أو أكثر، أو عاش على سفوح الجبال وحده بعيداً عن أنظار الناس، أو قضي عمره في القري و الأرياف منعزلًا عن مجتمعه، أو أنقطع عن القافلة، و ظلّ في البوادي و الفلوات سنيناً من عمره، فإنّه يعرف شهره، و يعرف اليوم الذي يعيش فيه.

  • و الإسلام الذي هو دين عامّ و عالَميّ و فطريّ قد قرّر لجميع الناس في العالم تنظيم السنين و الشهور على أساس رؤية الأهلّة و الشهور القمريّة. و هذا الأمر في غاية من الدقّة بحيث لو افترق شخصان من المجاهدين في سبيل الله، أحدهما في شرق الكرة الأرضيّة، و الآخر في غربها، و ظلّا على ذلك الإفتراق أعواماً مديدة ليس معهما تقويم، و لا منجّم و لا حاسب، ثمّ التقيا، فإنّهما يعلمان في أيّ يوم من أيّام السنة، و في أيّ شهر من شهورها 

    1. الآية ٣۰، من السورة ٣۰: الروم.

معرفة الإمام ج٦

209
  • يعيشان. ذلك لأنّ عندهما حساب الشهور بواسطة رؤية الهلال، و حساب السنين باثني عشر شهراً لكلّ سنة، و كذلك عندهم حساب الأيّام.

  • و هذا قانون لا يعتريه النقصان و الزيادة، و هو غنيّ عن محاسبة المنجّم. و لا خلاف بين القائلين به و أتباعهم. و لا يحتاج إلى الجَعْل و الحَدْس و التقريب و التخمين و الوضع العرفيّ.

  • و هذا قانون يتيسّر له توجيه الناس و إدارة شئونهم. و يبثّ حكمه إلى شتّى أرجاء العالم مهما كانت الظروف و الأحوال، و يوحّد الجميع تحت راية واحدة و تأريخ واحد و تقويم واحد. و هذه هي الشريعة السهلة العامّة التي تحدّث عنها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، إذ قال: "بُعِثْتُ عَلَى‌ شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ سَهْلَةٍ".

  • فوائد السنة القمريّة و مضارّ السنة الشمسيّة

  • أمّا لو قدّر أن يكون التقويم الشرعيّ و الإسلاميّ هو التقويم الشمسيّ، فالله أعلم بالإشكالات التي ستحصل جرّاء ذلك.

  • أوّلًا: الحاجة إلى الرَّصَد، و المنجّم، و تعيين نقطة الإعتدال الربيعيّ، أو الخريفيّ، و الإسلام لا يقيّد أحكامه أبداً بالحاجة إلى أمر خارجيّ مجعول.

  • ثانياً: أيّ شهر من الشهور الشمسيّة يمكن أن يكون معتبراً؟ ذلك لأنّنا عرفنا أنّ مقدار الشهور الشمسيّة يتفاوت حسب التقاويم المختلفة.

  • ثالثاً: لو خُوّل المنجّم صلاحيّة تعيين الشهور، فإنّ كلّ واحد من المنجّمين ينظّم الشهور بشكل خاصّ حسبما يراه. ممّا يبعث على نشوب الخلاف و الاختلاف بين أبناء الامّة في التقويم و الأحكام. و نحن نعلم أنّ المنجّمين لو لم يخطئوا في أصل حساب الكبيسة و تعيين مقدارها، فإنّ الصلاحيّة في تعيين مقدار الشهور أمر مجعول و خاضع لنفوذهم. و لا يمكن تقديم رأى لمنجّم خاصّ على رأى منجّم آخر مع حفظ أُصول 

معرفة الإمام ج٦

210
  • الحساب.

  • و رابعاً: يؤدّي هذا الأمر إلى اختلاف المسلمين في بقاع مختلفة من العالم لتعذّر الحصول على تقويم و تأريخ معيّنين. و يضيع أهل القري و الأرياف، و القوافل، و المسافرون عبر البحر و الجوّ- لو طال سفرهم- حسابهم. و حينئذٍ لا يبقى مفهوم و مصداق لخلود الشريعة، "وَ حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ حَرَامُ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".۱

  • فوائد و منافع الشهور القمريّة

  • و لذا نرى كيف اعتبرت الآية الكريمة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}‌:

  • أوّلًا: ترتيب الشهور القمريّة منوطاً بالخلق، و عددها الإثنا عشر مرتبطاً بأصل التكوين و الفطرة، و خلق السماوات و الأرض. مضافاً إلى أنّها عرضت ذلك بوصفه الدين القيّم، أي: الثابت. و بعبارة اخرى، أنّ السنين القمريّة و الشهور القمريّة هي دين الله القيّم الثابت و حكمه الذي لا يتغيّر و لا يقبل التحريف ما دامت السماوات و الأرض.٢

  • مرحباً بهذا الدين ذي التأريخ الدقيق و المنظّم إلى درجة أنّ هذا اليوم الذي نحن فيه، و هو الرابع من ربيع الثاني سنة ألف و أربعمائة و خمس للهجرة، هو نفسه في أرجاء العالم كافّة، و بين المسلمين جميعهم بلا خلاف، فاليوم هو نفسه، و كذلك الشهر و السنة.

    1. حديث نبويّ رواه الشيعة و السنّة.
    2. في ضوء ذلك يقول الشيخ الطبرسيّ في تفسير «مجمع البيان» طبعة صيدا ج ٣، ص ٢۸ بعد تفسير هذه الآية المباركة: و في هذه الآية دلالة على أنّ الاعتبار في السنين بالشهور القمريّة لا بالشمسيّة، و الأحكام الشرعيّة مُعَلَّقَةٌ بها. و ذلك لِمَا علم الله سبحانه فيه من المصلحة، و لسهولة معرفة ذلك على الخاصّ و العامّ.

معرفة الإمام ج٦

211
  • و الآن ندرك كيف حاول الإستعمار أن يخلخل هذا التأريخ القويم، و يقطع وشائج الوحدة بين المسلمين، و يقصّ هذا الحبل المتين على أساس الشهور و السنين الشمسيّة، مع أنّ بداية الهجرة محفوظة، أو على أساس استبدال التأريخ الهجريّ بالتأريخ الميلاديّ أو الشاهنشاهيّ. قَطَعَ اللهُ أيْدِيَهُمْ، وَ تَبَّتْ كَلِمَتَهُمْ، وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا وَ بِمَا عَمِلُوا، وَ ثَبَّتَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِدِينِهِمُ الْقَوِيمِ وَ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ، وَ أعْلَى كَلِمَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَ هي الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا.

  • ثانياً: من المنافع التي تدرّها السنون و الشهور القمريّة- كما يبدو-تطوّر أعمال المسلمين في جميع الفصول و الأوقات المختلفة من السنة. مثلًا صيام شهر رمضان يدور في الفصول المختلفة. و يصوم المسلم في الشتاء، و الربيع، و الصيف، و الخريف دون أن يكون هناك أيّ تخلّف. و في ضوء ذلك، مضافاً إلى أنّ طبيعته في الفصول الأربعة تحتاج إلى الصوم في الفصول الأربعة- حسب فهم الأحكام و القوانين من أصل الفطرة- و أنّ الفوائد الصحيّة للصوم تعود إليه بنحو تامّ. فإنّه يهيّئ طبيعته و إرادته للجوع في أوقات طويلة و حارّة أيضاً. و في ضوء ذلك يتيسّر على المسلم الجهاد في سبيل الله، و هو الفريضة الواجبة و العامّة على الشيوخ و الشباب و لا تختصّ بفصل الشتاء و اعتدال الجوّ. و ربّما تقع في الصيف القائظ. إذ يلزم على الامّة الإسلاميّة أن تنهض للجهاد ضدّ خصومها و تدافع عن حقوقها الحقّة سواء في الجوّ الحارّ الشديد و النهار الطويل أو في البرد القارص و شدّته. و كذلك الحجّ الذي يقام في ذي الحجّة و يدور في الفصول الأربعة فإنّه يعدّ الإنسان للجهاد، و السفر في طرق نائية مهما كانت الظروف مضافاً إلى ما يقتطفه المسلم من ثمار الحجّ حتّى في البرد القارص و الحرّ الشديد.

معرفة الإمام ج٦

212
  • و حصيلة القول: أنّه لمّا كانت طبيعة الإنسان تتغيّر في الفصول الأربعة على امتداد السنة، فإنّ الإسلام المرتكز على قاعدة الفطرة البشريّة قد وضع أحكامه و تعاليمه لتلائم طبيعة الإنسان في دورة الفصول الأربعة.

  • و أمّا ما تناقلته الألسن و لاكته الأفواه عن عيد النوروز، و أنّ الإسلام أيّده، و رغّب في الغسل و الصلاة و الدعاء عند تحويل الشمس في برج الحمل، فهو كلام عار عن الصحّة و مجرّد من الحقيقة.

  • فلم يرغّب الإسلام في هذا المجال قطّ، بل رفضه و اعتبر الإحتفال بهذا العيد كتقليد قوميّ بدعة من البدع. و الرواية الواردة في هذا الباب عن‌ المُعلى بْنِ خُنَيْس ضعيفة السند. و الروايات و الأحاديث الاخرى على هذا المنوال. و الغسل و الدعاء أيضاً على أساس أدلّة التسامح في السنن في ضوء روايات: "مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ على شَيْ‌ءٍ فَأتَى بِهِ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ اوتِيَهُ وَ إن لَمْ يَكُنْ كَمَا بَلَغَ‌"، فلا هو مشرّعاً للحكم، و لا هو أساس للتمّسك بتلك الروايات في هذا المجال. و في نيّتنا تأليف رسالة شاملة و كاملة حول عيد النوروز و عدم جواز التمسّك بأدلّة التسامح في السنن في هذا المجال بحول الله و قوّته، و لا حول و لا قوّة إلَّا بالله العلى العظيم.

  • و كذلك ورد النهي عن المهرجان و هو (عيد مهركان). و اعتبر الشارع أنّ التمسّك بالنوروز و المهرجان من آداب الجاهليّة. و نأمل أن تظهر حقائق أكثر من خلال تأليف هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.

  • أداء رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المناسك الاخرى في أرض منى‌

  • إلى هنا ننهى حديثنا عن الشهور و السنوات القمريّة و الشمسيّة، و لن نتكلّم بعدُ عن تفسير النسي‌ء الوارد في الآية الكريمة، و في الحديث النبويّ الشريف المأثور في حِجَّة الوداع. و نتعرّض هنا إلى المناسك الاخرى التي أدّاها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في أرض مِنى.

  • لقد جاء رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى المَنْحَر قادماً من 

معرفة الإمام ج٦

213
  • المحلّ الذي خطب فيه بمنى، و نحر بيده المباركة جميع البدن التي ساقها بنفسه.

  • و قلنا سابقاً إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ساق معه ٦٣ أو ٦٤ أو ٦٦ أو ٦۷ بدنة. و ساق أمير المؤمنين عليه السلام من اليمن ٣۷ أو ٣٦ أو ٣٤ أو ٣٣ بدنة إلى رسول الله. و أشركه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم معه في حجّه و هديه. فكان كنفس النبيّ في جميع المناسك.

  • فلهذا اشتركا في نحر البدن التي كان عددها مائة. فشرع رسول الله بالنحر أوّلًا، و قيل: نحر ٦٣ بدنة بمقدار عمره، إذ نحر عن كلّ سنة من‌ عمره بدنة. و نحر أمير المؤمنين عليه السلام الباقي و هو تمام المائة. و كان ناجِيَة بن جُنْدب الخُزَاعيّ الأسْلَميّ حارساً على البدن كلّها.۱

  • فأمر رسول الله أن يأخذوا من كلّ بعير بضعة، و يجعلونها في القدر و يطبخونها. و بعد ذلك أكل هو و وصيّه العظيم أمير المؤمنين عليهما صلوات المصلّين، من لحمها و شربا من مرقها.

  • و تصدّق رسول الله بالبدن كلّها، و حتّى جلودها، و جلالها و ما علّق في أعناقها، و لم يعط للجزّار منها شيئاً، بل أعطاه أجره من شي‌ء آخر غير الأجزاء و الأعضاء و ما يتعلّق بها.٢

  • و لمّا فرغ رسول الله من النحر، حلق رأسه الشريف، حلقه مُعَمَّرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ. و أشار إلى الجانب الأيمن من رأسه، فبدأ الحلّاق به فحلقه. 

    1. «فروع الكافي» ج ٤، ص ٢٥۰؛ و ص ٢٤۷، و ٢٤٩ أيضاً؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٣٤؛ و «البداية و النهاية» ج ٢، ص ۱۸۷ و ۱۸۸؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٢؛ و «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٦٦٦؛ و «روضة الصّفا» ج ٢، ذكر حجّة الوداع؛ و «حبيب السّير» ج ۱، الجزء الثالث، ص ٤۱۰.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٣؛ و «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٦٦٥.

معرفة الإمام ج٦

214
  • و أعطى أبا طلحة الأنصاريّ شعره ليقسّمه بين الناس، و يصل لكلّ واحد شعرة أو شعرتان منه. ثمّ أشار إلى الجانب الأيسر، فحلقه الحلّاق.

  • و أعطاه أيضاً لُامّ سَليم زوجة أبي طلحة الأنصاريّ، أو لكُرَيْب، أو لأبي طلحة نفسه ليقسّمه بين الحجّاج.۱

  • و لمّا فرغ من حلق رأسه، ارتدى لباساً نظيفاً و مخيطاً و تحرّك نحو مكّة للطواف، و أداء صلاة الطواف.

  • و لا يخفى أنّ الناس عند ما كانوا يسألونه قبل التحرّك عن الحلق أو عن التقصير، كان يقول: "رَحِمَ اللهُ الْمُحَلِّقِينَ". و في رواية أنّه لمّا حلق بعض الصحابة و قصّر البعض الآخر، قال: "اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ".

  • قالوا: وَ المُقَصِّرِينَ؟

  • فأعاد رسول الله قوله: اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ.

  • فقالوا: وَ الْمُقَصِّرِينَ؟

  • فقال رسول الله للمرّة الثالثة: اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقينَ!

  • و لمّا قالوا في المرّة الرابعة: وَ الْمُقَصِّرينَ؟

  • قال رسول الله: وَ الْمُقَصِّرِينَ‌.٢

  • و قال البعض، كان هذا التكرار من النبيّ في عُمْرَة الحُدَيْبِيَّةِ لا في حِجَّةَ الوَدَاع. و لكن لمّا ورد هذا الحوار في حِجَّة الوداع مضافاً إلى عُمْرة الحُدَيْبِيَّة، فلا يستبعد أن يكون رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد استغفر للمحُلّقين ثلاث مرّات، و للمقصّرين في المرحلة الرابعة في كلا الموضعين.

    1. «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٣٤.
    2. المصدر السابق و «روضة الصّفا» ج ٢، ذكر حجّة الوداع.

معرفة الإمام ج٦

215
  • و لمّا تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من منى إلى مكّة، طلب عند المسجد الحرام ماءً، و لمّا أراد بعض الصحابة، و منهم عمّه العبّاس أن يأتوه بالماء من بيوتهم، قال: «اسقوني ممّا يشرب الناس».۱ ثمّ أتى زمزم فنزع له السقّاءون من بني عبد المطّلب، الذين كانوا مشغولين بنزع الماء دلواً.

  • فتناول منه، ثمّ مجّ مقداراً منه في الدلو و ناوله السقّائين ليفرغوه في البئر ثانية، و قال: لو لا أخاف أن يظنّ الناس أنّ هذا من المناسك، فيأتون‌ زمزم لنزع الماء و تُغْلَبون، لأحببت أن أنزع الماء بيدي، حتّى أضع الحبل على عاتقي.٢

  • طاف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و صلّى، و رجع إلى منى في نفس اليوم. و قيل: صلّى الظهر بمكّة. و قيل: بمنى، و هذا القول بعيد، لأنّه مهما كان النهار طويلًا، فإنّ أداء مناسك منى من الرمي و الحَلْق، و نحر ثلاث و ستّين بدنة، و طبخها، و شرب شي‌ء من مرقها، و إلقاء خطبة طويلة، و الإجابة على أسئلة الناس، و القدوم إلى مكّة و هي تبعد فرسخين، و أداء المناسك في بيت الله الحرام، كلّ ذلك مستبعد أن ينتهي قبل الظهر بساعة، و يرجع إلى منى، و يصلّى فيها صلاة الظهر.٣ و جاء في «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩۱ أنّ حجّ النبيّ كان في الصيف، و النهار كان طويلًا.

  • فالقول الأقرب هو أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم صلّى الظهر بمكّة، 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩٢.
    2. «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٤٦، ۱٤۷، و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱۸٥، و «طبقات ابن سعد» ج ٢، ص ۱۸٢.
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩۱.

معرفة الإمام ج٦

216
  • ثمّ اتّجه تلقاء منى.

  • و ينبغي أن نعلم أنّ الحجّ مهما كان نوعه، تمتّعاً، أو قِراناً، أو إفراداً فله طوافان: أحدهما: يقال له: طواف الزيارة أو الإفاضة، و هو أوّل طواف يقوم به المحرم بإحرام الحجّ، سواء قبل الوقوف في عرفات كطواف القارِن و المفرد فيما إذا رغبا، فإنّهما يقومان بذلك بعد الإحرام و الدخول في مكّة. و نرى أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السلام حيث كان حجّهما حجّ قِران، و كان قد ساقا معهما هدياً، عند ما دخلًا مكّة، طافا، و سعيا أيضاً في أوّل وهلة قبل الوقوف في عرفات. و بعد هذا الطواف‌ أيضاً، سعيا بين الصفا و المروة.

  • و بالطبع فإنّ على القارن و المفرد بعد هذا الطواف أن يسعيا أيضاً بين الصفا و المروة، سواء بعد الوقوف في عرفات كالمتمتّع، أو كالقارِن و المفرد اللذين لم يطوفا و لم يسعيا قبل الوقوف.

  • و الطواف الآخر: هو الطواف الذي يتمّ بعد الفراغ من مناسك الحج، و يقال له: طواف النساء. و لا خلاف بين الشيعة و السنّة في وجوبه.

  • و هذا الطواف ليس جزءاً من أعمال الحجّ، بل هو عمل واجب و مستقلّ، و منفصل عن أجزاء الحجّ. و لو لم يقم به أحد، فلا إشكال في حجّه. غاية الأمر أنّه سيكون قد ترك عملًا واجباً و أنّ أثره الذي يترتبّ عليه و هو حلّيّة النساء سينعدم.

  • و سبب تسمية طواف النساء هو حلِّيَّة النساء و العقد عليهنّ، و الشهود على العقد، في مقابل طواف الإفاضة الذي يمثّل جزءاً من الحجّ، و ما يترتّب عليه هو حلِّيَّة الطيب و العطر.

  • و أهل السنّة يوجبون هذا الطواف أيضاً. غاية الأمر أنّهم يسمّونه 

معرفة الإمام ج٦

217
  • طواف الوداع. و يعتبرون ما يترتّب عليه حلّيّة النساء أيضاً، إذ تبقى النساء على حرمتهنّ بدونه.

  • و السبب في أنّهم لا يسمّونه طواف النساء هو أنّهم جميعاً لا يرون حلِّيَّة الطيب في طواف الزيارة و الإفاضة. و أكثرهم يرى أنّ استعمال الطيب يحلّ بمجرّد الحلق أو التقصير في منى. فلا تضادّ بين هذين الطوافين عندهم فيسمّون الطواف الأخير: طواف النساء. إلّا أنّ ما يترتّب على هذا الطواف- كما ذكرنا- هو حلِّيَّة النساء عندهم إجماعاً. فطواف الوداع الواجب عندهم- في الحقيقة- هو هذا الطواف، و أثره هو نفس الأثر، و اختلاف التسمية لا يستدعي تغيير حقيقة العمل.

  • بَيدَ أنّ الشيعة- مضافاً إلى هذا الطواف الواجب- ترى استحباب طواف آخر يسمّى طواف الوداع عند الخروج من مكّة.

  • و لا يسعى في طواف النساء أو الوداع عند العامّة، مع أنّه واجب. و فيه صلاة ركعتين واجبة تقام بعده. غير أنّ طواف الإفاضة فيه سعي، و العمل بدونه ناقص.۱

  • فلهذا نري رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السلام قد سعيا بعد طواف الإفاضة، غير أنّهما لم يسعيا بعد طواف النساء أو الوداع الذي قاما به بعد الوقوف في عرفات و أداء المناسك يوم عيد الأضحى.

  • أمّا الذين أحرموا للحجّ من مكّة بأمر رسول الله، و كان حجّهم حجّ الإفراد، فعليهم بعد الوقوف و أداء المناسك في منى أن يطوفوا طواف الإفاضة، و يسعوا، ثمّ يطوفوا بعد السعي طواف النساء أو طواف الوداع، 

    1. انظر: «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٤٦.

معرفة الإمام ج٦

218
  • فالحمد للّه وحده.

  • رجع رسول الله إلى منى يوم عيد الأضحى بعد أداء المناسك في بيت الله الحرام. و عند ما كان يسأله الناس حول تقديم بعض المناسك الخاصّة بمنى على البعض الآخر جهلًا أو نسياناً، كان يقول: لَا حَرجَ. سواء تقدّم الحَلْق على الذبح، أو الحَلْق على الرمي، و حتّى لو تقدّم طواف الزيارة على الرمى. كان يقول: لَا حَرَجَ.۱

  • و هنا تنسجم الروايات المأثورة عن الشيعة و العامّة مع هذا الحكم. و ننقل فيما يلي روايتين عن الشيعة، و روايتين عن العامّة.

  • أمّا عن الشيعة، فقد روى عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دُرَّاج، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يزور البيت قبل أن يحلق، قال: "لَا يَنْبَغِي إلَّا أنْ يَكُونَ نَاسِياً".

  • ثُمَّ قَالَ: "إنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ أتَاهُ انَاسٌ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّي حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أذْبَحَ، وَ قَالَ بَعْضُهُمْ: حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، فَلَمْ يَتْرُكُوا شَيْئاً كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أنْ يُؤَخِّرُوهُ إلَّا قَدَّمُوهُ، فَقَالَ: لَا حَرَجَ"‌.٢

  • و الثانية: رواية رواها عدّة من الأصحاب، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قلت للإمام الباقر عليه السلام: إنّ رجلًا من أصحابنا رمي الجمرة يوم النحر، و حلق قبل أن يذبح.

  • فقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لمّا كان يوم النحر، 

    1. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٥، طبعة مصر، سنة ۱٣٥٣ هـ.
    2. «فروع الكافي» ج ٤، كتاب الحجّ، ص ٥۰٤؛ و «بحار الأنوار» طبعة كمباني، ج ٦، ص ٦٦٢.

معرفة الإمام ج٦

219
  • أتاه طوائف من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله! ذبحنا من قبل أن نرمي، و حلقنا من قبل أن نذبح، و لم يبق شي‌ء ممّا ينبغي لهم أن يقدّموه إلّا أخّروه. و لا شي‌ء ممّا ينبغي لهم أن يؤخّروه إلّا قدّموه، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله: لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ.۱

  • و أمّا عن العامّة، فقد جاء في «صحيح مسلم» عن عمر و بن العاص، قال: وقف رسول الله صلّى الله عليه [و آله‌] و سلّم في حجّة الوداع بمنى على راحلته للناس يسألونه.

  • فجاء رجل، فقال: يا رسول الله! لم أشعر أنّ التحلّل قبل النحر، فحلقت قبل أن أنحر، فقال: "اذْبَحْ وَ لَا حَرَجَ".

  • ثمّ جاءه رجل آخر، فقال: يا رسول الله! لم أشعر أنّ الرمي قبل النحر، فنحرتُ قبل أن أرمي، فقال: ارْمِ وَ لَا حَرَجَ.

  • و جاءه آخر، فقال: إنّي أفضت إلى البيت قبل أن أرمي! فقال: "ارْمِ وَ لَا حَرَجَ‌".

  • قال: فما سئل رسول الله عن شي‌ء قدّم و لا أخّر إلّا قال: "افْعَلْ وَ لَا حَرَجَ‌".٢

  • الثانية: رواية رواها أحمد بن عمر بن أَنَس العذريّ بسنده عن اسامة بن شريك، قال: شهدت رسول الله في حجّة الوداع و هو يخطب، و هو يقول: "امَّكَ وَ أبَاكَ وَ اخْتَكَ و أخَاكَ، ثُمَّ أدْنَاكَ أدْنَاك". قال: فجاء قوم، 

    1. «فروع الكافي» ج ٤، كتاب الحجّ، ص ٥۰٤؛ و «بحار الأنوار» طبعة كمباني، ج ٦، ص ٦٦٢.
    2. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٥: و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٤۱، و ص ۱٤٢ أيضاً؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩٩.

معرفة الإمام ج٦

220
  • فقالوا: يا رسول الله، قيَّدنا بنو يربوع!

  • فقال رسول الله: لا تجني نفس على اخرى، ثمّ سأله رجل نسي أن يرمي الجمار، فقال: ارْمِ وَ لَا حَرَجَ‌. ثمّ أتاه آخر، فقال: يا رسول الله! نسيت الطواف، فقال‌: طُفْ وَ لَا حَرَجَ.

  • ثمّ أتاه آخر، حلق قبل أن يذبح، قال: اذْبَحْ وَ لَا حَرَجَ‌. فما سألوه يومئذٍ عن شي‌ء إلّا قال: لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ.

  • ثمّ قال‌: "قَدْ أذْهَبَ اللهُ الْحَرَجَ إلَّا رَجُلًا اقْتَرَضَ امْرَءاً مُسْلِماً فَذَلِكَ الذي حَرَجَ وَ هَلَكَ. وَ قَالَ: مَا أنْزَلَ اللهُ دَاءً إلَّا أنْزَلَ لَهُ دَوَاءً إلَّا الْهَرَمَ".۱

  • نعم لقد دار البحث حول التقديم و التأخير في مناسك منى بعضها على البعض الآخر في مجالين.

  • الأوّل: عند الجهل بلزوم التقديم أو النسيان. و في هذه الحالة تجمع الروايات على عدم لزوم الإعادة و التكرار، كما مرّ في رواية جميل المتقدّمة. وهنا مع فرض لزوم التقديم و التأخير و شرطيّة ذلك، كما يستفاد من الروايات، ينبغي أن نقول بأنّ الشرطيّة منحصرة عند التذكّر و العِلْم، لا عند الجهل و النسيان.

  • الثاني: عند التعمّد و العلم. و حينئذٍ على الرغم من الروايات الواردة في لزوم الإثم و الذنب و الحرج، مع فرض صحّة الحجّ، و قطع أصحابنا بعدم لزوم التكرار و الاعادة، ينبغي القول: إنّ هذه الشرطيّة في التقديم و التأخير من باب تعدّد المطلوب، لا من باب وحدة المطلوب المشروطة بهذا الشرط. و في هذه الحالة لو أتى أحد بأصل الماهيّة و الطبيعة، فإنّ المطلوب قد تحقّق، و لا مجال للإعادة و التكرار، إلّا أنّه في الوقت نفسه 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩۷، و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٤٦.

معرفة الإمام ج٦

221
  • فات مطلوب آخر، و هو التقديم و التأخير، ممّا يستلزم الحَرَج و الذنب. و على الرغم من أنّ الحجّ أيضاً صحيح و كامل، و لكنّه ليس حجّاً تامّاً. وهنا يستبين الفرق بين الكمال و التمام. و يسمّى يوم العيد: يوم النَّحْر، و يوم الأضحى، و يوم الحجّ الأكبر.۱

  • و يسمّي اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر: أيّام التَّشْريق، و ذلك للمعان الشمس و إشراقها على لحوم الأضاحى التي تُشَرَّق و تتلألأ بسبب أشعّة الشمس، و لذلك اطلق على الليالي التي تسبقها: لَيَالي‌ التَّشْرِيق. و يصطلح على اليوم الحادي عشر: يَوْم الرُّءوس و يوم القَرّ أيضاً. لأنّ الحجّاج يأكلون فيه رؤوس الأضاحي غالباً، و يقرّون فيه مقابل يوم النَّفْر. و اليوم الثاني عشر هو يَوْم الأكْرُع أو يَوْمَ الأكَارِع أو يَوْمُ النَّفْرِ الأوّل لأنّ الحجّاج يطبخون فيه أكارع الإبل و الأغنام و باعتباره أوّل يوم يفرغ فيه الحجّاج من أعمالهم، أو يذهبون إلى مكّة، أو إلى أوطانهم فقد سُمّي بيوم النفر. كما يدعى اليوم الثالث عشر بِيَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي إذ ينفر فيه الحجّاج الذين لم ينفروا يوم النفر الأوّل.٢

  • و يجب على الحاجّ أن يبقي في منى حتّى منتصف الليل، و ذلك في الليلتين الحادية عشرة و الثانية عشرة. إلّا أن يكون في مكّة مشغولًا بالعبادة.

  • و لمّا كان العبّاس بن عبد المطلّب عمّ النبيّ يتولّى سقاية الحاجّ، فلهذا 

    1. في عبارة يوم الحجّ الأكبر ينبغي أن نعلم أنّ الأكبر صفة لليوم لا للحجّ. أي: أكبر و أفضل يوم من أيّام الحجّ و هو عيد الأضحى.
    2. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٣.

معرفة الإمام ج٦

222
  • استأذن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يبقي في مكّة ليالى منى.۱

  • و أجاز رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لرعاة الإبل أن يرموا جمراتهم يوم العيد، و لا يرموا في اليوم الذي يليه، بل يرموا بدله في اليوم التالى لهذا اليوم و هو يوم النفر الأوّل. و أجاز لهم أيضاً أن يرموا بالليل.٢

  • و جاء في بعض الروايات أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يأتي إلى مكّة ليلًا لزيارة بيت الله، ثمّ يرجع.

  • و أقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في مسجد الخَيْف بمنى. و أمر أن يقيم المهاجرون في الجانب الأيمن، و الأنصار في الجانب الأيسر، و سائر الناس بعد ذلك.

  • و قيل له: يا رسول الله! ألّا نبني لك بمنى بناء يظلّك؟ فلم يقبل، و قال: مِنى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ.٣

  • و رمى رسول الله في اليوم الحادي عشر الجمرة الاولى، ثمّ رمى الجمرة الوسطى و بعدها رمى جمرة العقبة، كلّ جمرة بسبع حصيّات، يكبّر مع كلّ حصاة.

  • وقف عند الاولى و الوسطى إلى القبلة قبل الرمي، و دعا الله عزّ و جلّ ثمّ رمى. أمّا في جمرة العقبة فلم يقف إلى القبلة، و لم يدعُ، بل رمى و رجع.٤

  • و ما ذكره المرحوم الفيض الكاشانيّ في كتاب «المحجّة البيضاء» من 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰۰.
    2. «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٥۰ و ۱٥۱؛ و «فروع الكافي» ج ٤، ص ٤۸۱، ٤۸٢.
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ۱٩٩؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٣۸ و ۱٣٩.
    4. «فروع الكافي» ج ٤، ص ٤۸۰ إلي ٤۸٢؛ و «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٤۸؛ و «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٣۰۰.

معرفة الإمام ج٦

223
  • وجوب الوقوف إلى القبلة عند رمي جمرة العقبة سهو، كما يبدو.

  • و خطب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في اليوم الحادي عشر أيضاً، و حذّر من المخالفة، و رغّب الناس باتّباع السنّة. و قال بعد إسقاط الربا و وضعه عامّةً، و وضع ربا عمّه العبّاس خاصّةً، و إهدار كلّ دم اريق في الجاهليّة، و كذلك دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب، و إسقاط كلّ مظلمة اخرى كانت في الجاهليّة، و دعوة الناس إلى احترام أموال المسلمين، و بيان حرمة النسي‌ء، و استداره الزمان كهيئته الاولى:

  • "ألَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْض! ألَا إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ وَ لكِنَّهُ في التَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ"‌.۱

  • ثمّ قال: "ألَا هَلْ بَلَّغْتُ! ألَا هَلْ بَلَّغْتُ! ثُمَّ قَالَ: لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإنَّهُ رُبَّ مُبَلِّغٍ أسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ!"

  • قال حميد: قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قَدْ وَ اللهِ بَلَّغُوا أقْوَاماً كَانُوا أسْعَدَ بِهِ.

  • و قال الحافظ أبو بكر البزّاز: لمّا نزلت سورة النصر على رسول الله بمنى في أيّام التشريق، ركب راحلته، و وقف للناس بالعقبة، فاجتمع إليه ماشاءالله من المسلمين، فخطب فيهم.

  • و بعد فقرات كثيرة أوصى فيها بالنساء و أداء الأمانة، و أكّد على حرمة الأشهر الأربعة، و غير ذلك، قال: "وَ لَا يَحِلُّ لِامْرِءٍ مِنْ مَال أخيهِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ".

  • ثمّ قال: "أيُّهَا النَّاسُ! إنّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا أنْ أخَذْتُمْ بِهِ لَم تَضِلُّوا: 

    1. حَرَّش بين القوم: أغري بعضهم على بعض، و كذلك بين الكلاب و ما شاكلها.

معرفة الإمام ج٦

224
  • كِتَابَ اللهِ فَاعْمَلُوا بِهِ!"۱

  • (و يتّضح من الخطب التي خطبها صلّى الله عليه و آله و سلّم قبل هذه الخطبة و بعدها، و جاء فيها لفظ: وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي أنّ هذه العبارة كانت موجودة في هذه الخطبة و اسقطت منها).

  • و قد خطب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع خمس خطب:

  • الاولى: في السابع من ذي الحجّة بمكّة المكرّمة. الثانية: يوم عرفة. الثالثة: يوم عيد الأضحى. الرابعة: يوم القَرّ: و هو اليوم الحادي عشر، بمنى. الخامسة: في يوم النفر الأوّل،٢ و هو اليوم الثاني عشر، بمنى.٣ بقي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بمنى أيضاً في الليلة الثانية عشرة و الليلة الثالثة عشرة، و رمي الجمرات الثلاث- كما ذكر- في صباح كلّ ليلة من هاتين الليلتين. و توجّه إلى مكّة في ظهر اليوم الثالث عشر.٤

  • و يطلق على اليوم الثالث عشر: يوم النَّفر الثاني، و على الإمام أن يبقي بمنى حتّى ذلك اليوم، على الرغم من أنّ أكثر الحجّاج يخرجون من منى في يوم النفر الأوّل.

  • و كان مُعَمَّرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنُ حَراثَةَ هو الذي يرحل لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم [ليركب عليه. و لمّا أراد أن يركب‌]، فقال: يا معمّر! إنّ الرحل لمسترخى!

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰۱ إلي ٢۰٣.
    2. «سنن البيهقيّ» ج ٥، ص ۱٥۱.
    3. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰٦.
    4. «حبيب السير» ج ۱، الجزء الثالث، ص ٤۰۱.

معرفة الإمام ج٦

225
  • فقال معمّر: بأبي أنت و امّي! لقد شددته كما كنتُ أشدّه. و لكنّ بعض من حسدني مكاني منك يا رسول الله أراد أن تستبدل بي! فقال رسول الله: ما كنت لأفعل!۱

  • أجل؛ معمّر هذا هو الذي كان يحلق رأس رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و كانت قريش تقول عند الحلق: يا معمّر، اذُنُ رسول الله في يدك! و في يدك الموسى!

  • فقال معمّر: و الله إنّي لأعدّه من الله فضلًا عظيماً عليّ!٢

  • و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد عيّن حدود عرفات و المشعر الحرام. و ها هو يعيّن حدود منى من أربعة أطراف، ثمّ يتوجّه إلى مكّة المكرّمة.

  • ثمّ خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من منى، و نزل في المُحَصَّب.٣ و سمّي المحصَّب بهذا الاسم بسبب وجود الحصباء، لأنّ الأبطح هي الأرض الرمليّة الواقعة في المسيل، و المغطّاة بالرمل الناعم.

  • و المحصَّب هو المحلّ الذي تعاقدت فيه قريش مع بني كنانة للتضييق على بني هاشم و بني عبد المطلّب، بأن لا يناكحوهم، و لا يبايعوهم، و لا يؤوهم، حتّى يسلّموا اليهم رسول الله: ليقتلوه.

  • و تسمّى هذه الأرض: خَيْف بَني كِنَانَةَ، أي: الأرض الواسعة.٤

  • و في ضوء ذلك العقد، كان الرسول الأكرم و معه المسلمون محاصرين في شعب أبي طالب عليه السلام ثلاث سنوات. و كان أبو طالب

    1. «فروع الكافي» ج ٤، ص ٢٥۰ و ٢٥۱.
    2. «نفس المصدر السابق».
    3. المحصَّب أرض في الأبطح، شرقيّ مكّة، و تقع بينها و بين منى.
    4. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٣ إلي ٢۰٥.

معرفة الإمام ج٦

226
  • - بكلّ ما اوتي من قوّة و إمكانيّة- يدعمهم و يحميهم ماليا و دفاعيّاً، إلى أن ثبت إعجاز النبيّ إذ أخبر عمّه أنّ الله قد سلّط على معاهدتهم حشرة الأرضة فأكلتها و لم تبق منها إلّا عبارة: بِاسْمِكَ اللهُمَّ.

  • شعر أبي طالب في حماية رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم‌

  • و نظم أبو طالب عليه السلام والد أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأبيات في ذلك الحين لحماية رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:

  • وَ اللهِ لَنْ يَصِلُوا إليك بِجَمْعِهِمْ‌***حتّى اوَسَّدَ في التُّرابِ دَفِينا
  • فَاصْدَعْ بِأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ***وَ ابْشِرْ بِذَاكَ وَ قُرَّ مِنْكَ عُيُونَا
  • وَ دَعَوْتَنِي وَ عَلِمْتُ أنَّكَ نَاصِحِي‌***وَ لَقَدْ صَدَقْتَ وَ كُنْتَ ثَمَّ أمِينا
  • وَ لَقَدْ عَلِمْتُ بِأنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ***مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا۱
    1. كتاب «مؤمن قريش» تأليف الخُنَيْزي، ص ۱٦۱، و ذكر مصادرها في الهامش: «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد ج ٢، ص ٣۰٦؛ و «السيرة النبويّة» ج ۱ ص ۸٥ و ۱٩۷؛ و «ثمرات الأوراق» ج ٢، ص ٤؛ و «العبّاس» ص ٢٢ و ٢٣؛ و «هاشم و امَيَّة» ص ۱٦۷، «الكشّاف» ج ۱، ص ٤٤۸ و ج ٢، ص ۱۰؛ و «تذكرة الخواصّ» ص ٩؛ و «معجم القبور» ج ۱، ص ۱۸٦؛ و «المناقب» ص ٣٤؛ و «ديوان أبي طالب» ص ۷؛ و «أعيان الشيعة ج ٣٩، ص ۱٢۸؛ و البيت الأوّل في «السيرة الحلبيّة» ج ۱، ص ٣٢٢، و البيتان الأخيران في «الإصابة» ج ٤، ص ۱۱٦؛ و اسند إلي مصادر عديدة في كتاب «الحجّة» ص ٦٣، و اسند إلي مصادر عديدة في كتاب «شيخ الأبطح» ص ٢۷ و ۸۸ أيضاً. و ارجع في كتاب «الغدير» ج ۷، ص ٣٣٤ إلي مراجع متعدّدة، و قال: رواه الثعلبيّ في تفسيره. و قال: اتّفق مقاتل، و عبد الله بن عبّاس، و القاسم بن مَحْضَرَة، و عَطاء بن دينار في صحّة نقل هذه الأبيات عن أبي طالب. و عدّها البَرْزَنْجِيّ من كلام أبي طالب المعروف. و أخرجها البيهقيّ في «دلائل النبوّة» عن طريق ابن إسحاق، عن يعقوب بن عُتَيبة بن المُغيرة بن الأخْنَس، كما قال شارح «الكشّاف» في ج ٢، ص ۱۰.
      و أقول: ذكر أبو الفداء، و هو من العامّة، هذه الأبيات في تأريخه لإثبات هذا الأمر. و استشهد ببعضها ابن هِشَام في «قَطْر النَّدَى» في باب التمييز، و كذلك السُّيُوطيّ في «شرح ألفيّة ابن مالك» في أفعال المدح و الذمّ، لإثبات بعض المسائل النحويّة.

معرفة الإمام ج٦

227
  • و أرض الأبطح هذه هي الأرض التي نزلها رسول الله عند دخوله مكّة. و لم ينزل في بيوت مكّة، و قال: لا أنزل في بلد خرجت منه.

  • و لمّا كانت هذه الأرض موضعاً لمعاهدة قريش مع بني كنانة، لذلك نزل فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لإعلان عظمة الإسلام و انتصاره. و ذلك قبل الوقوف في عرفات و بعده. و من هذا المنطلق فعند ما سألوه بمنى في الليلة الثالثة عشرة؛ أين تنزل غداً؟! قال: "نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً إن شَاءَ اللهُ بِخَيْفِ بَني كِنَانَةَ"- يَعْنِي الْمُحَصَّبَ.۱

  • و جاء في الحديث أنّه قصد النزول في المُحَصَّب مُراغمة لما كان تَمالأ عليه كفّار قريش لمّا كتبوا الصحيفة من مقاطعة بني هاشم و بني المطّلب حتّى يسلّموا إليهم رسول الله صلّى الله عليه و آله.

  • و كذلك جعل نزوله في المحصَّب عام الفتح (السنة الثامنة للهجرة) عند ما فتح مكّة. و على هذا فالنزول في المحصَّب بعد الوقوف في عرفات سُنّة مرغوبة و ممدوحة.

  • و لكنّ ما يستفاد من روايات الشيعة هو أنّ هذه السُّنّة للذين يدخلون مكّة في النفر الثاني كرسول الله.٢

  • و صلّى رسول الله صلّى الله عليه و آله الظهر، و العصر، و المغرب، و العشاء في المحصَّب: فَهَجَعَ هَجْعَةً، أوْ رَقَدَ رَقْدَةً.٣ فلهذا يستحبّ للحاجّ بعد مجيئة إلى منى أن يستريح مضطجعاً في مسجد الحصباء، و هو محلّ نزول رسول الله في المحصَّب، ثمّ يذهب إلى مكّة.

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٥، و ص ۱٩٩ أيضاً.
    2. «المحجّة البيضاء» ج ٢، ص ۱۸٢.
    3. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٦.

معرفة الإمام ج٦

228
  • طواف الوداع الذي أدّاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و الخروج من مكّة

  • و في هذا الحين، أذن رسول الله صلّى الله عليه و آله للحجّاج بالرحيل إلى بيت الله الحرام، و طواف النساء أو الوداع.۱ و جاء هو و أمير المؤمنين عليه السلام و سيّدة العالم: الصدّيقة الزهراء عليها السلام، و الحسنان، و الزينبان، و آخرون غيرهم من ذوي العلاقة، جاءوا إلى بيت الله الحرام قبل صلاة الصبح ليطوفوا، و يصلّوا صلاة الطواف.

  • و تقول: زوجته الكريمة امّ سلمة: شكوت إلى رسول الله أنّي أشتكي.

  • فقال: طوفي من وراء الناس و أنتِ راكبة! فطفت و رسول الله يصلّى حينئذٍ إلى جنب البيت و هو يقرأ: {وَ الطُّورِ ، وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ، وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ}‌.٢

  • و طاف الرسول الأكرم بعد صلاة الصبح، و توقّف في المُلْتَزَم (موضع بين الحجر الأسود، و باب الكعبة) فدعا، ثمّ ألصق وجهه و صدره بالملتزم بحيث التصق جسده الشريف بجدار الكعبة.٣

  • و أخذ رسول الله شيئاً من ماء زمزم. و كان كلّما رجع من غزوة أو حجّة أو عمرة يقول ثلاثاً: اللهُ أكْبَرُ اللهُ أكْبَرُ. و بعد ذلك يقول: "لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ، وَ هُوَ على كُلِّ شَي‌ءٍ، قَدِيرٌ آئِبُونَ، عَابِدُونَ، سَاجِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللهُ وَحْدَهُ، وَ نَصَرَ عَبْدَهُ، وَ هَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَهُ".

  • و عند ما دخل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مكّة، دخلها من 

    1. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰٦ و ٢۰۷.
    2. «نفس المصدر السابق».
    3. «نفس المصدر السابق».

معرفة الإمام ج٦

229
  • أعلاها، من ثَنيّة الكَدَاء.۱ و عند ما خرج منها، فإنّه خرج من أسفلها، من ثَنيَّة الكُدَى (بضمّ الكاف و القصر).٢

  • و استغرقت إقامته في مكّة عشرة أيّام:٣ دخلها في يوم الأحد الخامس من ذي الحجّة، و بقي في الأبطح حتّى يوم الأربعاء، ثمّ تحرّك صوب عرفات، و بقي ليلة الخميس في منى، و كان في عرفات يوم الخميس، و هو يوم عرفة. و يوم الجمعة و هو يوم العيد، كان في منى، و أقام فيها يوم السبت، و الأحد، و الاثنين حتّى الظهر من أجل أداء مناسكها. و كان بمكّة في الأبطح الثلاثاء، و جاء إلى بيت الله قريباً من أذان الصبح. و بعد الطواف و صلاة الصبح، خرج من مكّة يوم الثلاثاء و توجّه‌ نحو المدينة المنوّرة.

  • و خرجت قافلة الحجيج من مكّة باتّجاه الجُحفة و غدير خمّ. و غدير خمّ هو الموضع الذي تمّ فيه الإعلان عن الولاية المطلقة لأمير المؤمنين عليه السلام. فما أعظمه من مقام! و ما أرفع شأنه من أعلان.

  • أ لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الْوَصِيّ هُوَ الذي‌***آتَى الزَّكَاةَ وَ كَانَ في الْمِحْرَابِ‌
  • أ لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ الْوَصِيّ هُوَ الذي‌***حُكْمُ الْغَدِيرِ لَهُ على الأصْحَابِ‌٤
  •  

  • الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلْنَا مِنَ المُتَمَسِّكِينَ بِوَلَايَتِهِ وَ الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.

    1. الثنيّة تعني العقبة، و الطريق الذي ينتهي إليها. و الكداء بفتح الكاف و المدّ.
    2. «البداية و النهاية» ج ٥، ص ٢۰۷؛ و «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰۷؛ و «حبيب السير» ج ۱، الجزء الثالث، ص ٤۱٢.
    3. «السيرة الحلبيّة» ج ٣، ص ٣۰۷؛ و «بحار الأنوار» ج ٦، ص ٦٦٦.
    4. للصاحب بن عبّاد، نقلًا عن «الغدير» ج ٤، ص ٦٦.